قبل 4 سنوات وفي مثل هذه الأيام، بدأت محاولات الضباط الروس باختراق صفوفنا والتواصل مع أغلب الموجودين في الداخل فعلى كل جبهة تقريبا اتصل ضابط روسي بأحد العسكريين يحرضه على تسليم قطاعه مع إعطائه ضمانات بعدم المساس به.
أيضا كان هناك تواصلات مع العديد من الشخصيات المدنية الفاعلة لإغرائهم وإقناعهم ليضغطوا على العسكريين للقبول بالتسليم.
وبناء عليه كان التساؤل الصعب “كيف سنفتح خطاً للتفاوض مع العدو الروسي لطرح صيغة لا يكون سقفها تسليم السلاح والدخول بنفق المصالحات”؟
مطالب التسليم والاستسلام متزامنة بقصف هستيري على الأحياء السكنية، في حالة لا يمكن تشبيهها إلا بيوم القيامة. كان القصف الأعنف بالبراميل والحاويات والصواريخ الارتجاجية، في وضع لا يحصي فيه أحد قذائف المدفعية وصواريخ الفيل والقنابل العنقودية.
ولا وقت لترميم خطوط الجبهة والثكنات العسكرية التي دمرها القصف.
تعبت أجساد المقاتلين الراكضين إلى خطوط الجبهات، وانشغل آخرون بنقل عائلاتهم إلى أحياء أكثر أمناً، وتداعت المعنويات مع مشاهد السيول البشرية الهائمين على وجوههم حذر الموت.
الفصائل العسكرية في الداخل المحاصر كانت تعيش حالة من الانهيار المعنوي والنفسي.
بسبب انهيار الجبهات والقصف الهستيري الذي تتعرض له الأحياء السكنية التي توجد بها عوائل المقاتلين والقادة، ذهبت لمقر الصفر (غرفة العمليات) لأرى قادة الفصائل للحديث عن الوضع الخطير الذي تعيشه المدينة وخاصة انهيار الجبهات السريع.
سبق هذه الجلسة اجتماع تم تكليفي فيه من قبل الفصائل الموجودة في الداخل المحاصر بمهمة التواصل مع العدو والتفاوض على مصير المدينة بمن فيها.
وأنا بمقر الصفر بين القادة خطر لي خاطر أستطيع أن أفتح فيه مع العدو فكرة المفاوضات دون أن يكون هناك شروط مسبقة من قبل العدو. اتصلت بهائل عاصي مسؤول منظمة الهلال الأحمر في محافظة حلب وكان قد كلمني قبل سنة تقريبا بأن هناك جنرالات روس يريدون التواصل مع قادة أحرار الشام حينئذ رفضنا الفكرة وأبلغته بأننا غير مستعدين للقائهم.
طلبت منه أن يكلم الروس الدين طلبوا سابقاً لقاءنا وأبلغته أن فصائل حلب تريد أن تعرض عليهم المبادرة التي خاطبنا بها الاتحاد الأوربي.
أنهينا المكالمة ووعدني أن يعاود الاتصال بي بعد إخبارهم، وفعلاً وبعد وقت قصير اتصل بي وقال لي إن الجنرال الروسي سيكلمني الساعة السابعة مساءً.
بالفعل اتصل علي هائل عاصي وقال لي الجنرال الروسي بجانبي وهو جاهز ليسمعك. كنت بنفس مقر الصفر وحولي بعض قادة فصائل حلب.
قلت له فصائل حلب أطلقت مبادرة وجهتها للاتحاد الأوروبي ونريد عرضها عليكم لتدرسوها وتردوا عليها. طبعا المذكرة حينئذ رفضتها روسيا بعد صدورها بعدة ساعات.
قال لي الجنرال الروسي إنه سيبلغ قيادته بالموضوع ويبلغني بردهم.
بعد ساعات اتصل علي وقال لي هذا البيان مرفوض، ورد القيادة عليه أنها تضمن لكم خروجاً آمناً للمخيمات التي ستُنشئها “الدولة السورية، مع ضمان عدم سجن أي شخص منكم ما لم يتورط بالدماء بعد تسليم سلاحكم”.
بقيت المفاوضات بيني وبينه ليوم كامل وأنا أنقل للفصائل رد الروس وأتشاور معهم لأعرف موقف الجميع وأبني عليه سقف التفاوض الخاص بنا.
بعد مفاوضات طويلة ومع انهيار الجبهات وانحسار المناطق المحاصرة وسقوط معظم الأحياء توصلت لاتفاق مبدئي يُفضي إلى وقف إطلاق النار وإخراج دفعة من الجرحى بسيارات الإسعاف.
بهذه الفترة كنا محاصرين بعدد صغير من الأحياء الصغيرة: السكري والعامرية والمشهد وقسم من حي الإذاعة وسيف الدولة وقسم من حي صلاح الدين. فقد وصلت قوات النظام وحلفائه إلى دوار جسر الحج في حي السكري.
بعد أن وقف إطلاق النار وهدأ القصف قمت بإبلاغ الكوادر الطبية والدفاع المدني بضرورة تحضير دفعة من المصابين.
أبلغني الجنرال الروسي بأن الخروج سيكون من طريق الراموسة وفعلا قمت بتحضير سيارات إسعاف وانطلقنا مع سيارات الإسعاف وفريق الدفاع المدني إلى المنطقة، ليتم استقبالنا بالرصاص.
اتصلت بالجنرال الروسي وأبلغته أن الميليشيات الموجودة داخل الراموسة تطلق الرصاص باتجاه نقاطنا، وردّ علي بأن هناك بعض الإشكاليات التي تتم معالجتها.
عاود الاتصال بي وأبلغني أن الأمور جيدة وسنبدأ بإخراج الدفعة الأولى من الجرحى. تقدمنا لعدة شوارع وعندما وصلنا لنقطة مكشوفة لنقاط العدو قاموا بإطلاق النار علينا وأصيب مسؤول الدفاع المدني بطلقة قناص بالبطن.
تراجعنا مع سيارات الإسعاف المحملة بالجرحى وأسعفنا المصاب وأبلغت الضابط الروسي بما حصل، وقال لي إن هناك مشكلة عندهم تتم معالجتها وسيبلغني فور حلها، مع ضمان استمرارية وقف إطلاق النار.
بعد المغرب تقريبا أبلغني أن طريق الخروج تغير وسنخرج من طريق جسر الحج وتسير الآليات داخل أحياء حلب المحتلة باتجاه دوار البلليرمون إلى كفر حمرة.
بدوري رفضت هذا الخيار لعدم ضمان وسلامة السيارات وخاصة أنها ستسير لفترة طويلة داخل الأحياء الواقعة تحت سيطرة النظام.
هنا اتصلت بمترجم الجانب التركي وأبلغته بما جرى وتغيير خط السير، وطلب مني التريث ريثما يبلغ قيادته، ليعاود الاتصال بي وأبلغني أنهم يضمنون سلامة وصول السيارات بمن فيها.
انتظرنا مع سيارات الإسعاف وبعض قادة الفصائل لساعات طويلة تحت المطر والثلج بالقرب من دوار جسر الحج، لكن المترجم الروسي اتصل بي وأخبرني أن الخروج تأجل للغد.
بعد منتصف الليل فوجئنا بعودة القصف علينا من مدفعيات نظام الأسد والميليشيات المحيطة بمناطقنا المحاصرة.
أعطينا الأوامر للمدفعية الموجودة بالداخل باستهداف نقاط العدو والرد على مصادر النيران وبعدها اتصلت بالمترجم الروسي لأستفسر عن سبب خرق الهدنة ونقض الاتفاق، ليقول لي إن هناك مشكلة يتم تلافيها وسيعود الوضع إلى ما كان عليه قريبا.
بعد تواصلات عديدة مع المترجم الروسي والمترجم التركي، تم التوصل لوقف إطلاق نار جديد والعمل ببنود الاتفاق القديم المتفق عليه، والذي ينص على خروج كل الموجودين في الداخل مسلحين بسلاحهم الخفيف ومدنيين بأغراضهم الشخصية.
عند ظهر اليوم الثاني أرسلنا أول دفعة سيارات للمصابين بعد دخول سيارات الهلال والصليب الأحمر وبالفعل وصلت أول قافلة للمناطق المحررة وبدأت بعدها قصة ألم عشناه لعدة لأيام مليئة بالمآسي والقهر.