حين تصبح الذاكرة مقياسًا للحزن تحتار أيهم أشد حزنًا، سنونو سافر آلاف الكيلومترات تسبح أمام عينيه ذكرى عش أنجب به أبناءه العام الفائت تركه بين خشبات سقف قديم في منزل فلاح من بلدي، أم شجرة جوز حفر عليها ابن ذاك الفلاح اسمه وعلق عليها أرجوحته بانتظار والده الذي كان يسقي نعناعًا ووردًا حولها، أم قطة الحي التي ولدت في كومة قش في ذاك البيت فكانت ابنة الفلاح أول من حملها وأول من داعب شعرها حتى صارت صديقتها التي تتمسح بقدميها باستعطاف طلبًا لبقايا طعام أو دفء.
“من يفهّم السنونو وشجرة الجوز والقطة أن الفلاح وعائلته يحبونهم وما تركوهم طائعين، وأن الفلاح اعتقل لأن ابنه استشهد حين ثار غضبًا على اغتصاب شقيقته، وأن زوجة الفلاح هاجرت حاملة معها ذكرى الفلاح والابن والابنة والسنونو وشجرة الجوز والقطة، كبيرة ذاكرتك يا امرأة من بلدي، كبير حزنك بقدر كبر ذاكرتك”.
بعد قراءتك لهذا النص أظنك تسأل من الكاتب أو القائل، هل نُقل من كتاب أدب أو رواية، لا أبدًا، إنما خرجت هذه الخاطرة منشورًا للفيسبوك، صاغها صاحبها تحت أزيز الرصاص، اختمرت فكرته بمواجهة الدبابات وشراسة المعارك، وهنا طبعًا لا أكتب إنشائيات أو ضربًا من الخيال، إنما أمرٌ عاينته بنفسي على مر سنوات مضت.
قصة صاحب هذا النص، أنه وباختصار قائدٌ عسكري، لكنه لم يحمل البندقية فقط، حمل كلامًا وفكرًا وثقافةً وجال بهم كما صال ببارودته الروسية القديمة، لم يترك معركةً إلا وأردفها بحكمة يصوغها من وحي يومه، فهيا بنا نتعرف على ضيفنا في هذا التقرير:
الحمصي الداراني
الضابط المنشق أبو جعفر الحمصي، المولود عام 1979، في قلعة الحصن بريف حمص، انشق الحمصي عن جيش الأسد عام 2012، وبعد انشقاقه عن النظام انضم إلى قوات المعارضة في مدينة داريا وهي ذات المدينة التي أقام بها أعومًا طويلة قبل الثورة السورية، وبعد استشهاد أخيه الأكبر “أبو عمر” خلفه في منصبه بالقيادة العسكرية للواء شهداء الإسلام عام 2013، وهو أكبر تشكيلات المدينة.
حصل الحمصي على الثانوية الأدبية ثم التحق بكلية الإعلام وما لبث أن التحق بالجيش السوري وأصبح مساعدًا من الدرجة الثانية في الشرطة العسكرية التابعة للفرقة السابعة، والقول هنا لرفيق دربه النقيب سعيد نقرش قائد لواء شهداء الإسلام في حديثه لـ”نون بوست”، ويروي نقرش أن الحمصي “قرر الانشقاق عن قوات الأسد لثقته الكبيرة بالثورة والمقاتلين وأراد أن يكون ثائرًا على الظلم ولم يرتض الوقوف في صفوف الطغاة”.
قرر أبو جعفر أن تكون معركته ضد النظام معركة سلاح وثورة فكر وثقافة، فكان يقرأ الكتب ويطلع على كل جديد في عالم الصحافة، كما أن صعوبة الأوضاع المحيطة به والمسؤوليات الملقاة على عاتقه لم تمنعه من التواصل مع القادة الثوريين في كامل سوريا، حتى يكون قريبًا من الجميع، فكان وطنيًا بامتياز ولم يُعلم عنه أنه تكلم بالطائفية أو المذهبية قط، إلا أنه كان شديد الاعتزاز بدينه وأمته، وبهذا الصدد يقول أبو جعفر: “الشعب يحتاج إلى أفكار عظيمة ترسم مستقبله والأفكار تحتاج إلى شعب عظيم يجعلها حقيقة ولا تتطور الأوطان إلا بهما سويًا”.
كان يحلم بوطن حر وهو ما تجلى بكتاباته ومنشوراته، أحبّ سوريا وأذكره حين قال: “تفجر حب البلاد في قلبي بعد الثورة ورؤية الطاقات والشباب الثائرين”، ونال الحمصي شهرةً واسعة في الأوساط السورية التي تعودت على قراءة خواطره العذبة التي تحاكي الواقع وترفع الهمم، فقد كان في أصعب الظروف متفائلًا، وحتى في أعظم الانسحابات والتقهقر لقوات المعارضة كان محفزًا ولم تنتبه نوبات التشاؤم.
“الخواطر الجعفرية”
كثيرةٌ هي الخواطر التي كتبها أبو جعفر على موقع “فيسبوك”، لكن للأسف فإن الموقع أغلق حسابه بعد وفاته، إلا أن الانتشار الواسع لأدبيات أبو جعفر بين السوريين أبقاها خالدة في الذاكرة، ويوجد الكثير منها وما عليك إلا أن تكتب وتبحث عن اسمه على مواقع التواصل لترى كمية الاعتزاز بهذه الشخصية، ولعلّ أهم ما كتب أبو جعفر هو وصيته التي انتشرت كالنار في الهشيم يوم وفاته.
تواصلنا في “نون بوست” مع غياث مالك، وهو ناشطٌ من مدينة داريا، وقد حالفه الحظ بأنه جمع الكثير من منشورات أبو جعفر قبل إلغاء حسابه، وعمل على أرشفتها وأفادنا بالعديد منها، من خلال هذه الخواطر يجد المتابع أملًا وروحًا عاليةً في القتال والفكر، يقول الحمصي عن خواطره: “بندقيتي قتلت منهم عددًا محدودًا، أما الخواطر فتذبحهم جميعًا”.
ركز أبو جعفر في خواطره على أمله بالشباب داعيًا أن يكون مثقفو سوريا وعلماؤها خير سند لهم، يقول في خاطرة له: “هذا الجيل الحاليّ مهيّأ لأن يصنع المعجزات وينهض بالأمة خير نهوض على أن يجد من علمائنا ومثقفينا النصيحة والمتابعة وتأطير جهوده”.
آمن الحمصي بالبندقية والسلاح المتجه إلى مكانه الصحيح ضد النظام، ودعا مرارًا إلى صون السلاح والحفاظ عليه في سبيل تحرير البلاد قائلًا: “يا ولدي لا تبعد بندقيتك عنك ولا تكتف ببندقية واحدة بل احصل على دبابات وطائرات واحشد لهم فإنهم لن يرحموك ولن يقاتلوك بشرف، ولن ينصرك أحد في هذا العالم القميء فإياك إياك أن تخسر أخاك أو ترفع إصبعك عن الزناد”.
عودة إلى المقدمة، ذكرنا أن أبو جعفر يصيغ خواطر تحت أزيز الرصاص وفي ظل المعارك والاشتباكات، يذكر الحمصي بإحدى خواطره هذا فيقول: “ليس لدى أبو جعفر وقت يفرّغه للكتابة، بمجرد ما تجول الفكرة في عقلي أكتبها فورًا، وغالبًا أكتبها في المعركة والطائرات تلقي براميلها فوق رؤوسنا”.
في إحدى أدبيات أبو جعفر الحمصي التي لا يمكن أن تنسى، ينكر على السيد مكاوي مقولته الأرض بتتكلم عربي، فنظرة الحمصي للأمر أن الأرض تتكلم بلسان مالكها، وهي رسالة قاسية لكل سوري تخلى عن ثورته وسلاحه، يقول: “الأرض لا تتكلم عربي ولا إنكليزي أو فرنسي يا مكاوي، الأرض سريعة النسيان، لا تقاوم الاغتصاب إلا ثواني، ثم تعطي مالكها الجديد كل شيء، ما إن يتعرف جيدًا على تضاريسها حتى ينال منها ما يريد، الأرض خائنة يا ماغوط، ولا تخلص لمن يهجرها أبدًا، فإن كنت ممن يغار على أرضه، لا تتركها أبدًا تتعرف على غيرك، وقاتل، قاتل، حتى تموت”.
تطول ذكريات الخواطر ولا يتسع هذا المقال لذكرها والحديث عنها، فكلما ذكرنا بالثورة شيئًا نجد أن أبا جعفر دون عنه وكتب خاطرةً صغيرةً تلخص المقالات والتقارير والأخبار، فاستحق أن يكون ذا صولةٍ بين السوريين.
معاركه
كان أبو جعفر في الصفوف القتالية دومًا، ويُشهد له بشجاعته وإقدامه إلى جانب عناصره، إضافةً إلى ذلك خطط للعديد من المعارك، وكان دائم التواصل مع المقاتلين والثوار، وله جولات دائمة على نقاط الرباط والإعداد، ومن خلال هذه المعارك لم يبق في جسم أبو جعفر موضعًا إلا وأصيب بشظية صاروخ أو رصاصة أو قذيفة دبابة، كما أنه عمل على التواصل مع النظام لإجراء بعض عمليات تبادل الأسرى، وأدارها بتنظيم عالٍ.
تكلم أبو جعفر كثيرًا عن الأخلاقيات في المعارك وحرص على توعية الشباب المقاتلين بما يجب عليهم فعله في أثناء القتال، وكان يوضح الأمثلة في ذلك بانعدام أخلاق جيش النظام الأسدي، فيقول في خاطرة له:
“حين تقاتل عدوًا بخطوط اشتباك متداخلة وقريبة لحد بضعة أمتار غالبًا لمدة 4 سنوات متواصلة فإنك تسمعه ويسمعك وتعرف عنه أشياء كثيرة، متى يأكل وكيف يتكلم وما هي عقليته وأخلاقه وما دافعه للقتال” ويضيف: “وحصل أكثر من مرة في التاريخ أن احترم عدو عدوه لصفات وجدها فيه مع بقاء العداوة بينهما، إلا أننا ما وجدنا فيهم أي صفة محمودة لنحترمهم بسببها كما أننا لم نخشهم يومًا، لكنهم في داخلهم يعلمون أننا أفضل منهم بكثير كما كان يعلم الكفار أن محمدًا أمين رغم كفرهم بما جاء به”.
ركز الحمصي على حرب العصابات، ودعا كثيرًا لها وكان له فلسفته في هذا الموضوع عبر قوله: “هي حرب الأضعف في مواجهة الأقوى والالتزام العقائدي في مواجهة التجنيد الإجباري، وهدفها إجبار الأقوى على الخضوع للحل السياسي بعد إشعاره باليأس من كسب الحرب، فيجب إطالة أمد الحرب ولو أدى ذلك إلى التراجع المكاني ما دامت الرقعة السياسية تزداد”.
ومن الأخلاقيات التي كتب عنها أبو جعفر وعده بعدم قصف مناطق المدنيين الواقعة تحت سيطرة النظام لأن ذلك يخالف المبادئ التي اشتعلت الثورة من أجلها وفي هذا الصدد يذكر:
“دأب النظام السفاح على قصف المدنيين وخاصة الأماكن المكتظة بهم كوسيلة قذرة للرد على أي عمل عسكري يقوم به الثوار ضده كنوع من الانتقام البربري أو لكي يمارس سكان تلك المناطق ضغطًا على الأحرار لمنعهم عن أي عمل، تلك السياسة الجبانة الخسيسة لن نتبعها يومًا، لن نقصف المناطق السكنية حتى لو كان كل سكانها من مؤيدي النظام خشية إزهاق روح بريئة واحدة قد تكون بينهم، لن نقصف الأماكن السكنية، لكننا سنعمل على تحريرها يومًا بإذن الله”.
عرفنا أبو جعفر متواضعًا، ومن يدخل بيته يراه بيتًا عاديًا، تجد “غازًا صغيرًا” عليه أدوات صنع “المتة”، طعامه من طعام المقاتلين، حتى إنه لم يمتلك يومًا سيارة فارهة أو مكتبًا مزينًا، ولم يعين حراسًا له، وكم رأيته ذاهبًا إلى جبهات المعارك ماشيًا، لم يغترّ بالمظاهر بل عمل على المضمون.
على سرير خالد
كنت آمل لو كان هذا التقرير حوارًا مع أبو جعفر الحمصي، إلا أن أبو جعفر وبعد تهجيره من مدينة داريا، وخروجه إلى محافظة إدلب رفقة المقاتلين عام 2016، وذلك بعد 4 أعوام من الحصار والمعارك الشديدة، توفي غرقًا في بحيرة بلدة دركوش بريف إدلب بعد احتشاء في عضلة القلب، حيث كان في نزهة مع أهله، وفاته كان صدمةً كبيرة لكل ثوار سوريا، فلم يعد هناك من يكتب لهم الخواطر ويحمسهم.
قضى أبو جعفر في إدلب مدة شهر قبل وفاته، عمل فيها على إعداد المعسكرات للمقاتلين وتنظيم العمل العسكري، كما تجول في جبهات تلك المدينة للتعرف على التضاريس الجديدة المختلفة عن داريا التي حوصر بها، إلا أنه أراد استراحة ونزهة مع أهله، وكان لم يرهم منذ سنوات، فجمعته إدلب بهم، توفي أبو جعفر وهو يسبح، لكن للمفارقة أن أبو جعفر عمل بحارًا لسنوات، ولكنه توفي على “سرير خالد” بعد مئات المعارك وعديد الإصابات والتعرض للموت، ولعلّ ميتته هذه، كانت لكي لا يشعر أعداؤه بنشوة الانتصار بقتله.
تناقل السوريون وصية أبو جعفر التي أصبحت كلماتها خالدة، لما فيها من الأمل واليقين بالنصر، يقول الحمصي في نص صغير كتبه بخواطره: “كتبت منذ 3 سنين على ورقة صغيرة وضعتها في جيبي، وصيتي: اكتبوا على شاهدة قبري في أي وقت حل موتي، (مات متفائلًا بالنصر القريب)، واليوم أسحب تلك الوصية بل اكتبوا (مات متيقنًا من النصر القريب)”.