أسئلة الثورة السوريّة الملحّة في ذكراها العاشرة.. رؤى سياسيّة وشهادات حيّة

ديسمبر 21, 2022

دراسات

بين المقولتَين السوريّتَين الشهيرتَين: “ليتها لم تكن”، و”تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة”؛ تأرجحت مصاير السوريّين في العقد الأخير من الزمن السوري الدامي، بعد أن أعلن بشار الأسد حربه الوحشيّة ضدّ الشعب السوريّ، يوم ثار أحرار وحرائر سورية من أجل حرّيتهم وكرامتهم، مطالبين بإسقاط النظام، الذي استهدف بآلة القتل البشر والحجر والشجر، بالبراميل المتفجّرة وبقذائف الطائرات وبالدبابات والمدفعية الثقيلة؛ فنكّلَ بالسوريّين من كلّ الطوائف والمذاهب والأقليات.. ودمّر بيوتهم، وممتلكاتهم، وباتت كلّ المناطق السوريّة المنتفضة منكوبة، وصار ثلاثة أرباع السوريّين بحاجة إلى المساعدات الإنسانية -بحسب منظمات دولية- في خضمّ دوامة مميتة من الصراعات المسلّحة، والانكماش الاقتصادي والعقوبات الدوليّة وتفشّي جائحة كورونا.

ومع استمرار العدوان الأسدي – الروسي – الإيراني – الميليشياوي الطائفي، كانت إرادة المقموعين، في كل البلدات والقرى والمدن السوريّة، أقوى من فولاذ آلة القتل الأسديّة الجهنميّة المتحالفة مع قيصر الإجرام المافيوزي الروسي ونظام الملالي في طهران، وميليشيات الوسخ الطائفي الشيعي، وأثبتَ ثوّار وثائرات سورية أنّ كفاحهم، من أجل الحرّية والكرامة والعدالة، هو كفاح عادل ومشروع، بالرغم من سعي النظام وحلفائه للتشكيك في الثورة السوريّة، وشرعيّتها ومقاصدها النبيلة، وتشويه صورتها على كل الصعد المحليّة والعربيّة والدوليّة، زاعمين أن كلّ ما حدث “مؤامرة كونيّة” تستهدف سورية وشعبها، وأنّ حكم آل الأسد هو طوق النجاة الوحيد!

لا شكّ في أنّ نظام الأسد يتحمّل مسؤولية كلّ ما حدث ويحدث في سورية، خلال سنوات الثورة التي نُحيي ذكراها العاشرة هذه الأيام، من حروب وصراعات وكوارث ومآس، غير أنّ ذلك لم ولن يمنعنا من مراجعة عقلانيّة نقديّة بنّاءة لمسار الثورة السوريّة، التي لا يمكن نكران وقوعها في أخطاء جسيمة، لعلّ أبرزها صعود الجماعات المسلّحة التي تدّعي الحكم باسم الشريعة والهيئات الشرعيّة في المناطق السوريّة المحرّرة، والتي أساءت إلى السوريّين وإلى ثورتهم وإلى الشريعة ذاتها، تلك الجماعات التي استغلت الدين لخدمة مآربها في التضييق على الناس والتنكيل بهم وفرض آرائها عليهم بقوّة السلاح.

في هذا الملفّ، الذي يشارك فيه عدد من ناشطي وناشطات الجيل الأوّل من الثورة، من الكتّاب والكاتبات، من مختلف الأجيال والمشارب والتوجّهات؛ طرحنا على المشاركين عددًا من الأسئلة: لماذا لم تستطع الثورة السوريّة حتى الآن تحقيق أهدافها، وأهمّها إسقاط النظام الاستبدادي الطائفي الفاسد، ونيل المطالب المشروعة من حرّية وكرامة وعدالة ومساواة؟ وما السّبل لتصحيح المسار وإعادة الروح للثورة السلميّة التي اختطفتها رايات الاستبداد الديني بدفع من النظام الاستبدادي الأسدي، وكيف يمكن الحفاظ على الهويّة الوطنيّة السوريّة الجامعة، والتمسّك بوحدة الجغرافيا السوريّة، وبناء دولة القانون والمواطنة والديمقراطيّة؟

الكاتب والصحافي فرحان المطر: “أراها حيّة”

سأنطلق من اقتناعي بأنّ الثورة السوريّة ما زالت قائمة، على الرغم من كلّ المعطيات الميدانية التي شهدناها في السنوات العشر التي انقضت من عمرها، مع كلّ هذا الدمار والخراب والتشرد والموت والمعتقلين والمفقودين والمصابين، جسديًا ونفسيًا. إذا كان المقصود بالحديث عن الثورة السوريّة تلك التظاهرات التي اشتعلت داخل الأحياء والبلدات والمدن السوريّة خلال السنوات الأولى من عمرها، وبدأت بالتناقص والاضمحلال وصولًا إلى التلاشي اليوم داخل سورية؛ فهذه الثورة فشلت، وماتت واندثرت، ولم يبقَ لها أثرٌ يذكر إلا في التاريخ والذكريات. وإذا كان المقصود بالثورة تلك التضحيات والبطولات التي واجهت بها الصدور العارية الرصاص، في تلك الأيام الأولى من عمر الثورة السوريّة السلميّة، وزالت بفعل التطورات التي حصلت على الأرض، فإنّ تلك الثورة أيضًا انهزمت.

أمّا الحديث عن الجانب العسكري الذي رافق الثورة، نتيجة ظروف غير طبيعية (قد لا تكون الثورة هي المسؤولة عنها أساسًا) وما نجم عنه من تغيّرات ميدانية من كرّ وفرّ ومعارك هنا وهناك، وانتقال السيطرة للقوى المتعاركة حسب الموازين التي فرضت ذاتها في كلّ حدث، إلى درجة أنّ القوى المعارضة للنظام بشقها العسكري قد سيطرت في وقتٍ ما على قرابة السبعين بالمئة من مساحة سورية، حتّى بات الحسم العسكري لصالحها قاب قوسين أو أدنى، إذا كان هذا الجانب هو المقصود بالثورة أيضًا، فهي قد مُنيت بالفشل والهزيمة الماحقة أيضًا. ماذا أيضًا عن المؤشرات التي تدعم مقولة فشل الثورة؟! هناك كثير منها نعم، ولكنني على الرغم من كلّ ما تقدّم، ما زلت على اقتناع بأنّ الثورة ما زالت حيّة حقيقة، وليست مجرّد وهم أو نسج خيال.

الثورة التي أعنيها، هنا، هي تلك الأحلام التي عبّرت عنها حناجر السوريّين في صرخة الحرّية، عندما امتلكوا الجرأة للمرة الأولى على الجهر بعبارة: “الشعب يريد إسقاط النظام”. هذه الأحلام لم تمت، ولا توجد قوّة على الأرض -مهما كان جبروتها- قادرة على قتل الحلم داخل نفوس المؤمنين بالحرّية. ما دام هناك توق، وحاجة إلى الحرّية، فستبقى الثورة حيّة، مع أنّها لم تنتصر، ولم تنجح في تحقيق شعارها الأوّل، ولا في باقي الأهداف والمطالب في الحرّية والعدالة والكرامة.

أمّا السؤال الجوهري هنا: لماذا لم تنجح الثورة في تحقيق أهدافها؟! فهذا يحتاج إلى تحليل هادئ عميق واقعي، لديه القدرة أوّلًا على الاستفادة من كلّ الأخطاء التي أدّت إلى هذا الفشل. الاستفادة التي تفترض أوّلًا شجاعة الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبها من قاموا بالثورة في كلّ المراحل، وعلى كل المستويات، وليس صحيحًا أنّ الثورة وقعت ضحية التآمر العالمي، وأنّها تركت وحيدة فريسة لآلة النظام الهمجية والوحشيّة غير المسبوقة التي انتهجها منذ الساعات الأولى للثورة. من السهل إلقاء اللوم على الآخرين، وتبني نظرية المؤامرة، وإظهار أنّ الثورة مجرّد ضحية، هذا سهل، ولكن الأهمّ والحقيقي هو قراءة الأسباب الموضوعية، ومعرفة العوامل والتدخلات الداخليّة والخارجيّة التي اقتحمت الثورة، وخدعت كثيرين من أبنائها البسطاء، وحرفتهم عن مساراتهم وأهدافهم الأولى، النظيفة والسلميّة للثورة وأهدافها النبيلة. قبل أن يتحمّل النظام مسؤولية إفشال الثورة، وهو لا يلامُ على ذلك إن فعل، لأنّه عدو، وهذا ما يسعى إليه بكلّ الطرق والوسائل، يجب أن نفضح الثورة المضادّة التي بدأت بأسلمة وعسكرة الثورة. ما الذي يجب فعله والحال هذه؟! هل ثمّة آمال يجب التمسك بها بغية إعادة روح الثورة إلى سابق عهدها؟! هل يمكن الحديث عن تصحيح المسار بعد كلّ ما حدث؟! وكيف سيكون ذلك؟! هنا يتمثّل السؤال الأكثر خطورة. بكلّ بساطة، ومن دون الحاجة إلى التنظير الذي كان واحدًا من أسباب الفشل، حين صار الكلّ عبقريًا ومفكرًا وقائدًا ولم نعد نرى بيننا من يشبهنا من الناس العاديين، إذًا ما علينا سوى العمل مرة أخرى بفهم أكثر واقعية لطبيعة هذا النظام الذي يبدو أنّنا بنينا أوهامًا حول هشاشته، حتّى تصرف كثيرون منّا على أنّ أيامه باتت معدودة فعلًا، يجب التعامل مع حقيقة أنّ هذا النظام قد تفوّق على كلّ أساتذته في عالم الطغيان أوّلًا، وثانيًا: يجب علينا عدم الارتهان لأيّ قوى محليّة أو دوليّة بدافع الحاجة إلى التمويل أو أيّ خزعبلات أخرى، وثالثًا: علينا عدم تجريب المجرّب مرة أخرى، كي لا ينطبق علينا المثل: “من يجرّب المجرّب عقله مخرّب”. كلّ الوجوه التي شاركت في التشكيلات السياسيّة والإعلامية للمعارضة السوريّة يجب عليها التنحّي أوّلًا، وإفساح المجال لدماء جديدة لم يبلغها التلوث بأشكاله، وجوه متحرّرة من الارتهان لأيّ سلطة، ولا تخضع لغير إرادة الثورة وتحقيق أهدافها بالحرّية، وأوّلها إسقاط هذا النظام الموغل في الإجرام. ابتعدنا عن سورية، ولم نعد نمتلك القدرة على التأثير لأنّنا مهجرون في الخارج؟! نعيش داخل أسوار الوطن يقتلنا الجوع والخوف، وما زلنا نشعر أنّنا غير قادرين على فعل شيء، بسبب آلة الموت التي تواجهنا؟! سورية التي كانت لم تعد ذاتها اليوم، فهي تحت عدد من الاحتلالات العسكريّة. كلّ هذا صحيح لا يمكن التفكير بمعزل عنه، غير أنّ الصحيح أيضًا هو الإيمان بهذا الشعب الذي امتلك القوّة الأسطوريّة في لحظة واحدة من شهر آذار/ مارس 2011 ليقول (لا) مدوّية في وجه الطاغية. الشعب السوريّ الذي علينا ألّا نفقد إيماننا وثقتنا به، وبأنّه قادر في لحظة تاريخية قادمة أن يعيد التجربة، وإن بأشكال أخرى ربّما هي غير معروفة أو غير متوقعة حتّى اللحظة، ولكنه قادر أن يفعلها. لن أفقد ثقتي بهذا الشعب الذي صنع تلك الثورة العظيمة التي ما زلت أراها حيّة، وإن لم تنجح حتّى الآن.

الكاتب والروائي خطيب بدلة: ما نحتاج إليه فعلًا ثورةٌ على ثورتنا

أرى أنّ الثورة فشلت، لأنّها كانت عشوائية، لم ترسم لنفسها هدفًا ثوريًا حقيقيًا، واضحَ المعالم، ولم تنجح في تشكيل فريق ثوري عريض متوافق على إنجاز المهام الواجب إنجازها. قد يقول قائل إنّ الثورة كانت انفجارًا اجتماعيًا ناجمًا عن تراكم استبداد نظام الأسد، وتمكّنه من إخضاع المجتمع لسلطته الفاسدة. حسنًا؛ ولكن لماذا لم ترسم الثورةُ لنفسها خطة، أو تحدّد مجموعة أهداف ثوريّة خلال السنوات العشر التي استغرقتها حتّى الآن؟ هدف إسقاط النظام، وحده، لا بدّ أن يؤدي إلى نتائج كارثية. ماذا يعني أن تُسقط نظامًا، وأنت لا تعرف ماذا تفعل بعد إسقاطه؟! إنّ هذا التفكير، بكلّ صراحة: هدام. الثورات التي شهدها تاريخ البشريّة كانت بناءة وأدّت إلى نقلات نوعية: ثورة لتحرير العبيد، مثلًا، ثورة للتخلّص من سلطة الكنيسة وفصل الدين عن الدولة، ثورة لهدم النظام الإقطاعي القائم ليحلّ محلّه نظام برجوازي رأسمالي، الثورة البلشفية كانت لأجل تحقيق الاشتراكية، وأمّا ثورتنا فقد سلّحها بعض المسيطرين عليها بشعارات إنشائية غريبة، وعبارات ملتبسة غائمة، من قبيل: حرّية، وكرامة، وعدالة. كان بودي أنا ألتقي واضعي هذه الشعارات، وأطلب منهم تعريفًا واضحًا ومحدّدًا لكلّ واحد من هذه المصطلحات. هل يعقل أن تقوم ثورة عريضة لأجل شيء اسمه الكرامة، فقط؟ “الشعب السوريّ ما بينذل”. حقًا، نحن نُحوّل هذه العبارة إلى شعار بعد كلّ هذا الذل؟ الشعب السوريّ واحد! واحد؟ النتيجة التي لمسناها لمس اليد هي أنّ الشعب السوريّ منقسم إلى جماعات متناحرة.. نحن المعارضين مصنفون من قبل جماعة النظام على أنّنا عملاء وخونة، وهم في نظرنا شبيحة ومنحبكجية.. حتّى الكتلة الصامتة، التي تشكّل أغلبية الشعب السوريّ، لم تسلم من ألسنتنا نحن وجماعة النظام، كلانا نتهمها بالتخاذل. في سورية، انقسامات حادّة على أساس القوميّة، وانقسامات وصلت إلى حدود التناحر على أساس المذاهب. سورية دولة مستباحة، تحتاج دائمًا إلى من ينسق عمل الطائرات المعادية التي تغيّر على أراضيها يوميًا، لئلا تتصادم وتتزاعل الدول الكبرى فيما بينها عندما يحصل التصادم. يحكون عن وحدة تراب سورية، تسألهم عن حدود سورية، فيقولون: “أنت سوريّ، ولا تعرف حدود بلدك!!” طبعًا نعرفها، فهم يقصدون سورية المحدّدة بموجب اتفاقية سايكس بيكو، وفي الجلسة نفسها يسبّون على اتفاقية سايكس بيكو، ويبدؤون بكرّ الخطابات: اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية الـ الـ.. إذا أخذت عينة عشوائية من السوريّين، من النظام، والمعارضة، والكتلة الصامتة، ونظمت لهم مؤتمرًا، وفي الجلسة الصباحية طلبت منهم الاتفاق على اسم الدولة التي يطمحون إلى إقامتها في المستقبل، هل هو “الجمهوريّة السوريّة” أم “الجمهوريّة العربيّة السوريّة”؟ فسيستمرّ الجدال (وليس الحوار) حتّى موعد الغداء، ثمّ يتفق الجميع على ترحيل مناقشة هذا البند الإشكالي إلى وقت آخر! ولا شكّ في أنّ موقف المجتمعين من مناقشة قضيّة شكل الدولة: جمهوريّة، ملكيّة، مركزيّة، فدراليّة سيكون أكثر تضاربًا، وستكون ثالثة الأثافي بين المجتمعين، حينما تطرح القضيّة الكرديّة على بساط البحث.

من يستطيع الآن، بعد عشر سنوات من بداية الثورة، أن يتحدّث -بوضوح- عن سيطرة الجماعات الإسلاميّة على مفاصل الثورة، ومؤسّسات الثورة، ومنظمات الإغاثة؟ هذا الأمر ربّما يحتاج إلى ثورة أخرى، ثورة جديدة، ولكنّها غير ممكنة لأنّ سيطرة هذه الجماعات على الأرض ضاربة أطنابها، بينما نظام الأسد مستغرق في بيع أراضٍ سورية، وتأجير أراضٍ ومنشآت أخرى إلى 50 سنة، و100 سنة.

هل يمكننا مناقشة وضع المرأة؟ هل نمتلك الجرأة لنطرح السؤال التالي: لماذا تسببت الثورة في جعل قضيّة المرأة تمشي خطوات كبيرة إلى الوراء؟ هل تكفينا الجرأة لنقول إنّ الجماعات الإسلاميّة تعادي المرأة أكثر ممّا تعادي نظام الأسد؟ وأنّ كثيرين من ممثّلي هذه الجماعات يصرّحون بأنّ استبداد حافظ الأسد حقير، في حين أنّهم يتّخذون من ديكتاتورية صدام حسين نبراسًا يهتدون بهديه؟

خلاصة رأيي أنّ الثورة السوريّة اليوم تحتاج إلى مراجعات طويلة، وصادقة، وأن يمتلك الثائرون الجرأة اللازمة لأن يطالبوا بدولة فيدراليّة ديمقراطيّة علمانيّة، ويعملوا ما بوسعهم لتحقيق ذلك.

الناشطة والصحافية زينة رحيم: جذور الاستقطاب السوريّة تثمر غلًا سامًا

“الأسد أو لا أحد” هو أحد الشعارات الرئيسية التي يبّناها أنصار النظام السوريّ، في إشارة إلى الخيار العدمي الوحيد المُقابل لبقاء النظام، وبعد عشر سنوات، أصبح عنوان “جماعتي أو لا أحد” جامعًا لكلّ الأطياف السوريّة. غابت ثنائية الخيارات الصارمة هذه، في العام الأوّل من الانتفاضة السلميّة؛ فظهر قوس قزح على شعار “لجان التنسيق المحليّة”، وتجلّى إيمانها العميق بالتعدّدية من خلال الطيف الواسع من الناطقين باسمها، من أكراد وعرب بطوائف متعدّدة ينحدرون من مناطق متنوّعة. وفي الهيئة العامّة للثورة السوريّة، عملت المعارضة العلمانيّة سهير الأتاسي في المكتب السياسي مع محمد علوش، الذي كان ناشطًا إسلاميًّا وقتها، قبل أن يؤسّس مع أخيه زهران علوش “جيش الإسلام” في الغوطة. بدأ الحراك على أرضية جامعة متينة، حرّية وحقوق إنسان و “سورية لينا وما هي لبيت الأسد”، سُمع صداها في التظاهرات التي هتفت لمدن لا تعرفها، دعمًا لطوائف اعتادت على تنميطها ومناصبتها العداء. أتذكر كم شعرت بالخجل في تظاهرة نسائية كنت أقود هتافاتها في إدلب، عندما صرخت “سنّة وشيعة وعلويّة.. كلنا بدنا حرّية”، ثمّ نظرت خلفي متوجّسة من انخفاض الأصوات الهاتفة، لأجد الأصوات ذاتها تتابع بنفس الروح، وإحداهنّ تنبّهني بأنّني نسيتِ الدرزيّة. خجلت من تشكيكي في إيمان أهلي بالتنوّع، وفي صدق مقاومتهم للدعوات الطائفيّة التي بدأت تتسرّب شيئًا فشيئًا للحراك.

في البدايات تشاركنا، حتّى مع المؤيدين، علمًا واحدًا كنا نحمله في التظاهرات، ويحملونه في مسيرات البيعة. حتّى عندما بدأ العلم الأخضر بالظهور، كان يسير في الشوارع جنبًا إلى جنب مع الأحمر، إلى أن بدأت الاستقطابات تحتدّ، وتحوّل حامل العلم الأحمر في يوم وليلة إلى “خائن/ موال للنظام، وبات المعارض الحقيقي هو من يحمل العلم الأخضر فقط”، مع تناسي مئات المتظاهرين الذين قُتلوا وهم يحملون هذا العلم. واستمرّت كرة ثلج الاستقطابات الثنائية تكبر وتكبر إلى أن ضربت أغلبنا: بين شبيح وثائر، رمادي شيطان أخرس، ثمّ ثائر من الداخل/ الخارج، مع الجيش الحرّ/ ضدّه، مطالب بالتدخل الدولي/ رافض له، مؤيد للمجلس الوطني/ مقاطع لهيئة التنسيق؟ مع المجموعات الإسلاميّة/ مع تلك التي موّلتها حكومات غربية؟ نازح داخلي/ في دول الجوار؟ تقبض راتب لاجئ من حكومة أوروبيّة أم تعمل بمنظّمة دوليّة؟ تُبرّر الوجود التركي في الشمال؟ ضربات التحالف؟ تشكيل المجلس العسكري؟ منصّة القاهرة أو موسكو؟

كضربة حجرٍ على بحيرة صافية، استمرّت هذه الموجات في الانتشار، وأصبحنا فجأة في مسابقة لا رابح فيها ولا حكم، عن “الأحقّيّة الثوريّة”، حيث يتبارز “الصح مع الخطأ”، وتتوزع صكوك الجنة والنار من الأرباب. ويتغيّر مركز هذه الموجات بتغيّر الكتلة الثوريّة، من مراكز الحراك السلمي في بدايته، لمناطق سيطرة المعارضة بعد دخول العمل المسلّح، ثم لغازي عنتاب التركية، قبل انتقاله أخيرًا إلى الدول الغربية مع هجرة العديد من ناشطي البدايات المعروفين إليها. ومع تغيّر المواقع، يهزأ أرباب الاستقطاب من صفات كانوا يطلقونها من مواقعهم السابقة على الآخرين “الخارجين الآمنين الذين ينظرّون بشعارات خاوية على المتعبين الفقراء بالداخل”، بعد أن أصبحوا هم الخارجين الآن.

وقد تحوّلت الآراء التعميمية المغلوطة إلى وصمات قاتلة لأيّ حلم بالعيش المشترك، فمن يعيشون في مناطق النظام مؤيدون له، ومن يعيشون تحت حكم (داعش) و(النصرة) هم بيئتها الحاضنة، كلّ من يقاتل ضدّ النظام أخيار وطنيون حتّى من بدّلوا اسمها لـ “أرض الشام”. أمّا مديرو هذه التعليميات والاستقطابات المتعدّدة، فشعبويون يعيش العديد منهم على أمجاد بطولات سابقة، وكلّما زاد تشدّدهم وحماسةُ شعاراتهم، ازداد تعصّب عشيرتهم وصرامة الحدود التي تفصلهم عن الآخر، وقد أصبح هذا الآخر معارضًا يحمل الأيديولوجية نفسها لكنه يختلف معهم على اسم حملة أو انتقاد محاكمة مجرم يحبونه. وبهذا حُفرت شروخ وأخاديد واسعة في صفوف كلّ من حلموا يومًا بالحرّية دون استثناء. أنا أُجبرت بالطريقة القاسية على أن أغيّر طريقة تفكيري القاصرة هذه، عندما خُطفتُ في الفوعة عام 2012، في ذلك الوقت فقط جرّبت معنى أن تضع نفسك حرفيًا في حذاء الآخر (وكان وقتها مؤيدو النظام)، وكاد “الأصدقاء” أن يقتلوني بالخطأ، وأنا أهرب بصحبة “الآخرين” على الحدود بين المعسكرين.

لم تختلف عليّ ملامح الفقراء والبؤساء، على طرفَي الحرب، وجدتُ في جانبيها المحايدين الذين لا يريدون أكثر من حياة مملّة، مع المعتدلين الوطنيين العاجزين، والمتطرّفين الغاضبين مسلوبي التفكير، وهم أصحاب الأصوات الأعلى والسلطة الأقوى. بالتأكيد، تربيتنا البعثية الأبوية مع القائد الخالد والحزب الواحد، وأوهام الانصهار في بوتقة هويّة سوريّة لم تتشكّل، لعبت دورًا في هذا كلّه. لكنّ عشر سنوات، عاش فيها كلّ منّا مئات الحيوات والخسارات، كفيلة بأن نعيد التفكير في موضعنا ضمن هذه المعسكرات المُسوّرة، وفكّ البيعة عن أربابها، لنتحدّى التنميط والتصنيف، ونسأل الآخر باهتمام: من أنت، وماذا تريد؟ بدلًا من وصم الآخر واغتيال شخصيته، لأنّه لا يتوافق مع قوالب ومقاسات “جماعتي” الدقيقة. حان الوقت لنكتب آراءنا المختلفة بلا خوف من حملات تحطيم مُشخصنة. فالثورة، كما كتب رائد الفارس على إحدى لافتات كفر نبل، “ليست ضدّ النظام فقط، وإنّما ضدّ اغتصاب العقود والاستبداد الفكري بكلّ أشكاله”.

الناشط الحقوقي المحامي فارس مشعل تمو: أسقطنا كلّ مخطّطات افتعال ثورات مذهبيّة وقوميّة

في البداية، لا بدّ من تقسيم الثورة السوريّة إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة انتصار الثورة شعبيًا وإسقاط الرهبة والخوف من قلوب الشعب السوريّ الذي هتف بصوت واحد بالحرّية، وواجه آلة القمع والقتل والترهيب الأسدي بشكلٍ سلمي، مقدّمًا أسمى آيات التضحية والإنسانية في طلب الحرّية والكرامة.

المرحلة الثانية، يمكن تسميتها بمرحلة استلاب ثورة الشعب السوريّ وحرف مسارها، حيث تعمّد النظام في هذه المرحلة استخدام كل السبل وفق خطط منهجية مدروسة بعناية، لتحويل تلك الثورة السلميّة إلى ثورة مسلّحة، من خلال تقسيم مكوّنات الشعب السوريّ بحسب الانتماء المذهبي والقومي. وتعامل نظام الأسد مع كلّ مكوّن بإستراتيجية خاصّة، حيث تعمّد استهداف المكوّن السنّي بأبشع الجرائم، وتعمّد نشرها للعلن لإثارة النقمة عليه كنظام طائفي، لدفع السنّة إلى التقوقع الفئوي، وكان في بعض المناطق يتعمّد ترك كميات كبيرة من السلاح لدفعهم لمواجهته بشكلٍ مسلّح تعبيرًا عن الاحتقان وردًا على الجرائم وبشاعتها بحقِّ المكوّن السنّي. كما تعمّد النظام إحضار ميليشيّات طائفيّة شيعيّة من خارج الحدود لتواجه المكوّن السنّي السوريّ، وتحت شعار المظلومية السنّية، جلب القوى والتنظيميات الراديكالية المتطرّفة ليس للدفاع عن السنّة السوريّين، بل لقتل كلّ من هتف بالحرّية بوجه نظامه من السنّة، بحجّة أولوية إعلان “الدويلة الإسلاميّة”. وساعده في ذلك صمت المجتمع الدولي والإقليمي الذي التزم بالرغبة الأوبامية الأميركية (نسبة إلى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما) وبإستراتيجيتها في تفعيل سورية كساحة حرب لا ينتصر فيها أحد، وتحقيق مكاسب أميركية من خلالها في ملفات عالقة مع روسيا وإيران، ليتدخل بعدها بعض أطراف المجتمع الدولي والإقليمي كحليف مباشر للأسد، وبعضها تدخل كصديق مفترض للشعب السوريّ. وتجلّت المساعدة الدوليّة سواء من أصدقاء الشعب السوريّ أو من خصومه، من خلال تقديم الدعم والتسهيلات لتنقل كلّ متطرّف ومختل عقلي من مختلف أنحاء العالم إلى سورية، لتحويلها إلى مقبرة نفايات بشريّة دوليّة على الأرض السوريّة، وعلى حساب ثورة الشعب السوريّ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المكوّن الكردي، حيث جلب حليفه القديم حزب العمال الكردستاني التركي من خارج الحدود لقمع الشارع الكردي السوريّ وترهيبه، وقتل واعتقال كلّ من هتف ضدّ نظام الأسد في الشارع الكردي، بحجّة أولوية دويلة “روجآفا”. بهذا التقسيم، وُضع الناشطون والفصائل الثوريّة أمام خيارين: إمّا الانحياز إلى التطرّف الديني وإما الانحياز إلى التطرّف القومي، وتم ضربهم ببعضهم لتصفية العدد الأكبر من أنصار الثورة السوريّة من كل المكوّنات السوريّة، وحصر الساحة السوريّة بحروب جانبية قوميّة ومذهبيّة وإبعادها عن دمشق.

أمّا المرحلة الثالثة فنحن على أبوابها في الذكرى العاشرة للثورة السوريّة السلميّة، حيث سقطت تلك المخطّطات في افتعال ثورات مذهبيّة وقوميّة لدويلات طوباوية، وانكشفت تلك الألاعيب، وراح ضحيتها مئات الآلاف من أبناء الشعب السوريّ، وكذلك سقطت أقنعة المجتمع الدولي وأكذوبة الأصدقاء والخصوم، وباتت سورية مسرحًا لصراع المصالح الدوليّة والإقليميّة بشكلٍ مباشر. وهذه المرحلة ليست ثورة على نظام الأسد، لأنّه سقط منذ عام 2013. ورسالة الاستنجاد التي أرسلها الأسد حينها للجانب الروسي تؤكّد سقوطه ونهايته، أمّا استمراره الشكلي إلى يومنا هذا، فهو مجرّد حاجة دوليّة، كهيكل محنط بدون سيادة أو قرار. في هذه المرحلة، الشارع السوريّ ضحى بكلّ ما يملك من أرواح ودماء وبات بحاجة إلى ثورة سياسيّة ودبلوماسية، ثورة تكون على قدر المسؤولية في الحفاظ على تلك الدماء الطاهرة التي قدّمتها الثورة السلميّة، حتّى لا تُهدر عبثًا، ثورة سياسيّة تكون بحجم تمثيل آلام وآمال الشارع السوريّ في طلب الحرّية والكرامة، في مواجهة كلّ هذا الثقل الدولي والإقليمي الجاثم على صدره بشكلٍ مباشر. ثورة نتعلم فيها من أخطاء الماضي، ونعلم أنفسنا على أهمّية العمل المؤسّساتي الجماعي للوصول إلى الشكل الأمثل من العمل الوطني السياسي القابل للحياة ولبناء المستقبل. جميعنا ضحايا الوهم الفئوي، وقد آن الأوان لنصحو من هذا الوهم، وندرك بأنّ سورية جيوسياسيًّا غير قابلة للتقسيم، وبأنّ السلم الأهلي والوحدة الوطنيّة هما السبيل الوحيد للخلاص، والوصول إلى دولة مدنية ديمقراطيّة يسودها القانون ويحميها الدستور حتّى تصلح لأن تكون وطنًا جامعًا لكلّ السوريّين على اختلاف مكوّناتهم القوميّة والدينيّة والمذهبيّة، واختلاف مشاربهم الفكرية والسياسيّة والثقافية.

الناشط السياسي والكاتب جبر الشوفي: في مسألة بناء الهويّة والخلاص

وفقًا لما استخلصته من تجربتي، أبدأ مطالعتي من حيث يجب أن أنتهي، لأقول إنّ التوجّه المبكر بالمظلومية إلى الخارج، كان تعبيرًا عن معارضة سياسيّة، دفعها شعورها بضعفها وعجزها عن إسقاط النظام الأمني المدجّج بالسلاح إلى الاقتداء بالتجربة الليبية؛ وهو ما أفسح المجال لاختطاف راية الصراع وتحويل وجهته من قبل فصائل مسلّحة متباينة الولاءات، ويحتاج إليها التدخل العسكري المطلوب. وقد أدّت هيمنة هذه الفصائل التي أخذت تدير الصراع على الأرض إلى إلحاق القيادة السياسيّة للمعارضة بالعسكرة، وتحويل المجلس الوطني السوريّ والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة من بعده إلى غطاء سياسي لسلاح، يدار من الخارج ويرفع شعارات شعبوية عابرة للحالة الوطنيّة أو منكفئة عنها.

وأعطى تراجع القيادة السياسيّة المفترضة إلى خلف السلاح، بدلًا من قيادته إستراتيجيًا، نحو تحقيق بنك الأهداف الجامعة، وإخضاع كلّ ما هو آني وتكتيكي لهذه الأهداف، ذريعةً -ولو ظاهريًا- لأميركا لكي تحجم عن تقديم مساعدة جادّة للسوريّين، لتجاوز محنتهم مع نظام الجريمة والفساد وداعميه الأشرار، وتوجّهها إلى محاربة الإرهاب وإدارة الظهر لنظام القتل وحلفائه. وقد تجاوبت هذه الفصائل مع توجّه مجموعة من السياسيّين الأكاديميّين الإسلاميّين، رفضت التوقيع على بيان مؤتمر الدوحة التشاوري في بداية أيلول/ سبتمبر 2011، وسارعت إلى تشكيل مجلس ال (74) لتتوجّه به إلى الخارج، ثمّ عادت وتوجّهت بالدعوة إلى مجلس وطني سوريّ شامل، بالتنسيق مع الإخوان المسلمين وقطر وتركيا، فقبلها إعلان دمشق، وامتنعت هيئة التنسيق الوطنيّة لأسباب تخصّها عن المشاركة، وأدّى ذلك إلى ضعف التيار الديمقراطي في المجلس الوطني، وارتفاع الضجيج بهيمنة الإخوان المسلمين وهوامشهم على المجلس لإسقاطه. لقد عبّرت الثورة السوريّة الباسلة، عن مدى احتقان (المجتمع الأهلي) بالرغبة في الثأر والانتقام من نظامٍ اشتهر بجرائمه ولا سيما تجاه الأكثرية الوطنيّة، وهدفت إلى تغييره في ظلّ غياب النخب السياسيّة وتشتتها وعدم جاهزيتها لقيادة الثورة والانخراط المباشر في فعالياتها، فكان طبيعيًا أن يغلب على جيل الشباب الثائر طابع الارتجال والاندفاع وغياب حكمة السياسة ورويتها، ممّا سهل على الفصائل الإسلاميّة المسلّحة اختطاف الراية وتأزيم الساحات الوطنيّة وانفضاض حاضنتها الاجتماعيّة، ولا سيما بعد تورطها في دخول مدينة حلب، بصفة فاتحين لا محرّرين، وسهل كذلك عملية استجرار قيادتها غير المؤهلة سياسيًّا إلى التخلي عن مواقعها العسكريّة والانزلاق في متاهات دبلوماسية آستانا الماكرة، بعد أن استجرت معها الائتلاف والحكومة المؤقتة واللجنة الدستوريّة، ومررتها من آستانا إلى سوتشي وصولًا إلى (علاك) دستوري خارج استحقاق البدء بإقامة هيئة حكم انتقالية، وفقًا للقرار 2254 و2218، وبهذا غدا مسار جنيف بمظلته الأممية التفافًا ماكرًا على ما يتطلع إليه السوريّون من انتقال سياسي وحلّ سلمي نحو الحرّية والديمقراطيّة والعدالة والمساواة.

أمّا في مسألة الهويّة والخلاص، فأقول: الهويّة الوطنيّة تبدأ بحقِّ المواطنة وحرّية الفرد، إذ لا عودة إلى (هويّة وطنيّة سوريّة) شائهة ومنقوصة، تضطّرب فيها منظومة الحقوق والواجبات، ولا ترى في المواطنين سوى قرابين وأدوات لأيديولوجية السلطة الخرقاء، ولا إلى توزيع الأفراد والجماعات بتراتبية، بدأت وتجسدت وفق معايير القرب من النظام والولاء لرأسه ومدى الانخراط في تدوير عجلته الأيديولوجية والإدارية، حتّى غدا أقلّ الناس التزامًا بالحقِّ العامّ وأكثرهم إضرارًا بالمصلحة العليا أقربهم وأكثرهم تعبيرًا عن هذه الهويّة الفاسدة للنظام. ولذا بات على السوريّين أن يبدؤوا -بجميع أطيافهم القوميّة والدينيّة- في تحرير الأرض من كلّ الاحتلالات وسلطات الأمر الواقع، لإعادة توحيد الجغرافيا السوريّة، ومن ثمّ البدء بإقامة دولة مواطنة (دولة الحقوق والواجبات) والمساواة أمام القانون، وفي التطبيق العملي وتشريع الحقوق السياسيّة لجميع الاثنيّات والحقوق المدينة للأديان والجماعات، ومن دون ذلك، لا تبنى هويّة وطنيّة حداثيّة قابلة للاستمرار وتأمين الاستقرار والتقدّم في طريق التنمية البشريّة والمتكاملة، وذلك لأنّ (تحرير الأرض ووحدة الجغرافيا) باعتبارهما شرطين ضروريين لبناء هذه الهويّة الوطنيّة، لا يقودان بالضرورة إلى هويّة سوريّة جامعة بدلاليتيها الواقعية والمعنوية (المادية والروحية) لتكون هويّة وطنيّة نهائيّة تعبّر عن مفهوم (الوطن الأمة) لا دولة طارئة ومعلقة في فضاءات إسلاميّة أو قوميّة غائمة، من دون شروط الديمقراطيّة والتعدّدية والتداول السلمي للسلطة. هذا الطموح يبدو طوباويًا في عصرنا المرذول هذا، ولكنه طريق خلاص طويل وعسير، ولا بدّ من تحمل تبعاته بكلّ جدية وإخلاص من الجميع.

الناشط السياسي د. زكريا ملاحفجي: بعد كلّ هذا لماذا لم ننجح؟!

سؤالٌ بمنتهى الأهمّية، لكن الجواب عنه ليس بمنتهى السهولة، وربّما يكون هذا السؤال قد خطر ببال كلّ فرد فينا: بعد عقد من الثورة؛ لماذا لم ننجح؟ كلّ منّا لديه أجوبة تطول كثيرًا، بعد كلّ هذه الجهود والتضحيات والأعمال، وكلّ تلك الضريبة الكبيرة التي دُفعت. صحيح أنّنا لم نفشل، ما دمنا نناضل ونقاوم، لكنّنا إلى اليوم لم ننجح، ولن أقف على حجم مكر الخصم وظلمه وتوحشه، فهذه سمته أصلًا، ولو لم تكن سمته ما انتفض هذا الشعب ضدّه أصلًا وصرخ بالحرّية التي افتقدها طوال عقود من حكم الأب والابن، ولكن السؤال المهم الآن: لماذا لم نتغلب ولم ننجح إلى الآن؟

أوّلًا: لم ننجح، لأنّ للصراع وإدارته أدواتٌ من لا يمتلكها لا يمتلك النجاح. نحن نمتلك طاقة كبيرة قادرة على المقاومة وقادرة على التعطيل وقادرة على هدم الاستبداد، لكنها ليست قادرة على النجاح وتحقيق نقاط نجاح وبناء وتقدّم، لأنّها طاقة غير منضبطة وغير منتظمة وغير مركزة، فالمياه المتدفقة عشوائيًا لا تصنع شيئًا في حجر، لكنها بالتركيز والضبط تقطع الحجر. فجموع شعبية بلا جماعات وأحزاب وتيارات قوية تملك كوادر بوعي سياسي وإستراتيجي لا تستطيع أن تشكّل ثقلًا في الصراع، مهما كان ثقل الأفراد المتناثرين، وإذا كنا نفتقد ذلك سابقًا، فلماذا لم نصنعه إلى اليوم؟ قيل لرجل أُعطي فأسًا: “لو أنك أُعطيتَ أربع ساعات لتقطع شجرة، فكيف تصنع؟ فقال: أجهز فأسي في ساعتين، وفي ساعتين سأتمكّن من قطع الشجرة بلا كثير تعب، لأنّ فأسي أصبحت ممتازة”.

ثانيًا: لن ننجح ونحن نتآكل ولا نتكامل، ونحن في الصف الواحد نحمل كثيرًا من التفشيل لبعضنا، والعداوات الكثيرة، وغالبها بسبب عدم الوعي بقيمة المصلحة التي تتحقّق من الاجتماع والتناصر فيما بيننا، وترك كلّ ما يعتري النفس البشريّة من الأنانية، وكان أحمد شوقي يقول: “أصدقاء السياسة أعداء بعد الرئاسة”، لكننا أعداء قبل الرئاسة…!

ثالثًا: من أبسط أدبيات إدارة الصراع، الحفاظ على الموجود وإيجاد المفقود، ابتداءً من الأنصار والحلفاء إلى الأعداء، وهناك حلفاء واضحون وهناك متقلبون وهناك غير مكترثين وهناك أعداء. وأبسط وعي سياسي يدفعنا للعمل على الحفاظ على الحليف الواضح، وكسب المتقلب وغير المكترث، بل كسب من هم في صفوف الخصم أيضًا، لكن حالنا لا تشجع الحلفاء فكيف بالآخرين…

رابعًا: أن نكون محلّ جذب لأفكارنا وقضيتنا، بسلوكنا وأخلاقنا وعدالتنا، فلا نشبه الخصم بالظلم، ومهما قلّ مستوى الظلم لدينا فهو مرفوض؛ فمن يناضل من أجل حرّية وعدالة ينبغي أن يمنحها. صحيح أنه لا يوجد تجمع بشري بلا أخطاء ولكن لا يصحّ أن يكون بلا عدالة.

متى توقف الجذب لقضيتنا والمتمثّلة بازدياد المناصرين وكثرة المنشقين وتواليهم؟! مهما قلنا إنّ العالم خذلنا، ولو أنّها حقيقة، فإننا ما لم نمتلك أدوات الصراع وأدوات النجاح لن ننجح، وما لم نكن على سوية كبيرة من الانضباط والتنظيم، فمن سيقدّرنا ويعمل معنا ويساعدنا لمصلحتنا ومصلحته. العواطف وحدها لا تغيّر واقعًا، بل يكون التغيير بالتدافع، فعندما نفشل، نكون حملنا أسباب الفشل المؤدية إليه، ولو حملنا أسباب النجاح لنجحنا، ولكن “لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم”..

بسبب ما نحن عليه، استطاعت القوى المتطرّفة الإرهابية والانفصالية أن تنمو بيننا، لأنّنا لسنا كتلة واحدة متكاملة لها قيادة واحدة، فكانت الساحة مفتوحة لكلّ المشاريع، وتحت ضخ العواطف الدينيّة التي تحركها أذرع خبيثة، فُتك بالثورة السوريّة فتكًا كبيرًا، لأنّهم كانوا بين صفوفنا غير الموحّدة وغير المنظّمة.. لكن السؤال الأهمّ اليوم: هل يمكن أن ننجح؟ وهل يمكن وضع حدّ لإنهاء هذا التعثر والتقهقر؟ الجواب بكلّ تأكيد: نعم، فمعركة المواجهة لم تنتهِ وملايين السوريّين يرفضون العودة الطوعية للعبودية، واليوم حتّى الموالون باتوا يشعرون بأنّهم ضحية الأسد، حسب الظروف التي يعيشونها من فقدان سبل الحياة الأساسية وتحميل الشعب العقوبات ونتائجها، وهي عقوبات على الأسد وعصابته. فالتركيز يجب أن يكون على الخطاب الوطني الجامع، قولًا وعملًا، فاليوم حتى الموالون يستجيرون من الظروف المحيقة بهم، وهذا يحتاج إلى دور وعمل ينقذ السوريّين جميعًا من أن يكونوا ضحية هذا النظام الذي يعيش على مأساة السوريّين، وهذا دور مهم حاليًا. فالمعارضون والموالون اليوم في خندق حريق الأسد، الذي يحرق به الجميع من أجل بقائه هو وزمرته، وينبغي الخروج من حالة الموالي والمعارض، ونفكر في الخلاص كسوريّين جميعًا.

أقول لو أراد البشر خلع جبل لفعلوا، لكن بتوظيف الطاقات والإمكانات توظيفًا مثاليًا مفيدًا، ولا يكفي أن يكون التوظيف صحيحًا فقط، فليس المهم أن أعمل عملًا صحيحًا فقط، لكن ينبغي أن يكون مفيدًا بشكلٍ جماعي يصب بمصلحة السوريّين جميعًا، عبر عمل دؤوب مركّز، وليس بالعاطفة وحدها، فالعاطفة تثير الحماس للعمل المرغوب، لكنّها لا تُنجزه، لا سيما إذا كان غير مرغوبًا رغبويًا. نحن نعيش في عالم بوصلته المصلحة والمكاسب وقناعته بها، لكن كيف سنكون مقنعين، ونحن غير منضبطين وغير منظّمين، وغير قادرين على تقدير مصلحتنا والحفاظ عليها. يحاول البعض من الطيبين والأكاديميين نقد الأداء لكلّ قوى الثورة والمعارضة، ولكن ماذا بعد النقد؟ وهل أصلحنا أو نصلح ما نراه معوجًا نقدناه؟

نحن نعرف ما لا نريد، لكن هل نعرف ما نريد؟ وكيف نحقّق ما نريد؟ نحن نتقن “لا يمثّلني”، وعبارة “يسقط”، وهي لغة المظاهرة الجماعية ضدّ خصم واضح، وليست لغة الصف الواحد ذي الهدف الواحد. ومن هنا بدأنا نتآكل. لنسأل أنفسنا: لِمَ نحتاج إلى الدول لترتب هياكلنا ولتوحدنا ولتقرر عنا؟ ولِمَ نحتاج إلى من يجمعنا ومن يقرر عنا أحيانًا؟ ولِمَ نحاول أن نبرئ ساحتنا ونلقي اللوم في ساحات الآخرين؟ ولِمَ يستغلنا كلّ المتطرّفين ابتداءً من (داعش) و(قسد) إلى سواهما، ليبنوا أحلامهم وأوهامهم فيما بيننا وعلى أرضنا التي دفعنا ثمنًا كبيرًا لتحريرها؟ لأنّهم وجدوا فوضى يستطيعون البناء في وسطها، فمن جرأهم علينا سوى عدم انضباطنا والفوضى التي نعيشها، وعدم قدرتنا على بناء تحالفات وشراكات دوليّة وإقليميّة؟

ليس بالأماني والأمنيات نحقّق أهدافنا، وإذا فشلنا أو لم ننجح، فلنسأل أنفسنا: لماذا لم ننجح، بعد كلّ هذا الكم الكبير؟ وكما قال أمير الشعراء أحمد شوقي: وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي.. وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا.

الباحث والشاعر حمزة رستناوي: علينا زراعة الأمل السوريّ

بداية، من الضرورة بمكان الامتناع عن وصف الثورة السوريّة أو غيرها من ثورات الربيع/ الخريف العربي بمؤشرات الفشل، بمعزل عن وصف الأنظمة الاستبدادية الحاكمة التي قامت عليها هذه الثورات، بالفشل أيضًا وبحُكم مُشدّد. ليس ثمّة عقل للتاريخ مستقلّ عن صيرورة الكينونة الاجتماعيّة، وليس ثمّة محرّك للتاريخ لا يتحرّك! التغيير نفسه ليس مُنجزًا بحدِّ ذاته، بل هو شكل حركي احتمالي احتوائي نسبي يحوي مصالح ومآلات متعدّدة ومختلفة. ولا يتوقف التاريخ عند حدث معين، الانتصار والهزيمة مفهومان نسبيان، الهزيمة الحاسمة تكون في القنوط وانطفاء شعلة الحياة والحرّية. الانتصار قد يلد من رحم الهزيمة، هذا صحيح، ولكن بشرط عقل الهزيمة. الثورة السوريّة قد تكون خميرة لثورات قادمة، وعلينا الاستفادة من الدروس وهي كثيرة. لا داعي للقنوط، وعلينا زراعة الأمل في الواقع لا على طريق القدريّة أو ظنّ الأماني. من الضروري بمكان دراسة الثورة/ الحرب السوريّة في سياق عصر العولمة وثورة المعلومات أوّلًا، وسياق ثورات الربيع/ الخريف العربي ثانيًا. لنتساءل أوّلًا: هل نجحت بقية ثورات الربيع العربي في تحقيق أهدافها؟ في الحقيقة، كثير منها نجحت في إسقاط النظام الاستبدادي القديم، ولكنّها لم تنجح في تحقيق منسوب سياسي-حضاري أفضل من السابق. الفوضى والحروب الأهليّة حاضرة، وإعادة إنتاج النظام الاستبدادي القديم، كما حدث في مصر وتونس، استثناء نسبي، وملامح التجربة السودانية لم تتضّح بعد. ربّما تنجح الثورة السوريّة في إسقاط السلطة الأسدية، لكني لا أجد أسبابًا قوية تجعلني أعتقد بالاستثناء السوريّ في تجاوز مأزق الاستبداد، في المدى المنظور.

في الأسباب السياسيّة (القريبة) السياسيّة، يمكن الإشارة إلى:

  1.  المشروع الإيراني ذي الأيديولوجيا الشيعيّة عبر تدخله بشكلٍ مباشر في دعم السلطة الأسدية، وتعزيز الاستقطاب الطائفي السني/ الشيعي في المنطقة، بما يحجب مصالح الوطنيّة السوريّة والمشروع السياسي الخاصّ بالسوريّين.
  2.  التدخل الروسي المباشر لصالح السلطة الأسدية، والذي انتهى بما يشبه الوصاية والاحتلال. من الصعوبة بمكان لثورة شعبية أن تنتصر على قوى عظمى، دونما داعم حقيقي وكبير لها، يسهِّل قيام حرب تحرير شعبية على غرار أفغانستان أو فيتنام مثلًا!
  3. الدور السلبي للمال وللأنظمة الخليجية ممثّلة بسياسات السعودية والإمارات وقطر، التي عملت على إعاقة ثورات الربيع العربي ودعم قوى الثورة المضادّة، لكيلا يصل إليها المدّ الثوري، وقد استعانت على ذلك بالمال السياسي ودعم فصائل الإسلام السياسي السنّي التي تتّسم بضيق الأفق السياسي والفكري القاصر عن مصالح العصر والمجتمعات، وكلنا يتذكر الصراعات البينيّة فيما بينها.
  4. عدم وجود مصالح وازنة أو مزاج أميركي-إسرائيلي للتدخل الفاعل في مجريات الثورة/ الحرب السوريّة.
  5. العصبيّة الطائفيّة للسلطة السوريّة، حيث لعبت العلويّة السياسيّة دورًا حاسمًا في تحديد الولاءات والاصطفافات السياسيّة.
  6. الاستثمارات السياسيّة والمخابراتية متعدّدة الأطراف في (داعش والسلفية الجهاديّة)، وتحويل مشروع الثورات إلى مشروع الحرب ضدّ الإرهاب.

في الأسباب الثقافية (البعيدة) يمكن أن نذكر:

  1.  ضعف حضور الحرّية في الثقافة العربيّة عمومًا، والسوريّة خصوصًا، حيث إنّ التعيين الواقعي/ السياسي للحرّية في عصرنا، يمكن تحديده بالعلمانيّة والمواطنة المتساوية واحترام حقوق الإنسان.
  2.  عدم وجود خبرة بالعمل السياسي والجماعي نتيجة القمع المزمن وتصحير الاستبداد للحياة السياسيّة السوريّة.
  3. ضعف حضور الهويّة السوريّة (سبب- نتيجة- سبب)، وطغيان الانتماءات ما قبل الوطنيّة، سواء أكانت طائفيّة (سنّية- علويّة- درزيّة- مسيحيّة..)، أم قوميّة، كما هو حاضر في الحالة الكرديّة مثلًا.

في التصحيح والأمل السوريّ: أقترح بضع نقاط:

  1.  الاشتغال على تشكيل جمعيات – أحزاب – لوبيات للسوريّين، تكون جيدة التنظيم وإن كانت صغيرة.
  2.  تعزيز خطاب وطني سوريّ في مواجهة الاستبداد السياسي/ الأسدي والديني.
  3. متابعة ملف انتهاكات حقوق الإنسان ومقاضاة المتورطين في جرائم الحرب السوريّة حول العالم.
  4. تعزيز الاشتغال على توثيق وأرشفة ذاكرة الثورة السوريّة، وتعزيز إنتاج وتسويق وترجمة الأعمال الفنية والأدبية المُنحازة إنسانيًا إلى الثورة السوريّة. وفضح مجازر السلطة السوريّة وانتهاكات حقوق الإنسان في سورية. اشتغال ثقافي كهذا سيكون مفيدًا -على المدى البعيد- عندما يستعصي الفعل السياسي لسبب أو آخر.
الكاتبة والإعلامية سعاد قطناني: الثورة السوريّة.. صوت في وجه السوط

عشر سنوات مضت، لم يفضِ الموت فيها إلى الحياة ولا إلى الحرّية، ولا أوصلت الآلام إلى دروب تقود إلى العيش الكريم والديمقراطيّة. الحديث عن الثورة السوريّة هو حديث يُدمي الروح ويستنهض الأوجاع، هو حديث يستلزم مراجعة الذات والأخطاء، وربّما الكوارث التي مورست على المستويين التكتيكي والإستراتيجي حتّى وصلت الثورة إلى ما وصلت إليه من تعرّج المسالك ومآلات التيه. بعد كلّ التضحيات التي بُذلت والأثمان التي دُفعت، هل يجوز السؤال: هل فشلت الثورة السوريّة في تحقيق أهدافها في إسقاط النظام ونيل المطالب المشروعة من حرّية وكرامة وعدالة انتقالية؟ سؤال يعيدنا إلى الصرخة الأولى والهتاف الأوّل في وجه نظام أمني استبدادي، “الشعب السوريّ ما بينذل”! تلك الصرخة التي دوّت وما زال صداها يتردّد على طول الوطن وعرضه، وذلك الهتاف الذي ما زال يحمل قيم الثورة ورؤاها؛ في هذا نجح السوريّون في شق عصا الطاعة ورفع الصوت في وجه السوط، لم يعد بالإمكان العودة إلى ما كان؛ فالسوريّون الذين عرفوا أنّ الحياة أرحب من سجن، وأوسع من بلاد محكومة بالاستبداد والطغيان، لم يعد بإمكانهم الرجوع إلى الخلف بدعوى الأمن والأمان، على الرغم من أنّ الطريق طويل وصعب، وزاد من صعوبته وتعرّجه تلك المدة الطويلة من الاستبداد التي جثمت فوق صدور السوريّين، وكممت أفواههم وقتلت علاقتهم بالسياسة، ووأدت أيّ فعل سياسي معارض قبل أن ينجز أولى خطواته على درب الحرّية والديمقراطيّة؛ وما فاقم تلك الصعوبات موقع سورية الجغرافي الذي يغري الدول الكبرى في البحث عن مصالحها، وأن تكون لها اليد الطولى في السيطرة عليه، لما له من خصوصيّة على مستوى الشرق الأوسط وتعقيداته السياسيّة وأهمّيته الاقتصاديّة، ويزيد من هذه الخصوصيّة وجود الكيان الإسرائيلي بالجوار وعلاقته بالقوى الدوليّة المتصارعة على النفوذ في هذه المنطقة، ومصالحه المتلازمة مع الحفاظ على نظام متواطئ وضعيف ومهلهل ومستباح.

وفي ظلّ هلامية الموقف الأميركي من النظام، وغياب رؤية واضحة لطبيعة الحلّ، تدخّلت روسيا بقوّة وقلبت المعادلة على أرض المعركة لصالح النظام الذي بدأ باستعادة سيطرته على الأرض؛ ولم تكن إيران بعيدة عن هذه المعادلة، حيث وقفت إلى جانب النظام المنسجم مع المشروع الطائفي الذي تسعى لفرضه، فكانت سندًا للنظام، وكان النظام سندًا لها في احتلالها ومحاولتها التغيير الديموغرافي لصالح مشروعها الطائفي ليس في سورية فقط بل بالمنطقة عامّة. ويمكن أن نسمي هذه العوامل بالخارجيّة، ولم يكن ممكنًا أن يكون لها أيّ دور، لولا بنية النظام الداخليّة التي غذت كلّ هذه التدخلات وجعلت منها احتلالًا متعدّد الأقطاب لسورية، وذلك من خلال القمع غير المسبوق للثورة السلميّة والدفع باتّجاه عسكرتها وجلبها إلى ملعبه؛ الملعب الذي يعرف كيف يديره من خلال تفوقه العسكري وقبضته الأمنية وخبرته الكبيرة في مجال القمع والقتل والتدمير. وهنا، نبدأ حكاية أخرى وهي حكاية العسكرة وانتشار الفصائل المسلّحة بأجنداتها المتناقضة أحيانًا، إن كان على مستوى الرؤية العامّة للثورة وأهدافها أو على مستوى الطريق لتحقيق هذه الرؤية والأهداف؛ لقد تشتت قوى الثورة وأصبحت فصائل وجماعات متصارعة من المستوى الفكري وصولًا إلى المستوى العسكري، وأصبحت متحكمة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بأدوات ورؤى أبعد ما تكون عن روح الثورة وما أراده السوريّون من ثورتهم؛ تقاتلوا وسقط كثير منهم قتلى في معارك أقلّ ما يمكن وصفها بأنّها هامشية، وتخدم أجندات أبعد ما تكون عن روح الثورة وأهدافها، وكان السكوت عن ممارسات هذه الفصائل واعتبارها جزءًا من مسار الثورة خطأ استراتيجيًا لم ينتبه إليه أكبر منظرو الثورة في تلك المرحلة، حيث أسهم ذلك في زيادة الانحراف عن مسار الثورة وخاصّة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

ولم يكن المستوى السياسي الذي يدّعي تمثيل الثورة على المستوى الدولي، أو لنقل على مستوى المحافل الدوليّة، أكثر رشدًا في التعامل مع ما هو مطروح على طاولات المفاوضات متساوقًا مع رغبة النظام في التلاعب بالوقت وجعله عاملًا أساسيًا في تحقيق سياساته على الأرض، ففي كلّ يوم هناك مبادرة جديدة وطرح جديد بسقف أقلّ ممّا هو مطروح بما تضمنته قرارات الأمم المتّحدة حول سورية، وخاصّة قرار مجلس الأمن رقم 2254. فمن جنيف 1 إلى جنيف 8، إلى سوتشي، إلى آستانا؛ أصبحت سورية أبعد وأصبح مسار الحل السياسي أكثر تعقيدًا، وصار ضياع الوقت وهدر الطاقات أجندة بحد ذاتها تبتعد عن البوصلة شيئا فشيئًا، وتمكّن النظام من التسويق لنفسه، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي أو الدولي. وهنا يجب التوقف والتفكير والبحث عن بدائل حقيقية على المستوى السياسي، للخروج من هذه الدوامة التي لا يخدم البقاء في دوائرها سوى النظام والمتحالفين معه، من خلال إعطائهم المبرّر والشرعيّة لاحتلالهم سورية بحجّة إدارة المباحثات والوصول إلى حلّ.

وفي ظلّ كلّ ذلك الدمار على المستوى المادي، والضياع على المستوى السياسي، والتشتت على المستوى العسكري، لم يبق أمام السوريّين الذين تشربوا معنى الحرّية والكرامة إلّا أن يحافظوا على سردية الثورة وقصتها الأولى، من خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وتطويع كلّ الوسائل الممكنة في هذا الاتّجاه، وبث روح التفاؤل بأنّ الأجمل قادم؛ وما تدهور الوضع الاقتصادي وتململ الناس في مناطق سيطرة النظام إلّا بوادر حقيقية على أنّ هذا النظام انتهى، ولم يبقَ منه إلّا الهيكل الخارجي المثبّت بفعل قوى الاحتلال الموجودة على الأرض السوريّة، وما سقوطه إلّا مسألة وقت، وهو قادم.

الباحث والكاتب صبر درويش: الرهان على قوى الثورة السلميّة من الجيل الأوّل والشباب والشابّات الذين ترعرعوا في ظروف الصراع

من شبه المستحيل، تناول الصراع السوريّ المستمرّ منذ نحو عشر سنوات ببضعة أسطر، لذا سأضع هنا بعض الأفكار التي قد يكون من المفيد التوسّع في نقاشها مستقبلًا. لم يتمكّن السوريّون من تحقيق أهداف ثورتهم، على الأقلّ حتّى اليوم، كما لم يتمكّنوا من إجراء تغييرات بنيويّة على بنية النظام السوريّ؛ بالتأكيد هشم الصراع أجزاءً أساسية من النظام، وفكّك بعضًا من جوانبه الأكثر أهمّية كإسقاط مشروعيته الاجتماعيّة على سبيل المثال، إلّا أنّ هذا حدث بكلفة باهظة وآثار ستمتدّ على عقود قادمة.

دُمّرت المدن السوريّة، ودُمّرت معها قوى الثورة الأكثر فاعليّة، ومنذ نهاية عام 2011، ذهب الصراع السوريّ باتّجاه العمل المسلّح، وتدريجيًا تحوّلت الثورة إلى حرب أهليّة، دارت رحاها بين فصائل المعارضة المسلّحة وبين النظام السوريّ وحلفائه روسيا وإيران.

وأميّز هنا ثلاثة فاعلين في المشهد العامّ الذي حكم السنوات العشر الماضية: الأوّل قوى الثورة السلميّة، وهم جيل الشبّان والشابّات الذين وسموا العام الأوّل من الثورة، وكان لهم الدور الأهمّ على صعيد الحراك الثوري، فهذا الجيل من الثوار هو من قاد مرحلة النضال السلمي، وبلور الشعارات الأولى للثورة السوريّة، وله يعود الفضل في اختراع “التنسيقيّة”، وهي الشكل الذي انتظمت فيه قوى الثورة، وتمكّنت من خلاله من تنظيم صفوفها وقيادة دفة الصراع، على الأقلّ حتّى منتصف عام 2012؛ والثاني الجناح العسكري للثورة، فمنذ نهاية عام 2011، بدأت تتبلور في سورية القوى العسكريّة المناهضة لنظام الأسد، بداية مع مجموعات ما دعي بـ “الجيش الحرّ”، ثم عبر تشكيل عدد لا يحصى من الفصائل العسكريّة ذات التوجّه الإسلامي، الذي راوح بين المعتدل وصولًا إلى الفصائل الجهاديّة المتطرّفة؛ والفاعل الثالث هو القوى السياسيّة، التي تمثّلت بكيانين أساسيين هما: هيئة التنسيق، التي اختارت العمل من داخل سورية، وتحوّلت مع الوقت إلى تجمع سياسي يشبه إلى حدّ بعيد الأحزاب السوريّة الرسميّة (أحزاب الجبهة)؛ والائتلاف السوريّ المعارض المُشكّل من قبل جماعة الإخوان المسلمين وحزب الشعب “رياض الترك” بشكلٍ أساسي، مع هيمنة واضحة للإخوان.

حتّى كتابة هذه الورقة، بقيت هذه القوى منفصلة عن بعضها البعض بشكلٍ تامّ؛ فلا جيل الشباب تمكّن من بلورة قوى سياسيّة تعبّر عنه، ولا الفصائل العسكريّة تمكّنت من توحيد جهودها وقواها للعمل معًا على تحقيق أهداف الثورة. وبقيت القوى السياسيّة التي تبلورت أثناء الصراع، ذات نزعة إصلاحيّة (هيئة التنسيق)، وتحت سطوة حزب الشعب والإخوان المسلمين “الائتلاف المعارض”، وبقيت الثورة السوريّة بالاستناد إلى ذلك عاجزة عن بلورة قيادة موحّدة لقواها المنتفضة، وهو ما فسح المجال لنظام الأسد للتعامل مع مجموعة خصوم لا خصم واحد، وهذا كان من أهمّ أسباب نجاح النظام السوريّ في ضرب قوى الثورة وهزيمتها في معارك مختلفة.

بعد مرور عشر سنوات على الصراع السوريّ؛ يُطرح السؤال من جديد: من هي أطراف هذا الصراع؟ لا تقدّم التبسيطيّة شيئًا على هذا الصعيد، كتكرار القول بأنّ نظام الأسد هو الخصم الأبرز للسوريّين، فقد أثبتت السنوات السابقة أنّ للسوريّين خصومًا كثيرين، حتّى إن السوريّين ذاتهم هم سوريّون بالجمع لا بالمفرد. إذن المطلوب إجراء تحليل نقدي يحدّد بدقّة طرفي التناقض الرئيسي في سورية. على صعيد الفصائل العسكريّة المعارضة، وباستثناء تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) الذي شكّل كابوسًا للسوريّين على مدار السنوات الماضية، أغلب الفصائل العسكريّة التي سادت المشهد السوريّ كانت خصمًا لقوى الثورة المنتفضة أكثر من كونها تعبيرًا عنها. يكفي هنا مراجعة ممارسات فصيل “جيش الإسلام” في الغوطة الشرقية فيما مضى، أو فصيل “أحرار الشام” في المناطق التي كان يسيطر عليها، وممارسات “جبهة النصرة” اليوم في محافظة إدلب وريف حلب، على سبيل المثال، كي ندرك أنّ هذه الفصائل لا تُدرج في إطار قوى الثورة السوريّة، بل هي بالضبط في الطرف النقيض.

سياسيًّا، لا شيء يذكر حول هيئة التنسيق، بينما قوى الائتلاف المعارض فأقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنّها تفتقد إلى النزاهة، فعدد كبير من قيادات الائتلاف انخرطت في موجات الفساد المتتالية، وظهر من خلال ممارساتها أنها قوى تعبّر عن مصالح إقليميّة ودوليّة أكثر ممّا تعبّر عن مصالح السوريّين. من بقي في هذا المشهد المعقّد للصراع السوريّ؟ أزعم على هذا الصعيد أنّ ثمّة رهانين يتعلّقان بمستقبل سورية: الأوّل قوى الثورة السلميّة من الجيل الأوّل، والتي لم تتلوث بالفساد وحمل السلاح وبؤر السياسة الانتهازيّة، والمنتشرة اليوم في كلّ أصقاع الأرض، والرهان الثاني يتعلّق بجيل الشباب والشابّات الذين ترعرعوا في ظروف الصراع، واكتسبوا خبرات كبيرة خلال السنوات الماضية. على السوريّين إذًا لملمة قواهم الثوريّة، والاستناد إلى تاريخهم النضالي خلال السنوات الماضية، وبلورة قوى سياسيّة تكون ممثّلة شرعيّة لقوى الثورة السوريّة من جهة، وقادرة على وقف الحرب والبدء في مرحلة البناء، من جهة ثانية.

إن المهمة في غاية التعقيد والصعوبة، خصوصًا إذا ما أخذنا حجم الخلافات الدائرة في أوساط السوريّين بعين الاعتبار، إلّا أنّها ليست مهمة مستحيلة. من أين يبدأ العمل؟ أقترح هنا ضرورة انفتاح الشباب السوريّين على الحوار، ووضع أهداف محدّدة كالاتفاق على تصوّر سياسي عامّ يجمع أكثر ممّا يفرق، والترفع عن الغايات الشخصية ووضع مصلحة سورية ككلّ في المقدّمة، وهو شيء ربّما يخفف من حدة الخلافات في أوساط السوريّين، ويقلّل من تسرب الفساد إلى صفوفهم.

الناشطة السياسيّة والنّسويّة لينا وفائي: في سورية الآن ثورة مضادّة

بعد عشر سنوات من انطلاق الثورة السوريّة، وبعد ما وصلنا إليه؛ يلحّ دومًا سؤال: ما الذي اخطأنا به وأوصلنا إلى ما نحن إليه؟ وهل كان بالإمكان تغيير المسار والنتائج؟ انطلقت الثورة السوريّة بشكلٍ عفوي وانفجاري، وحملت شعارات جامعة، الحرّية والكرامة، سرعان ما تطوّر الشعار ليصبح إسقاط النظام، إذ أدركت الجماهير الثائرة بعفويتها أن لا إمكانية للوصول إلى الحرّية والكرامة المنشودين بوجود هذا النظام الذي اعتمد الحلّ الأمني منذ البدء، فقتل واعتقل كثيرين. وسرعان ما وجدت الثورة نفسها في مواجهة هذا القمع الذي دفعها إلى التسلّح، وتحوّلت شيئًا فشيئًا إلى حربٍ تداخل فيها الداخل مع الخارج، وظهرت الفصائل الإسلاميّة بتنوّعاتها، المعتدلة منها والمتطرّفة والأكثر تطرفًا، كما تدخلت دول عدّة في الوضع السوريّ، فأصبحت الحرب السوريّة حربًا أهليّةً إقليميّةً دوليّةً مركبة.

إنّ أسباب ما وصلت إليه ثورتنا ليست ذاتية فقط، وإن كانت هناك بعض الأخطاء هنا وهناك، ولم يكن باستطاعتها تغيير مصيرها كاملًا، حيث إنّ مواجهة نظام قمعي وشمولي وانتقامي كهذا، بالطرق السلميّة، أمرٌ صعبٌ بل قد يصل إلى حدِّ المستحيل، والتسلّح دومًا يجلب التدخل الخارجي والدعم المالي للسلاح الذي يأتي مع أجنداته، وفي الحالة العربيّة لن يكون على الأغلب ديمقراطيًا، ولن يكون بالأحرى إلّا إسلاميًّا. ولكن هذا لا ينفي وجود كثير من الأخطاء التي وقعنا بها، كديمقراطيّين، ولو أننا تجنبناها لكان من الممكن أن تخفف قليلًا من المصير الذي آلت إليه الحال.

عقد الديمقراطيون تحالفات لقيادة الثورة، وهذا في المسألة السياسيّة مفهوم وصحيح، لكنّهم ذابوا في هذه التحالفات، ولم يميزوا أنفسهم عن حلفائهم. فدافع بعضهم حتّى عن (جبهة النصرة)، على أرضية أنّ كلّ بندقية في مواجهة الأسد هي خدمة للثورة، متناسيين أنّ هناك دومًا ثورات مضادّة تبتلع الثورة وتحوّلها عن مسارها، وهذا ما حصل في سورية. ففي سورية الآن، ثورة مضادّة تتمظهر في كلّ التنظيمات الإسلاميّة التي ابتعدت عن مطالب الثورة الأساسية، ونظام طغمة كان وما زال يريد عودة الجميع إلى حظيرة الطاعة. لم يستطع الديمقراطيون خلق جسور تواصل بينهم، فغرقوا بخلافاتهم المرحلية دون النظر إلى أنّ ما يجمعهم في المدى البعيد، من رؤية لسورية الديمقراطيّة، سورية الغد، دولة المواطنة الكاملة، هو الأهمّ، وهو ما يجب أن تُسخّر له كلّ تحالفاتهم المرحلية، وقد أدّى ذلك إلى تشرذمهم وتفرقهم. إنّ أربعين عامًا من القمع المعمم أبعد السوريّين عن العمل والفعل السياسي، لذلك وبسبب عفوية وفطرة الشعب السوريّ وعدم خبرته السياسيّة، كان من الأسهل مخاطبته بشعارات عاطفية تمسّ حياته ووجدانه واستغلال إيمانه الفطري، وهذا ما نجح فيه الإسلاميّون، وهو الذي جعل أيضًا الديمقراطيّين أبعد عن الفعل السياسي المباشر، وخلق أمامهم تحدّيات للوصول إلى القواعد الشعبية، وجعلهم أقلّ تأثيرًا، وفي ظلّ تشرذمهم الذي تحدّثنا عنه آنفًا، زادت عزلتهم وضعف تأثيرهم.

خلقت الثورة السوريّة في أعوامها العشر، بالرغم من كلّ الآلام التي مرّت بها، أو بفضل هذه الآلام والتضحيات، خلقت أفقًا مفتوحًا يمكن العمل من خلاله، فهي كسرت مملكة الصمت، ولن يستطيع النظام -بأيّ حال من الأحوال- العودة إلى ما قبل 2011، هذا ما يجب إدراكه والعمل عليه. فيجب استغلال انفتاح الساحة السوريّة على إمكانية العمل السياسي، والعمل على تحالفات بين الديمقراطيّين، قد تكون هذه التحالفات عريضة، ويتم الاتفاق فيها على بنود عريضة فقط، وذات مهام مشتركة محدودة، أو أكثر توافقًا وذات مهام آنية ومستقبلية حتّى الوصول إلى الاندماج بين التشكيلات المتعدّدة. ما زال طريقنا للوصول إلى مطالب الثورة الحقيقة، التي انطلقت ثورتنا من أجلها، الحرّية والكرامة، ما زال الطريق طويلًا، ولا يمكن تحقيقه إلّا بدولة مواطنة كاملة، دولة لكلّ مواطنيها بغض النظر عن العرق والجنس والدين والإثنيّة، دولة ديمقراطيّة فيها تداول سلطة سلمي. ولكن يجب استغلال الصيرورة التي فتحتها ثورتنا، والعمل بكلّ الطرق الممكنة سياسيًّا، عبر القنوات الداخليّة مع الشعب السوريّ، وخارجيًّا مع المجتمع الدولي الذي يمكن أن يدعم مطالبنا هذه، للحصول على كلّ ما يمكن عبر طريقنا الطويل إلى سورية المستقبل.

الباحث والكاتب الأكاديمي د. حسام الدين درويش: مراجعات نقدية لاستشراف آفاق المستقبل

قد يكون مبتذلًا القول بأنّ “الثورة السوريّة قد أُفشلت أكثر من كونها فشلت. ولم يقم بهذه الإفشال الأطراف المعادية للشعب السوريّ فقط، ومن بينها النظام الأسدي والميليشيّات السوريّة وغير السوريّة المتحالفة معه، ودولتا روسيا وإيران خصوصًا، بل أسهمت في هذا الإفشال مجموعة “أصدقاء الشعب السوريّ” أيضًا. فهؤلاء الأصدقاء “المزعومون” كانوا أصدقاء مباشرين أو غير مباشرين لـ (داعش والنصرة وجيش الإسلام وأحرار الشام) وغيرها من الفصائل الإسلامويّة، أكثر من كونهم أصدقاء للثائرين والناس المقصوفين والمحاصرين والمجوَّعين والمهجَّرين.. إلخ. وكانوا حريصين على عدم سقوط/ إسقاط النظام أكثر من حرص بعض أقوى حلفائه. وإذا اتبعنا مبدأ “نصل أوكام” ربّما يكفي ذكر ما فعله الأصدقاء و/ أو الأعداء المذكورون لتفسير مسألة فشل أو بالأحرى إفشال الثورة السوريّة. لكنّنا لا نعتقد بضرورة استخدام ذلك النصل في هذا السياق، بل نرى ضرورة ممارسة أشدّ أنواع النقد الذاتي لممارسات “المؤسّسات السياسيّة المعارضة”، وكل الأطراف المنتمية أو الممثلة للثورة السوريّة، بحقِّ أو بدونه، ولقيمها وأفكارها وإسهامها في تحويل مفهوم “المعارضة” من كونه شرفًا ليس سهلًا ادعاؤه أو نيله، إلى كونه وصمًا يتجرأ كثيرون على التبرؤ منه، بحجّة أنّ المعارضة أصبحت أقرب إلى أن تكون قفًا للسلطة بدلًا من أن تكون نقيضًا لها.

ومهما بلغت شدّة النقد الذاتي المذكور، ينبغي لنا ألّا ننسى أنّ الأداء الثوري للشعبين التونسي والمصري، على سبيل المثال، لم يكن أفضل من الأداء الثوري للشعب السوريّ الثائر، وأنّ ذلك لم يمنع من أن تفضي الثورة المصرية إلى إسقاط رأس النظام السياسي المصري، وأن تُحدث الثورة التونسية تغييرًا أكثر عمقًا وإيجابيةً في النظام السياسي التونسي، لم تقتصر على إسقاط رأس النظام فحسب، بل امتدّت إلى إنتاج مرحلة تحوّلٍ ديمقراطي، جزئي وبطيء، لكنه حقيقي وفعلي. في المقابل، لم تفضِ ثورة الشعب السوريّ إلى أيّ تغيير إيجابي في ماهيّة النظام السياسي السوريّ، لا بل إنّ إضعاف النظام الأسدي قد ترافق مع إضعافٍ للدولة السوريّة ذاتها. والخلاصة التي بيّنتها كثير من الدراسات والأبحاث، في هذا الخصوص، أنّ مسألة نجاح الثورة أو فشلها لا تتعلق، فقط أو بالدرجة الأولى، بممارسات الثائرين، وإنّما تتعلق، أساسًا أو خصوصًا، بطبيعة النظام السياسي/ الأمني/ العسكري، ومدى حصول انقسامٍ فيه بين أفراد أو أطراف نخبته، وماهيّة رد فعله على الثورة عليه.. إلخ.

بعيدًا عن لغة الفشل والإفشال، أفضت الثورة السوريّة إلى نشوء أوضاع جديدةٍ، أصبح من الضروري أخذها في الحسبان عند أيّ تفكيرٍ في “القضيّة السوريّة”. والمقصود بالأوضاع الجديدة حالة الشتات السوريّة وأوضاع ملايين السوريّين في المناطق الخاضعة للنظام الأسدي أو لميليشيّات (قسد) أو (الجيش الوطني)، أو في دول الجوار وفي مناطق شتاتهم أو لجوئهم الأخرى. هذه التغيّرات الكبيرة، والمأساوية في كثيرٍ من الأحيان، في أوضاع السوريّين تحتم تبني رؤى وإستراتيجيات جديدة لا تبحث عن تصحيح مسار الثورة وإعادة الروح لها، لأنّ العودة أو الإعادة المذكورة لم تعد أمرًا معقولًا أو ممكنًا أصلًا؛ بل تبحث عن أفكارٍ ورؤىً وإستراتيجيات ومؤسّسات جديدة تسعى إلى توحيد جهود السوريّين الساعين إلى التأثير الإيجابي في القضيّة السوريّة، وتحقيق الانسجام والتكامل بين هذه الجهود، في الشتات وفي الداخل، في الوقت نفسه.

يصعب على السوريّين المتبنّين لقيم ثورة 2011 تحمّل مسؤولية الحفاظ على الهويّة الوطنيّة ووحدة الجغرافيا السوريّة؛ لأنّ كل القوى السوريّة السياسيّة والعسكريّة الفاعلة أصبحت خاضعة خضوعًا جزئيًّا أو كاملًا لقوى أجنبية تتحكّم فيها وتفرض عليها أجندتها. ومع حالة التشظي والتفتت والتمزّق التي أصابت كلًّا من الهويّة الوطنيّة والجغرافيا السوريّة، أصبح ضروريًا امتلاك وعيٍ أكبر بماهيّة الوضع القائم والابتعاد عن اجترار لغةٍ لا تتناسب مع تلك الماهيّة ومتطلباتها. وفي انتظار أن تتضمن عقابيل ثورتهم وتداعياتها المستمرّة، حتّى الآن، ما يساعد في خدمة قضيّة هذه الثورة، من المفيد العمل على تقديم سردٍ ومراجعات نقدية لما سبق، من ناحيةٍ أولى، وعلى إنتاج قراءات وصفية وتقويميّة للواقع الراهن، من ناحيةٍ ثانيةٍ، وعلى استشراف آفاق المستقبل، والاستعداد له، والبحث عن سبل التأثير الإيجابي فيما هو أتٍ، من ناحيةٍ ثالثةٍ.

الباحث والكاتب طارق عزيزة: إعادة الاعتبار للوطنيّة السوريّة كأساس جامع للسوريّين

مع الذكرى العاشرة للثورة السوريّة، يبدو الإحباط الشديد مخيّمًا على غالبية السوريّين المناهضين لنظام الإجرام الأسدي، نتيجة الشعور العميق بالعجز والخذلان، والأوضاع الكارثية التي يعيشها معظم الشعب السوريّ، النازح والمهجّر، وأيضًا من تبقّى مقيمًا في دياره، سواء تحت حكم نظام الأسد أو غيره من سلطات الأمر الواقع الأخرى. فالثورة التي انطلقت طلبًا للحرّية وسعيًا إلى الخلاص من ربقة الاستبداد أصبحت ذكرى أليمة، بعد أن قوبلت بما لا يمكن وصفه وما لا طاقة لبشر على احتماله، من صنوف الجرائم ضدّ الإنسانية، على أيدي نظام الأسد ورعاته وحلفائه من دول وميليشيّات.

ما من شكّ في أنّ ظروفًا موضوعية بالغة التعقيد أثّرت في مجريات الثورة السوريّة، وأفضت بها إلى مآلها الكارثيّ المؤسف، خصوصًا بعد انزلاق الأوضاع إلى الحرب المفتوحة متعدّدة المستويات. هناك ظروف متعلّقة بموقع سورية ضمن شبكة المصالح الدوليّة والإقليميّة المعقّدة، تكاملت مع وحشيّة نظام الأسد المنفلتة من أيّ رقابة أو محاسبة حتّى اللحظة، ولم يكن ممكنًا بأيّ حال استمرار صمود المدنيين في وجه آلة القتل إلى ما لا نهاية. لكن، على مستوى آخر، جرى إقصاء مشروع الثورة التحرّري المدني الديمقراطي بفعل قوًى وجماعات جاءت بمشاريع نقيضة، رفعت رايات الاستبداد المطرّز بالقداسة الدينيّة، فوسمت المشهد السوريّ بطابعها، مجسّدةً عن جدارة ما يُعرف بـ “الثورة المضادّة”. تعزّز دورها وتكرّس بدعم أطراف خارجيّة، أرادت الاستثمار في الصراع السوريّ لغايات ومصالح لا صلة لها بثورة السوريّين، وتوقهم إلى التغيير والحرّية. وبعد كلّ ما حاق بالسوريّات والسوريّين من أهوال، لا يجوز الاكتفاء بإلقاء اللوم في ما جرى ويجري على التخاذل الدولي ووحشيّة النظام وداعميه؛ فالمجتمع الدولي لم يكن يومًا “جمعية خيرية”، ونظام يقوم في جوهره على التوحّش والإجرام كالنظام الأسدي ما كان ليقابل ثورةً ضدّه إلّا على النحو الذي فعل ويفعل. وبالتالي، ينبغي التفكير بطريقة نقديّة معمّقة، بعيدًا عن العواطف والشعارات، لتَبيّن مواضع القصور الذاتي وتجاوزها، عوضًا عن تجميلها والاكتفاء بشتم الشروط الموضوعية، ولا بدّ من تحديد المسؤوليات، بدلًا من الالتفاف عليها والتهرّب منها، كي لا نعيد إنتاج الفشل تلو الفشل.

من المؤسف أنّ التفكير النقدي لم يكن مرحبًا به في صفوف الثورة، حيث إنّ من حملوه من المعارضين والثوار، نساءً ورجالًا، كانوا الأكثر تهميشًا، لا سيما في أجواء الاندفاع والحماسة التي سادت خلال المراحل الأولى للثورة، وبدء إفلات البلدات والمدن المنتفضة تباعًا من قبضة الأسد. وكثيرًا ما مورس “التشبيح الثورجي” ضدّهم، بدل الإنصات إلى تحذيراتهم المبكّرة من خطورة ما كان يحدث، وما سيجرّه على الثورة من عواقب وخيمة. المفارقة أنّ التعمية على الانحرافات والمظاهر السلبية التي أسهمت بشكلٍ أساسي وكبير في تعثّر الثورة وانتكاستها، والمبالغة في تبريرها وإسكات منتقديها، كانت تجري تحت ذريعة “عدم الإضرار بصورة الثورة”! وباعتبار أن كلّ أسباب وموجبات الثورة ضدّ الأسد ما زالت قائمة، بل إنّها تضاعفت تجاهه، وامتدّت لتشمل معه “الفصائل الثوريّة” وهيئات المعارضة المتهافتة، فإنّ المطلوب هو التفكير الثوري، أي التفكير النقدي، الذي يواجه الحقائق ويتعامل معها عبر النقد المجرّد من الانحيازات الشعورية والعاطفية والمصالح الحزبية. هذه مقدّمة لازمة وضرورية للتفكير في ما يمكن عمله، في مناطق النظام قبل غيرها، لمقاومة هذا الواقع المرير، والبحث عن بصيص أمل. ولعلّ ما يجب عمله أوّلًا، قبل كلّ شيء، القطع نهائيًّا مع العدّة النظرية والعملية، وما نتج عنها من نهج وممارسات جاءت بها التشكيلات السياسيّة والعسكريّة التي سادت المشهد طوال السنوات الماضيّة، مدّعيةً تمثيل الثورة والمعارضة. حان الوقت للتبرّؤ منها ومن ومشاريعها إلى غير رجعة (لمن لم يفعل بعد)، ولا سيّما أنّها كشفت عن تبعية ذليلة وانمحاء تامّ أمام إرادات الداعمين و “الأخوّة” التي “بلا حدود”. هذا القطع سيعني، في جانب منه، إعادة الاعتبار للوطنيّة السوريّة، كأساس جامع للسوريّين، ويقع على تضادٍّ مع كلّ ما يمثّله نظام الأسد و”المعارضات” التي شابهته في مسلكها وممارساتها، وارتهانها -مثله تمامًا- لقوى احتلال خارجيّة.

الكاتب والمحلّل السياسي درويش خليفة: إنقاذ الثورة السوريّة يبدأ من قمة الهرم

في صيف 2019، سألتني صحفية روسية معارضة: ما الذي دفعك للتظاهر ضدّ نظام بشار الأسد؟ أجبتها بهدوء، بصرف النظر عن كلّ الانتهاكات التي ارتكبتها عائلة الأسد بحقِّ الشعب السوريّ، إنّي أشعر بالعار من جراء توريث الحكم في الجمهوريّة السوريّة. بالفعل، عندما كنت أتواصل مع أقراني من الشباب العرب، لا أجد مبررًا لما حدث في البرلمان السوريّ في حزيران/ يونيو عام 2000. وفي الذكرى العاشرة من الثورة السوريّة، أجد كثيرًا من الناس يتحدّثون عن فشل الثورة، وهذا لا يعيبها ويعيب الثوار. وبرأيي من الضرورة الاعتراف بالفشل، من أجل وضع النقاط على الحروف، والعودة بكلّ ثقة وروح وطنيّة لمواصلة طريق التحرّر وبناء الدولة العصرية، التي تحفظ كرامة الوطن والمواطن. ولكن في المقابل لا أستطيع تجاهل وجود جيوش خمس دول مختلفة الرؤى والمصالح على الجغرافيا السوريّة، وتهجير ولجوء نصف الشعب السوريّ، والنصف الآخر يعاني إمّا الاعتقال والتغييب القسري وإما البحث عن لقمة عيشه وسط الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها السوريّون كافّة. وكي لا نجلد ذاتنا -جمهور الثورة والمعارضة السوريّة- علينا التوقف عند بعض المحطات التي كانت عائقًا أمام إسقاط النظام، وقد بدأت مع التدخل الإيراني ووقوفهم إلى جانب بشار الأسد ونظام حكمه بكلّ قوّتهم وأسلحتهم وتزويده بالأدوات اللازمة لقمع الثورة وتصفية أيّ صوت ينادي باحتواء الانتفاضة الشعبية، كما فعلوا بالشراكة مع ماهر الأسد في قتل خلية الأزمة منتصف عام 2012. فضلًا عن تدخلهم المباشر مع جيش نظام الأسد لقتل الشعب السوريّ منذ الأشهر الأولى للثورة، أمام مرأى العالم أجمع وصمت دولي مريب، تخللته بعض الإدانات الخجولة آنذاك من دول أوروبية وإدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. ولأنّ إيران قريبة من القوى الجهاديّة المتشدّدة، ولأن لديها سجلًا تاريخيًا في التعاطي معها، فقد لعب قادة الحرس الثوري دورًا في إطلاق نظام الأسد سراح متشدّدين إسلاميّين من سجونه، لينضموا إلى الحراك المسلّح المعارض ويكونوا عاملًا مساعدًا في إظهار الثورة على أنّها إسلاميّة ذات طابع متشدّد، وبالفعل، هذا ما حصل، ولو نسبيًا، عند وصول هؤلاء إلى المناطق الثائرة وتسلّمهم زمام العمل العسكري الجهادي الذي لا يتسق مع طموحات وتطلّعات الشعب السوريّ المنادي بالحرّية والكرامة والعدالة الإنسانية، ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف بوجود نظامٍ يعمل على زيادة عدد الأفرع الأمنية والسجون، على حساب تنمية المجتمع وبناء الجامعات والمستشفيات وإيجاد الحلول للبطالة ومكافحة الفساد المستشري في جسد الدولة السوريّة وشخصياتها العاملة.

ومن ناحية أخرى، لم تسهم مؤسّسات ما يسمّى بالمعارضة السياسيّة التي نشأت خارج الحدود السوريّة في تقديم نموذج متطوّر، بالرغم من توفر جميع الأدوات المساعدة والزخم الدولي الذي رافقها في السنوات الأولى. حيث إنّهم تعاملوا مع الثورة على أنّها حالة طارئة، وأنّ مسؤولية إسقاط النظام تقع على عاتق المجتمع الدولي ومؤسّساته العسكريّة والسياسيّة. وفي ضوء ذلك، إذا ما أرادت الثورة العودة إلى مسارها الصحيح، فعلينا العمل جاهدين لتقديم خطاب سياسي يتناسب والمرحلة، ونبذ الخطاب المتشدّد الداعي إلى معاداة الغرب والعرب في آنٍ واحد، والتركيز على احترام حقوق الإنسان، وتنمية المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام وإعطاء نموذج يتناسب وسورية التي نطمح للوصول إليها جميعًا. وذلك من خلال تفعيل وترسيخ الديمقراطيّة السياسيّة داخل مؤسّسات المعارضة، واعتماد صندوق الانتخاب وسيلةً للوصول إلى قمة هرم المعارضة، وليس تقليد النظام لكيلا تظهر المعارضة بمظهر المنهزمة في معركة التغيير أمام الشعب السوريّ. ولتوضيح ذلك، نشير إلى أنّ الإصلاح السياسي الحقيقي الذي يؤدي إلى إنقاذ الثورة السوريّة يبدأ من قمة الهرم، وليس من القاعدة الشعبية التي لا تزال تحافظ على مبادئ الثورة وطهرانيتها، على عكس القوى السياسيّة ومنظمات المجتمع المدني التي أصبحت رهينة شخوصها وداعميها. وإنّ مرور عقد من الزمن قبل أن يسقط النظام الاستبدادي لا يشكّل عائقًا أمام المضي قدّمًا في عملية التحرّر الوطني والتغيير السياسي، إذ إن الحرّية بالنسبة إلى السوريّين مطلبٌ لا تقل أهمّيته عن الطعام والشراب. وهذا ما يدفعنا للعمل على مواصلة النضال وتجديد الهويّة الوطنيّة السوريّة، في ظلّ ظهور فواعل الليبرالية عند رواد التغيير، من خلال توفر مقوماتها: الإعلام المستقل، منظمات المجتمع المدني، مجالات التعليم الحديثة، المراكز البحثية، قادة مجتمعيين، منظمات حقوق الإنسان.. إلخ. وعلينا عدم إغفال ملف العدالة الذي يسهم في محاسبة المتورطين وإعادة الحقوق لأصحابها، حيث إنّ العدالة تعمل على تنمية الشعور الوطني لدى شريحة الشباب، وتشجعهم على الانخراط في العمل السياسي، وهو ما أوضحه جون راولز في تصوّره، حيث قال: “أزمة الشرعيّة السياسيّة وشعور الأفراد بالحرّية ورغبتهم في المشاركة لا يمكن أن تحدث إلّا من خلال إعادة النظر في مفهوم العدالة”.

الباحث والكاتب د. محمد جمال طحان: المثقّفون وامتحان الثورة السوريّة

من المبكّر جدًا الحكم على الثورة السوريّة، من حيث نجاحها أو فشلها، فهي ما تزال مستمرّة. ويشعر الشارع العربي بالإحباط نتيجة الواقع الذي يشير إلى أنّ ثورات الربيع العربي تُسرق تباعًا، ويستغلها تجار الحروب. كما أنّ اندحار طاغية ما بالموت أو بالتنحي لم يغيّر شيئًا من الواقع المتردّي الذي تعيشه شعوب الدول العربيّة، وهذا يدعونا لإعادة التذكير بمعنى الثورة وأهدافها. الثورة لا تعني استبدال مستبدّ بآخر، وإنّما تستهدف تغييرًا جذريًا في أسلوب الحكم، وفي بنية المجتمع والدولة. ولم تكن تعني عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام” تغيير شخص وحسب، وإنّما تعني إسقاط الجمود في التفكير وتقويم السلوك. لم يفهم الطغاة، حتّى الآن، أنّ القتل والاعتقال والتعذيب قد تقضي على حياة الثوري، لكنّها لا تقضي على الثورة. الثورة فكرة والفكرة لا تموت. صحيح أنّ ثورات الربيع العربي لم تحقّق أهدافها حتّى الآن، ولكنّها أحدثت وعيًا جديدًا في المجتمع، ومنحت الناس رؤية جديدة للعالم جعلتهم يعيدون النظر في كلّ شيء، بدءًا من تقديسهم للدعاة الأدعياء الذين تبيّن أنّهم دجالون يعملون خدمًا لدى السلطة التي تفسح لهم مجال الشهرة، مرورًا بالمثقّفين المدجنين والتجار الفاسدين المفسدين.

الفعل الثقافي تراكمي اجتماعيًا وبطيء تاريخيًا، ولا تظهر نتائجه النوعية إلّا متأخرة. المهم أن نحرص على تثبيت ما يصلح للمجتمع من أهداف مثل: الكرامة والحرّية والعدالة الاجتماعيّة والدستور والتسامح الديني والنشاطات الأهليّة وحقوق الإنسان. المثقّف الجادّ والمثابر في ضوء الثورة يمتحن جهازه الثقافي والمعرفي والفكري بما يحمله من التزامات ومسؤوليات على الواقع المتحرك، ويعيد النظر في جهازه المعرفي والثقافي على ضوء تجربته مع الواقع ومتغيّراته ومستجداته. ويستخدم جهازه في نقد الواقع حين يرى لزومًا لذلك. إنّ الثورة قد تسير إلى أهدافها ببطء شديد، وعلى المثقّف في هذه المرحلة تقوية الإيمان بالنصر، وإشاعة الصبر وإبعاد الناس عما يؤدي إلى الإحباط والقنوط.

إنّ الهويّة الثقافية تتكوّن من بضعة عناصر مرتبطة ببعضها، وأيّ خلل في أحدها يؤدي إلى خلل في باقي مكوّناتها، ومن أبرز هذه المكوّنات: اللغـة؛ فاللغة جزء لا يتجزأ من ماهيّة الفرد وهويّته، وهي تتغلغل في الكيان الاجتماعي والحضاري لأيّ مجتمع بشري، وتمتد إلى جميع نواحي الحياة فيه. فالعلاقة بين اللغة وبين الهويّة الثقافية علاقة قويّة لا تنفصم، ولهذا كان من أهمّ مقاييس رقيّ الأمم مقدار عنايتها بلغتها. واللغة العربيّة تكتسب أهمّية خاصّة، بوصفها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. وهذا ينقلنا إلى مكوّن ثقافي مهم، هو الدين، فهو الذي يحدّد للأمة فلسفتها الأساسية عن سر الحياة وغاية الوجود. فللتعاليم الدينيّة تأثيرها العميق والشامل في هويّتنا الثقافية، وإنّ التوحيد بمعناه الشامل يمثّل أبرز ملامح هذه الهويّة. والتديّن هنا لا يعني ممارسة الشعائر الدينيّة وحدها، بل هو موقف من ثوابت كثيرة، منها ما يرتبط بالأسرة ومكوّناتها. وإنّ التاريخ، الذاكرة، هو الذي يميز الجماعات البشريّة بعضها عن بعض. فكلّ الذين يشتركون في ماض واحد يعتزون به ويفخرون بمآثره؛ يكونون أبناء أمة واحدة، فالتاريخ المشترك عنصر مهم من عناصر المحافظة على الهويّة الثقافية التي تتعزز من خلال تكاتف الأسرة والمدرسة، ولا تتناقض مع اندماج السوريّين مع محيطهم الجديد الذي يعيشون فيه، نتيجة التهجير الذي فرضته حالة الحرب التي ما زال يعانيها السوريّون في كلّ مكان.

المزيد
من المقالات