كلما قرأت قصة عن تاريخ مدينتي حمص، أغدو أشبه بطفلة تقرأ عن جدّتها قصصاً تثير الحنين، وكلما لمحت صورة عابرة من حيّ أو شارع أو جدار، خفق قلبي حنيناً، حتى تحاشيت لفترة من الزمن تقليب تلك الصور، فما هي إلا تقليب للمواجع والذكريات، ففي كل صورة لا أرى نفسي منفردة هنا وهناك، بل أرانا نحن، نحن الذين تركنا قصصنا مبعثرة في كل مكان، فلكل منا قصّة ولسنا ندري أنعود لنكملها، أم نتركها لمن يجيد قراءتها، نترك لهم هذا الوجع الذي خبرناه من قبل، وخبرته المدن فهي مثلنا لها قصصها الخاصة، والمرتبطة بنا أيضاً.
أتحب المدن وتنتحب مثلنا نحن البشر؟ أجل وربّما أكثر، فالمدن تهوى سكّانها، وتميّز حقيقة بين من يهواها ويفديها بالروح، وبين من يعاديها ويأسرها ويعذبها، من يقصفها، وينهبها، يشوّه معالمها التاريخية، يقلق سلامها، ويهجّر أطفالها وأسراب الحمام منها، فكيف ستحب مدينة جلادها، وكيف لا تلعنه وهي تحمل عبء صوره معلقة أمام ركامها، وكيف لا تمقت ابتسامته في عزائها، وتترقب قصاصه بكل حبّة تراب فيها؟!
كم كانت مدننا شهود عيان، وكم كانت شهيدة!
شهدت القيد والقصف والتدمير، وضيّق عليها وأكرهت أن تسجن أبناءها خلف قضبان الحديد أو تدفنهم في قبورها، وهناك مدن تحولت إلى مقابر، فالشهداء والموتى أكثر من عدد الأحياء فيها، وهي الثكلى التي شهدت رحيلهم أمام ناظرها، وهي التي كانت أعينها تحرسهم في الوجع والمقاومة والقتال، وتلهج لهم بدعائها، لعلهم يظفروا بالنصر فترتاح أخيراً من هواجس الفقد المتكرر والمؤلم.
نغدو فجأة لاجئين أو مهجرين، وجوه جديدة تقابل وجوهاً جديدة للمدنٍ أيضاً، مدنٌ لا نعرفها ولا تعرفنا، قد لا نألفها، ولعلها أيضاً لا تألفنا، نحن المعلقة قلوبنا حيث الجذور، وهي المعلق قلبها بكل من ترك فيها أثراً جميلاً، لا تأبه المدن بهوية الناس أكثر من اهتمامها بما قدموا لها، بما تركوا فيها، قد تستقبل الغرباء كأم حنون، وقد تعبس في وجوههم زمناً لتختبر نواياهم، وقد تتخذ موقفاً سلبياً من كل شيء، تختار الصمت على الكلام، والهدوء على التحدث، تشهد جوراً وتشهد حباً، تشهد لقاء أو فراقاً، تشهد حرباً أو سلماً، ولا تلبث تسجل ذلك كله في ذاكرتها لتقدمه للتاريخ هدية.
وحين نقلب النظر في عالمنا سنجد تصنيفات كثيرة لمدن تغدو قصصها مثل قصصنا نحن البشر، فتلك مدينة قضت عمرها أسيرة لدى الطاغية، واستشهدت لحظة هجّر أهلها ومحا معالمها، وتلك مدينة مقاتلة، ظلت تحارب الظالم سنوات، وظل يحاربها، ويهابها، يحاول دك حصونها وقلاعها، لكنها ظلّت ترعبه وتهدد نومه ويقظته، وما تزال تحارب بكل ما فيها، وهناك مدينة صامتة، اختارت أن تحتفظ بمقتنياتها القديمة من تاريخ وآثار على أن تثور فتهدم، وظلت تنتظر الخلاص من غيرها ولو طال الزمان، ومدينة أخرى باتت كأمّ ثكلى، استشهد جميع أبنائها، ولم تجد عن الصبر بديلاً، ومدينة بعينيها تقاتل، تترقب اللحظة الممكنة لتنقلب على سجانها، وتفك قيدها وأغلالها وتعلن حريتها.
ليتنا إذ نتشابه مع المدن نوجد لغة خطاب تصل إليها، وليت المدن الحبيبة أو تلك الغريبة عنا تفهم لغتنا، ويا ليت الأوطان تتسع لمن يحملون أوطانهم في قلوبهم أينما رحلوا، فإن وضعوا حقائب الترحال مرّة، فلكي يعودوا فيلبوا نداء المدن الجريحة، وإن هدأ ضجيجهم يوماً، فلكي يصنعوا الضجيج القادم لأوطان حرّة.