أول ما يُفكر به المجرم هو طمس الأدلة ومحو أي أثر يدل عليه، ربما حتى قبل ارتكاب جريمته، لكن غالبًا ما تكون هناك عين شاهدة ترصد الجريمة، تلك العين هي الهدف الأسمى للسفاح.. في سوريا زمن الثورة والحرب، كانت كاميرا المواطن الصحفي، هي تلك العين الشاهدة، ولم يدخر نظام بشار الأسد أي جهد لكسرها أو قتل الصحفي الممسك بها.
ليس من السهل أن ترفعوا كاميراتكم وتقرروا التصوير في “سوريا الأسد”، فالشوارع ليست ملك أهلها، وإذا لفتتكم لقطة وقررتم توثيقها بعدستكم، فقد تعرضون أنفسكم لمساءلة عن هدفكم من التصوير.
أنا أحمد من سوريا، تحديدًا من داريا بريف العاصمة دمشق، شاركتُ بالثورة السورية منذ انطلاقها، وتعرضتُ للاعتقال في سن الـ15 في أحد أكثر الأفرع الأمنية إجرامًا ووحشية.
كشاب في هذه السن، ربما لم أكن أعي تمامًا عِظَم القضية، لكنني شاهدت ما يكفي لأنضم للجموع المنتفضة، وكأي شاب حالم يستحوذ المستقبل على فكره، كنت أرى المستقبل في أرضٍ اجتازت الطاغوت وأزهرت بالحرية، لكن حتى لفظة شاب ظهرت فضفاضة على الـ15 عامًا.
في خضم الثورة والحناجر الغاضبة، أنا ابن هذه الثورة، الذي قرر أن يمسك عدسته ويوثق جميع اللحظات التي تحكي قصة مخاض مدينته.. بادئ الأمر كنت أوثق الحراك السلمي في داريا التي عُرفت بأنشطتها السلمية البارعة، أينما وجدت مظاهرة أنضم بالكاميرا لا بالهتاف، وأرسل لقطاتي لمسؤول النشر في التنسيقية المحلية حيث تُنشر لتتداولها وسائل الإعلام على صفحاتها وشاشاتها.
عندما كنت أشاهد صوري ومقاطعي على الشاشات أشعر بلذة المنتصر الذي استطاع رغم المخاطر المحيطة به الإحاطة بالحقيقة وإيصالها، أما ما جعلني أستمر فهو مشاهدتي لإعلام النظام وما يقوم به من كذب واضح وتضليل فاضح، هذا ما بث بداخلي العزيمة والإصرار على نقل الأحداث ومواجهة النظام بحقائق لا يمكن إنكارها، وهذا أيضًا ما جعل مني خطرًا يُواجه بالاعتقال.
اُعتقلت يوم 28 من مايو/أيار 2012 رغم صغر سني بجريمة ما أحمله من توثيقات، فهنا لا حرية للصحافة بل هي تهمة تودي بصاحبها إلى الزنزانة في أخطر الأفرع الأمنية (المخابرات الجوية) وأقساها لأمضي بداخلها المظلم 70 يومًا.
بعد خروجي من المعتقل – ذاك الحدث المفصلي الذي أضاف للأمر جديته وأضاف لي الوعي الكامل عن ضرورة إكمال ما بدأناه بمواجهة أكبر مؤسسة إجرامية – وبفترة ليست طويلة، جاء الحدث الذي نكب المدينة وهو مجزرة داريا الكبرى، ففي ثاني أيام عيد الفطر وعندما كان المسلمون حول العالم يحتفلون، بدأت الحملة العسكرية للنظام على مدينة داريا، يوم 25 من أغسطس/آب عام 2012، شهدت مدينة داريا مجزرة راح ضحيتها أكثر من 700 مدني بينهم 522 موثقون بالاسم، بحسب المجلس المحلي، إلا أن الأيام التي سبقت هذا اليوم كانت أقسى وما تلاه كان أشد، إذ انقطعت كامل الاتصالات عن المدينة في 20 من أغسطس/آب مع قطع كامل للكهرباء والمياه، وبدأ النظام حملةً عسكريةً على المدينة استهلها بقصف المنطقة الفاصلة بين داريا ومدينة معضمية الشام.
في صباح اليوم التالي أغلقت قوات النظام السوري كل مداخل ومخارج المدينة سواء الرئيسية أم الفرعية بالحواجز العسكرية والسواتر الترابية، إضافه إلى نشر ما لا يقل عن 30 دبابة على الطريق الدولي لمدينة درعا وبالقرب من جسر صحنايا، ومنعت بالتالي الدخول أو الخروج من المدينة، وفي يوم 22 من أغسطس/آب الذي كان الأفظع والأشد قصفًا، استخدم النظام السوري أنواعًا مختلفة من الأسلحة الثقيلة بقصف المدينة بقذائف الدبابات وقذائف الهاون إضافة إلى صواريخ المروحيات وخلف هذا القصف دمارًا واسعًا وقتل عشرات المدنيين داخل منازلهم إضافة إلى عشرات الجرحى.
لم يبقَ قلبٌ إلّا وانفطر حزنًا على فقدان المدينة لأبنائها وشيوخها وأطفالها ونسائها، واهتزت وسائل الإعلام وضجت المجالس الحقوقية والدولية من هول المأساة، دون أن تحرك ساكنًا، لكن بالنسبة لي: أصبح الأمر أكبر من كونه حلمًا بالحرية، أصبح مسؤولية حملنا إياها دم الشهداء المهراق، هنا اشتعل الغضب والكرامة والثأر قاتل ومقتول، مجرم وضحية، جلاد ومجلود.
حصار مطبق ومعارك دامية
بعد أن أصبح سكان المدينة جمرٌ مُشتعل يأبى وجود أي عنصر من النظام ومليشياته وبعد أن اكتشف النظام أن جملة الإبادة التي شنها لم تُفلح بإخماد روح الثورة في المدينة، جاء بحصار خانق يرافقه قصف متواصل ليتابع سلسلة الإرهاب بحق هذه المدينة، وهنا لا أتحدث عن حصار كإغلاق معابر ومنع الخروج أو الدخول، بل حصار كامل ومنع إدخال المواد الغذائية والأدوات الطبية والأدوية ومستلزمات الأطفال، حصار غدا منه الجميع جائعًا، حصار اضطر الناس بسببه لأكل مالا يُؤكل.. صارت داريا بؤرة الموت والدمار، منطقة يحفها الخطر من كل جانب.
كان لا بد أن أحشذ همتي وكاميرتي لتصوير واقع المدينة الدامي والمدمر، فصورت كل شيء، إنسانها الصامد والمقاوم، وبنائها المتهالك بفعل البراميل والقصف، وساحاتها الفارغة الخالية من أهلها بفعل التهجير، ولحظات حربها بين الجيش الحر ونظام الأسد، حتى على مسافر صفر في كثير من الأحيان.
لم يكن الأمر هوايةً بقدر ما كان ضرورةً وواجبًا، أكملت هذا العمل وأنا أحمل بداخلي حزنًا لا يوصف، كان عليّ إمساك الكاميرا وثيابي ما زالت ملطخة بدماء صديقي الذي أحب، كما كان عليّ توثيق موت صديقي الآخر، ثلّة من الأصدقاء والأقرباء أفارقهم واحدًا تلو الآخر، كل شيء أمامي يحدث، فعين الكاميرا هي عيني أيضًا.
المشاهد التي صورتها كثيرة، في كل منها مأساة مختلفة تشرح ما كنا نعيشه أيام الحصار الذي استمر من 2013 حتى 2016، أمّا عن هذا المشهد الذي يحبس الأنفاس الذي لو قُرر تمثيله لاحتاج المخرج إعادته مرارًا كي يظهر بهذه الصورة المُفزعة المتكاملة فهو مختلف كل الاختلاف، يجمع متناقضات كثيرة في قرب لم يسبق له مثيل، صورة متكاملة عن قساوة المجرم ووحشيته، بطريقة شنيعة جبانة وبأعصاب باردة قذرة تتضور لنهش الدماء والموت متجردة من الإنسانية يتقدم جنود النظام بآليتهم كي يقضي على ثائر أزعجه، دهسًا أو طمرًا بالرمال أو بإطلاق النار، لا يهم، المهم أن يقتل أكبر عدد ممكن ممّن يُقلقون راحة سيدهم.
في هذا المشهد/الواقعة.. المقابل جدًا حد الالتصاق صورة متكاملة أخرى عن شجاعة محارب يقاتل حتى الرمق الأخير تخلى عن كل سبيل وخاض المعركة بشرف، لا يمكن وصف ما عشناه تلك اللحظة، ربما الصرخات التي أطلقتها تشرح جنون الموقف الذي لم يُبقِ لنا خيارًا إلا المقاومة ولو كانت مجرد بندقية تقابل آلة ضخمة.. لا أعلم كيف استطعت الصمود محافظًا على قوة يدي بإمساك الكاميرا، كل الذي أعرفه أن بين تلك التفاصيل المؤلمة كان الفخر يجتاحني، نجوت بأعجوبة رغم أن الموت كان يطاردني طوال الوقت.
في حالة حصار، في منطقة تُعتبر هشة وهدفًا لآليات النظام ومدافعه لا يُتوقع إلا مشاهد الموت، وفي حين أنا موثق ما يحصل من انتهاكات فمن الطبيعي أن أكون هدفًا آخر لآليات أصغر حجمًا من المدفع وبالتالي أن أكون مشهد موت إضافي، قذائف تنهال على الأبنية بالكاد نستطيع معرفة مصدرها، خطر يترصد أوّل فريسة تظهر له، حاولت تصوير ما يحدث من بين شقوق الأبنية، لكنها صغيرة جدًا لا تتيح لك تغطية المشهد بأكمله، لا بدّ من المجازفة وإلا غاب جزء من الحقيقة عن الصورة، عليّ الصعود للطابق العلوي والتصوير من أعلى حيث القذائف أقرب.
مرت بضع دقائق حتى عزمت على الأمر، تزداد ضربات قلبي مع كل درجة نحو الأعلى، نحو الخطر الحتمي وربما الموت! اخترت زاوية تستوعب المكان كلّه، جلست حاملًا الكاميرا دون دراية مني أنّه بالطرف المقابل وفي مرتفع آخر هناك قناص، سرعان ما أطلق رصاصته القاتلة باتجاهي، لكن الله سلم، كما سلّم في مرات سابقات.
أيقنت أهمية الكاميرا في الحرب تحديدًا ودورها الفعّال كوسيلة لإثبات الحقائق وضمان عدم ضياعها، كنت أبذل كل جهدي في سبيل ذلك الهدف.
أن تصبح مراسلًا حربيًا ليس أمرًا هينًا، عليك أن تتحول لجماد ساكن أحيانًا، وأن تتملك مهارة الانسحاب في اللحظة ما قبل الأخيرة، في اللحظة الحرجة، فارق الوقت وإن كان ثانية قد يودي بحياتك.
في أحد الأيام كنت أسير في شوارع المدينة التي تشبه حقل الألغام في أي لحظة قد ينفجر بك أحدها، برفقة الكاميرا وصلت إلى خط الجبهة، أشرع الكاميرا لأصور مشهدًا لا يمكنني تفويته، دبابات تتوالى واحدة خلف الأخرى، آلات خصصت للدمار والجريمة، مدافع عِدة تتجهز للتوجيه نحونا، أليس هذا ما يُسمى الجرم المشهود؟ في لحظات كهذه تتضارب المشاعر، ما بين الخوف والإصرار على متابعة التصوير، ما بين الحزن علينا والفخر بما نفعل، نقاوم آلات لو وجهت لجيش مجهز أرعبته، لكن حدث ما هو مشهود أكثر، جرم لا يمكن إنكاره، في تلك الأثناء وأنا أصور توجهت نحوي المدفعية ودون أي تردد أطلقت النار كأنها تواجه آلية حربية وليس آلة تصوير، آمنت بالتوثيق حتى كاد يوثق نهايتي، لكنني نجوت!
هذه الصورة قد تبدو مألوفة، مشهد اعتاده الناس حتى بات لا يلفتهم، آلاف الصور المشابهة بدمارها وركامها ، لكن من يجيد التدقيق ومن يقف عندها قليلًا مبحرًا في تفاصيلها يدرك أن ما يشاهده مختلفًا بشكل مُخيف، منطقة سكنية جعلها القصف منطقة لا تصلح إلا للأشباح، وضعت الحرب بصماتها بالكامل، لا يمكن حتى ترميمها أو إقامة جدار واحد، فقدت ألوان الحياة تمامًا بشكل كلي وتلونت بالرماد، حي كان يعج بسكانه تحول لمساحة هشّة لا يمكن حتى المرور بها أو الاقتراب منها، في أي لحظة قد يسقط عليك أحد جدران المنازل ليجعلك عظام تحت ركام، تحول جذري أنهى ملامح الحي، دمار لم يسمح حتى بظهور لون دماء من ماتوا تحته.
لم تكن المرة الأولى التي أغامر بها لرصد المشهد، فحينها كنت أتوخى الحذر مع كل خطوة، لكن علي الصعود إلى إحدى الأسطح للتغطية الكاملة ، فكان بناء نصفه قائم ونصفه الآخر مدمر، لا أبالغ إذا قلت أنني صعدت وكنت أتوقع بنسبة لا تقل عن خمسين بالمئة أنني سأسقط أو يسقط علي، أضع قدمي وأنتظر أن ينهار بي المكان هكذا حتى وصلت للزاوية التي تتيح لي ما أردته، لم ينته الخطر بعد، ففي الزاوية اليُسرى كما يظهر بالصورة توجد حديقة أو هكذا يفترض قبل أن تتحول لثكنة عسكرية تحت الأرض، حفرها جنود النظام لتكون مكانًا آمنًا لهم، مكان خلا من شقاوة الأطفال وامتلأ بالقنابل والخنادق وطبعًا من المؤكد وجود قناص!
أجول بنظري والحيرة تأخذني والدهشة تحزنني، أحقًا هذه مدينتي؟ كيف استطاعوا فعل ذلك؟ أين الأبنية والمسجد والحديقة؟ أين المحلات التجارية والأطفال والمارة؟ لم يبقَ حتى أثر للذكرى، ترددت بالتقاط الصورة مع أنني صعدت لأجل ذلك، لا أريد أن يكون هذا الانطباع الأخير عن مدينتي، لكنه مع الأسف كان توثيقًا لانتهاك آخر لا بد منه، التقاط، عودة لم أتوخَ بها الحذر من حيث أتيت.
بقيت داريا محاصرةً أربع سنوات محرومة من قوافل المساعدات الطبية والغذائية لتدخلها في 10 من يونيو/حزيران 2016 أولى قوافل الأمم المتحدة وقد غابت عنها المساعدات الضرورية وأحضرت حبوب منع الحمل وخيم مقاومة البعوض!
وما تلك إلا نبذات بسيطة عن الواقع، لمحة عن أيام استمرت لتصل إلى سنوات بما فيها من جوع فتّاك وخطر قاتل، عشناها لحظة بلحظة بصبر وتحمل وصمود، كل ذلك في سبيل البقاء على أرض لنا أحقية امتلاكها والدفاع عنها، وكان ذلك الدليل الأول والأقوى بأننا أصحاب قضية عادلة، مؤمنون بها ومُضحون من أجلها حتى اليوم الأخير، لسنا قلة مأجورين ولا عملاء مندسين.
بعد سنوات على هذه الحال من الحصار القاسي الذي بدأ بعد شهرين من المجزرة المروعة، كنا على موعد مع التهجير قسرًا بعد استنفاد كامل الفرص والمقاومة واستخدام النظام كل الأسلحة في تدمير المدينة، صمود أسطوري في معركة غير متكافئة، ومع ذلك استمر الصمود أعوامًا أثبتنا خلالها أنه كان بإمكاننا التحمل فوق طاقتنا فقط من أجل البقاء بعيش كريم وحرية لا يلطخها طاغية، فقد كان نصيب داريا من براميل النظام ما يقرب من 9017 برميلًا متفجرًا وآلاف الطلعات الجوية مع القصف المستمر من الجبال المحيطة.
قلنا نعم لاتفاق جرى بتاريخ 24 من أغسطس/آب 2016 وكل ما بداخلنا يصرخ رافضًا إياه، لكن ما كان بإمكاننا أكثر مما قدمناه بعد أن استُنزفنا وحوصرت ما لا تقل عن 1000 عائلة داخل أبنية بمحيط لا يتجاوز الكيلومترين مربع تنهال عليهم عشرات القذائف، لم يبقَ سلاح ولا حتى جسد يحمله؟ لم يبق حتى حائط نستتر خلفه، هُجرنا جميعًا تاركين خلفنا مدينة من أنقاض ضمّت في أرضها أجساد من قتلوا فداءً لها وأرواح من خرجوا منها مجبرين.. لكن سنعود!