يوماً بعد يوم تتكشف المعطيات عن البدايات المبكرة للتدخل الإيراني في سورية. ومن المعروف أن هذا التدخل، بسبب طبيعة السلطة في طهران، قد استخدم قوات لبنانية وعراقية وأفغانية وباكستانية أساساً، فيما ظل عدد الإيرانيين محدوداً وبصفة قيادات أو خبراء غالباً. وقد أضاف النظام، عندما لم تعد قواه الخاصة وميليشيات الولي الفقيه تكفي لإسناده، طلب التدخل الروسي الذي أخذ طابعاً عسكرياً نوعياً أتاح له قلب الطاولة على أعدائه وإجراء تغييرات كبيرة على واقع السيطرة في البلاد.
الثورة أيضاً، وبعد مضيّ أشهر دامية بشكل متصاعد من عمرها، طالبت المجتمع الدولي بالتدخل. كان المثال الليبي حاضراً في الذهن. وقد استقبل متظاهرو حماة السفير الأميركي روبرت فورد، والسفير الفرنسي، بحفاوة ليس هناك ما يشير إلى تفردها لو كانت الزيارة قد جرت إلى أي مدينة ثائرة أخرى، طالما أنها تمنع القتل. وقد تعالت أصوات المتظاهرين، في أماكن مختلفة من سورية، تطالب بفرض حظر دولي على طيران النظام منذ بدأ يشارك في المعارك. في وقتٍ كان بعض ممثلي المعارضة السياسية فيه يتحرّجون من هذا الخيار، رافعين لاءات ثلاث، منها واحدة في وجه التدخل الخارجي.
حين تعاظمت القوى العسكرية للثورة منذ 2012، وأخذت شكل ألوية وجبهات و«جيوش»، أصبح أمر التدخل الخارجي بديهياً. في البداية كان يمكن للمقاتلين تدبر أمر شراء أسلحتهم الخفيفة من السوق السوداء، وتأمين مصاريفهم الفدائية البسيطة من المدخرات الخاصة أو التبرعات الأهلية، لكن هذا الخيار لا يمكن أن يصمد سوى بضعة أشهر، وفي حالة حرب العصابات لا المعارك الكبرى المفتوحة بآلاف المقاتلين، وما يعنيه ذلك من سلاح ثقيل وذخيرة ورواتب ومصاريف فصيل، ناهيك عمن يقبع خلفه من أهالي الشهداء والجرحى، وأعباء شبه كاملة لمناطق محررة شاسعة سكنها الملايين، وما يعنيه ذلك من خدمات أساسية في الطبابة والتعليم والإغاثة… إلخ.
القوى السلفية الجهادية ليست أقل انفتاحاً على الخارج
القوى السلفية الجهادية ليست أقل انفتاحاً على الخارج. في الكلمة الأولى التي بثتها جبهة النصرة لقائدها أبو محمد الجولاني قال إن أحد الأسباب التي دفعت الجهاديين للتدخل هو ما لاحظوه من تعويل جمهور الثورة على المساندة الغربية، فقرروا تقديم الدعم لقطع الطريق على هذا التوجه، ولإعادة «الأمة» إلى الثقة بقدرات «أبنائها». غير أن للسلفية الجهادية «خارجها» الحميد؛ سواء حين عبرت طلائع جبهة النصرة نفسها الحدود، موفدة من قيادة «دولة العراق الإسلامية»، أو حين غيّرت ولاءها بالارتباط بتنظيم القاعدة المبايع رسمياً، بدوره، «الإمارة الإسلامية في أفغانستان» الطالبانية. وحين سيطرت داعش على مساحات واسعة من سورية والعراق، وأعلنت قيام دولة الخلافة، كان من الواضح توجهها «الأممي» الذي رفع شأن المهاجرين إلى الصدارة، عراقيين في القيادة وسعوديين في التوجيه الشرعي ومصريين في القضاء وتوانسة في الأمن وأوروبيين في الإعلام… إلخ، على حساب المحليين.
في حين تجمع الهياكل والقوات، مختلفة التسميات، المنبثقة عن «حزب الاتحاد الديمقراطي» بين شكلي التدخل الخارجي؛ حلفاً علنياً غير محرَجٍ مع القوات الغربية العاملة في إطار التحالف الدولي ضد داعش، ولا سيما الأميركان منهم، ومحاولة ثابتة لرفع هذا التعاون العسكري إلى رتبة علاقات سياسية. ومن جهة أخرى انفتاح على «المهاجرين» الذين طالما كان لهم الوزن الفعلي، باعتبارهم «كوادر» أو «هاڤالات» معتمدين موفدين من القيادة العامة في قنديل، سواء أكانوا من أصول تركية أو إيرانية أو عراقية أو… سورية. فلحزب العمال الأصلي «أمميته» الخاصة أيضاً، التي لا تفرّق، نظرياً، بين كرد هذه الدول.
من يبقى في سورية؟ الشعب «المسكين»؟ لكن تلك أكذوبة كبرى!!
ليست هذه القوى منبتة عن «شعوبها» التي تشكّل، بمجموعها، السوريين. ولكل منها جمهوره، سواء بحكم الولاء السياسي والإيمان العقائدي أو بفعل توزع جغرافيا السيطرة. يزداد في مناطق النظام عدد الطلاب الذين يختارون الروسية كلغة أجنبية ثانية، وتتوارد من الساحل أخبار عمن أسموا أبناءهم بوتين أو بناتهم روسيا. كما تتناقل صفحات الفيسبوك صور توائم ثلاثة من الذكور أسماهم أبوهم، المقيم في أحد المخيمات، رجب وطيب وأردوغان، أو أطلق على الذكر رجب وعلى الأنثى أمينة، تيمناً باسم زوجة الرئيس التركي. فيما صورت وسائل الإعلام اعتراض سكان، في شمال شرق سورية، طريق الدبابات الأميركية التي كانت ستنسحب، حينها، من مناطقهم.
ولكن لا يستوون
النظام، مصدر الشرور كالمعتاد، استخدم معاهدات عسكرية ثنائية سليمة شكلياً لمحاربة شعبه، بالمعنى الحرفي لا المجازي، فالطائرات الروسية تقصف إدلب. أما الثورة، وكالمعتاد أيضاً، فهي مضطرة إلى اختيار «نقلات إجبارية». عليها أن تحالف الغرب إن كانت مؤمنة بالديمقراطية والحريات والتحديث، أو «المكحّلين» إن تأسلمت وأبلى هؤلاء في مواجهة أعدائها الشرسين، أو تركيا إن رغبت في الحفاظ على ما تبقى من أراض ملوّنة بالأخضر على خرائط السيطرة في الشمال، أو أن تناوب بين هذا وذا وذاك، متخبطة ومضطربة تبحث عن منقذ.
هل يفتح هذا باب الاستزلام والتبعية والولاء للخارج؟ نعم ولكن…
تتحول الثورات إلى «حروب أهلية» -رغم السمعة السيئة لهذا المصطلح- حين تملك السلطة الطاغية جمهوراً كافياً يدين لها بالانتماء السياسي ويغذّي قواتها المسلحة بالمقاتلين، في مواجهة جمهور واسع آخر من أبناء البلد يرفض هذه السلطة وحتى يقاتل بهدف إسقاطها. ببساطة يمكن أن نلحظ أن هذا واقع حالنا، وهو ما حدث مراراً في التاريخ، عندما لا تشمل الثورة «الشعب» ضد «الطغمة». وهذه الأخيرة، على كل حال، صيغة مثالية مبسطة، قلما تحدث.
إذاً، عندما تتحول الثورات، مضطرة، إلى حرب طويلة الأمد، فمن البديهي أن إمكاناتها الذاتية لا تكفي، وأنها ستحتاج إلى الدعم «الخارجي» الذي سيأتي عبر «الحدود» مع دولة «إقليمية» مجاورة ما!
ما يحدث بعد ذلك من إدارة العلاقة، غير المتكافئة أصلاً، مع هذه الدولة ومَن وراءها من حلفٍ أعرض، شأنٌ آخر يرجع، في الواقع، إلى أمرين؛ الأول هو صلابة ممثلي المعارضة والثورة من سياسيين وعسكريين، وهو ما أثبتنا فيه فشلاً مخجلاً نتيجة غياب رجال الدولة وأثر التربية الدكتاتورية التي سهّلت الانزلاق مجدداً إلى حفلات الزمر والدبك بعد استبدال صورة الزعيم فقط. والأمر الثاني هو مدى تجذّر الوطنية. وهو ما نعرف، أيضاً، درجة هشاشته لصالح الولاءات تحت السورية وفوقها، لكن دون تباكٍ.
إذ إن ممثلي الوطنية «النقية» اليوم يقدّمون أسوأ الأمثلة كذلك! فبعد توزع الشعوب السورية، المسكينة واللعينة، على ولاءاتها الداخلية والخارجية؛ لم يتبق من رعاة الشعار الوطني إلا حفنة من المتذمرين، يستخدمون المبادئ «الصحيحة» كمنصة للتشاوف وتقريع الآخرين، دون أن يكلفوا خاطرهم اقتراح بدائل واقعية. فقد وقى هؤلاء أنفسَهم مغبة تقديم الأجوبة ما داموا لم ينخرطوا في «العمل» واكتفوا بالمحافظة على حس معارض ووطني «سليم» يمنحهم الرضا عن الذات بوهم التفوق الأخلاقي، كمشرفة مصابة بوسواس قهري في مدرسة الراهبات!!