تبقى إدلب تلك المدينة الهادئة اللطيفة، ذات الشوارع التي تحتفي بزهو بالغ بشجر الصنوبر والياسمين، والبيوت الدافئة بطابع شرقي، المتناسقة بجمال يبدو وكأنما يقول للزائر أهلاً بك في بيتك الثاني، وريفها الثائر، الأخضر بطبيعته، المتميز بخضرته وأشجاره المثمرة السخية على مد النظر، والذي لا ينقصه إلا نجوم حمراء ثلاث ليتوسط بين التراب والخضرة ليخبّر أنها أرض حرّة بالفطرة، وجباله التي تأبى رغم وعورة صخرها وقسوته إلا أن تخرج من قلبه تدرجات ألوان تسر الناظرين، وعاصيها الذي يعبرها فيتخلل أرضها بجمال أخّاذ، وكأنما يذكّر كل العابرين به أن العصيان ضرورة لابد منها، عصيان السّلطة الطاغية، وعصيان الحاكم السفاح، وعصيان المفسدين حين يلوحون بعصاهم ليجبروا الناس على التخلي عن حقوقهم والقبول بالفساد، تبقى على الجانب الآخر منها قِبلة الثورة، ورمز الحياة، ومُلتقى ثوار مازالوا على عهد الثورة.
لا غرابة أن تكون إدلب ثائرة، وأن تكون رصيد الثورة المدخر، وسندها الباقي، فقد ظلت على مدى سنوات الثورة موضع تهديد مستمر من النظام وحلفائه، وظلت تعاني من هجمات متقطعة وتقدم الشهداء من أبنائها وزوارها، وكأنها آلت على نفسها أن تحمل لواء التضحية مادامت رافضة الخضوع والاستسلام.
وهي إذ تلتقي مع مدن وبلدات الشمال السوري في هذا الجانب، فهي تلتقي معها كذلك بخط أخضر ممتد، وطريق رغم وعورته يغدو متنفساً لكل ثائر، فهو طريق تجارة من نوع خاص، لا سلع تباع وتشترى، بل أفكار يتناقلها الثوار وهم في حركتهم الدائبة منها وإليها، ليلتقوا ويتعارفوا ويشدوا أزر بعضهم بعضاً، فتنفتح في الثورة نافذة حرية جديدة، وتتخذ المواقف وتُراجع الأحداث والأخطاء، وينتشر الوعي بصورته العفوية.
اعتاد سكان المدينة وزوارها تحليق الطيران، كما اعتاد ذلك سكان ريفها، فاستقبال صواريخ مباغتة في الأسواق المزدحمة أمر طبيعي، يأتي بين حين وآخر للتلويح بالحرب والقتل والاستنزاف.
عرفت إدلب وريفها مجازر شتى ارتكبت من النظام وحلفائه، وراح ضحاياها نساء وأطفال وشيوخ على مرأى من العالم ومسمع منه، كما قدمت خيرة شبابها ما بين شهداء ومعتقلين، وظلت أبية تقاوم..
إدلب التي تحمل تاريخاً عريقاً من رفض الذل والاستعباد، والتي رفضت الظلم منذ حكم حافظ الأسد لسوريا، وظلّت مهمشة تهميشاً متعمداً فترة حكمه، ظلت رافضة طغيان الأسد الابن، مصدّرة لثوارها الأحرار مستمرة في مقاومتها، وما المعرّة فيها وكفرنبل وأريحا عنها ببعيد.
بسبب مركزها وأهميتها استقطبت إدلب اتجاهات فكرية مختلفة، كان آخرها هيئة تحرير الشام التي فرضت وصايتها وفكرها عليها، وعملت على بسط معتقداتها وفكرها بوسائل مختلفة، ولكنها ومع جهودها المبذولة في تحويل أفكار الشعب إلى نسخ مستنسخة عنها إلا أن المحاولات باءت بالفشل، فقد رُفع علم الثورة مراراً عند ساعتها الشهيرة، وإن قام بعض المخربين بانتزاعه وتمزيقه لاحقاً، وقامت فيها مظاهرات شعبية احتجاجاً على الجولاني، وعلى صفقة إخراج معتقلي الثورة التي حدثت شكلياً فقط، مقابل خروج أهالي كفريا والفوعة الأمر الذي أثار غضب الناس فخرجوا يحملون علم ثورتهم يطالبون بمعتقليهم، وكأنهم يريدون أن يعلنوا بأعلى صوت أنها ثورتهم، مهما حاولوا الإتجار فيها تبقى لهم، ويبقون لها، هم الشعب والقوة والسند، ورغم التحديات الكثيرة التي تتعرض لها إدلب اليوم، تغدو المراهنة الحقيقية على بقائها ثورية.
الأربعة ملايين إنسان الذين يعيشون في إدلب اليوم بسبب حملات التهجير المكثفة إليها، يعتبرهم العالم عبئاً حقيقياً، فأزمة اللاجئين في تركيا وأوروبا مستمرة، وإمكانية زيادة عددهم بسبب محاولات إخضاع إدلب، ومسألة قيام معركة فيها يهدد سكانها بالرحيل، ولكنه يهدد بشكل أكبر الدول المتوقع أن تستقبلهم وأولها تركيا.
محاولات الدول لإيجاد حل ما لإدلب يجري على قدم وساق، فهناك ما يمكن أن يحرج الدول كلها فتسعى لإيجاد حلول سياسية يرتفع أو ينخفض سقفها حسب التوجه والمصالح.
يبقى التحدي الأهم محاولات الثوار المحافظة على روح الثورة، واستمراريتها في إدلب وما حولها، وفي الشمال ككل، وقدرتهم على لم شتات أنفسهم، وإعادة ترتيب صفوفهم، والاستفادة من الخبرات والكفاءات والعقول التي تتوزع في كافة مناطق الشمال السوري لأجل أن تكون كلمة الثورة واحدة، وأن تكون الأهداف والقضية موحدة لئلا ينتزع منها ما تبقى لها، بعيداً عن كل مصالح وأهداف جانبية.
هذا ما يجب أن يقاتل كل حر لأجل أن يحدث، وهذا العمل الأسمى في هذه المرحلة، فحالة الضياع والتشرذم لا ينبغي أن تستمر طويلاً، والإيمان الصادق بالمسؤولية الفردية والجماعية والعمل على تأديتها واجب وضرورة.