لم يكُن في نيّتي عندما عدت إلى حلب أواخر آب عام 2011 أنْ أتابع دراستي الجامعية، فقد اتخذتُ قراري بالتفرّغ للحراك الثوري في المدينة شأني شأن كثيرٍ من الشباب الذين نظروا إلى الثورة كخيارٍ ومصير، وربطوا حياتهم بانتصارها وتحقيق أهدافها، إلا أنّ الأصداء الواسعة للحراك الطلابي في العام السابق، إضافة إلى أهميّته كونه يُفنّد ادعاءات النظام بأن المتظاهرين ثُلّةٌ من “العواطليّة” وأصحاب الشرور، دفعتني للحضور في الأسبوع الأول من الدوام لاستكمال ما بدأناه.
كان الطلبةُ القادمون من محافظات سوريا يزُفّون البشائر لزملائهم بانتفاض مدنهم وقراهم، حتى ليتبادر إلى ذهنك وأنت تَسمَعهم أن نظام الأسد لم يعد له “شِبرٌ” يحكمه في البلاد، لتعيدنا صور “بشار الأسد” وأبيه المنتشرة في كلّ ركن من الجامعة إلى واقع الحال.
بدأ الطلاب مبكراً حراكهم الثوري في العام الدراسي 2011-2012، ورغم أنّي لا أذكر أين كانت المظاهرة الأولى، إلا أنّ أولى مظاهراتنا التي وصلت إلى ساحة الجامعة -المُحرّمة علينا سابقاً- كانت في أواخر تشرين الثاني عام 2011، لتصبح بعدها المظاهرات التي تنطلق من الساحة خارج الحرم الجامعي باتجاه “نزلة أدونيس” أمراً دورياً، فضلاً عن المظاهرات في معظم كليات الجامعة: كالتربية والميكانيك والمدني والعمارة والمعلوماتية والعلوم والاقتصاد… وغيرها، مما دفع رئاسة الجامعة بالتنسيق مع الأفرع الأمنية في المدينة لاستقدام مجموعات مخصصة من قوات “حفظ النظام” إلى الحرم الجامعي، فكانت حافلات نقلٍ متوسطة الحجم تتوزع على مداخل الكليات وفي ساحات الجامعة، في كل منها 20 عنصراً مسلحين بالهراوات وقنابل الغاز المسيل للدموع، ويرتدون لباساً خاصّاً تُغطيه الدروع دعانا لتسميتهم “سلاحف النينجا”!
كما فعّل فرع “حزب البعث” في الجامعة أُمناء فِرقه الحزبية في الكليات و”دكاترة” الجامعة المقربين منه في “كتابة التقارير” وتنفيذ بعض العمليات الأمنية داخل الحرم الجامعي!
في الرابع عشر من كانون الأول عام 2011 استدعى “كمال صدّيق” أمين الفرقة الحزبية في كلية العمارة الطالب “حسن سليمان” إلى مكتبه صباحاً، ليتفاجأ الطالب بدورية أمنية قامت باعتقاله واقتياده إلى أحد فروع الأمن في المدينة خارج الحرم الجامعي، بتهمة “رفع علم الثورة” على مبنى الكلية قبلها بأيام.
على الفور تَحركَ وفدٌ من طلبة الكلّية إلى مكتب العميدة ثم إلى مبنى فرع “حزب البعث” قرب كلية الطب البشري في الجامعة، مهدِّدين باعتصامٍ طلابي إذا لم يتمّ الإفراج عن “حسن سليمان”، ومع استمرار اعتقاله اجتمعنا في الساعة الواحدة ظهراً أمام مدخل الكلية مغلقينَ بابها الرئيسي للمطالبة بالإفراج عن زميلنا، ولم تقتصر المشاركة في الاعتصام على الطلبة الثوريّين؛ فعددٌ من المعروفين بموقف “الله يظهر الحق” وجدوا في الاعتصام، احتجاجاً على استخدام حرم الجامعة كساحة لتنفيذ عمليات أمنية.
جامعة حلب – اعتصام صامت في كلية العمارة
لِكلية الهندسة المعمارية في جامعة حلب بابٌ خارجي يفصلها عن شارع رئيسي يقع بين حرم الجامعة الأوسط والغربي، فإذا دخلتَ الكلية تستقبلك ساحةٌ صغيرة يشرف عليها مبنى الكلية قُبَالتك، والذي يُفضِي إليه باب من الزجاج المُقسّى تصل إليه بصعود ثماني درجات، تعلوها مظلة تَحميها من الأمطار وتحمل اسم الكلية على واجهتها.
بدأ اعتصامنا الصامت هادئاً بجلوسنا على تلك الأدراج نحمل لافتة واحدة فقط كتب عليها: “الحرية للطالب حسن سليمان”، ولمّا تمضِ ربع ساعة حتى اقتحم باب الكلية الخارجي مجموعة من الشبيحة بلباس عسكري يَحُثّون خطاهم عبر ساحتها باتجاه مدخلها الذي جلسنا أمامه صفوفاً..
“شو بدكون أنتو..؟” سأل أحد المقتحمين مع اقترابه من الطلاب على الدرجة الأولى وهو يُدِيرُ هَراوةً يحملها بيده، وقبل أن يُكمِل طالبٌ تطوع للإجابة نيابةً عنّا جملته “معتصمين مشان….”، كانت الهراوة قد انهالت على رأس “محمد باقر” (طالب سنة رابعة من الرقة) الذي كان يجلس في مقدّمة الاعتصام، لتتابع أصوات ارتطام الهراوات بالرّؤوس، ويَغُصّ باب الكلية الضيّق خلفَنا بأجساد الطلاب الذين يحاولون عبوره إلى المبنى هرَباً من عناصر حفظ النظام.
كنتُ -كغيري- أحاول جاهداً الدخول إلى المبنى حين أحسستُ بجسد زميلٍ لي تحت قدمِي أثناء عبوري الباب، ورغم أَنّي أحبُّ أنْ أدّعي توقُّفي لمساعدته إلا أنّ ذلك لم يحدث، فما إنْ دخلتُ حتى أسرعتُ إلى قاعة مَرسَمِي من العام السابق في الطابق الأول، لأجد مجموعة من الطلبة سبقتني إليه.
اقتحم عناصر حفظ النظام والشبيحة المرافقون لهم مبنى الكلية، فبادرتُ مع الملتجِئين إلى المرسم لإغلاق بابه بالمراسم الخشبية والطاولة الموجودة فيه، وهو ما منع الشبيحة من اقتحام القاعة علينا، فاكتفوا بالتجمهر خارجها مهدِّدين ومتوعِّدين.
أمّا بقيّةُ المراسم فقد لاحقَ الشبيحة فيها الطلاب معتقلينَ بعضهم ومُوقِعينَ إصاباتٍ بعدد آخر، وفي البَهوِ الداخلي للكلية تشجّع بعض الطّلبة مواجهين الشبيحة بهتافهم: “بدنا المعتقلين”، قبلَ أنْ تتدخّل عميدةُ الكلية مع عدد من “الدكاترة” لإخراج الشبيحة الذين عاثوا بالمبنى فساداً خارجها.
اقتحام كلية العمارة في جامعة حلب
اقتحام كلية العمارة في جامعة حلب
أمام مرسمِنا وقفَ “د. صفوت ابراهيم باشا” يُطمئِننا بخلوِّ المبنى من الشبيحة، ففتحنا الباب بضمانته لنجد المبنى شبه محطّم من الداخل وكأن إعصاراً قد مرّ عليه، لكن تلك لم تكن نهاية المشكلة! فعند باب الكلية الخارجي احتشد عناصر “حفظ النظام” يُدقّقون في “هويّات” الطلبة الخارجين، وكذلك فعلت مجموعةٌ أخرى منهم أمام باب كلية الفنون الجميلة التي نستطيع النفاذَ إليها من باب داخلي، وهو ما أنذَرَنا بوجود أسماء مطلوبة للاعتقال!
شيئاً فشيئاً كان الطلبة يغادرون الكلية ويقتصرُ الباقون فيها على من كانت “صوفتُه حمرا” عند الأمن، وبدأ بعضنا يناقش “سيناريوهات” عدّيدة للخروج من المأزق، كان بعضها ضرباً من الجنون حقاً كأن نستعصِي في المبنى على طريقة “عادل إمام” في الفيلم المشهور “الإرهاب والكباب”، لكنّ تدخلاً سريعاً وشجاعاً أنقذ الموقف.
كان “إسماعيل محمود” (أحد طلاب السنة الرابعة من أبناء ريف حلب الشرقي) قد اندسّ بين بعض أعضاء الهيئة التدريسية أثناء خروجهم من الكلية، ليَدخل إلى المدينة الجامعية قُبالةَ كُليتنا ويبدأَ إمطارَ العناصر المحتشدة أمام بابها بوابل من الحجارة لافتاً انتباههم إليه، وهو ما دفع بعضهم للّحاق به قافزين سور المدينة الجامعية في محاولةٍ لإمساكه، في الوقت نفسه استجابَ لاتصالات الفزعة عددٌ من طلبة كلية الميكانيك المجاورة، فخرجوا في مظاهرة سريعة جَاءَت الأوامر لبقيّة عناصر حفظ النظام المرابطين على الباب بقمعها، فغادروا مكانهم.. وغادَرْنا الكلية آمنين.
أنقَذَتنا تلك المظاهرة السريعة التي لم تُسفر عن اعتقالاتٍ في كلية الميكانيك، وخَطَرَ لي أنّ إنشاء تنسيقيّة جامعةٍ لحراك الطلبة الثوري، تتدخّل في مواقف شبيهة بسرعة وفاعلية بات ضرورة.
نزولاً من باب الكلية إلى ساحة الجامعة بعد خروجنا من الكلّية طرحتُ فكرة التنسيقية على عددٍ من أبناء دفعتي، فأخبرني أحدهم أن هناك من يعملُ فعلاً على أمرٍ مشابه، وأنّ مجموعةً على برنامج “فيسبوك” تضم هؤلاء الطلبة، لكن عليّ أَنْ أُنشِئ حساباً باسمٍ حركي إذا ما أردت دخولها..
ليلاً سجّلتُ حساباً جديداً باسمٍ سيعرِفني به كلّ من قابلتُه بعدها حتى يومِ الناس هذا.. “ورد فراتي”، وأرسلتُ طلبَ إضافة إلى صديقيَ بحسابه الحركيّ “أبو محمود المعماري”.. ليضيفَني إلى مجموعةٍ باسم “جامعة الثورة”.