في تاريخ 27 من شباط 2016م دخل اتفاق وقف الأعمال العدائية في سوريا حيز التنفيذ. يومها عاد إلينا الأمل من جديد. قلنا إننا سنبقى إذن في مدينتنا داريا ولن نُهَجر منها. ظننا يومها أن المجتمع الدولي قد أجبر نظام الأسد أخيراً على الرضوخ والقبول بحل سياسي وفق قرارات الأمم المتحدة. ففي الساعات الأخيرة من تلك الليلة كانت المدينة على وشك الانهيار العسكري بعد أن حقق النظام مدعوما بالقوة والتكنولوجيا الروسية خرقا كبيرا على الجبهة الشمالية. لم تكن الصواريخ قصيرة المدى والتي عرفت بصواريخ الفيل هي الوحيدة التي تلعب في سمائنا وأرضنا. كانت الحوامات العسكرية تلقي علينا البراميل والحاويات المتفجرة. كانت تلك القذائف كفيلة بتدمير مساحة تعادل مساحة ملعب كرة طائرة بشكل كامل. وعندما كان النظام في تلك الليلة يتقدم بشكل كامل وسريع على تلك الجبهة، وفي تمام الساعة 00:00، في تلك اللحظة تحديدا توقف القصف وهدأت الحملة العسكرية. لم يصدق أحد منا ذلك. بدأنا نتحدث مع بعضنا ونقول هل نحن في حلم أم أن الحملة توقفت فعلا؟! كان المبعوث الدولي إلى سوريا قد أعلن التوصل إلى هدنة في سوريا قبل عدة أيام. لكن بدأت الأخبار تقول إن النظام استثنى داريا من تلك الاتفاقية. وما كان يجري على الأرض كان يؤكد أن النظام يريد حلا عسكريا ولن يقبل أي تهدئة في المدينة. إلا أنه تم نفي تلك الرواية وأكد المبعوث الدولي يومها أن داريا مشمولة في الاتفاق السياسي. نظرياً كنت أعتبر أنه لابد أن يأتي الوقت الذي يُجبَر فيه الأسد على القبول بحل سياسي يوقف هذه المذبحة بحق الشعب السوري. كنت أقول في تلك الأيام لكل من كان يتصل بي متوترا منهارا فاقدا للأمل: اصطبروا لقد اقتربت لحظة دخول الاتفاقية حيز التنفيذ. وهذا ما حصل أخيرا. فبعد منتصف تلك الليلة لاح أملٌ جديد، مستقبل بلا حروب وبلا تهجير. ورغم كل الصعوبات المتوقعة إلا أن الاتفاق الأمريكي الروسي شكل لأهالي المدينة بداية جديدة.
خلال الأيام اللاحقة تبين أن النظام لايريد إدخال قوافل مساعدات الأمم المتحدة، لا القوافل الإغاثية ولا القوافل الطبية. وقد نجح قبل شهر في فصل داريا عن معضمية الشام، الأمر الذي يعني إطباق الحصار على المدينة بشكل كامل.
قررنا يومها أن نعتمد أكثر على أنفسنا ومقدراتنا. أخبرنا كل السكان الموجودين في المدينة أنه يجب علينا جميعا أن نستثمر كل مكان قابل للزراعة حتى نستطيع الصمود، في انتظار اللحظة التالية التي يستطيع فيها المجتمع الدولي إجبار نظام الأسد من جديد على انفراجة إضافية.
وخلال أسابيع قليلة بدأت المساحات الزراعية تمتلئ بالمحاصيل وبدأنا نأكل منها. كنت حينها قد بدأت زراعة البستان “الكرم” الذي يعود لعائلة أقربائنا. زرعت كل المحاصيل التي يمكن أن تنبت فيه. الفجل والخس والبقدونس والكوسا والباذنجان والذرة والخيار والبندوة والفاصولياء، وأعدت تدعيم وتسميد أشجار العنب والتين والتوت التي كانت منهكة بسبب القذائف والبراميل المتفجرة. كنت أتعلم حينها الزراعة
من جديد وأمارس واحدة من أجمل الأعمال إلى قلبي. أن أكون قريبا من الأرض ورائحتها وخيراتها. ولأول مرة في حياتي أكلت مما زرعته يداي. كان محصول الفجل الأحمر هو أول المحاصيل التي نضجت. لم تكن المساحة المزروعة كبيرة، لكن كانت كفيلة بإطعام عشرات الأسر. هكذا كنت أخطط كما يخطط الكثير من الأهالي في المدينة.
اقتنع النظام أخيرا أن داريا لن تسقط طالما أن الأهالي يزرعون ويأكلون. ولا بد من حرق تلك المحاصيل حتى تركع المدينة. وهذا ما بدأ بالفعل. في أيار من تلك السنة خرقت قوات النظام الهدنة المعلنة، وبدأت تتقدم على الجهة الغربية -منطقة البساتين، التي شكلت السلة الغذائية لداريا المحاصرة. بدأ النظام يقصف كل مساحة خضراء حتى ولو كانت عدة أمتار مربعة. كانت البراميل تسقط بدقة متناهية. تم حرق جميع المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والشعير والفول، كما تم حرق المحاصيل اليومية كالبقدونس والخس والنعناع والكوسا والخيار. في تلك الأيام أيضا دخلت آلة جديدة إلى ميدان المعركة؛ الكاسحة. لم تكن تلك الكاسحة كأي آلة أخرى واجهها شباب الجيش الحر. لقد كانت مدعمة من جميع أطرافها بالحديد والفولاذ والتراب. كانت سماكة هذه الدعامات تزيد عن متر كامل من كل الاتجهات. كانت تبدو وكأنها بناء من طابقين يتحرك على الأرض. لم تكن الدبابة إلى جانبها أكثر من ولد صغير أزعر. وخلال أسابيع كانت المدينة قد فقدت كل مساحاتها الخضراء. وبقينا محاصرين في مساحة لاتزيد عن كيلومترين مربعين.
في تاريخ 16 من أيار دخل وفد من الأمم المتحدة ومكتب المبعوث الخاص إلى المدينة لمعاينة حقيقة الأوضاع فيها. التقوا يومها بالأهالي، الرجال والنساء والأطفال. زاروا المدارس والأماكن العامة والمقابر وورشات تكرير البلاستيك الذي كان يتم تحويله إلى بنزين. تكلموا مع الأطفال الذين نشؤوا في ظروف الحرب والحصار الخانق. طلب الأطفال منهم أشياءً بسيطة. طلبوا موزا وتفاحا وبسكويتا وشوكولاه.
عاد الوفد إلى دمشق محملا بآهات الناس وحاجتهم للسلام والطمأنينة. لكن النظام عاد لقصف المدينة قبل أن يخرج الوفد الأممي منها. يومها قُتل أحد أبناء المدينة الذي كان يرعى قطيع أغنامه. وقتل معه نصف القطيع تقريبا.
كان واضحا أن النظام وحلفاءه لايريدون أي تسوية في المدينة. تناوبوا في عملية التفاوض مع لجنة من شباب داريا. أولا تم التفاوض مع مبعوث النظام-الفرقة الرابعة. وعندما اقتنعوا أن داريا المحاصرة تريد إنهاء الحرب زادوا في قصف المدينة. بعدها تدخلت روسيا وقال مندوبها أنه سيقوم برعاية المفاوضات والتوصل إلى حل مناسب. استمرت المفاوضات مع الوفد الروسي لمدة شهر في جنيف. خلالها كان النظام يقصف ويقصف. بعدها قال الوفد الروسي إن الفرقة الرابعة تصر على الحل العسكري في المدينة.
تدخّل هذه المرة وفد من حزب الله اللبناني، وبعد أن تأكد من رغبة المدينة المحاصرة بإيقاف الحرب، قالوا إنهم سيرعون تلك الاتفاقية وأضافوا بالحرف: إن سماحة السيد حسن نصر الله قد أخبر بشار الأسد أنه لن يرسل جنوده بعد الآن إلى داريا طالما أن أهالي المدينة يريدون السلام. لكن بعد شهر إضافي قالوا إنهم فشلوا في إقناع نظام الأسد بأي تسوية. خلال ذلك الشهر دخل سلاح جديد آخر؛ براميل النابالم الحارق. شكلت تلك البراميل تصعيدا أكبر من أي تصعيد آخر. فحتى الأطفال والنساء الذين بدؤوا يتأقلمون مع البراميل العادية، ويختارون عند سماع صوت الحوامات العسكرية المكان الأكثر أمنا في المنطقة التي يسكنون فيها، حيث كان لابد لهم أن يقفوا تحت ثلاثة أسقف على الأقل في مكان في وسط البناء حتى لا تصلهم بقايا التدمير وشظايا البراميل. أؤلئك الآن باتوا مرعوبين على الدوام. فنيران براميل النابالم الحارق ستصل إلى كل جزء من البناء وتجعله فحماً.
وعندما بات واضحا لكل مراقب أن سقوط المدينة أصبح مسألة وقت. حيث نفد كل شيء تقريبا، الغذاء والمواد الطبية والذخيرة. كما سقط في المعارك خلال الأشهر الأخيرة خيرة شباب المدينة وقادتها العسكريين.
في تاريخ 25 من آب، وفي لحظة يأس كان كل من في المدينة يفكر في كيفية حماية الأطفال والنساء وإخراجهم عن طريق الأمم المتحدة إلى مكان آمن، ثم مواجهة المصير الحتمي للباقيين، اتصلت مبعوثة النظام كنانة حويجة وقالت إنها ستزور المدينة في صباح اليوم التالي، وأن الحرب ستتوقف لمدة أربع وعشرين ساعة. وخلالها يجب التوصل إلى اتفاق.
عندما دخلت كنانة إلى أطراف المدينة، التقت مع لجنة مفاوضات مؤلفة من ثلاثة مدنيين كنت واحدا منهم. تفاجأت أن اللجنة من المدنيين، فطلبت لقاء القادة العسكريين. جاء العسكريون. تفاجأت أكثر. لم يكونوا بلحية طويلة كما يُقال، كانوا شبابا وسيمين في مقتبل العمر يلبسون لباسا عسكريا، سوريين، ليسوا من أفغانستان ولا الشيشان ولا أي بلد أجنبي آخر.
سَمِعت ما لدينا، قالت مستغربة: كلامكم لا يوجد فيه أي مشكلة ولا أعرف لماذا يوجد حرب بيننا. قلنا لها أنه يجب عليك أنت أن تسألي مسؤولي النظام هذا السؤال. فمنذ شهور ونحن نقول نفس الكلام. نريد إيقاف الحرب. وهذه المدينة لأهلها، يبقى فيها من أراد ويخرج منها من أراد.
يومها عادت مباشرة إلى دمشق. كانت متفائلة بالتوصل إلى اتفاق سريع. لكن في اليوم التالي كان كلامها مختلفا تماما. لقد طالبت بتفريغ المدينة من كل سكانها وخلال ثلاثة أيام فقط، وإلا الحرب الشاملة.
كان طلبها مفاجئا للجميع. كيف لك أن تطلب من الناس أن يتركوا كل شيء وراءهم وتقول لهم: إما أن تخرجوا من المدينة أو الحرب الشاملة. لم يكن هناك خيار آخر. وفعلا خلال الأيام الثلاثة القادمة بدأت قوافل الناس تخرج من داريا على دفعات باتجاهين. الأول إلى مكان قريب من دمشق، مخيم حرجلة، والثاني إلى إدلب.
خرج يومها عدة آلاف من المدينة، مدنيون وعسكريون في مشهد لا ينسى. كان جنود النظام على أطراف الطريق يراقبون مدهوشين. كذلك كان المدنيون على أطراف شوارع دمشق وأتستراد المزة، الكل كان يراقب أولئك الشجعان الذي صمدوا لأربع سنوات أمام آلة عسكرية متوحشة. أؤلئك الخارجون من رحم الموت إلى مصير جديد. لم يكونوا غرباءً أو شذاذ آفاق. قاتلوا لأربع سنوات كي لا يتم تهجيرهم من أرضهم، وكي لا يسكنها طائفيون وزينبيون. وإن عجزوا عن تحقيق الهدف. لكن كان لهم شرف المقاومة، ومن مات منهم بقي واقفا كالأشجار شامخا حتى اللحظة الأخيرة.