هل فكرت يوماً بمعنى النصر الذي نعمل لأجله.. نتمناه.. وندعو الله أن يؤتينا إياه؟!
غريبة هي الحاجة إلى تعريف معنى شائع الاستخدام بطريقة يفسر بها غيره فلا يحتاج بذاته إلى تفسير، لكن إطالة التفكّر فيه قد تأخذك إلى نقطة البداية.. إلى المعنى!
ولأن قواميس اللغة العربية تلقائيّة غالباً تفسر الكلمة بأخرى من خلال إيراد استخدامها في جمل وسياقات مختلفة (وهو ما أراه دقيقاً)، أجد من الضروري استخدام معجم غربي آليّاتي لتعريف المعنى بصورة مجرّدة (وإن كنت أظنها غير جامعة).
بحسب معجم أوكسفورد يعرف النصر بكونه هزيمة عدو أو خصم في معركة أو لعبة أو أي نوع آخر من المنافسات، وهو ما يطرح أسئلة عندي أكثر مما يجيب..
أعني هل يرتبط النصر بالكمّ مثلاً؟ فيصبح انتصاراً حين يكون كبيراً كالسيطرة على مساحة واسعة من الأرض كانت تحت سيطرة العدو، بينما نهمله إذا كانت المساحة صغيرة.
أم يرتبط بالمطلق؟ فيكون نصراً عند تدمير عدوك فلا قيامة له أمامك بعد ذلك كاستخدام قنبلة نووية لإزالة مدينة بأكملها مجبراً عدوك على الاستسلام.
أم يرتبط بالحق؟ فيكون نصراً إذا كنت تقاتل عن قيم نبيلة ولا يكون كذلك في حال قتالك سعياً للقوّة والتفوّق، لكن من يستطيع تحديد ميزان للنبل مع تحول كل القيم لأمر نسبي وارتباطها دائماً بجانبك من المواجهة.
ربما كان كل ما سبق حقيقياً.. فالنّصر هو الكمّ والمطلق والحقّ معاً، لكنه أيضاً شخصي.. لحظي.. بل قد يكون شعورياً أكثر من كونه مادياً حقيقياً.
بدايات 2011 مع انطلاق شرارة الثورة السورية ثم انتفاضة درعا وحصار نظام آل الأسد لها، كنّا كطلاب في جامعة حلب سواء من أبناء المدينة أو الوافدين إليها للدراسة نتلقّف الأخبار القليلة الواردة من هناك بعد التعتيم الإعلامي وقطع شبكات الاتصال، لكن وبفضل بعض الطلبة من أبناء درعا الذين تمكنوا من الالتحاق بالجامعة قبل إطباق الحصار، توافر لدينا ما يكفي من المعلومات لنعرف كم كانت الأوضاع كارثية هناك.
كتائب من “الجيش العربي السوري” – كان ما زال يسمّى كذلك – اقتحمت بالمدرعات المدينة الثائرة معتقلة العشرات ومرتكبة العديد من الجرائم بحق الأهالي فيها.
كانت صورة المعتصمين في ميدان التحرير في مصر ماثلة في وجداننا جميعاً، لقد تمكنوا باحتشادهم من إسقاط واحدة من أكبر ديكتاتوريات الوطن العربي في 17 يوماً فقط، بالطبع لم ندرك آنذاك أن الأنظمة العربية أكثر تجذّراً وإجراماً من أن تستسلم لإرادات الشعوب بهذه البساطة، بل آمنّا أنّ ما يفصل بيننا وبين الحرية إرادتنا فقط، وقدرتنا على تنظيم صفوفنا للاحتشاد بمطلب موحّد.
في مركز مدينة حلب تقع ساحة (سعد الله الجابري) بجوار الحديقة العامة، ممتدّة على 170 متراً مربعاً ومحاطة بشوارع عريضة أهلتها لتكون أهم ساحات المدينة وموقع مهرجاناتها الأساسي، ولأنّ حلب تعتبر العاصمة الاقتصادية لسوريا والمدينة الثانية بعد العاصمة دمشق، فقد عمد نظام آل الأسد مع بدء الدعوات للثورة السورية إلى إحاطتها بعدد كبير من “الشبيحة”، سواء تجمّعوا بشكل مفضوح يراقبون أي تحرّكات “مريبة” أو خلف “بسطات” الدخان والأشياء الصغيرة القليلة الثمن المنتشرة فيها، وهو ما شكّل عائقاً حقيقياً أمام خطتنا الطائشة للوصول إلى الساحة والاعتصام فيها، لكن ما الذي تعنيه عقبة صغيرة كهذه بالنسبة لطلاب جامعيين يتفجرون حماسة؟!
اقتضت خطتنا حينها أن ندخل ساحة (سعد الله الجابري) بـ 200 متظاهر حاملين صور “بشار الأسد” فيما يبدو كمسيرة مؤيدة، فقد اعتاد النظام تلك الفترة إخراج الموظفين وطلبة المدارس في مسيرات يغطيها إعلامياٌ لإثبات “تأييد الشعب” للرئيس “المقاوم”، ثم وفور دخول الساحة ننزل الصور هاتفين للحرية ودرعا، ومن غرفة في الفندق (السياحي) المشرف على الساحة سيقوم صديق بتصوير الاعتصام لبثه مباشرة على قناة (الجزيرة) بما يضمن إيصال الخبر إلى أهالي المدينة الذين سينفرون جموعاً لملء الساحة معتصمين، فيما تكون مَهَمّتنا نحن الموجودين في الساحة الصمود فيها حتى وصول الناس.
حسناً.. لم يحدث ذلك!
كانت المشكلة الأساسية في تلك الخطة –على حد علمنا– أننا لا نعرف 200 متظاهر مستعدين لدخول الساحة، ولذلك قرّرت مجموعتنا من طلبة السنة الثالثة في كلية العمارة بجامعة حلب التنسيق والمشاركة في مظاهرات صغيرة هنا وهناك لتوسيع دائرة معارفنا الثورية، تحضيراً للاعتصام الكبير، وكانت البداية التواصل مع طلاب السنوات الأخرى في كليتنا نفسها، لنتعرف من دفعة السنة الخامسة على (محمد) من أبناء دير الزور و(مالك العيسى) –تقبله الله– من أبناء درعا، اللذين اتضح لاحقاً تنسيقهما مع شباب آخرين من طلاب الكليات الأخرى لمظاهرة في (جمعة الصمود 8 نيسان 2011) في جامع الروضة بحي “الموكمبو”، الجامع نفسه الذي يتولى الخطابة فيه مفتي الجمهورية (أحمد حسون).
تحمّسنا للفكرة وأخذنا نجرد الأعداد التي ستكون في المظاهرة.. كان العدد كبيراً نسبياً.. قرابة “الألف” متظاهر!!
العدد الذي تبين لاحقاً أنه موجود على الورق فقط، إذ لم نُحصِ أكثر من 30 شخصاً حضروا وتخلّوا عن فكرة التظاهر بعد المشاهد المهيبة للباصات المتوسطة الحجم المليئة بالشبيحة والمحتشدة أمام المسجد.
اكتفينا يومها بالجلوس عند الدوّار المقابل للجامع بعد انقضاء الصلاة، نشرب “التمر الهندي” من بائع متجول قريب أكاد أجزم أنه أخفى تحت خزان العصير عصاً كتلك التي يحملها أقرانه من الشبيحة المتوزّعين حول المسجد بكثافة.
تعلّمنا درسنا من فشلنا الأول بضرورة الحرص أكثر على سرية المظاهرة، مع إحصاء الأعداد بشكل أكثر دقة مستقبلاً، لذلك وقبل يومين من الجمعة التالية (جمعة الصمود 15 نيسان 2011) كان كل شيء جاهزاً لمظاهرة جامع سعد في حي صلاح الدين.
ليلة الخميس تجمعنا في منزل يستأجره شباب من دفعتنا في حي (المارتيني) قرب ساحة الجامعة، وقضينا ليلتنا نراجع سيناريوهات الهرب المحتملة، إضافة إلى كيفية تصرفنا في حال اعتقال أيِّ منا، لأتلقى في الصباح اتصالاً من محمد – طالب السنة الخامسة من دير الزور– يخبرني فيه “بأننا سنتناول الفول في مطعم آمنة على الشارع الرئيسي في حي سيف الدولة”؟!
كان هذا مخالفاً لكل ما اتفقنا عليه حول طريقة التواصل، لكن يبدو أن طارئاً ما حدث مجبراً منسّقي المظاهرة على تغيير مكانها إلى جامع (آمنة بنت وهب).
وصلنا متأخرين قليلاً إلى الجامع الذي انتشر الباعة المتجولون حوله، ودخلنا المسجد متفرّقين فيه.
انتهت الخطبة ثم الصلاة.. ولم يكبر أحد!!
ثم وأثناء محاولتي الوصول إلى حذائي في إحدى الخزائن الجانبية ليس ببعيد عن المدخل، سمعت الصوت مدويّاً “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”، حاولت جاهداً الإسراع للوصول إلى باب المسجد، متحركاً بصعوبة بين جموع المصلين الذين سمعت أحدهم يعلّق بصوت مسموع “الله لا يوفقون.. آخدين ميتين ليرة وجايين يخربوا البلد..”.
وصلت أخيراً إلى الباب مشاركاً الهتاف “واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”.. أوّل هتاف ردّدته وأكثر هتاف ندمت عليه، فبعد أعوام على انطلاق الثورة السورية بات واضحاً أننا –كسوريين– لسنا “واحداً”.
عموماً لا أعتقد أني رددته مرة أخرى قبل أن يغيّر (سعيد) الهتاف إلى نصرة درعا:
“بالروح.. بالدم.. نفديك يا درعا.. بالروح.. بالدم.. نفديك يا درعا..”
عشرون ثانية كاملة قبل هجوم أحدهم بعنف على المصورين أمامنا، يتبعه آخرون يلاحقون كل من يهتف عند باب المسجد..
تحوّلت المظاهرة إلى مواجهة مفتوحة، لكنه لم يكن على ما يبدو شيئاً يمكن أن يمنع بائع خسّ قريب من الاستمرار في التدليل على بضاعته “خسة بخمسة.. خسة بخمسة”، بينما وقف أحد اليافعين من روّاد المسجد قريباً منا صادحاً بالأذان قبل سحب والده إياه بعيداً عنا.
كنت قد تخليت عن فكرة الفرار لمساعدة أصدقائي الذين شاهدت أحدهم ملقى على الأرض يدافع أقدام الشبيحة، وذلك قبل أن يقفز (حسام فاعل) طالب السنة الخامسة في كليتنا من أبناء حلب على أحد الشبيحة مبعداً إياه ومهاجماً مع شابين آخرين مجموعة الشبيحة تلك.
مضت عدة دقائق شاهدنا فيها اعتقال شابين أو أكثر، قبل أن يسحبني “مالك العيسى” منبّهاً إيّاي أنّ أعداداً إضافية من الشبيحة وصلت، وأنهم يبحثون بشكل مخصّص عن غير أبناء حلب من الموجودين، لنتوجّه بعدها عبر دوار (الكرة الأرضية) إلى المنزل في حي المارتيني القريب حيث وصل بقية الشباب تباعاً.
يرجع الفضل في توثيق تلك المظاهرة إلى الخطّة الذكية بأن يتولّى التصوير ثلاثة شباب، يغادر أولهم بعد أٌقل من دقيقة على بدء المظاهرة، ثم يغادر الآخر بعد خمس دقائق، في حين يستمرّ الآخير حتى النهاية، وذلك حرصاً على وجود مقطع “فيديو” للمظاهرة حتى في حال اعتقال المصورين من قبل الشبيحة.
بعد ساعة على الأكثر كان الخبر يتصدّر كل المحطّات التلفزيونية المهتمة بنقل الاحتجاجات في سوريا: “خروج مظاهرة في جامع آمنة بحي سيف الدولة في حلب”، ليتبعه عرض مقطع من 20 ثانية يوثق المظاهرة ذاك اليوم.
ورغم خيبة الأمل بمشاركة المصلين –شبه المعدومة– معنا في تلك المظاهرة، الأمر الذي أجهض أحلامنا بالاعتصام الكبير الذي كنا نأمل فيه في حلب نسبة للتجاوب الذي اختبرناه، لكن مشاهدة تصوير تلك المظاهرة على شاشات التلفزة كان شيئاً عظيماً بحق.
في ذلك اليوم عُرض مقطعان مصوّران لمظاهرتين من ثاني كبرى المدن السورية حلب، رغم أنف الشبيحة، نقطة تظاهر إضافية على خريطة ثورة سوريا، واسم حلب “محتجّة” كخبر عاجل لأول مرة، وانتصارنا الأول في مواجهة أبشع ديكتاتوريات هذا العالم وأكثرها وحشية.