الانتقال الديمقراطي والمسألة التربوية

ديسمبر 21, 2022

فايز القنطار

مقالات

مقدمة

أصبحت التربية ونوعيتها وأهميتها، ودرجة الإنفاق على شؤونها، مؤشرًا على تقدّم المجتمعات الحديثة. تشير غالبة تقارير التنمية البشرية إلى تراجع مكانة التربية وتدهور نوعيتها في معظم البلدان العربية. في سورية شكلت سنوات الحرب كارثة تربوية حقيقية، إضافة إلى غيرها من الكوارث التي شملت مختلف مناحي الحياة، حيث دمّرت آلاف المدارس، وتحولت بعضها إلى مقارّ للميليشيات أو إلى مراكز اعتقال وتعذيب، وأصبح أكثر من 3 ملايين طفل خارج المدرسة، وهذا يترك أثرًا خطيرًا بعيد المدى على الأجيال القادمة.

أن نجاح التحول الديمقراطي وتحقيق إصلاحات عميقة رهنٌ ببناء نظام تربوي حداثي رفيع المستوى، يساهم في بناء جيل يحقق تطلعات المجتمع في إعادة البناء وتحقيق التقدم والازدهار.

في سورية قبل الثورة، تعرّض الميدان التربوي، كغيره من ميادين الحياة، لمشكلات عميقة من تخلّف مزمن ومن ضعف الإمكانات ومن تدهور مستوى التعليم، وانفصال مخرجاته عن الواقع.

أخفقت المدرسة في إشاعة التفكير العلمي وامتلاك البنية المعرفية العقلية التي تمكن الفرد من المشاركة في إنتاج المعرفة وتمثل تطبيقاتها التكنولوجية. وتم توظيف المدرسة لمصلحة ترسيخ الاستبداد وترويض الأجيال، عبر تنمية العلاقات التسلطية وسلوك الخضوع والإذعان الذي لا يترك مجالًا للحرية أو للمبادرة الفردية، فتحوّل الطفل إلى كائن سلبي متلقّ غير فاعل.

أخفقت التربية أيضًا في ربط التعلم بالحياة، بما يمكن الفرد من تمثل مشكلات بيئته ومجتمعه، بحيث يكون فاعلًا، يتمكن من امتلاك القدرات والمهارات التي تساهم في حلّ تلك المشكلات وفي دفع عجلة التقدم والتنمية، كما تمّ إغفال البحث العلمي المبدع، الذي كان يمكن أن يلبي احتياجات التطور والتقدم، ويساعد في تقديم الحلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية.

إضافة إلى ما سبق، شكّل غياب الحريات، في ظلّ أنظمة سلطانية قمعية، بيئةً غير مناسبة لنموّ الإبداع، بيئة طاردة للعقول والخبرات المتميزة. لا يمكن إطلاق عجلة التغيير الاجتماعي – الاقتصادي – الثقافي في العمق، دون اعتماد مشروع تربوي يمكن المجتمع من النهوض والدخول في عالم العصر.

 التربية في سورية بعد الاستقلال

عرفت سورية حماسًا قويًا نحو التعليم، وحظيت التربية باهتمام مجتمعي وحكومي في العقد الأول بعد الاستقلال، تواصلت الجهود وتوّجت بإلزامية التعليم. وكانت المدرسة تفتح أبوابها للتلاميذ صباحًا وبعد الظهر، بحيث تراوح عدد الساعات المدرسية من 7 إلى 8 ساعات يوميًا. وكانت كثير من المدارس تفتح بعض شعبها للمراجعة المسائية. وحاولت المدرسة التكيّف مع ظروف المجتمع المحلي، فتم تحقيق المدرسة المتنقلة لضمان تعليم أطفال البدو الرحل المتنقلين من مكان إلى آخر. واستمر هذا الاهتمام بعد انقلاب آذار 1963، وأولى البعث في سنواته الأولى اهتمامًا خاصًا بالتعليم، واستمر هذا الاتجاه، في السنوات الأولى، بعد سيطرة الأسد على السلطة.

في بداية الثمانينيات، بدا الترهل واضحًا في التربية التي تأثرت بالفساد الذي اكتسح مختلف جوانب الحياة، حيث تراجعت نوعية التعليم ولم تطبّق الزاميته، وكان يمكن ملاحظة مئات الأطفال خارج المدرسة، يعملون في سن مبكرة، خصوصًا في المناطق الشمالية والشرقية من البلاد. في مراكز المدن، تناوب فوجان من التلاميذ على المدرسة الواحدة، في صفوف مكتظة، فأدى ذلك إلى خفض الساعات المدرسية.

وأخطر ما أصاب التربية هو تهميش المعلّم، ماديًّا واجتماعيًّا، حيث أدى ذلك إلى تردّي التعليم، كمًّا ونوعًا. وفقدت العملية التربوية ديناميكيتها وأصيبت بالترهل والجمود، واعتماد منهج الحفظ والتلقين دون الاهتمام بتنمية التفكير والقدرة على المحاكمة، كان يفرض على الأجيال ترديد الشعارات الجوفاء الخالية من المعنى، ويرغم الجميع على التغني حبًّا بالقائد الذي تحول إلى ما يشبه الإله عبر تقديس بعض صفاته، فهو يمتلك قدرات خارقة استثنائية تفوق قدرات البشر، هو المعلم الأول والقاضي الأول والرياضي الأول….. في هذه المعمعة يضيع العقل والعقلانية، ويتراجع التفكير المنطقي ويموت الإبداع.

بعد أن تمكن النظام الدكتاتوري من بناء آلته القمعية وترسيخ نظامه على أسس بوليسية، لم يعد يهتم لا بالتربية ولا بالصحة ولا بالخدمات الاجتماعية. وازدادت الهوّة اتساعًا بين النخبة الحاكمة المتحالفة مع التجار ورجال الأعمال والسماسرة، من جهة، وباقي أفراد الشعب من جهة ثانية. في بداية الألفية الثالثة، مع وصول الوريث إلى الرئاسة، ازداد الوضع التربوي تدهورًا بفعل الطبقة الجديدة المفترسة من رجال الأعمال الشباب، من أبناء المسؤولين السابقين الذين أطلقت يدهم في النهب الممنهج لاقتصاد البلاد وموارد الدولة والهيمنة على جميع مفاصل الحياة، في تجاوز لجميع الحدود القانونية والأعراف الاقتصادية والاعتبارات الاجتماعية والإنسانية. وتحوّل الاقتصاد إلى قطاعات خاصة لأهل السلطة، وسيطر منطق الاقتصاد الريعي على منطق الاستثمار والتنمية.

في هذه الظروف، أصبحت مصلحة النظام تكمن في التجهيل وتوسع الأميّة، بحيث يسهّل تطويع الناس وإخضاعهم، ويسهّل تجنيد العسس والمخبرين والحرّاس والخدم.

تمكن النظام من العمل في سياق طويل لترويض المجتمع وإحكام السيطرة على الجميع عبر المؤسسات التربوية والمؤسسة العسكرية. وأصبحت معايير الولاء للقائد وللأجهزة الأمنية هي الطاغية، وتم التلاعب بالعمل التربوي، فلم يكن ممكنًا لمعلّم أو مستخدم في المدرسة أن يبقى بعيدًا عن الرقابة. وأصبح تعيين المديرين وإشغال الوظائف الوهمية والترقية وتسلّم بعض المناصب الإدارية، يتم استنادًا إلى مدى التعاون مع أجهزة الأمن التي وضعت العملية التربوية برمتها تحت الرقابة المباشرة. وتعرّض كثير من المعلمين للمطاردة والفصل التعسّفي.

تدهور التعليم نتيجة الفساد وعدم توفير المستلزمات الضرورية، وتردي وضع المعلم وتهميشه. وفقد العمل التربوي أهم مقوماته: الحرية، حرية التفكير وحرية التعبير والمناقشة وإبداء الرأي، وعدم التسليم بالمقولات الجاهزة. تم العمل على ترويض الأجيال وتنشئتها على “حب القائد” والغناء له والهتاف بحياته، عبر مراحل التعليم المختلفة. وعندما يصل الشاب إلى مرحلة الخدمة الإلزامية، تبدأ مرحلة الإذلال والاستعباد والإخضاع التام.

التحول الديمقراطي يستوجب تغييرًا تربويًا

تضع الملاحظات السابقة مهمات كبيرة على عاتق قوى التغيير في سورية، حيث يترتب عليها العمل بجدية على بناء نظام تربوي حداثي مناسب؛ إذ يشكل النظام التربوي ركيزة أساسية من ركائز النظام الديمقراطي، ويمكنه من التطور والتكيف في ظروف محلية ودولية متغيرة، ويمكن أن يشكل شبكة حماية ضد كل أشكال الدكتاتورية والانحراف، عبر ترسيخ القيم الديمقراطية والمواطنة وإشاعة ثقافة مجتمع الحقوق والواجبات ودولة القانون، دولة تحقق المساواة وتكافؤ الفرص، دولة لجميع أبنائها.

إن الدماء العزيزة التي سالت في بلادنا والخراب الكبير الذي أصابنا، بسبب الطغيان، يستدعيان إعادة النظر بالعملية التربوية برمتها. يجب أن تقوم التربية الحديثة على أسس علمية، تنمي العقلانية وتبتعد عن التفكير الخرافي. كما يجب أن توفر فرص النمو المتكامل لشخصية الطفل، من مختلف الجوانب، بحيث يتمكن من تحقيق ذاته وإطلاق إمكاناته إلى اقصى حد ممكن، ليكون قادرًا على المساهمة الخلاقة في بناء أمته وتحقيق أهداف مجتمعه في الازدهار والتقدم والمشاركة الفاعلة في بناء الحضارة الإنسانية.

يجب أن يستند النظام التربوي إلى مبادئ الحرية وتنمية التفكير وتعميق القدرة على الحوار والمناقشة، وترسيخ قيم المواطنة وحقوق الإنسان، وهذا يستدعي إحداث تعديل جوهري في العلاقات القائمة على التسلطية والتحول إلى علاقات الحوار والتبادلية، وتفهم الطفل وحاجاته ومتطلبات نموه والإصغاء لما يقول، وإتاحة فرص التعبير الحر وتنمية تفكيره وقدرته على المحاكمة، فالمدرسة الحديثة هي مدرسة تنمية الدماغ، الذي يعتبر القاعدة البيولوجية للتعلم. هي مدرسة تربية السلوك المتصالح مع المبادئ والقيم والمنسجم مع منظومة المفاهيم الديمقراطية. تعد المدرسة مختبر تطبيق مبادئ العدل والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، والتدرب على الحوار وقبول الاختلاف، على المدرسة إعادة بناء سلوك الفرد على أسس جديدة، أسس من الحرية والقيم الإنسانية النبيلة واحترام حقوق الإنسان ورفض الظلم وإشاعة التعاضد الإنساني بين الجميع.

لقد أهدرت أنظمة الطغيان ما يزيد على نصف قرن من حياة الشعوب العربية وعرقلت تقدمها، وإن ثورات الربيع العربي محاولة خلاقة لاستعادة مشروع النهضة الحقيقية التي تضع مجتمعاتنا في عالم العصر، وتحقق التقدم والازدهار، وتمكّن أبناءها من توفير فرص العيش الحر الكريم في أوطانهم، وتساهم مساهمة فعالة في تطور الحضارة البشرية واغتنائها، لتأخذ مكانها اللائق بين الأمم.

إننا نحتاج إلى التفكير بطريقة جديدة، لكي نتمكن من مواجهة مشكلاتنا الكبرى، مشكلات التنمية وتوفير فرص العمل والحياة الحرة الكريمة لأجيالنا. نحتاج إلى التفكير الاستراتيجي على المدى البعيد في مختلف الميادين التربوية والصناعية والزراعية والنقل والكهرباء والطاقة والسكن والبيئة والصحة والمواصلات وتخطيط المدن. فتركة نظام الاستبداد والفساد ثقيلة ثقيلة، وعلينا وضع الخطط والبرامج الطموحة والشروع بتنفيذها فورًا. علينا بناء المؤسسات، وبوجه خاص، بناء عقلية المؤسسات، فبلادنا تدار حتى الساعة بطريقة المضافات والديوانيات، لا بواسطة المؤسسات التي تتخذ قراراتها استنادًا إلى البحوث والدراسات.

على التربية أن تعيد النظر بكل ما يتصل بالعمل التربوي، بما ينسجم وتطلعات شعبنا نحو التحوّل الديمقراطي وبناء الدولة الوطنية، دولة لجميع أبنائها، تحقق لهم الحرية والمساواة وتكافؤ الفرص. وعليها إعادة النظر بالمناهج وأساليب التدريس وأدواته، وبالعلاقات التي تقوم بين المشاركين في العمل التربوي. على المربّي تقديم النموذج السلوكي والأخلاقي والمعرفي للفرد الذي يحمل مشروع النهضة، وعمل كل ما يمكن لبناء الشخصية المبدعة الخلاّقة القادرة على إنجاز هذا المشروع؛ فالديمقراطية ليست مسألة سياسية فحسب، بل مسألة تربوية أيضًا.

المزيد
من المقالات