“قصف.. قصف.. قصف”.. بهذه الكلمات، وصف أحمد ياسين ليلى موجة الدمار التي شهدها وعائلته، في أثناء بحثهم عن ملجأ في إدلب، أوائل العام الماضي. جاء أحمد وزوجته وأطفالهما الأربعة إلى إدلب، بعد أن أجبرهم القصف المدفعي المكثف الذي فرضته قوات الحكومة السورية على حيّهم في الغوطة الشرقية، دمشق، على ترك منازلهم قبل أعوام. ومنذ ذلك الحين، يهربون من أهوال العنف المنتشرة (موجات الصدمة، والسقوف المنهارة، والشظايا المتطايرة) التي يبدو أنها ترافقهم أينما فروا.
استمرّت الحكومة السورية في قصف إدلب، طوال أشهر، بالدبابات والمركبات المدرعة، في حين ألقت الطائرات الحربية الروسية والسورية متفجرات حارقة، وذخائر عنقودية، و “براميل متفجرة” ضخمة، على السكان الذين يبلغ عددهم أكثر من مليون شخص، والذين فرّوا من مناطق أخرى من سورية، ولجؤوا إلى المحافظة. استهدفت القنابل المدارس والمشافي في الأحياء التي يُعتقد أنها معاقل للمتمردين، وتحوّلت الأحياء السكنية الآن إلى أنقاض، ودماء، ورماد، وسيول من الناس الذين يحاولون الخروج.
في أوائل عام 2020، ركب أحمد ليلى وعائلته على دراجة نارية، وانضمّوا إلى مئات آلاف الفارّين بحياتهم، والموت منتشر على طول الطريق الطيني البارد المكتظ بالشاحنات، والسيارات، والعربات، والدراجات النارية، والدراجات الهوائية، والحيوانات.. خرج هائمًا على وجهه متجهًا شمالًا نحو تركيا بحثًا عن الأمان. ولكن مئات الآلاف من اللاجئين أوقفوا عند الجدار الحدودي. تركيا لن تسمح لهم بالدخول.
لقد تُرِكَت عائلة ليلى من دون مأوى، في البرد الشديد الذي يميّز الشمال الغربي من سورية في فصل الشتاء، بين الحدود التركية المغلقة إلى الشمال، و”القصف بالقنابل المستمر” إلى الجنوب. وكثيرًا ما كانت درجة الحرارة تنخفض إلى ما دون التجمّد في الليل، لذا أخذ الناس يحرقون كل ما يمكن أن يجدوه من أجل الحصول على شيء من الدفء. في إحدى ليالي الصقيع من شباط/ فبراير، في خيمتهم ذات الأرض الترابية، لاحظ أحمد ليلى أن هناك مصيبة حاقت بابنته إيمان، البالغة من العمر 18 شهرًا. “حوالي الساعة 3 صباحًا، حاولتُ تحريك طفلتي الصغيرة، لكنها كانت مزرقة، لا تتحرك، وكان جسدها ساخنًا، لم نكن نعرف ماذا نفعل”.
جسد الطفلة أصبح غير مستجيبًا، ورجع باردًا مرة أخرى. مذعورًا، حمل أحمد طفلته بين يديه، وبدأ مع زوجته في البحث عن سيارة إسعاف، أو أي سيارة يمكنها نقلها إلى المشفى. ولكنهم لم يعثروا على سيارة، فانطلقوا مشيًا. في الطريق، وهو يضم طفلته إلى صدره، ماتت إيمان من شدة التجمّد.
عندما قرأتُ لأول مرة عن حياة الطفلة إيمان ليلى المرعبة لحد المأساة، وموتها الرهيب في صحيفة (نيويورك تايمز) العام الماضي، عبرت لي عن التكلفة البشرية للصراع الذي طال أمده. إن محاولة فهم ما يحدث لشخص يهرب من الاضطهاد، ويحرَم من اللجوء، كانا السبب وراء تقاريري خلال الأعوام القليلة الماضية. ومع التشرد القسري، غالبًا ما يتراكم الرعب اليائس، وغير الموثق. فقَد أحمد ابنته، وظهر اسمه في الصحف، ولكن ماذا بعد ذلك؟! لا يزال أحمد يعيش في خيمة في فصل الشتاء، ولا تزال الطائرات النفاثة تجول في السماء تقصف، ولا يزال حرس الحدود يطلقون النار على المهاجرين الذين يحاولون تجاوز الجدار.
في شباط/ فبراير، بعد عام من وفاة طفلته بين ذراعيه، تواصلت مع أحمد عبر “واتساب” لمعرفة المزيد عما حدث في تلك الليلة، وما عانته عائلته منذ ذلك الحين. صورة “بروفايله” كانت صورة إيمان. في الصورة، مستندة إلى بطانيات ووسادة، ترتدي قميصًا فضفاضًا، مع حيوان كرتوني وردي ذي خدّين أزهرين. أحمد وزوجته وأطفالهم الثلاثة الباقون على قيد الحياة، الذين تراوح أعمارهم بين 5 و9 و11 عامًا، انتقلوا حديثًا إلى عفرين، وهي مدينة تقع في شمال سورية، على بعد أقل من 20 ميلًا من الحدود التركية. من خلال مترجم، أخبرني عندما كان يحاول إيجاد ملاذ آمن لعائلته. “لا نزال نواصل البحث عن منزل، ولكن لم نتمكن من العثور على واحد”.
إن وفاة إيمان ليلى، وما خلّفته من فجوة لدى أسرتها، لم تكن سببها المباشر على الأقل الرصاص أو القنابل أو الشظايا. ولكن وفاتها وكثير من الأمور المماثلة لها ترجع إلى الأزمات الإنسانية التي أعقبت الصراع، والأزمات التي تصطدم الآن بحدود بلدان أخرى في الشرق الأوسط، وأوروبا، وما وراءها. ومع دخول الحرب في سورية عامها العاشر، هذا الربيع، يظل من المستحيل أن تفهرس الأثر الإنساني الكامل. إن الفشل في معالجة أعظم أزمة لاجئين في هذه الفترة الصغيرة من القرن أدى إلى وفاة إيمان ليلى بلا داع -والصراع السوري العنيف يضم كثيرًا من القصص مثل قصص إيمان. فماذا فعل عقد كامل من الصراع بالسوريين الذين أجبروا على الخروج من ديارهم، وفقدوا أفرادًا من أسرهم، وتعرضوا لمصاعب لا يمكن تصورها لأولئك الذين لم يذوقوا ويلات الحروب؟
حتى في الوقت الذي يبدو فيه النصر الملطخ بالدماء الذي حققه بشار الأسد في الصراع أكثر تأكيدًا من أي وقت مضى، فإن السوريين -سواء أولئك الموجودون في البلاد أو المنفيون في مخيمات اللاجئين أو الذين لا يحملون أي وثائق مهمة في مختلف أنحاء المنطقة والعالم- باتوا حبيسي دوامة من الاضطرابات العنيفة والحرمان من الملاذ. فضلًا عن ذلك، فإن انحدار المعايير الدولية التي سببها الصراع السوري -عودة الأسلحة الكيمياوية إلى ساحة المعركة، وتجاهل القوى الإقليمية والعالمية للخسائر في صفوف المدنيين، وإلغاء قوانين اللاجئين واللجوء- يمكن أن تشكل الصراعات في مختلف أنحاء كوكب الأرض لأعوام قادمة. لقد حان الوقت لتسجيل التكاليف الإنسانية، من حيث الأرواح المفقودة أو من حيث الالتزامات المنسية.
وفي حين يصعب فهم الخسائر البشرية للحرب في سورية، فإن بعض الأرقام تساعد في وضع الحالة في سياقها الصحيح. منذ أن أطلقت قوات الأسد أول الرصاصات الحيّة على المحتجين المسالمين في مدينة درعا، في ربيع عام 2011، فقد اضطر حوالي (6,6) مليون شخص إلى النزوح داخل سورية، واضطر عدد مماثل إلى الفرار خارج البلد. عدد الموتى قد يصل إلى (600) ألف إنسان. ولا أحد يعرف حقًا عدد الأشخاص الذين يقبعون في سجون الحكومة السورية السرية، ولكن بعض المراقبين يقدرون أن مئات الآلاف ربما احتُجزوا أو أخفوا في هذه المسالخ البشرية. ودمّر نحو 40 في المئة من البنية التحتية للبلاد. وقد نزح بعض الناس مرات عدة، ودمِّرت مدن بأكملها، وسوت النيران الأحياء مع الأرض محولةً إياها إلى أنقاض.
في عام 2015، صُعِق العالم عندما انتشرت صور لجثة آلان الكردي، الصبي في الثالثة من عمره الذي غرق في البحر الأبيض المتوسط، والذي قذفته الأمواج إلى شاطئ تركي. أجبرت صور الكردي، من كوباني/ عين العرب، الذي مات مع والدته وشقيقه في أثناء محاولتهم القيام برحلة محفوفة بالمخاطر، من تركيا إلى جزيرة يونانية، العالم على مواجهة حقيقة الأزمة الإنسانية. كان الساسة في الغرب مسؤولين لفترة وجيزة عن سياسات اللاجئين التي فشلت في الاستجابة بشكل كاف للأزمة: فوفقًا للتقارير، كانت أسرة آلان تسعى في نهاية المطاف إلى الوصول إلى كندا، وأصبحت وفاة الطفل قضية رئيسة في الانتخابات الوطنية، في ذلك البلد.
ولكن في العام الماضي، عندما غرق شاب سوري آخر -هذه المرة في بحر إيجة- بعد نصف عقد من وفاة آلان، لم يلحظ العالم قصته إلا بالكاد، كما أشار الصحفي روبرت ماكي، في ذلك الوقت. هل كانت إيمان ليلى مثالًا آخر للحرب السورية يتجاوز حدود اهتمام العالم، أو لمأساة تتجاوز قدرتنا على التعاطف؟
الواقع، بالنسبة إلى السوريين الهاربين بيأس، أن الأمور لم تتفاقم إلا منذ وفاة آلان، والغالبية العظمى من الأشخاص الذين هجرّهم الصراع لم تستقبلهم الدول الغربية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الخوف المثار من أهالي أوروبا الغربية والولايات المتحدة. لقد استقبلت الولايات المتحدة على ما يزيد قليلًا على (18,000) لاجئ سوري أثناء إدارة أوباما، بينما خفّضت إدارة ترامب هذه الأرقام إلى حد كبير، حيث أعادت توطين 62 سوريًا فقط في عام 2018، قبل أن تعلق جميع طلبات اللجوء في الربيع الماضي، نتيجة لوباء (كوفيد -19)، وهو أمرٌ من المرجح أن يشكل انتهاكًا للقانون الدولي. (حتى عندما كانت الولايات المتحدة تقبل كثيرًا من اللاجئين -ما يقرب من (85) ألف من عشرات البلدان المختلفة في 2016- كان هذا 0,4 في المئة فقط من المجموع العالمي).
بعد حملة منسقة في عام 2015 للترحيب باللاجئين السوريين، ردًا إلى حد كبير على غرق آلان، استقبلت كندا أقل قليلًا من (45,000) شخص بين أعوام 2015 و2020. من بين دول أوروبا الغربية، استقبلت ألمانيا أكبر عدد من اللاجئين، بأكثر من (600) ألف؛ واستقبلت هولندا أكثر من (100) ألف؛ بينما سعى عدد من دول أوروبا الشرقية إلى عدم قبول أي منها. استقبلت المملكة المتحدة أقل من (20) ألف لاجئ سوري، على الرغم من أن “الموجات” المفترضة لطالبي اللجوء قد أسهمت في موجة من الخطاب المعادي للمهاجرين هناك، في الفترة التي سبقت التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وبعدها. تستعد الدانمارك لأن تصبح أول دولة أوروبية تبدأ بترحيل اللاجئين إلى سورية، بعد أن قررت إعادة تقييم حالات الأشخاص الذين فروا من دمشق -وهي مدينة تعدها الدانمارك الآن آمنة، على الرغم من كثرة الأدلة على عكس ذلك. أثار طالبو اللجوء من سورية وأفغانستان وباكستان وأماكن أخرى، من ضمنها عدد من الدول الأفريقية، صعود الجماعات اليمينية المتطرفة في دول أوروبية أخرى، كما استمروا في إثارة ردة فعل قوية في الولايات المتحدة.
كل ذلك يعني أن جميع السوريين الذين هجرتهم الحرب قد اضطروا إلى البقاء في المنطقة. هناك أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان، يشكلون حوالي ربع سكان البلاد. وفي الأردن، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 10 ملايين نسمة، هناك (1,3) مليون لاجئ سوري، وفي تركيا، هناك أكثر من (3,5) مليون لاجئ. ولا يمكن المبالغة في تقدير الآثار المزعزعة للاستقرار على هذه البلدان الناجمة عن تدفق اللاجئين الذين يعانون الرضّات النفسية والفقر، بينما الضحايا الحقيقيون هم السوريون.
في لبنان، يواجه اللاجئون السوريون مجموعة من القيود، من ضمنها المداهمات التعسفية وحظر التجول ونقاط التفتيش التي لا تنطبق إلا عليهم. وأكثر من 80 في المئة ليس لديهم إقامة قانونية، و90 في المئة منهم يعيشون في فقر مدقع، ويتعرضون للاعتقال والمضايقة والاحتجاز. وفي الأردن، في أحد أكبر مخيمات اللاجئين في العالم، يسمى الزعتري، يعاني أكثر من (76) ألف شخص مشكلات صحية حادة. وفي العام الماضي، كان اللاجئون (10) آلاف عالقين، مع قليل من فرص الوصول حتى إلى الموارد الأساسية، في مخيم مؤقت على الحدود الأردنية السورية. ويواجه السوريون في تركيا اعتداءات بدائية، وبطالة، واحتجاز، وهجمات منبعها كراهية للأجانب. وحتى مع إغلاق أوروبا لحدودها واستخدام اللاجئين كرهائن في مفاوضاتها مع تركيا، يقوم حرس الحدود الأتراك بضرب وحشي أو ترحيل غير قانوني أو قتل السوريين الذين يخرقون الجدار الحدودي. ولكن هذا لم يمنع الآلاف من السوريين الذين يواجهون القنابل أو التعذيب أو المجاعة في منازلهم، من محاولة الهرب إليها.
وقد أجبر أحمد خضر، وهو سوري أصله من معرة النعمان، في الجزء الشمالي الغربي من البلاد، على التهجير مرات عدة. وقد وصف تجاربه هذا الربيع، بعد اعتقاله في نقطة تفتيش خارج دمشق واقتياده إلى سجن سري، وهو أحد المواقع السوداء العديدة التي يديرها النظام، وفيه معاناة لا يمكن تصورها، قائلًا: “لقد تذوقت أقسى أنواع التعذيب”.
يعيش خضر الآن في محافظة إدلب، أحيانًا يكسب أقل من دولار في اليوم كعامل. وعندما يستطيع، فإنه يساعد في توزيع المعونة الغذائية من منظمة غير حكومية أجنبية. يستأجر هو وعائلته منزلًا صغيرًا، ولكنه على وشك الانتقال إلى خيمة قريبة، حيث لا يستطيع خضر تحمل تكاليف إطعام عائلته ودفع الإيجار. ووصف اليأس المحيط بهم قائلا: “لقد شنق بعض الناس أنفسهم، في حين أحرق آخرون أنفسهم، بسبب الضغوط النفسية وعدم قدرتهم على رعاية أسرهم وأطفالهم. ولم يستطيعوا أن يفعلوا أي شيء حيال ذلك إلا أن يُنهوا حياتهم”. وأضاف أن “حوالي 90 في المئة من الأشخاص الذين يعيشون في الخيام [في إدلب] يعتمدون على المساعدة الإنسانية. وهذه المساعدة الإنسانية ليست كافية، ولكنها أفضل من الموت”.
وعلى الرغم من أن الأسد انتزع السيطرة الفعلية على نحو ثلثي البلاد، فإن الانهيار الاقتصادي الحالي في سورية يضيف مزيدًا من البؤس إلى الأزمة. والواقع أن العقوبات الدولية المستمرة، وانخفاض قيمة الليرة السورية على الإطلاق، والانهيار المصرفي في لبنان المجاور، كانت سببًا في عرقلة المالية السورية. وفي العام الماضي، مع استمرار تراجع الاقتصاد، ارتفعت أسعار الأغذية في البلد بنسبة 247 في المئة. وفقًا لبرنامج الغذاء العالمي، هناك (12,4) مليون شخص في سورية، أو حوالي 70 في المئة من السكان، يعانون انعدام الأمن الغذائي، و (1,3) مليون شخص يعانون بشدة، أي أنهم في بعض الأحيان يمضون يومًا أو أكثر بدون طعام.
قال لي جوشوا لانديس، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما، وزميل في معهد كوينسي، “بالنسبة إلى الشعب السوري، الذي عانى كثيرًا خلال الأعوام العشرة الماضية، أصبحت المعاناة أكثر حدة بعد العام الماضي. بالنسبة إلى معظم الناس، انتهى العنف المباشر والقتال، لكن الظروف الاقتصادية انهارت بوتيرة أسرع خلال العام الماضي مقارنة بأي وقت خلال أسوأ أعوام الحرب”.
لقد وصف خضر حياته اليومية الآن: “أستيقظ في الصباح، وأشاهد الأخبار، وأرى أين قصفت الطائرات ومن مات. ونخشى كل يوم أن يتقدم النظام إلى مناطقنا، لم تعد هناك مناطق متبقية يمكننا الفرار إليها. ونخشى أن يأتي النظام ويقتلنا نحن وأطفالنا”.
إلى جانب الخسائر البشرية المستمرة، شكل الصراع أيضًا سوابق خطيرة، من خلال إفراغ القانون الدولي لحقوق الإنسان من مضمونه. لم تُحاسب الحكومة السورية، وكذلك الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وغيرها، على انتهاكاتها العديدة والخطيرة لهذه القوانين. استشهدت سارة كيالي، وهي باحثة سورية في (هيومن رايتس ووتش)، باتفاقية الأسلحة الكيمياوية، التي كانت واحدة من أكثر مواثيق الحرب الدولية صرامة واتباعًا. لكن الحكومة السورية (التي انضمت إلى الاتفاقية) شنت هجمات كيمياوية عدة، ولم تُحاسب على الإطلاق. قالت لي كيالي: “لدينا نكتة مروعة، في السياق السوري، استخدمنا بعض الكلمات في وقت مبكر جدًا [في عامي 2012 و2013] ثم ساء الوضع أكثر فأكثر”- على سبيل المثال، كيف تصف ما هو أبعد من “جرائم ضد الإنسانية”؟ في مرحلةٍ ما، تبلغ اللغة حدودها.
في عام 2017، أثناء حملة التحالف التي قادتها الولايات المتحدة لتحرير الرقة، والتي كانت تعاني تحت تأثير داعش لمدة ثلاثة أعوام، قال جون تاونسند إن الهدف كان “صفر من الخسائر البشرية”، مضيفًا: “أتحدى أي شخص أن يجد حملة جوية أكثر دقة في تاريخ الحرب”. ولكن الحقيقة كانت أن الآلاف من المدنيين أصيبوا أو قُتلوا بسبب الضربات التي قادتها الولايات المتحدة. وقد أمطرت الذخائر الأميركية وسط حملة قصف روسية مستمرة منذ عامين على الأقل. الضربات الروسية أيضًا، على الرغم من أنها تزعم أنها تستهدف داعش، أصابت وقتلت المدنيين السوريين. وبعبارة أخرى: المحاسبة كانت موجّهة على الشعب السوري، وليس على النظام.
سألتُ نادية هاردمان، وهي باحثة في حقوق اللاجئين والمهاجرين في (هيومن رايتس ووتش)، عما تعده بعد عشرة أعوام من الحرب، التحدي الأصعب الذي يواجهه اللاجئون السوريون حاليًا، فأجابت: “المعرفة بأن كثيرين لا يستطيعون العودة. إنهم يعيشون في طي النسيان الأبدي. إنهم يعيشون في بلدٍ لا يريدهم. أن يكونوا حيث يعرفون أنهم غير مرغوب فيهم، ولا يمكنهم العودة. ليس هناك كثير من الأمل”.
أخبرتني هاردمان عن مغادرة السوريين للأردن للعودة إلى درعا، المدينة القريبة من الحدود الأردنية، حيث انطلقت منها الانتفاضة. ومع ذلك، فإن عودتهم إلى الوطن لم تكن كما كانوا يتوقعون. يتعين على الشباب في سن القتال الخوض في عملية “مصالحة”، يتعهدون فيها بعدم حمل السلاح ضد الحكومة. ويواجهون خطر التجنيد الإجباري في الجيش السوري أو القبض عليهم من قبل جهاز الأمن العسكري.
وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة -حيث استعيد السلام ظاهريًا-المنازل مدمرة، والغذاء شحيح، ولا يستطيع الناس الحصول على الخبز إلا كل بضعة أيام أو مرة واحدة في الأسبوع، ويصعب الحصول على الوقود، والكهرباء تتوفر ساعتين فقط في اليوم، وهناك تقارير عن حالات قتل واختفاء خارج نطاق القانون. وكما قالت هاردمان عن الوضع الأمني والاقتصادي، “التحدي لا يشمل ذلك، الشروط مرهقة. والحياة صعبة للغاية”.
وفي عام 2021، قدرت (هيومن رايتس ووتش) أن 50 في المئة من البنية التحتية للرعاية الصحية في محافظة إدلب قد دمِّرت. ويتعامل جزء كبير من بقية البلد مع مستويات الدمار نفسها أو الأسوأ. وانتشرت الأمراض النادرة أو التي كان يمكن احتواؤها في السابق، مثل الحصبة والتهاب الكبد والتيفوئيد. وبعد ذلك انتشر الوباء.
بينما تضاءل القتال في بعض مناطق البلاد خلال العام الماضي، فإن الواقع اليومي الخطير للغاية جعل من الصعب الحكم على مدى خطورة حصيلة (كوفيد -19) في سورية. على الرغم من وجود كثير من الإصابات والوفيات المرتبطة بـ (كوفيد -19)، فإن الحجر الصحي وحظر التجول قد أثقل كاهل الاقتصاد المنهار بالفعل. في الصيف الماضي، وصل الوضع إلى نقطة يائسة، لدرجة أنه في دمشق وغيرها من المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، نزل الناس إلى الشوارع مرة أخرى للاحتجاج، وهم هذه المرة يعرفون جيدًا المدى الذي ستذهب إليه حكومتهم لقمع المعارضة.
أخبرتني كيالي: “لقد أرادوا حقوقهم، أرادوا وضع حد للفساد، أرادوا الخبز والكرامة”، واصفة الزخم الأولي للاحتجاجات في آذار/ مارس 2011. على الرغم من (10) أعوامٍ من الحرب الوحشية، “أنا لا أعرف كثيرًا من السوريين الذين تخلوا عن تلك المطالب الأولية”. كانت هناك محاولات عديدة لإحلال السلام -محادثات رسمية في جنيف، ووعد بوقف إطلاق النار، تم الإعلان عنه وتم التخلي عنه- وما زالت الحرب مستمرة في عقدها الثاني، مع بقاء القوات الأميركية والروسية والتركية وغيرها على الأرض هناك.
“والآن نحن هنا، في سورية”، أخبرني أحمد ياسين ليلى، بعد عام من موت طفلته الرضيعة بين ذراعيه بسبب التجمّد. هو وعائلته عاشوا شتاء آخر في خيمة، هذه المرة في عفرين. على الرغم من كونها تعدّ من الناحية القانونية أرضًا سورية، فقد دخلتها القوات التركية، كما الحال في المنطقة المحيطة في شمال غرب سورية، والمعروفة أيضا باسم “روجافا”، منذ أن أعطت إدارة ترامب ضوء الأخضر للاجتياح في عام 2019. على الرغم من أنهم يعيشون تحت السيطرة التركية، لا يستطيع أحمد ليلى وعائلته العبور إلى تركيا. لكنهم توقفوا الآن.
قال لي أحمد ليلى: “لم نعد نفكر في الرحيل؛ لأننا تعبنا من الترحال، نحن ننتظر من الله أن يجعل الأمور أفضل لنا، ولا نريد سوى تعليم الأطفال وجعلهم يذهبون إلى المدرسة، وأن تنتهي هذه الحالة.. لم نعد نريد أيّ شيء آخر”.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز
اسم المقال الأصلي | The Human Cost of 10 Years of Conflict in Syria |
الكاتب | جون واشنطن، John Washington |
مكان النشر وتاريخه | The Nation، 30 حزيران/ يونيو 2021 |
رابط المقال | https://bit.ly/3edPRg6 |
عدد الكلمات | 2741 |
ترجمة | وحدة الترجمة/ أحمد عيشة |