في سياق التفكير المستمر عن ملامح حلول سياسية يمكن أن تضع حدّاً للمأساة السورية، يعيد كثير من السوريين طرحَ العديد من الأسئلة التي ما يزال يتكرر طرحها منذ انطلاقة الثورة في آذار 2011 ، لعلّ من أبرزها: لماذا كان سيناريو الثورة في سوريا مختلفاً جداً عنه في بلدان عربية أخرى كتونس ومصر واليمن وليبيا والسودان؟ ولماذا احتشدت مصالح المجتمع الدولي لتصطف مع مصالح نظام الأسد في مواجهة الثورة؟ وهل كان – حقاً – نجاح الثورة سيهدد مصالح الدول الكبرى أو سيهدد أمن الكيان الصهيوني؟ وبعيداً عن استعراض الأجوبة المباشرة والمتكررة، فإنه يمكن التأكيد على أن إعادة تكرار الأسئلة ذاتها على امتداد سنوات الثورة إنما يدلّ على حالة من انسداد الأفق أمام أي حل سياسي من جهة، كما يحيل إلى مساحة مُبهَمة في حيّز الإجابة من جهة أخرى، وأعني بذلك أن ثمّة حقائق ما تزال محجوبة عن أعين كثير من المتسائلين وبعيدة عن مداركهم، إمّا لأنهم يجهلونها بالفعل، وإما لأنهم يتجاهلونها، وتحت تأثير هذين العاملين ( الجهل أو التجاهل) يمضي كثير من الساسة في تقديم مقاربات، يعتقدون أنها ربما كانت قادرةً على اجتراح مداخل حقيقية إلى حلّ لقضية السوريين.
لعلّ من أبرز هذه المقاربات رواجاً هذه الأيام هو قراءات مقارنة للحالة السورية و ما يمكن أن يشابهها من حالات في بلدان أخرى، بغية الوقوف عند المشتركات في كلتا الحالتين، وهذا من شأنه – وفقاً لأصحاب هذه المقاربات – أن يجعلنا أكثر وقوفاً على الحلول الممكنة أو المتاحة، ويبعدنا عن الاستمرار في التفكير الرغبوي والتصورات القائمة على الأحلام أكثر مما هي قائمة على الممكنات الواقعية.
وانطلاقاً من هذا الاعتقاد لا يتوانى كثيرون عن إعادة إجراء مقارنات بين ما يجري في سوريا وما جرى في البوسنة أو راوندا أو جنوب أفريقيا، أو المقارنة بين القضية السورية والقضية الفلسطينية، أو بينها وبين ثورة تونس ومصر إلخ.
ربما كانت هذه المقاربات ( المقارنة) ذات فائدة جيدة لو أنها انبثقت من فهم يدرك أن الثورات عامةً إنما تندرج في عداد (الحوادث التاريخية)، أي التي تحدث مرة في التاريخ، وإن تكررت فإن سيرورتها ستختلف حتماً ( التاريخ لا يعيد نفسه)، وذلك على خلاف ( الحوادث الطبيعية والاجتماعية) التي يمكن أن يفرز تكرارها النتائج ذاتها. إذ من الممكن بل من الواجب الاستفادة من تاريخ الثورات وحركات التحرر وتجارب الشعوب، باعتبارها تجارب تاريخية تساعد – إن نجحنا في قراءتها – في تحرير الوعي والإرادة، ولكنها لن تقدّم لنا حلولاً – جزئية أو كلية – ناجزة، لسبب جوهري مفاده أن الثورة السورية – كما جميع الثورات في العالم – لها خصوصيتها، وتكمن هذه الخصوصية الفريدة في كونها تواجه نظاماً سياسياً أيضاً له خصوصيته التي لا تتماثل مع نظام آخر في العالم، ولعل تجاهل خاصية نظام الأسد التي هي جزء متلاحم بماهيته، هو ما يجعل كثيرين يعتقدون بجدوى الحلول القائمة على قابلية إصلاح النظام، أو مبدأ تقاسم السلطة، أو إعادة بناء مؤسسات الدولة مع بقاء الأسد، أو الاحتكام إلى دستور جديد من شأنه أن يحدّ من سلطات الأسد ….إلخ.
لا جديد في القول: إن السوريين يواجهون نظاماً استبدادياً، وهم في ذلك لا يختلفون عن بقية الشعوب التي واجهت الأنظمة الاستبدادية وأطاحت بها، ولكن حالة التشابه هذه تصبح منقوصة جداً إن لم ندرك أن السوريين يواجهون استبداداً مُركّباً، وأعني استبداداً سياسياً وطائفياً بآن معاً، فلا أحد يجهل أن حافظ الأسد أحكم قبضته على البلاد من خلال ذراعين أساسيين هما الجيش والمخابرات، ولا أحد ينكر أن النسبة العظمى من قادة الفرق العسكرية وقادة الفروع الأمنية قد اختارهم الأسد من الطائفة العلوية، كما لا يستطيع أحد أن يتجاهل – في الوقت ذاته – وجود مسؤولين كبار موالين للأسد، عسكريين ومدنيين، من بقية الطوائف والأقوام السورية – عرب سنة ومسيحيون ودروز وشركس وتركمان وأكراد – ولكن هؤلاء أصحاب أدوار وظيفية على الأغلب، وليسوا أصحاب قرار، فضلاً عن أن السلطات الأمنية هي دائماً فوق الجميع، وبكل تأكيد فإن هذا ليس تبرئة لغير المسؤولين العلويين مما قام به نظام الأسد، بل يتحملون كامل المسؤولية في مشاركتهم الجريمة ومساهمتهم في إعادة إنتاج نظام الأسد منذ اغتصابه للسلطة عام 1970 ، ولئن كان كلٌّ من ( علي حيدر وشفيق فياض ورفعت الأسد) هم أبطال المجازر في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، فإن هذا لا يعفي ( مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام وحكمت شهابي) وسواهم كثيرين من المسؤولية، فهم في كل الأحوال، وبغض النظر عن طبيعة مشاركتهم، وطبيعة أدوارهم الوظيفية كذلك، هم شركاء في الجريمة ويتحملون جريرة ولائهم ومساندتهم لنظام أمعن في سحق السوريين واغتصاب حقوقهم.
الحديث عن السمة الطائفية لنظام الأسد بات غير مرغوب به في الظروف الراهنة، أو مسكوتا عنه في الغالب، إمّا تماشياً مع النزعة الغربية الرائجة للدفاع عن حقوق الأقليات والطوائف، باعتبارها مُستهدفة من جانب الأكثرية وليس من جانب الأنظمة القمعية، وفقاً للإعلام الغربي، وإمّا خشيةً من إلصاق تهمة ( التعصب الطائفي) بمن يتحدث بذلك، وذلك دون الوقوف عند جملة من الحقائق، أبرزها أن توصيف الطائفية المنبثقة عن حقائق واقعية ليس تفكيراً طائفياً ولا تعصباً لطائفة ما، وكذلك فإن الحديث عن نزعة طائفية لدى حافظ الأسد وابنه بشار لا يعني بكل الأحوال اتهاماً للطائفة العلوية برمتها، ولسنا بحاجة إلى القول: إن الطائفة العلوية في سوريا هي من دفع ثمناً باهظاً نتيجة تسلّط الأسد، سواء من حيث عدد المعارضين السياسيين للنظام، أو من حيث عدد المعتقلين الذين أمضوا عقوداً في السجون نتيجة مناهضتهم نظام الاستبداد الأسدي، ولعلّ استمرار السلطة في تغييب الدكتور (عبد العزيز الخيّر) وهو من الوجوه البارزة في المعارضة السورية، هو دليل ناصع على أن المشكلة لا تكمن في وجود الطائفة العلوية، بل في نظام طائفي، سعى وبقوّة إلى تعزيز تماهي السلطة بالطائفة، فضلاً عن سعيه إلى اختزال الدولة والطائفة معاً بشخصه وبأفراد أسرته.
بالتأكيد، ثمة مشتركات تجمع بين الحكام المستبدين جميعاً، إلّا أن التداعيات العملية لهذه المشتركات تختلف من بلد لآخر، فجميعهم يعدّ نفسه مالكاً لقطيع، وصاحباً لمزرعة، وسيّداً لعبيد، وجميعهم يعتقد أن البلد الذي يحكمه إنما خُلق لتلبية نزواته وإرضاء غروره فقط، إلّا أن إدارة الاستبداد وهندسة دعائمه وتوطيد حوامل ديمومته امرٌ مختلف. لقد أمر زين العابدين بن علي قادة الجيش التونسي بقمع المتظاهرين بكل الوسائل، لكن الجيش التونسي لم يستجب، وكذلك فعل حسني مبارك، والجيش المصري لم يستجب أيضاً، ولكن الجيش السوري لم يتوان عن قتل السوريين، حصل ذلك في مطلع الثمانينيات، وحصل أيضاً في آذار عام 2011 ، وما يزال مستمراً حتى الآن، ليس لأن الجيش السوري أقلّ غيرة ووطنية من نظيريه التونسي والمصري، بل لأنه جيش ذو مفاصل وبنية طائفية، وقد تعزّز في قناعة قادته أن استهداف النظام هو استهداف لوجود الدولة التي لا تعني لهم سوى الطائفة.
استماتة بشار الأسد في الدفاع عن نظام حكمه للاستمرار في السلطة، ليست مجرّد دفاع عن موقف سياسي، بل دفاع عن مُلْك عضوض ورثه من أبيه وبات معادلاً لوجوده، وبالتالي عليه الشروع في الدفاع عن ( ملكه – وجوده ) ولو استعان بجميع شياطين الأرض، وأعتقد آسفاً لو أن جميع وفود التفاوض ولجنة الدستور زحفوا جميعاً إلى دمشق وسلّموا لبشار الأسد بما يريد، لطلب منهم أن يعتذروا عما فعلوا ويركعوا نادمين.
هل هذا ضربٌ من القنوط أو ( العدمية السياسية) كما يقال؟ وهل نظام الأسد عصيٌ على السقوط أمام إرادة السوريين؟ بالتأكيد ليس الأمر كذلك، بل لعلّي على يقين بأن النظام سقط أخلاقياً وقيمياً، وإلى حد بعيد سياسياً أيضاً، ولكن ما يحول دون سقوطه عسكرياً، ليس تحالفاته الدولية والمحلية وإرادات الدول الكبرى فحسب، بل الفهم الخاطئ لكينونته وماهيته أيضاً.