الثورة السورية في ضوء كتاب تشريح الثورة

نوفمبر 17, 2022

محمد جمال طحان

مقالات

ليست الثورة السورية، كما ثورات الربيع العربي، خارج سياق الثورات عبر التاريخ. وإذا كان “ابن خلدون” قد تحدّث عن أعمار الدول، و”الكواكبي” قد فصّل لنا الكلام على الثورة وموجباتها ضد الاستبداد، كذلك شرح المؤرخ الأميركي المعاصر “كرين برينتن” في كتابه “تشريح الثورة” المراحل التي تمر بها معظم الثورات.

ولقد جمع الكاتب المعلومات من أربع ثورات كبرى: الثورة الأميركية، الثورة الفرنسية، الثورة البلشفية، الحرب الأهلية في إنجلترا، وباستخدام هذه الثورات وضع برينتن أربع مراحل تمر بها الثورة: المرحلة الأولى “المرحلة التمهيدية للثورة” وخصائصها :التنافر الطبقي، وعدم كفاءة الحكم، وفشل القوة .وأعراض هذه المرحلة تتمثل في أن الطبقة الوسطى هي القوة الدافعة وراء الثورة، وأنها تعبّر عن سخطها بسبب القيود الاقتصادية التي تفرضها الحكومة، وغالباً يكون السبب وجود حاكم أخرق. ومع مرور الوقت تزداد الاحتجاجات ضد الحكم الذي لا يلبث أن يخنث بوعوده، التي قطعها على نفسه في تحقيق العدالة والحفاظ على المصلحة العامة، بل إنه ليأتي بأفظع الجرائم ثم يحاول تأويلها على أنها لمصلحة الأمة. وهذا كله لأنه يمتلك القوة التي تغريه بالاستبداد، «ولأن القوة لا تُقابل إلا بالقوة»، لذلك على الأمة، التي يحكمها الاستبداد، أن تقاومه بكل ما أوتيَت من القوّة. لكن الأمّة، إذا رسخ فيها الاستبداد واعتادت عليه، لا تسأل عن الحرية، ولا تلتمس العدالة، ولا تعرف قيمة الاستقلال، بل هي تتعود التبعية العمياء. وحتى إذا نقمت على المستبد، فإنها تنقم من شخصه ولا تقتلع الاستبداد من جذوره، وهكذا تستبدل مستبداً بمستبد. وقد تتحرر من الاستبداد عفواً وبلا تخطيط فلا تلبث تتخبط في الفوضى حتى يعاودها الاستبداد أشد وطأة وأكثر شراً.

ولهذا فإن «الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، وأمّا التي تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلّما تفيد شيئاً». ومن يريد أن يأخذ بيد الأمّة لإنقاذها من شر الاستبداد، ومساعدتها على اقتلاعه من جذوره، عليه «أن يبثّ فيها الحياة وهي العلم، أي علمها بأن حالتها سيئة وإنما بالإمكان تبديلها بخير منها». فإذا شعرت بآلام الاستبداد ومساوئه تتحمس للتخلص منه وتسعى لاستبداله. وإيقاظ شعور الاستياء في الأمّة، التي تعاني من وطأة الاستبداد، إنما يقع على عاتق ذوي الشهامة، ممن يرغبون في نهضة قومهم، الذين على كلّ واحد منهم، حتى يصغي الناس إليه، أن يحرص على ترقية معارفه، وإتقان أحد العلوم، والمحافظة على الآداب العامة، وقلّة الاختلاط بالناس، وتجنّب مصاحبة الحكّام والممقوتين، وتجنّب الحسد، واختيار الأصدقاء، وكتم الآراء، والتحلي بالأخلاق الحميدة، والثبات على المبادئ، والشفقة على الضعفاء، والغيرة على الوطن والدين. حتى إذا عمّ الوعي واجتمع الرأي، بدأت على الاستبداد حملةٌ شعواء. وهذا يقودنا إلى الشرط الثاني الذي وضعه الكواكبي لرفع الاستبداد، ونعني به مقاومة الاستبداد باللين والتدرّج لا بالشدّة والعنف. والوسيلة الوحيدة لإزالته «هي ترقّي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس» من قِبَل الراغبين في نهضة الوطن، وتخليصه من أسر الاستبداد وشروره. والذين عليهم أن يعلموا أن اقتناع الناس بضرورة التخلص منه لا يتأتى إلا في زمن طويل، وأن إزالته ليست بالأمر السهل، بل هي تحتاج إلى جهد وصبر طويلين. كما لا بد من معرفة «أن كل أمر يحصل بقوة قليلة في زمان طويل يكون أحكم وأرسخ وأطول عمراً مما إذا حصل بمزيد قوة في زمان قصير». فلا ينبغي أن يقاوم الاستبداد بالعنف كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً، ثم لا تثمر عن شيء. أمّا إذا اشتد الاستبداد وانفجرت الفتنة فعلى العقلاء أن يتباعدوا عنها، مبدئياً، حتى يتم حصد المنافقين والمستبدين، بعدئذٍ عليهم أن يوجّهوا أفكار الناس، بالحكمة، نحو تأسيس العدالة، وذلك بالإشراف على إقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد، ولا بمن لهم علاقة بالفتنة التي حدثت، وذلك ليُصار إلى بناء حكومة جديدة جذرياً.

ويبيّن الكواكبي كيفية اندلاع الفتنة أو الثورة الفجائية على الاستبداد، من خلال استعراضه بعض أحوال مخصوصة تهيّج العوام. فهي لا تحدث غالباً إلاّ عقب أحوال منها:

1- مشهد دموي يوقعه المستبد على مظلوم

2- حرب يخرج منها المستبد خاسراً

3- إهانة المستبد الدينَ

4- تضييق اقتصادي شديد

5- مجاعة أو مصيبة عامة

6- تعرّض المستبد للمحرَّمات

7- مناصرة المستبد للعدو

إلى غير ذلك من الأمور المماثلة لهذه الأحوال. وهي كلّها قد قام بها النظام السوري في وضح النهار، ما أدّى إلى تصاعد سخط الطبقة الوسطى، حيث ثار الشعب، وبدأ ينهار الهيكل الحكومي تحت ضغط الديون المالية والانتفاضة الشعبية، ولن يطول الأمر حتى يشكّل المعتدلون حكومة جديدة.

غير أن الحكومة المعتدلة الجديدة تظهر أنها غير قادرة على الصمود في وجه مشكلات إدارة الدولة والأزمة الاقتصادية. فيتولى المتطرفون السيطرة على السلطة، ويتم استبعاد المعتدلين، ثم تتركز القوة في مجلس ثوري يسيطر عليه رجل قوي.

وفي هذه المرحلة تبلغ الثورة ذروتها عندما يصبح المعتدلون عاجزين عن أداء مهمة حكم البلاد، ويطوّح بهم المتطرفون أو اليسار السياسي بالقوة، ويبدأ حكم الإرهاب حيث يشرع المسرفون في التطرف بالتخلص من المعارضة باستخدام العنف. ثم تتم العودة البطيئة إلى الهدوء.

ويخلص برينتن من هذه المراحل إلى أن معظم الثورات تنتهي عموماً بالعودة إلى حيث بدأت، وتنشأ بعض الأفكار الجديدة، ويتحوّل هيكل القوة قليلاً، وتطبّق بعض الإصلاحات، ويمحى أسوأ ما في النظام القديم، غير أن الوضع القائم يصبح مشابهاً للوضع في فترة ما قبل الثورة وتشرع الطبقة الحاكمة مرة أخرى باستخدام القوة.

وإذا كانت الثورة السورية، بعد عشر سنوات على انطلاقها، ماتزال في مرحلة النزاع على السلطة، ولم تتمكن، بعد، من إزالة حكم الأسد الابن الذي يستقوي بالأجنبي للحفاظ على الكرسي، فإن مشوار الثورة ما يزال طويلاً للإطاحة بنظام الحكم المافيوي، لتنتقل، بعدها، لتكوين مجلس رئاسي معتدل، من الواضح أنه لن يكون قادراً على حكم البلاد، بعد كل هذا الخراب، وهذا يعني أنه لابد من تنصيب طاغية، أو السماح لطاغية بتسلم زمام الأمور، لتتم عملية فرض الاستقرار تمهيداً لوضع دستور جديد للبلاد يسمح بإجراء انتخابات، شبه نزيهة، رضوخاً لمشيئة السوريين الذي بدأ وعيهم ينضج، بعد تلك الحروب الطاحنة التي ارتكبت فيها جرائم وحشية من النظام ومن بعض فصائل المعارضة التي لم تكن تستند إلى نخبة تسدّد خطاها.

حينذاك تبدأ مرحلة جديدة تنتشر فيها مبادئ الديمقراطية، ويكبر وعي الجماهير لتتعرف إلى أن مصالحها تكمن في قبول الاختلاف، واللجوء إلى صناديق الاقتراع لحل مشكلاتها المستعصية.

  وندرك، حينها، أنّ التحلي بقدر معين من الصبر والحكمة وإجادة قراءة الأحداث هو سبيلنا للتخفيف من آثار هذه الأزمات والعبور إلى الاستقرار.

المصـــدر

المزيد
من المقالات