بعد نحو عشر سنوات من الثورة السورية، لم يكن يتوقع أحدٌ من السوريين أن تصل الأمور في سورية إلى هذا المستوى من التعقيد؛ حيث إن عدد المفاجئات التي باغتتهم كان كبيرًا ومربكًا لهم: المستوى غير المسبوق لإجرام النظام، همجية الفصائل المسلحة، تجاهل المجتمع الدولي للجرائم التي ارتُكبت بحق السوريين، تنمّر السوريين على بعضهم، أما آخر المفاجئات فهو ضعف أداء المعارضة الرسمية وفسادها. هذه المفاجئات وذلك المستوى من التعقيد يعنيان أن على السوريين تغيير الفرضيات أو البديهيات السياسية التي كانوا يؤمنون بها قبل الثورة، وذلك حتى يتمكنوا من إعادة امتلاك السياسة والتفكير في مستقبلهم الغامض.
الفرضية التي نرى ضرورة إعادة التفكير فيها هي اعتقاد غالبية السوريين أن الوضع في سورية، منذ عام 2011، لم يعد وضعًا محليًا سوريًا، بل هو وضع خرج من المحلية إلى الساحة الدولية، وأصبح لعبة بيد الدول الكبرى. وما عدد الجيوش الموجودة اليوم في سورية، والعقوبات الاقتصادية التي يتعرض لها رموز النظام من أميركا ودول أخرى، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها النظام هذه الفترة، وارتهان المعارضة الرسمية للدول الفاعلة الكبرى، سوى أدلة على هذا التدويل. وعلى ذلك، تنتهي تلك الفرضية إلى قدَرّية سورية شبه مطلقة، بأن السوريين ليس بيدهم شيء على الإطلاق، ولن يستطيعوا تغيير الأوضاع الحالية قيد أنملة.
وعلى الرغم من أن هذه التدخلات أثّرت بشكل جذري في الوضع السوري الداخلي، وقلبت موازنين القوى أكثر من مرّة، فإن تعامل القوى العالمية مع الحدث السوري لم يكن من باب أن سورية مهمّة في حساباتهم، أو أنهم حريصون على انتصار فريق على آخر، وإنما كان تدخلًا من باب ألا تكبر الأوضاع في سورية بطريقة تؤثر على وضع المنطقة ومصالح القوى الفاعلة، أو من باب البحث عن دور دولي عبر البوابة السورية، كحال روسيا مثلًا.
ومن يلاحظ الفرق الكبير بين تصريحات السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد في عام 2011، وتصريحاته اليوم، يدرك تمامًا أن سورية لم تكن مهمة في الحسابات الأميركية، كما ظن السوريون وكما كانت توحي تصريحات فورد نفسه. فورد يقول اليوم بترك سورية للروس، لأنه يمكن الاعتماد عليهم في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وفي تنظيم الوضع في سورية، الرجل مسح -بجرّة قلم واحدة- كلّ تصريحاته النارية ضد النظام السوري عام 2011، وشطب من ذاكرته زيارته لساحات التظاهرات في مدن سورية عدة، تلك الزيارات التي كانت سندًا معنويًا للسوريين المطالبين برحيل الأسد ونظامه آنذاك. حتى إن أوباما تراجع عن خطوطه الحمراء عند أول عرض قدّمه له الروس لحفظ ماء الوجه. وتحليلات روبرت فورد الأخيرة تقول أوّل ما تقول إن الأميركان غير مهتمين أصلًا بالوضع في سورية، وليس لديهم معلومات دقيقة أو خطط مستقبلية للتأثير في الوضع في سورية. ولذلك كانت تقديراتهم بعيدة عن الواقع، وحساباتهم لم تكن في محلّها، على الأقل، في ما يتعلق بمدى رغبة إيران في التدخل في سورية، ومستوى الإجرام الذي يمكن أن يصل إليه النظام.
أما بالنسبة إلى أوروبا، فلسنا بحاجة إلى التدليل على أن اهتمامها بسورية اقتصر على معالجة آثار موجات الهجرة ومشكلات اللجوء. من دون أن ننسى أن مواقف دول المنطقة كانت تنطلق إمّا من مصالحها المحلية وإما من منطلق الحد من تأثير تداعيات الوضع السوري، وصولًا إلى دعم ما يمكن أن نسمّيه بثورات مضادة، والانخراط الخجول -بعد عام 2017- في جهود روسيا التي ترمي إلى إعادة النظام السوري إلى الحظيرة الدولية.
حقيقة كهذه يعرفها كثيرٌ من السوريين، ولكنهم لا يريدون أن يصدقوها ويتحملوا نتائجها. وأوّل نتيجة هي العودة للتفكير في سورية، بوصفها حدثًا محليًا ومشكلة بين سوريين أولًا وقبل كل شيء، وأن ليس هناك من مجال للتفكير في سورية ومستقبلها دون تفاهم السوريين بين بعضهم. طبعًا، الأمور دائمًا أعقد مما تبدو عليه، ولكن وضع علامات أساسية في أي طريق يُعدّ أفضل طريقة لتحديد المسارات. وفي هذا الإطار، فإن حوارات السوريين بين بعضهم البعض أمرٌ مرحّب به وحيوي، أيًا كانت مواقفهم وأيديولوجياتهم، ونقد السوريين لبعضهم أمرٌ يقرّب وجهات النظر أكثر مما يبعدها، ويخفف المخاوف أكثر مما يثيرها.
اليوم، الكلُّ في أزمة: المعارضون والمؤيدون والنظام. الكل يشعر بنوع من الهزيمة أو خيبة أمل، أو بخوف من المستقبل، أو بعدم الرضا، والأهم من ذلك شعور الجميع بالقلق. المعارضون قلقون من أن ثورتهم قد تكون انتهت، وأن تضحيات السوريين ذهبت سدًى. والمؤيدون يشعرون بأن الحياة اليومية أصبحت فضيحة عليهم مداراتها، أما شعورهم باللا قيمة وقلة الحيلة، فلم يتوقعوا أنه سيصل إلى هذا الحد. أما النظام فهو أكبر المنتصرين الخاسرين، إذ احتفظ ببقائه واحتمالية عالية لاستمراره، ولكنه ضحّى بكل شيء: السيادة والأرض، ووحدة الكيان السوري، وهو لا يتوانى عن بيع أي شيء يعود للسوريين، مثلما يقف عاجزًا أمام أي حدث: قصف إسرائيل الدائم للأراضي السورية، الأزمة الاقتصادية الأخيرة، ظاهرة أمراء الحرب، حتى ضحكات بشار الأسد البلهاء على شاشات التلفاز أخذت تثير سخرية المؤيدين أكثر من المعارضين.
من المشكلات الأساسية التي على السوريين وحدهم معالجتها، لأن الآخرين غير مهتمين بها على أقل تقدير، أن السوريين هم أقلّ الأطراف تأثيرًا في الوضع السوري حاليًا، والأمر المؤسف أكثر هو أن قسمًا منهم أسهم في إضعاف السوريين، من حيث إنه قدّر أنه يدعمهم ويريد تحقيق أمر ما لهم. تدويل السوريين المعارضين للثورة لمواجهة تدويل النظام لها، قد يكون خيارًا أجبرت عليه المعارضة حينها، وهي محقة في ذلك، ولكن اليوم ليس هناك ما يسوغه. تفكير السوريين في الخارج يعني أنهم لا يرون أي أهمية للتفاهمات الداخلية بين السوريين. هذا لا يعني أن ليس للخارج والقوى الكبرى تأثير كبير، ولكن يعني أن ذلك التأثير لا يكون إلا عبر السوريين أنفسهم. وعلى ذلك، هم أنفسهم من يستطيع أن يحد من ذلك التأثير.
ما الذي يجعل الكتائب الإسلامية المتطرفة تفكّر في السوريين، لو لم تكن لدى بعض السوريين رغبة في الاستعانة بها؟ وهناك من السوريين من يستعين بتلك الكتائب كعون لهم على السوريين الآخرين. وما الذي يجعل إيران تفكر في الاستثمار باهض الثمن في سورية، إذا كان السوريون أنفسهم غير معنيين بطائفيتها، ولا يرون أي جدوى من وجودها في سورية؟ وهناك من يستعين بطائفية إيران على السوريين الآخرين. الحوارات السورية السورية، عبر المقالات والمؤتمرات والمنصات الإعلامية ومراكز البحوث والشوارع والنوادي الثقافية والهيئات المختلفة، قد تصل بنا إلى هذه النتيجة (السوري ليس بحاجة إلى غيره) وهي نتيجة -كما يعلم الجميع- بعيدة كل البعد عن واقع اليوم.
من أهداف السياسة الكبرى التي سهر عليها النظام الأسدي، خلال عقوده الطويلة في سدة الحكم، منعُ السوريين من الكلام مع بعضهم البعض في قضايا السياسة. وقد استخدم كلّ الوسائل الممكنة لذلك، من تشجيع السوريين على كتابة التقارير الأمنية ببعضهم البعض، إلى حظر تشكيل الأحزاب السياسة، حتى بات السوريون يعتقدون أن “للحيطان آذانًا”.
لم يعتد السوريون الحديث الشفاف مع الآخرين، عندما يتناولون أوضاعهم السياسية، ولذلك بقي تفكيرهم ينطلق من الذات ويعود ليستقر بها، ولا يقيم وزنًا للآخر أو المختلف. الحوار هو وسيلة فقط لتأكيد ما يريد الشخص قوله، وكثيرًا ما يتحول إلى وسيلة ناجعة لتلفيق التهم للآخرين. وقد سهّل هذا الأمر في النهاية شعور البعض بأن السوريين المختلفين عنه هم أعداء له. ولذلك فإن تحويل الآخر إلى عدو، وهي لعبة نشأت في ظل بيئة استبدادية أسدية تعلي من قيمة عدم الثقة، أمرٌ ما يزال يمارسه السوريون في تقويمهم لبعضهم حتى من قبل من تحرر سلطة آل الأسد.
الأمر الآخر الذي اعتاده السوري في حياته السياسية الجافة هو عدم التفكير النقدي بالذات، والاعتراف من حين لآخر بأن عليه إعادة النظر في بعض قناعاته الداخلية التي شكّلها قبل نضوجه العقلي. هذا الأمر ساعده في النهاية في رفع درجة احترامه لذاته، بغض النظر عن مضمون هذه الذات، وشيطنته للمختلف معه، بغض النظر عن مضمون ذلك المختلف. هناك تشابه مؤسف في هذه النواحي بين المعارضين، والمؤيدين وجماعة “البين بين” وجماعة الحياديين، وجماعة “بدنا نشحط الأسد بساحة الأمويين”، وجماعة “الله يطفيها بنورو”، وجماعة “الأسد أو نحرق البلد”، وجماعة “هذه الثورة ابتلاء من الله”، وجماعة “الديمقراطية شرك بالله”.
إخراج الثورة السورية من سوريتها كان خيار النظام، لأنه أضعف منهم، ولأن إبقاء الثورات محلية أطاح بالرؤساء العرب الذين اندلعت فيها ثورات الربيع العربي. ولذلك سيبقى النظام المستفيد الأكبر من بقاء هذا الخيار مفتوحًا أمام كل السوريين، لأنه يمنع السوريين من التفكير في وضعهم ضمن نطاق محلي، بعيدًا عن هلوسات نظرية المؤامرة والمؤامرة المضادة.
نقول هذا الكلام، لأن تجربة الثورة السورية بيّنت أن السوريين أكبر من نظام الأسد، وأن الغسيل الفكري الذي مارسه عليهم -عبر الإعلام والمدارس والجامعات والجوامع والمنظمات الشبابية والنقابات المهنية ومعسكرات الطلائع والشبيبة والطلبة- واحتكاره لفعل الكلام السياسية بشكل مطلق، لم يمنعهم من الثورة عليه ومن نزولهم للشوارع والساحات العامة بالملايين، على الرغم من تحويل النظام تلك الساحات إلى أنهر من الدماء.
للثورات مستويات ومجالات سياسية مختلفة، ومن المهمّ أن نتعامل معها كلّها: السلطة السياسية، علاقة المجتمع بالسياسة، الثقافة السياسية، القيم السياسية، علاقات الجماعات ببعضها، التحرر من ثقافة الاستبداد، إعادة بناء الثقة بين السوريين.. وإن فشل الثورة في مجال (تغيير السلطة السياسية) لا يعني أن تترك المجالات الأخرى دون تفكير، بل إن معالجة مثل تلك المجالات قد يقرب السوريين أكثر من هدف تغيير السلطية السياسية، ومن تكوين سلطة يقبلها الجميع، وتمثل الجميع، وليس إجراء تغيير شكلي أو استبدال مستبد بمستبد.
بحسب علم الاجتماع السياسي، فإن الثورات لا تستقر في فترة وجيزة، وعشر سنوات من عمر الثورة السورية هي مدة قصيرة جدًا، ويحتاج الأمر إلى وقت أطول وجهد أكبر للوصول إلى دولة العدالة والحريات. ولكن الأمر يحتاج أيضًا إلى أن نفكر بطريقة مسؤولة، تتيح لنا الاعتماد على أنفسنا أكثر من الاعتماد على غيرنا. تتيح لنا فهم أنفسنا، كأفراد أولًا، وجماعات ثانيًا، تتيح لنا أيضًا أن ننظر إلى أنفسنا ليس على أننا جزء من المشكلة، ولكن على أننا أيضًا جزءٌ من الحل، بل الجزء الأساسي من الحل.