الثورة السورية كفيصل أخلاقي

نوفمبر 17, 2022

محمد برو

مقالات

من منا لم يخاصم أو يقاطع أو يفارق قريباً له أو صديقاً حميماً أو زميلاً، بسبب موقفه من الثورة السورية، من منا لا يعتريه الغضب أو الحزن أو الأسى، وهو يكتشف انحدار أحد معارفه إلى حضيض تأييد مجرم سوريا وعصابته، من منا تنجو اصطفافاته السياسية والأخلاقية والإنسانية، من الارتهان لهذه القيمة “الموقف من الثورة السورية” التي تظهر بحياتنا اليومية كمعيارٍ أخلاقي، تبنى عليه علاقاتنا ونظراتنا ومواقفنا من الآخرين.

لقد باتت الثورة السورية مؤشراً تقاس به عدالة الإنسان وموضوعيته، ولن يؤثر في هذا جنوح العديدين لخلط الأوراق بغية تبرير هشاشتهم وضبابية مواقفهم، وتحضير أنفسهم ربما لإعادة قراءة المشهد، على خلفية الانحياز للمنتصر أو للأقوى، كل ذلك بقياس ما تفعله تيارات معينة تحت اسم الثورة وعلمها، تعسفاً وربما إجراماً، وقياسه بما يفعله نظام الأسد، والاستنتاج المتعسف في كثيرٍ من الأحيان، أن نظام الأسد خير من هؤلاء، أبداً لا يوجد أحد في الساحة السورية مهما انحط قدره، وأسرف في غيه وإجرامه، يقارب إجرام النظام السوري، ونحن نعد أن شر من خلط الأوراق في الشأن السوري ومارس أفظع أنواع الإجرام هو تنظيم داعش، الذي لا يخفى على أحد، لكننا إن قارنا مدى إجرامه بإجرام تنظيم الدولة البراميلية “نظام الأسد” وحلفائها، لوجدنا أن ما فعله تنظيم داعش من إجرام مدان بكل المعايير، لكنه لا يرقى إلى عشر ما فعله نظام الأسد على مدى أحد عشر عاماً.

لسنوات طويلة وعلى امتداد مساحة الوطن العربي، كان اسم زياد الرحباني والشاعر أدونيس في موقع الصدارة فنياً، وشعرياً وفكرياً، لدى قطاعات نخبوية وجماهيرية واسعة ومثلهم كثير، معظم هؤلاء فقدوا محبة وتأييد تلك القطاعات واحترامها لهم، بفعل انحيازهم لنظام قاتل وتخليهم عن رسالة الحرية والعدل، التي كانت تنادي بها نصوصهم وأعمالهم وسيرتهم الفنية أو الفكرية.

على مدى ما يزيد عن نصف قرن، كانت القضية الفلسطينية هي محور الاهتمام السوري وبيضة القبان في أي تقييم أو موقف أو بيان سياسي، وحصل في بواكير سنوات الثورة السورية، أن أصدر أحد الاتجاهات السياسية بياناً، يتحدث عن تشكيل تحالفٍ ثوري جديد، فما كان من جمهوره المعني بالبيان إلا أن هاجمه بشكل عنيف وجارح، لأنه لم يذكر في بيان التأسيس موقفه من القضية الفلسطينية، كما جرت العادة في كل بيان وكل احتفالية وطنية، وكأنها معيار للعدالة واستقامة الاتجاه وعدالته، وهي كذلك بالفعل، لأننا لا نعرف في حاضرنا قضيةً أكثر عدالة من القضية الفلسطينية، واليوم للأسف الشديد تخيب آمال وظنون قطاعاتٍ واسعةٍ من السوريين بتيار حماس، الذي طالما تلقى دعماً منقطع النظير من الشعب السوري بالرغم من كل معاناته، عبر انحياز قادة حماس الجدد الصريح لنظام الملالي، وإعلانهم عن إعادة علاقتهم مع نظام الأسد، الذي تجاوز في إجرامه كلَّ حد، تحت ذرائع وتعليلات لا ترقى لأي سوية أخلاقية معتبرة.

في خمسينات القرن الماضي تمت إعادة التقييم، لعشرات العباقرة والمؤلفين الموسيقيين والأدباء والفلاسفة الأوروبيين، بالرغم من نتاجهم الذي أغنى الثقافة الإنسانية، وذلك بحسب موقفهم من النازية ومن اجتياح هتلر للمدن الأوروبية، ونحن إلى اليوم نشهد ممارسةً صارمةً لقانون يجرم منكري الهولوكوست، بالرغم من أن تلك الجريمة “إنكار المحرقة” لا تقدم تبريرا لها ولا تبرئة لمجرميها، ولا يقدم عوناً أو دعوة لتكرارها، بل هي محض تشكيك بمدى صحة الرواية تاريخياً، وهذا حصل ويحصل في معظم الوقائع التاريخية مع معظم الأمم دون أن يلقي له أحد بالاً، وأرجح أن الموقف من الثورة السورية ومن عدالة مطالبة الشعب السوري بحريته، سيبقى يطبع أصحابه فخراً أو عاراً لزمن طويل.

الأمر المدهش حقاً أن الموقف المطلوب من سوريين وغير سوريين، يعيشون خارج سوريا وبعيداً عن سطوة النظام لا يتطلب فعلاً بطولياً ولا يكلف مالاً أو جهداً يرهق صاحبه، إنه موقف تعبيري في معظم الأحيان لا يتطلب أكثر من إعلان هذا الموقف، بل ربما يكفي الصمت في الكثير من الحالات، ومعظمنا يتفهم هذا الصمت ولا يدين صاحبه، ومع هذا نجد بعضهم يستصعب الصمت كونه أدمن التصفيق للديكتاتور ولا يستطيع مجرد التفكير في الخروج من ظله.

لم يعد الأمر مجرد صراع على السلطة أو خلاف حول اتجاه سياسي، يحتمل التأويل أو النظر إلى مسألة ما من زوايا متباينة، لقد أسرف هذا النظام المجرم في دم السوريين الأبرياء من أطفال وكهول ونساء، ونهب مقدرات البلاد وممتلكات السوريين دون حياء، وهو يمعن اليوم في جريمته ليجعل مستقبل السوريين في مقبل أيامهم أشد حلكة وفساداً، وبات الموقف منه لا يقبل الالتباس، إما انحياز للحق والمطالبين به، انحياز للضحية البريئة التي يستمر القتل والتعذيب فيها إلى ساعتنا هذه، وإما الانحياز للمجرم القاتل، وعليه بات من الواجب الأخلاقي علينا أن نرسخ هذه الثقافة بمزيد من الإدانات وتوثيقها، وتكرار تسليط الضوء عليها بحيث يصبح الانحياز إلى صف النظام القاتل، انحيازاً صفيقاً للجريمة، والانتهاك الممنهج وإعلان عدوان صراح لمبادئ العدالة والحق والقيم الإنسانية.

المصـــدر

المزيد
من المقالات