بعد انطلاق الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، بدأت التحركات في خارج سوريا من ناشطين وشخصيات عُرِف بعضهم بمعارضته لنظام الأسد الأب والابن، وكان هدف تلك التحركات تشكيل جسم يعكس مطالب الحراك الشعبي، وينظِّمه، ويؤمِّن شبكة تواصل مع الدول والفاعلين الدوليين في محاولة لعزل نظام الأسد دوليًّا وتأسيس بديل رسمي عنه.
كان المجلس الوطني الذي أُعلن تأسيسه في أكتوبر/ تشرين الأول 2011 نتاج جزء من هذه التحركات، وهو تجمع لعدة قوى تقليدية وحديثة النشوء، أبرزها الحراك الثوري، ربيع دمشق، حركة الإخوان المسلمين وكتلة المستقلين الليبراليين، وبعد سنة من تأسيسه أُعلن عن تشكيل الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، بصفته كيانًا يشمل المجلس الوطني وقوى ثورية أخرى، مثل لجان التنسيق المحلية ورابطة العلماء السوريين.
هل المعارضة معطوبة الذات؟
ما يميّز حراك الثورة السورية -علاوة على أنه حراك محقّ ضد نظام سلبَ السلطة واحتكرَ الفضاء المدني والسياسي في الدولة، وشوّه البنية الاجتماعية والقانونية في البلاد- أنه كان بواسطة شباب لا يملكون رصيدًا سياسيًّا ولا حزبيًّا، ولا حتى ذاكرة ملمّة بما يكفي بالمجازر المخيفة التي فعلها الأسد الأب، بل كان حراكًا هدفه التخلُّص من حكم العسكر ونيل الحرية اقتداءً بباقي بلدان الربيع العربي.
ولكن على الجانب الآخر من هذا الحراك، كان هناك شخصيات أُثقلت بمحاولاتها غير الناجحة لمعارضة نظام الأسد طيلة 40 عامًا، وشخصيات ظهرت دون رصيد سياسي دافعها التغيير القادم في سوريا، ولسنا بصدد دراسة أسباب فشل وعثرات ذلك الحراك، ولكن ما يهمّنا الأفكار التي وصلت إليها تلك الشخصيات لحظة انطلاق الثورة السورية.
كان انطلاق الثورة ومظاهراتها الشعبية مفاجئَين للنظام والشخصيات المعارضة على حدّ سواء، فلم يتبنَّ الحراكُ الشعبي الأدواتَ التقليدية التي حملتها “المعارضة” السورية في مراحل ما قبل الثورة، بل جاء بأساليب لإدارة حراكه وتنظيمه وتقديم مطالبه التي لم تُرضِ عددًا من تلك الشخصيات، كونها أدوات “غير ناضجة”، ولا يمكن أن تتحرر البلاد أو تُستبدل الأنظمة بحراك شعبي وهتافات رغم تنوع أساليبها وتوزُّعها الجغرافي الممتد.
ولكن أمام توسُّع جغرافية المظاهرات وعنف النظام المتسارع اتجاهها، وجدت الشخصيات المعارضة نفسها أمام واقع يجب أن ينعكس على الصعيد السياسي بواسطة حراك أكثر تنظيمًا وفاعلية، فحاولت تشكيل الكيانات المعارضة، ولكن لم تكن تلك الكيانات مشكّلة بمعزلٍ عن الخلافات التاريخية الممتدة من بعض الأشخاص أو الجماعات.
هذا فضلًا عن مؤشرات وضعتها هذه الشخصيات لتكون مقياسًا للتمايز، وأحقية التمثيل في تلك الكيانات تعتمدُ على مدّة التاريخ النضالي ضد النظام، وعدد سنين الاعتقال وتكرارها، ما جعل بدايات تشكيل الكيانات سباقًا لإثبات الوطنية بمؤشرات سائلة وليست بأدوات تتماشى مع حجم التضحيات التي كانت تكبر يومًا بعد يوم في سوريا، بمعزلٍ عن هلامية كثير من الأسماء المتصارعة خارجها.
لم تكن فترة البدايات (2011-2012) محدِّدة لعلاقة الشارع الثوري مع الأجسام المعارضة فحسب، بل أسّست لأسلوب عمل مكونات تلك الأجسام فيما بينها أيضًا حتى هذه اللحظة، إذ أصبح مفهوم الاستقرار لديها مرتبطًا بإرضاء تلك المكونات، وتحقيق التمثيل المناسب لكل مكوِّن.
وكلمة “مكوِّن” في هذا السياق لا تشير إلى التنوع الجغرافي أو القومي أو الإثني، ولكنها تشير إلى الجماعات والأشخاص وحجم تمثيلهم في الأجسام حتى لو لم يكن متوافقًا مع شرعيتهم وشعبيتهم في مناطق الثورة، ويُضاف إلى هذه التركيبة للمعارضة البُعد الإقليمي والدولي لبعض شخصياتها وجماعاتها.
بعد أحداث الثمانينيات الدامية التي شهدتها سوريا في القرن الماضي، كان المنفى بمثابة المأوى لشخصيات كثيرة وجماعات فرّت خوفًا على نفسها من بطش الأسد بعد توحشه على مدينة حماة وعلى كل معارض له، فانعكست إرادة الدول التي احتضنت المعارضين والجماعات على سلوك تلك الجماعات خلال سنين الثورة، مثل توسعة الأجسام والاستقالات وبعض التحركات السياسية والمطالبات، ما جعل القرار الوطني منقوصًا ومشوهًا وغير قادر على الوصول إلى إرادة موحّدة سياسية، إذ إن الإرادة كانت مرآة لصراع مصالح تلك الدول في سوريا.
مسارات عبثية وبوصلة ضائعة
جاء التبلور المبدئي لأجسام المعارضة تمهيدًا لبدء مسارات سياسية استمرت لعدة سنوات، استندَ بعضها في البداية على قرارات أممية ولكن تقلّصت فاعلية تلك المسارات لاحقًا، إما بسبب عبثية النقاشات التي دارت حولها وداخلها من طرف النظام، وإما بسبب تشكُّل أجسام معارضة جديدة مثل منصة موسكو ومنصة القاهرة، ما أفضى في النهاية إلى انعقاد مؤتمر سوتشي عام 2018 تحت مظلة روسية وغياب أجسام معارضة عديدة عنه.
بعد انعقاد مؤتمر سوتشي في يناير/ كانون الثاني 2018، والذي تزامن مع اشتداد الحملة التي شنّها النظام السوري على قرى وبلدات الغوطة الشرقية، والتي انتهت بتهجير أهلها إلى الشمال السوري في شهر مارس/ آذار من العام نفسه؛ شُكِّلت لجنة مهمتها إعادة كتابة دستور، والتمهيد لإجراء “انتخابات ديمقراطية”، إذ رفضت الهيئة العليا للمفاوضات بدايةً قرار تشكيل اللجنة، مؤكدة على مرجعيتها في مؤتمر الرياض، وأن موسكو تسعى للانفراد بالحل السياسي خارج إطار الشرعية الأممية، محاولة نسف جهود المجتمع الدولي للتوصُّل إلى حل سياسي يضمن للشعب السوري حريته وكرامته، ولكن هيئة المفاوضات غيّرت موقفها لاحقًا ووافقت على فكرة اللجنة الدستورية، وبدأت جولاتها الستة التي استمرت 3 سنوات ونصف السنة إلى الآن.
بدأت أولى الجولات بطلب وفد النظام بأن تنعقد الجولات القادمة في دمشق، ولكن قوبل هذا المقترح بالرفض من وفد المعارضة، حينما أصرَّ رئيس وفد النظام على أن الخيار العسكري سيبقى قائمًا متزامنًا مع مسار اللجنة الدستورية حتى استعادة الأسد الأراضي السورية كلّها.
اقتصرت الجولات اللاحقة على مقترحات من قبل وفد المعارضة وإصرار وفد النظام على مناقشة “المبادئ الأساسية والركائز الوطنية”، وقضية الإرهاب وإدخال وفد النظام لمفهوم “سيادة الدولة” ومناقشته كشرط للاستمرار في صياغة الدستور، إذ لا يُمكن الدخول في كتابة المواد الدستورية قبل مناقشة مواضيع السيادة والوجود الأجنبي، وهي مواضيع ليست متعلقة بالدستور، ولكن حاول النظام بوساطتها تثبيت سيناريو التجميد السياسي لكسب الوقت، محاولًا إعادة السيطرة على المناطق الخارجة عن سيطرته.
احتوى مسار اللجنة الدستورية كاملًا على عدة تساؤلات لم تُجب عنها الجولات التي انعقدت، أهمها هل المشكلة في سورية مشكلة دستورية ذاتًا، ويتطلب حل القضية السورية وجود دستور جديد، علمًا أن دستور الأسد الحالي يحتوي على مواد متعلقة بالحريات والتعددية الحزبية، رغم غياب آليات تنفيذه وعكسه على سلوك الأسد تجاه شعبه؟
ومن جانب آخر لم توضِّح اللجنة الدستورية كيف سيقرَّر الدستور إذا ما كُتب، وهذا يؤدي بالضرورة إلى إمكانية غياب الإرادة الشعبية بواسطة استفتاء يُفضي إلى إقرار الدستور أو رفضه، وهل سيبقى الدستور في حال كتابته معلقًا حتى إنهاء باقي السلال الأخرى المتعلقة بتشكيل حكم غير طائفي وإجراء انتخابات حرة ونزيهة؟
ويشير د. ياسر العيتي، وهو سياسي وكاتب سوري، إلى أن المسار الصحيح للعملية السياسية هو الذي رسمه القراران الدوليان 2118 و2054، وهو يقضي أن يبدأ الانتقال السياسي بتأسيس هيئة حكم انتقالي تؤمن بيئة آمنة، يتمّ فيها وضع دستور جديد والاستفتاء عليه ثم إجراء انتخابات وفق الدستور الجديد.
ويتابع قوله بأن اللجنة الدستورية لم يَرِد لها أي ذكر في القرارات الدولية، وهي أحد مقررات مؤتمر سوتشي الذي قاطعته المعارضة السورية ممثلة بالهيئة العليا للمفاوضات، ثم وافقت على أحد مخرجاته وهو أن اللجنة الدستورية أقدمت في سابقة لا مثيل لها في العمل السياسي على مقاطعة مؤتمر ثم الموافقة على مخرجاته.
وأشار العيتي في سياق كلامه إلى تصريح المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتييف في ديسمبر/ كانون الأول 2021، حيث قال: “كتابة وإعداد دستور جديد ينبغي ألا يهدفان إلى تغيير السلطة في دمشق”، وأوضح أن حكومة النظام السوري “راضية عن الدستور الحالي، ولا ترى ضرورة لإحداث أي تغيير فيه، وإذا سعى طرف ما وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات الرئيس وبالتالي محاولة تغيير السلطة في دمشق، فإن ذلك الطريق لن يؤدي إلى شيء”.
ثورات تجدِّد نفسها
لم يعد يخفى على عين المراقب أو الناشط في الواقع السوري بؤس حالة الأجسام السياسية التي ما زالت متمسكة بخيارها وأدواتها التقليدية وآلية عملها الداخلية التي لم تُجدِ نفعًا، بل أضرّت القضية السورية بتمييع المطالب، وحالة الفراغ المملوء بالفساد والمحسوبيات واللاجدوى بين الحراك الشعبي والأجسام السياسية، إذ أصبحت محاولة “الممارسة السياسية” وصمة عار، ومسمّى “سياسي” مقترنًا بالسذاجة والمراوغة، ما عزّز سعي الأنظمة الديكتاتورية في شيطنة العمل السياسي وتشكيل القيود النفسية في المشاركة في أية عملية سياسية.
واعتبر د. العيتي أن الممارسة السياسية تكمن أهميتها بأن يكون للسوريين صوت يمكن إيصاله إلى العالم، وهي ضرورة وليست ترفًا، وطالما المعارضة الرسمية ممثلة بالائتلاف والهيئة العليا للتفاوض لا تعبِّر عن صوت السوريين بمقدار ما تراعي مصالح الدول الراعية لها، لا بدَّ من أن يفكّر السوريون الأحرار بتشكيل كيانات سياسية تعبِّر عن صوتهم، وتضغط على المعارضة الرسمية لتصحِّح المسار أو تشكّل بديلًا عنها.
وختامًا، للقضايا والثورات أيادٍ لن تستطيع النهوض إلا بها، فالعمل السياسي يعطي زخمًا دوليًّا للحراك الشعبي، والعمل العسكري يعطي العمل السياسي أوراق ضغطٍ في مساراته، وأيّ خلل في العلاقات تلك تؤدي إلى أن يُصبح الصوت دون صدى، والمفاوضات مهزلة مستمرة، والثورات الحقيقة هي التي تؤهّل أبناءها وتصنع النخب ولا تستقدمهم من التاريخ.