تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً، بعض المقاطع المصورة لإحدى المنتسبات للثورة السورية وهي تفضح ممارسات الثوريين الأخلاقية السيئة.
قبل ذلك، ضجّت وسائل الإعلام بأخبار مخرجٍ هاوٍ حاول استمالة عواطف المجتمع بادعاء تعرّضه لمحاولة قتل..(زعم الشاب أن ميليشيا الأسد قامت بمحاولة اغتياله بعد أن علمت بنيته إنتاج فيلم وثائقي قيمته خمسة ملايين دولار عن سجون الأسد وممارساته).. نجح الأمر في البداية وتم إطلاق حملة تبرعات لتمويل الفيلم. لكن بعض الخلافات بين المخرج وشركائه، بالإضافة إلى سوء إعداد وإخراج “فيلم” محاولة الاغتيال، أدى إلى فشل الخطة بعد حين، فلم ينل ذلك المسكين من تمثيليته إلا آلام الطعنة السطحية المُلفّقه في صدره. بينما تبخرت أحلامه وأحلام زوجته وشركائه بجمع ملايين الدولارات عن طريق المتاجرة بالثورة.
ما سبق، بالإضافة إلى روايات الكثيرين عن التجاوزات الأخلاقية والمالية، والمبدئية أحياناً، لبعض الثوار، مثّل صدمةً لمجتمع الثورة وسبقاً صحفياً لمجتمع الموالاة.
تحاول المنابر الإعلامية المناوئة للثورات إلصاق معاني بغيضه للثوري. فهو متآمر، فاشل، يعاني من عقدة نقص. كما أنه شبق جنسياً، عديم الذمة المالية.
أما مجتمعات الثورة فهي على العكس مما سبق، تلصق جميع المثاليات بالثوري المتحمس العطوف الخلوق الكريم، والشجاع الذي يحمل روح المحارب ويضحي بنفسه رخيصةً في سبيل مُثُله العليا وقيمه الإنسانية.
الصور النمطية السابقة وصلت ببعض الباحثين إلى محاولة استخراج متلازمة تميز أشكال الثوار، فرأى بعضهم أنهم من ذوي الشعر الداكن! ورأى آخرون أن لديهم مؤشرات خاصةً في رؤوسهم. فهل من الصحيح تصوير الثوري بصفته نوعاً؟.
فتّش “كرين برينتن” مطوّلاً عن عوامل مشتركة لنشوء الثورات أو للمشاركين بها، لكنه اعترف بفشله قائلاً: “لايبدو من الحكمة إجمالاً إبراز نوع واحد بصفته الثوري الكامل. سنجد تنوعاً واسعاً جداً، فمنهم الحمقى والصعاليك والمثاليين والثوريين المحترفين والجبناء والأبطال”[1].
يقود الثوريون الأوائل الحراك الشعبي بمثلهم العليا، وشعورهم أن ثمّة شيئا في كل الناس أفضل من قدرهم الحالي، ويشترك معهم في حراكهم الكثير من مواطنيهم الذين يشعرون بالخلل والمرض، ويرغبون بالشفاء منه، ومن الخطأ تصور الثوار وكأنهم الأصحاء في مجتمع مريض.
في سوريا -وهي مطلب دراستنا- كان للاستبداد والطغيان الذي مازال قائماً منذ نصف قرن، دور كبير في انهيار القيم الأخلاقية والمجتمعية، فبعد أن سقطت الدولة بيد العائلة وحاشيتها، أصبح للفساد قوانين تحميه، واختُزل الوطن في شخص القائد الخالد، وأصبح الأمن أخاً أكبر يراقب الجميع ويرعاهم ويُرعبهم، فانتشر النفاق، والكذب. وأصبح للولاء القيمة الأولى، التي تغفر ما دونها كالرشوة والسرقة. وبدا أن إفساد المجتمع والقضاء على قيمه، جزء من استراتيجية العائلة للتغلب على أعدائها المواطنين.
في آذار 2011 نادى الثوّار بالتغيير، وهي فضيلة تحسب لهم، إلا أن تلك النخبة الأولى ومن تبعها وآمن بدعواها لم يكونوا طفرةً غريبةً مبرّأة مما أصاب المجتمع على مدى نصف قرن. ومطالبة الثوار بجميع الفضائل تحميلٌ لهم بأكثر من طاقتهم. كما أن تناول الثورة بالاتهام عند انحراف بعض أفرادها، ارتكاس خطير، فالثورة كما يفسرها المفكر “عزمي بشاره”: “هي انتفاضة المظلومين ضد نظام الظلم، وليست صراعاً بين الأخيار والأشرار، ومن يصنف طرفيها بهذا الشكل يرتكب عدة أخطاء قد تتحول إلى خطايا”[2].
ستجد حتماً من ركب سفينة الثورة طمعاً في مكاسبها، كما سيكون هناك الفاشلون الذين حلموا ببداية جديدة، ولن يستطيع الكثيرون أن يغيروا طبائعهم بقرار.
التغيير يبدأ أولاً من العقول، ويبدو أن الأمر يحتاج لبعض الصبر كيما تتغير العادات. ولكن في النهاية، تبدو النتائج واعدة وفق قراءة “برينتن” نفسه، فالثورة “تُحدث إضافات هائلة وثمينة إلى فروع القانون واللاهوت والميتافيزيقيا وكذلك إلى علم الأخلاق”[3].
وبعد..
رفع شعب صقلّيه “ديونيسيوس” حين أنقذ عاصمتهم من الاحتلال، وقدّسوه، وجعلوه قائداً وملكاً، ثم ملكاً مطلقاً. فطغى وتجاوز، واستبد وظلم. حتى كأن الناس بعد معركتهم، لم يهزموا عدوّهم بقدر ما كسبوا عبوديتهم.
نحترم الثوار الذين شعروا بوطأة الظلم ولم يرضوا لأنفسهم اتباعه والخضوع له. ولكن أول درس يجب أن تتعلمه من ثوره، تقويض تقديس الرجال.
لن نتوانى عن نقد ثائر وادانته حين نشخّص أخطاءه، ولن نجعل الثوار قديسين. كما أننا لن نكف عن فضيلة الانحياز للمظلومين وثورتهم.