“الثورة كونت شخصيتي”.. دردشة مع أطفال سوريا الذين كبروا 11 عامًا

نوفمبر 9, 2022

دنيا محمد

مقالات

مقال عن أطفال الثورة في ظل ثورتهم، للكاتبة دنيا محمد

ربما كانت شمس حوران تغمر أولئك الصغار دفئًا وهم في شوارع درعا يلعبون بينما خطرت لأحدهم الفكرة، ربما خططوا لذلك عندما سمعوا همسات الكبار التي تدارى عن “آذان الجدران”.. لا أحد يعرف كيف خطّوا تلك العبارة بأصابعهم الغضة على الجدران نفسها، لكن السوريين كلهم يعرفون أن بخاخًا وأربع كلمات كان فيهم من الشجاعة ما يكفي لتهز عناصر أمن النظام الذين اعتقلوا “أطفال درعا”، وكان فيهم من الثورية ما يكفي لتُلهم مدينةً.. فمدنًا.. فوطنًا كاملًا.

هل وعى أطفال درعا أنهم سيكونون الجذوة التي ستنشر نار الغضب في هشيم الظلم؟ وماذا عن أطفال سوريا الذين كبروا مع الثورة التي مر على اندلاعها 11 عامًا؟ كيف شكلت تلك الأحداث وعيهم؟ كيف يبدو واقعهم اليوم؟ وما هي تطلعاتهم؟ وكيف يرون العالم بعيون ما جرى؟!

“الثورة كونت شخصيتي بطريقة مميزة”

“كان عمري بالضبط ثمانية سنوات وأربعة شهور عندما انطلقت الثورة”، يقول م. ساردًا حكايته، مضيفًا “بالنسبة لي ورغم سني الصغير وقتذاك فقد كانت مبررات الثورة ودوافعها واضحة، لقد حرص أهلي على توعيتي بأهمية وضرورة حدوث شيء كهذا، وأن هذا البلد لا بد لإصلاحه من ثورة، لكنني لا أظن أن ذلك كان واضحًا بالضرورة لكل أبناء جيلي، وربما تكوّن وعيهم فيما بعد خلال سنين الحرب”.

يكمل: “في ذلك السن كان أعظم أحلامي أن أكبر وأصبح مهندسًا، ولم يقلل ما جرى من إصراري على هذا الحلم، فأنا أسير اليوم على طريقه إن شاء الله، لكن الأحداث بشكل عام كونت شخصيتي وطموحاتي بطريقة مميزة كما أظن، فقد بنت شخصيةً أقوى قادرةً على تحمل الظروف القاهرة، ولديها أهداف كبرى تزداد إصرارًا على تحقيقها كلما تطلعت لحياة أفضل.. خارج حدود هذه الزنزانة التي نعيش فيها”.

يتحدث هذا الشاب الصغير عن حاضره فيقول: “حاضري سيئ، مفتقر لأساسيات وركائز الحياة كريمة، مع انعدام إمكانية تأمينها في القريب، الحاضر الذي أعيشه اليوم وكوني “شابًا سوريًا” حتّم عليّ مضاعفة العمل على تطوير نفسي أضعاف أضعاف أي شاب آخر، لتأمين حياة طبيعية في المستقبل، وكثيرًا ما أفكر أنني ولا بد سأربي أولادي المستقبليين بعيدًا عن هنا، بعيدًا عن هذا المكان الذي لا يقدر قيمة الإنسان بأي شكل”.

“تطلعاتي المستقبلية تتلخص في أن أبني أسرةً بسيطةً هادئةً ومسالمةً، أن يجمعني مع الأشخاص الذين أحبهم بلد يحترمنا، تطلعاتي المهنية أيضًا عالية، ولدي طموح لإطلاق مشروع مستقل يوثق ما جرى في سوريا، دون تمويل أي جهة تريد فرض رأيها، سيكون مشروعًا يعرض الحقائق فقط، لأن هذا ما أومن به”.

ثم بنظرة للوراء يستقصي م. ما مرّ به ويقول: “خسارتي الكبرى هي فقدان والدي، فُقد عام 2014 بسبب الأوضاع الأمنية المتردية وخلال تنقله داخل سوريا للعمل، مر على ذلك وقت طويل، حاولت أن أتعايش مع الموضوع وقتها وحاولت أن أتحمل المسؤولية ولو معنويًا رغم كوني صغيرًا، وما زالت محاولاتي مستمرة.. تكبر كلما مرت السنين وكبرت أكثر، فقدان والدي أمر صعب للغاية وترك آثارًا عميقةً، لكن الحياة تستمر، وقد عوضني اللّٰه بأشخاص عظيمين كانوا السند لي في الأوقات الصعبة والمظلمة، وكان لدعمهم الفضل الأكبر بتجاوزي خساراتي وتعايشي مع واقعي.. تجتمع كل هذه العوامل مع بعضها لأكون الشخص الذي أنا عليه الآن”.

“اليوتوبيا انزاحت عن عيوني”

يقول أديب – شاب حمصي يقيم حاليًّا في مدينة إسطنبول -: “بدأت الثورة وأنا في عمر صغير جدًا، كنت في الـ13 من عمري، في البداية كانت الثورة بالنسبة لي دون معالم واضحة، لم يكن لدي أدنى فكرة عما يحصل في الشارع، وكنت فقط أتحمس لبعض الهتافات”، ثم يكمل: “بعد مرور ثلاثة أسابيع تقريبًا شاهدت مشهدًا لم أره قط في حياتي! مشهد اعتقال أحد المتظاهرين أمام عيوني، كانوا ينهالون عليه بالضرب بشكل عدواني همجي لم أستطع ترجمته داخل رأسي، وصارت الأسئلة تجرّ الأخرى، ودماغ الطفل الذي كنته يكاد ينفجر من هول ما رأى، ناداني والدي حينها وأجلسني بجانبه وسألني: عرفت هلأ ليش اعتُقلت أنا؟”.

يشرح أديب: “كنت أعرف أنه سبق واعتُقل لمدة 15 عامًا، لكنني كنت ممنوعًا من السؤال عن التهمة التي لطالما أثارت فضولي، أجبت والدي حينها “ليش؟ طلعت مظاهرات؟” وفي تلك اللحظة أدرك والدي أن اليوتوبيا التي أرى العالم بها انزاحت عن عيوني، وصرت أعرف بعمر مبكر جدًا معنى أن يطالب الإنسان بحقوقه وحريته تحت ظل هذا النظام”.

يروي أديب فصلًا آخر من فصول حكايته ويقول: “3 يونيو/حزيران 2011 كانت جمعة أطفال الحرية، وكانت أول مظاهرة شاركت بها، أوصاني والدي توصيات صارمة تتمحور بجلها حول الاعتقال! تخيلوا أن والدي كان يفضل أن أتلقى رصاصة على أن أُعتقل، كنت سأكون (حمزة الخطيب) آخر، فقد كان في مثل عمري تقريبًا وهذا لم يردع النظام عن اعتقاله وتعذيبه أشد العذاب، وتوالت مشاركتي في المظاهرات بعدها، وكان آخرها في شهر مايو/أيار 2012 في حي الإنشاءات”.

أما بخصوص أثر ما جرى في حياته الشخصية يقول أديب: “في الصف الثامن تعطلت عن دراستي سنةً كاملةً بسبب القصف الذي طال حمص كلها، وكان هذا الصف أساسًا علميًا لما يليه من الصفوف. تسبب ذلك بفقداني الكثير من المعلومات التي عانيت لتحصيلها في السنوات التالية، ثم شققت طريقي بشقّ الأنفس بعد خروجنا من سوريا مضطرين كسائر الأسر السورية، ودوننا الموت أو الاعتقال، وها أنا بحمد الله أتخرج في الهندسة الطبية الحيوية بتركيا، وأحصد ثمار الجهود التي بذلتها في تعلم اللغة التركية وغيرها من المشقات التي تعترض الطالب الأجنبي خارج بلاده، كما أنني احترفت التصوير الفوتوغرافي حتى أصبح جزءًا مني.

من ناحية العمل والدراسة أموري جيدة بحمد الله، لكن بالنظر لأقراني من الجنسيات الأخرى فأنا أفتقر إلى الاستقرار في موطني الأصلي، أفتقر إلى الذكريات مع العائلة في منزل واحد، فقد تشتت وتنقلت بين البيوت والمدن حتى أصبحت لا أنتمي للأرض التي أنا فيها ولا للمنزل الذي أعيش فيه”.

يكمل أديب متحدثًا عن سير أحلامه وتكوين وعيه وتطلعاته: “لقد بدأت الثورة في سن لم أكن قد بنيت فيه أحلامي بعد، وحينما بلغت سن اليفع لم يكن في أحلامي إلا أن يسقط النظام، لم أكن أتخيل يومًا أن تُباد بلدات عن بكرة أبيها وتهدم أحياء بأكملها، وأن حلم الحرية وسقوط النظام سيرافقني إلى سن الشباب”.

“لا أستطيع القول إنه كان لديّ خسائر، فكلما ظننت أنها خسارةً تبيّن لي أنني ربحت بحمد الله. لقد كانت الثورة نعمةً أنعمها الله عليّ، توسّعت مداركي وآفاقي كثيرًا بعدها، ولا أتخيل نفسي أبدًا شخصًا يعيش بلا هدف، بلا طموح، بلا فكر، بلا وعي! هذا أثرها الأساسي علي وعلى أكثر من خرج في هذه الثورة المباركة، أنظر حقًا اليوم لنفسي وأقول: لن يكون أديب هو أديب الآن لولا أن الثورة قامت وخرج من بيته وبلده وسبر الطريق تلو الطريق، وتعلم ورأى وفُتّحت له أبواب وآفاق جديدة نحو هذا العالم”.

“بعد 11 عامًا من الثورة اتضح لي أن هذا العالم مليء بالكذب والقذارة، لقد عايشنا الحرب ومجرياتها ورأينا مواقف الدول من ثورتنا، وكيف أنهم حاولوا إخمادها وتلويثها بشتى الوسائل وهي منهم براء، لم أعد أستطيع تصديق إنسانيتهم الكاذبة، وصار العالم بأحداثه الكبيرة أكثر وضوحًا لي ولأقراني الذين عايشوا ما حصل. أصبحنا نعرف أعداءنا عن كثب، وصارت الشعارات الكاذبة وما يُطهى تحت الطاولة مكشوفًا لنا، وبهذا أصبح جميع من خرج من رحم الثورة على دراية تامة وإيمان تام بأن هذا العالم أسوأ مما كنا نتوقع، المهم أن تبقى الثورة في دواخلنا وأن نسعى دومًا لنصرتها بكل الوسائل الممكنة، وأن نقول إن هذا النظام ظالم، وهذه البلاد بلادنا وسنرجع يومًا إليها كرماء، وهم سيخرجون منها أذلةً بإذن الله”.

“واقع مظلم ومستقبل ضبابي مجهول”

“الحالات الأصعب من التي تعاملت معها هم أولئك الأطفال واليافعون الذين كونوا فكرةً سلبيةً تجاه هذا البلد بسبب الحرب، وصار من الصعب التفاهم معهم عن دورهم تجاه المجتمع السوري وثورته المحقة”، هكذا يقول ع – مدرب في مجال الدعم النفسي والمجتمعي للأطفال واليافعين – ويكمل: “تتدرج صعوبة التعامل مع الحالات حسب درجة المعاناة التي تعرضوا لها، فمن عاشوا الحصار مثلًا ليسوا كمن نزحوا، ومن عانوا الفقر بالأساس قبل الثورة ليس كمن تضرروا ماديًا فيما بعد جراء حرب الأسد”.

ويتحدث أكثر عن خصوصية بعض الحالات فيقول: “بعد فك الحصار عن أحد أحياء مدينتي، كان لدى اليافعين من سكان هذا الحي مشاكل تتعلق بالتأخر الدراسي، لكن الأسوأ كان تأذي نموهم النفسي السوي، كان من الصعب التحدث إليهم والتفاهم معهم، حتى إن بعضهم انهار باكيًا وبدا مدمرًا تمامًا”.

لكن رغم مآسي الحرب الدائرة، هل ساهمت الثورة في رفع وعيهم وأثرت إيجابيًا في عملية نضجهم؟ يجيب ع عن هذا السؤال فيقول: “نعم.. لقد نضج مبكرًا ذلك الجانب المتعلق بفهم الأطفال واليافعين السوريين للواقع ونظرته للحياة، فنشأتهم خلال سنوات الثورة، ومعاناتهم من الحرب التي شُنت لقمعها، وكل تلك الظروف غير المستقرة أو المثالية، لا ننكر أنها صقلت جوانب في شخصياتهم، لأن من ينضج على المعاناة – بكل ما في ذلك من أسى وصعوبة – يكون أسبق من غيره بفهم الحياة.. أطفال سوريا ويافعوها اليوم تفتحوا على مبادئ وثوابت لم ندركها نحن عندما كنا في أعمارهم. حاولنا بدورنا في السنوات الأولى من خلال الجمعيات والمنظمات الأهلية بأنشطتها التطوعية أن نستفيد من هذه الحالة إيجابًا، لنحفز عندهم روح المبادرة ونوظفها بقالب إصلاحي سيساهم ببناء سوريا المستقبلية”.

يكمل ع “أكثر ما يؤسفني اليوم أن المدارس متهالكة، ومؤسسات النظام تهدم ما حاولت الجمعيات الأهلية بناءه في نفوس الأطفال اليافعين ولم تعد تسمح بتوفير حاضنات لهم، المشكلة لم تعد محصورة بنتائج الحرب، بل بوضع عام يُرثى له علقت به البلاد، وواقع يزداد قتامةً يومًا بعد يوم، فالأهل والمربون والمدرسون مثلًا وبسبب ظروف البلد الصعبة انشغلوا نفسيًا وذهنيًا عن رعاية هذه الفئة وتربيتها وإيجاد حلول لمشكلاتها وتحسين بيئاتها”.

رغم كل هذا، الظروف معيقة ومؤخرة، هذا صحيح، الواقع صعب جدًا بسبب الحرب وندرة البيئات المجتمعية التنموية، نعم صحيح، المستقبل ضبابي ومجهول، هذا صحيح أيضًا، إلا أن شيئًا من هذا لن يمنع الأطفال واليافعين السوريين بالمطلق من الوصول لطموحاتهم، هذا يقيني.

أطفال سوريا يدفعون فاتورة حرب الأسد

تقول تقارير المنظمات الدولية إن الأطفال دفعوا الثمن الأغلى جراء الحرب التي شنها نظام الأسد على السوريين، ففي أحدث تقاريرها توثق منظمة اليونسيف مقتل وإصابة نحو 13 ألف طفل بعد مرور أكثر من عقد على بداية الثورة، أي بمعدل أكثر من 3 أطفال يوميًا.

يتحدث التقرير أيضًا عن واحدة من أسوأ الأزمات التي خلفتها حرب الأسد، ألا وهي أزمة التعليم التي وصفها التقرير بالأكبر في التاريخ الحديث، إذ بحلول مارس/آذار 2022، بلغ عدد الأطفال واليافعين المتخلفين عن الدراسة أكثر من 3 ملايين، فالمرافق التعليمية مستنزفة ولا يمكن استخدام العديد منها لأنها دمرت أو تضررت أو آوت أسرًا نازحة، أو تستخدم لأغراض عسكرية، يؤيد ذلك تقرير صادر عن هيومان رايتس ووتش، ذُكر فيه أن ثلاثًا من أصل كل عشر مدارس إما مدمرة وإما غير صالحة للاستخدام، ما يجعل التعليم واحدًا من أكبر التحديات التي تواجه الأطفال واليافعين السوريين.

في السياق ذاته، لا يمكن تجاوز الحديث عن الندوب النفسية للحرب، فقد ورد في تقرير أعدته اليونسيف كذلك العام الماضي، تضاعف عدد الأطفال واليافعين الذين ظهرت عليهم أعراض الضيق النفسي والاجتماعي، إثر التعرض المستمر للعنف والخوف الشديد والصدمات، ما سيكون له تأثير كبير على صحتهم النفسية على الأمد القصير والبعيد.

ينوه التقرير ذاته أن 90% من الأطفال السوريين الذين نجوا يحتاجون للدعم على عدة أصعدة، نتيجة مشاكل لا يمكن التهاون بها، كمشكلة انعدام الأمن الغذائي الذي سبب سوء تغذية مزمنة، ترتب عليها معاناة أكثر من نصف مليون طفل دون الخامسة من التقزم.

بينما تحدث تقرير سابق للمنظمة ذاتها عن القصور في رعاية الأطفال واليافعين صحيًا بشكل عام، موضحًا أنه وبعيدًا عن القنابل والرصاص والتفجيرات، يموت الكثير منهم بصمت نتيجة أمراض كان من الممكن تجنبها بسهولة، ومشددًا على كونه من غير المقبول أن يبقى الحصول على الرعاية الصحية والإمدادات المنقذة للحياة والخدمات الأساسية أمرًا في غاية الصعوبة بالنسبة للأطفال واليافعين.

يُذكر أيضًا وحسب إحصائية للمرصد السوري لحقوق الإنسان صدرت في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، أن ما يقارب 5 ملايين طفل داخل سوريا ولدوا خلال الحرب التي شنها النظام، وهؤلاء الملايين لا يعرفون شيئًا إلا الموت والنزوح والدمار، ويتعرضون في مناطق النزاع للعنف والأذى والاختطاف والعمل القسري والاستغلال الجنسي، كما أن الأطفال السوريين يشكلون السواد الأعظم من الأطفال اللاجئين بين جميع دول العالم.

مع كل ما روي، يبدو المشهد وكأن التعذيب الذي تعرض له أطفال درعا على يد نظام الأسد، امتد ليشمل أطفال سوريا كلهم على مدار 11 عامًا من حربه لقمع الثورة السورية، ثورة ساهم الأطفال باندلاعها، وكان أبرز دوافعها تأمين مستقبل أفضل لهم، ثورة تركت بصمتها في نفوسهم، وكونت رؤاهم، ليكبروا معها وبها.

المصـــدر

المزيد
من المقالات