عنوان المادة الأصلي باللغة الإنكليزية: | The Virtual Surgeons of Syria |
اسم الكاتب | AVI ASHER SCHAPIRO آفي آشر سكابيرو |
مصدر المادة الأصلي | The Atlantic |
رابط المادة | http://www.theatlantic.com/international/archive/2016/08/syria-madaya-doctors-whatsapp-facebook-surgery-assad/496958/ |
تاريخ النشر | 24/ 8/ 2016 |
المترجم | مروان زكريا |
يساعد فريق من الأطباء عبر العالم، الشخصَيْن الوحيدَيْن المتبقيَّيْن من العاملين في المهن الطبية، في إحدى البلدات السورية المحاصرة عن طريق الهاتف النقال.
في وقت سابق من هذا العام، كان جراح عظام أميركي سوريّ يتسوق مع اثنين من الأطفال الصغار في وول مارت في غراند رابيدز بميشيغان، عندما سمع رنّة مألوفة كإخطار من الواتس أب، خدمة الرسائل المشفرة تقول: “أصيب شخص في سن المراهقة بطلقة في ساقه واخترقت الرصاصة عظم الساق مباشرة، وثقب العظمُ المكسور جلدَه مثل الرمح” ومع أن اليوم كان يوم عطلة الجراح، إلا أنه استقبل الرسالة كخبير في عمليات جراحة العظام المعقدة، كان ذلك هو مجال تخصصه.
لكن لم تكن هذه حالة عادية. كان مريضه على بعد 6000 ميل ينتظر الرعاية في عيادة طبية مؤقتة في مضايا، البلدة السورية التي تبعد نحو 28 ميلًا (45 كيلو مترًا) عن العاصمة دمشق. لم تكن العيادة تبعد أكثر من 45 دقيقة في السيارة عن مستشفى في دمشق، ولكنها قد تكون كذلك في الجانب الآخر من العالم. كانت مضايا تحت سيطرة الجماعة الإسلامية المسماة أحرار الشام، ويحاصرها منذ تموز/ يوليو الفائت حزب الله الذي يقاتل إلى جانب النظام السوري. ولم يكن حزب الله يسمح بدخول أو خروج أيّ شيء من مضايا. ويقول السكان المحليون: إن مسلحين من حزب الله هم الذين أطلقوا الرصاص على ساق الشاب.
كان في عيادة مضايا ذلك اليوم شخصان: شاب في الخامسة والعشرين من العمر، كان طالبًا في السنة الأولى بكلية طب الأسنان، عندما اندلعت الحرب السورية عام 2011، وطبيب بيطري في أواسط الأربعينيات من عمره. بدأت الغرغرينا تنتشر في ساق المريض، وصار طالب طب الأسنان يطرح على الجراح في ميشيغان أسئلة محمومة حول ما الذي يمكن عمله. أثناء سيره نحو سيارته في مواقف وول مارت، التقط الجراح هاتفه النقال واتصل بطالب طب الأسنان مرشدًا إياه خطوة خطوة: أعط المريض الكثير من المضادات الحيوية على الفور. افرك الجرح لتنظيفه. تخلص قدر الإمكان من الأنسجة الميتة دون تهييج المريض. ثم جبّر الساق.
اعترف الجراح أثناء حديثي معه في آب/ أغسطس قائلًا: “كنت سأهمل أي اتصال آخر”، لكنه كان يعلم أنه ليس لطالب طب الأسنان مكان آخر يلجأ إليه. كان هو جراح العظام الوحيد في فريق “استشارات مضايا الطبية”، وهو مؤلف من نحو 24 طبيبًا، معظمهم من الأميركيين السوريين. وتتضمن تخصصاتهم طب الأطفال والتوليد وأمراض الرئة، يجتمعون رقميًا في غرفة محادثة عن طريق الواتس أب لدعم عيادة مضايا على مدار الساعة. وقد طلب معظم أطباء الفريق المشاركين في هذه القصة عدم تحديد هوياتهم خشية تعريض عائلاتهم في سورية للمخاطرة. كما تركتُ هوية رجائي برهان، أحد سكان مضايا الذي قدمني لعيادتها، مجهولة للأسباب نفسها.
يخضع أكثر من نصف مليون شخص من مختلف مناطق سورية اليوم للحصار، ويحيط بالأكثرية الساحقة منهم مقاتلون موالون للنظام، وبقاؤهم في قيد الحياة متعلق بمعرفة الأطباء والممرضين أو طلبة الطب الذين صدف أن وقعوا معهم في المكان المحاصر ذاته، كيفية التعامل مع حالاتهم. وفي عيادات مثل عيادة مضايا، تزداد صعوبة وجود الخبرات الطبية، وغالبًا ما يكون الطب عن بعد الوسيلة الوحيدة أمام المرضى ذوي الحالات المعقدة للحصول على شكل من أشكال الرعاية.
لقد عزل الحصار القسري المفروض على مضايا منذ عام- بوساطة سلسلة من نقاط التفتيش التابعة لحزب الله، والمدعم بحقول الألغام القاتلة- أربعين ألفًا من مواطنيها عن بقية مناطق البلاد. ولم تتلق البلدة أي قافلة من المساعدات الإنسانية منذ أيار/ مايو، ولا يسمح بالخروج منها إلا لذوي الإصابات أو الأمراض الأكثر خطرًا. وهذا النوع من الإجلاء يتطلب مفاوضات معقدة مع الثوار في مناطق أخرى من سورية في عمليات تبادل البشر عالية المخاطر.
ويلقي هذا عبئًا على العاملَين الطبيين الوحيدين المتبقيين في مضايا، اللذين يعملان طوال الوقت، حيث لم تطأ قدما أحد آخر في البلدة كلية للطب، فأكثر سكان البلدة خبرة في الممارسة الطبية ممرضةٌ ذات خلفية في مجال التخدير، تمكنت من الهرب بعد تلقيها تهديدًا بالقتل في الربيع الفائت. ولكن حتى الحصار الخانق لا يمكنه طرد شبكة الإنترنت التي تنفذ إلى البلدة بفضل مجموعة من أبراج الهاتف الخليوي القريبة التي تديرها شبكة الهاتف العملاقة سيريتل، التي يملكها رامي مخلوف ابن خال الرئيس بشار الأسد. ففي شباط/ فبراير 2016 اكتشف طبيب متخصص في أمراض الرئة بولاية إنديانا، ونشأ بعيدًا عن مضايا، أن في إمكانه استخدام تلك الشبكة لتهريب النصائح الطبية عبر الحصار. وفي شتاء 2016 فرغت مخازن مضايا من المواد الغذائية. ومات العشرات من الجوع، وامتلأت العيادة بمرضى سوء التغذية. ومع ارتفاع أعداد الجثث تعاظمت المحاولات اليائسة من أجل تعزيز قدرة العيادة الصغيرة في البلدة، من قبل طبيب أمراض الرئة، عضو مجلس إدارة الجمعية الطبية الأميركية السورية، المنظمة الإنسانية التي يعمل بها أطباء أميركيون سوريون.
“كانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكنني التفكير فيها للمساعدة، هذا ما أخبرني به طبيب أمراض الرئة مؤخرًا. تنفذ جمعية الأطباء الأميركيين السوريين برنامج الطب الهاتفي في أماكن أخرى من سورية، لكن مضايا هي المنطقة المحاصرة الوحيدة الخالية من أي أطباء مدربين. وبعد هرب ممرضة التخدير، أدرك الطبيب أن العيادة تحتاج إلى مساعدة أكبر من تلك التي يمكنه تقديمها منفردًا.
في شباط/ فبراير، كتب طبيب أمراض الرئة رسالة استغاثة على صفحته على الفيسبوك (شاركني الرسالة، لكنه طلب مني عدم نشرها نظرًا لتضمنها أسماء أطباء يرغبون في بقاء أسمائهم مجهولة). طلبت الرسالة من الأطباء الذين يتحدثون العربية الاشتراك في غرفة محادثة على الواتس أب لتصبح غرفةَ مضايا للاستشارات الطبية. وما إن مضت 24 ساعة على وضع الرسالة، حتى كان أكثر من 24 طبيبًا قد انضموا إلى الغرفة. ودون انتظار اكتظاظ المجموعة، بدأ الطبيب يرفض انضمام المزيد.
“أنا قادر على مساعدة أكبر عدد ممكن من الناس، إن شاء الله”.
يتذكر طالب طب الأسنان المرة الأولى التي ساعده فيها فريق أطباء الواتس أب على تشخيص الأمراض. ففي اليوم التالي لتقديمه من جانب طبيب أمراض الرئة لأعضاء الفريق، جيء إلى العيادة بولد كان جسمه متورمًا ومشوهًا. ساعد أحد أطباء الأطفال في الفريق على تحديد مرض الطفل كنقص حاد في البروتين. اكتُشف هذا المرض للمرة الأولى خلال المجاعة التي عصفت بغرب أفريقيا عام 1935، وجاء اسمه من مصطلح غاني يصف طفلًا ليس لدى أمه حليب كاف لإرضاعه. وللتعامل مع الحالة ساعد أحد أطباء الأطفال في شيكاغو بوضع صيغة يستخدم فيها بروتين الخضار التي يمكن أن يتعود عليها الأطفال كحمية تعتمد البروتين العالي. يقول طالب طب الأسنان: “نحن ممتنون كثيرًا لهؤلاء الأطباء البعيدين جدًا والذين يتبرعون بوقتهم لمساعدتنا”.
لقد أدت سنوات الحرب السورية الخمس بالعاملين في عيادة مضايا إلى الانغماس بعيدًا، بإرغامهم على أداء إجراءات طبية خارجة تمامًا عن مجالات تدريبهم. تعاملوا مع عدد لا يحصى من ضحايا إطلاق النار، ونفذوا سبع عمليات بتر للأعضاء، وأكثر من اثنتي عشرة عملية ولادة قيصرية، وشخصوا جميع الأمراض من التهاب السحايا حتى السرطان، كما أخبروني خلال العديد من المحادثات بواسطة الفيسبوك أو الواتس أب. قال طالب طب الأسنان في أثناء محادثتنا على الفيسبوك في آب/ أغسطس: “كنت أتعلم أثناء الممارسة، وبمشيئة الله صرت قادرًا على مساعدة أكبر عدد من الأشخاص”.
لكن هناك حدودًا لما يمكن لهم عمله. في كل يوم تراقب طبيبةٌ للأمراض الباطنية، تقيم في فرجينيا، صفحةَ الفريق على الواتس أب بهاجس وصول رسائل جديدة: في الرابعة فجرًا عندما تستيقظ لإرضاع طفلتها المولودة حديثًا، أو في استراحة الغداء في عيادتها. وفي الأسابيع الأخيرة، حاولت مساعدة العاملين في عيادة مضايا لتشخيص حالة امرأة فقدت بصرها فجأة دون سابق إنذار، وتعاني من الهلوسة. لو أن مريضًا جاء إلى عيادتها بمثل هذه الأعراض لطلبت له الطبيبة على الفور تصويرًا بالرنين المغناطيسي. ولكن بما أنه لا يوجد جهاز لمثل هذا التصوير في مضايا، صارت هي وثلاثة من الأطباء الآخرين يعملون على تشخيص حالة المرأة تجريبيًا، جربوا مختلف الأدوية التي يصدف وجودها في العيادة وينتظرون معرفة مدى نفعها.
وفي تموز/ يوليو، ما إن استردت طبيبة الباطنية عافيتها بعد ولادة طفلها الثاني، حتى ساعدت عاملَي عيادة مضايا في إجراء عملية قيصرية لامرأة حامل بتوأمين. ولحسن الحظ، تمكن الطبيب البيطري من إجراء الشق بسهولة. لكنه لم يكن مستعدًا لكل الدم الذي من شأن الأم أن تفقده بعد ولادة طفلين. وهكذا شرحت طبيبة الباطنية أن المرأة في حاجة إلى نقل الدم. ونصحت طالب طب الأسنان أن ينقل لها وحدتين من الدم كل ثلاثين دقيقة، وأوضحت أن هذه الفترة بين نقل وحدات الدم مهمّة جدًا لإفساح الوقت من أجل التأكد مما إذا كان لدى الأم رد فعل تحسّسي تجاه الدم المنقول.
تبرهن الممارسة أنه لا يمكن لأي قدر من المساعدة -حتى مع حلقات دراسية مكثفة في الجراحة وتشخيص الأمراض المعقدة- أن يكون بديلًا من التدريب الرسمي.
جرى تبادل المعلومات كلها عبر رسائل نارية سريعة. ومع أن عاملي العيادة في مضايا كانا يرسلان في بعض الأحيان صورًا أو أشرطة فيديو لإجراءاتهم، فإن شبكة الإنترنت غير المنتظمة في البلدة لم تكن تسمح بإرسال أشرطة الفيديو عبر الهاتف النقال، بل كانت تتيح أحيانًا المكالمات الهاتفية فقط. في النهاية، نجحت عملية الولادة القيصرية، وعادت الأم مع مولوديها إلى البيت. ومع ذلك، برهنت الممارسة العملية على أن أي قدر من المساعدة -حتى مع حلقات دراسية مكثفة في الجراحة وتشخيص الأمراض المعقدة- لا يمكن أن يكون بديلًا من التدريب الرسمي. شرحت الطبيبة ذلك بقولها: “في بعض الأحيان، يشبه التكلمُ مع هذين الاثنين التحدثَ إلى طالب طب في السنة الأولى، إذ لا يمكنك معرفة ما الذي يعرفانه وما الجديد بالنسبة إليهما”.
وأوضحت الدكتورة سيلفيا دلاتوماسينا، مديرة العمليات الطبية في مكتب منظمة أطباء بلا حدود في سورية، أنه في كل مكان تقريبًا على مساحة البلاد “تجد الكادر الطبي فتيًا أو غير مدرب، أو خارج مجاله”، وهذه الحالة أشد حرجًا في مضايا. يقول فاليري زيبالا، المدير التنفيذي للمعهد السوري، المؤسسة غير الربحية لمراقبة الحصار-مشروع مراقبة المجتمعات المحاصرة في سورية-: “لا توجد في مضايا عيادة ثانية لتعيد المرضى إليها. ولا تستطيع إحضار طبيب من المناطق المجاورة، وليس هناك مكان آخر يلجأ إليه المرضى. فإما هذه العيادة أو لا شيء”.
في جميع الأوقات، يشبه الفريق قاعة الدرس. ففي كل يوم تناقش المحادثات بين أطباء الفريق وعاملَي عيادة مضايا مزايا المضادات الحيويةَ المختلفة، أو تحليل بول أحد المرضى، أو تحاول ابتكار حلول لعملية جراحية. ومؤخرًا، قام جراح العظام في ميشيغان بتعليم طالب طب الأسنان كيفية إجراء جراحة بسيطة لليد دون تخدير عام، عن طريق قمع العصب في اليد لتخدير الإصبع المجروحة بشكل موقت. يقول الطالب: “صرنا أكثر مهنية، وأكثر دقة. كانت تجربةً أكاديمية بطريقة من الطرائق، تعلمتُ أشياء لم أكن لأعرفها من قبل بأي وسيلة”.
وقال لي الطبيب البيطري في رسالة صوتية على الواتس أب، بعد مناوبة يوم كامل في العيادة: “نشكر الله أن قيض لنا هذا الفريق، فمن دون أطبائه كانت الأسئلة ستكون لدينا أكثر من الأجوبة”.
لقد صار الرابط الرقمي مع مضايا يشكل هاجسًا لكثير من أطباء فريق الواتس أب. فطبيب أمراض الرئة وصف تكرار النظر إلى هاتفه باستمرار، حتى عندما يقود سيارته وسط الزحام، للتأكد من أن الفريق يجيب عن جميع الأسئلة المطروحة بقوله: “لا أستطيع تركهم، روحي معلقة هناك”. وقال جراح العظام أنه يتفحص غرفة المحادثة “عدة مرات في اليوم”. أما قبل فريق الواتس أب، فكان قد تعود على إغلاق التلفاز كلما عرض صورًا من الحرب السورية إذ كان يغمره الشعور بالعجز. يقول الجراح: “كنت أغلق حتى دماغي. لم أكن أرغب أن يحدثني الناس عما يجري في سورية”.
خلال السنوات الخمس الفائتة، كان الجراح على صلة بعائلته في حلب، المدينة الشمالية التي صارت في مركز النزاع السوري خلال الأشهر الأخيرة. وعندما كان ابن عمه يحدثه عن أهوال الحياة في منطقة الحرب، كل ما كان يتمكن من قوله هو “أنا آسف. أنا آسف”، شاعرًا بنفسه “مثل الحمار” حسب تعبيره. وعلى الرغم من عدم وجود صلة شخصية له بمضايا، فقد منحه فريق الواتس أب الشعور بتضامن عملي محدد مع أولئك الذين يعانون في سورية.
أما طبيبة الباطنية التي ولدت وترعرعت في دمشق، فلم تكن قادرة على العودة إلى سورية، بلدها الأصلي، أو رؤية والديها خلال خمس سنوات. وقد منحها فريق الواتس أب، كما قالت، “بوابة” للعودة إلى وطنها، وفرصة نادرة لتخفيف المعاناة. ولا تزال تحتفظ بولع لذكريات طفولتها في مضايا: كانت هي وشقيقتها قد اعتادتا قيادة سيارتهما من دمشق إلى مضايا لشراء الفواكة النادرة المهربة إلى سورية عبر الحدود اللبنانية المجاورة.
لا يكفي الطب عن بعد، بالطبع، للمحافظة على الوضع الصحي لمضايا. كثير من المحادثات بين فريق الوتس أب كانت تذهب هباءً، عندما يدرك الأطباء أن عيادة مضايا تفتقر إلى الدواء المناسب أو التجهيزات اللازمة، أو أن العاملين فيها لا يتمكنان من إجراء اللازم، في حالات مثل جراحة الدماغ أو استئصال الأورام. هنا، عند مثل هذه النقطة، يتجه الأطباء إلى الصلاة من أجل المريض، ويسود الصمت غرفة المحادثة. وعندما سألتُ عما إذا كانت حالات الموت هذه تؤدي إلى الإحباط، أجاب جراح العظام بآية من القرآن الكريم: “ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا”.