المحتويات
مقدمة
البدايات والنجاحات
الانكماش والتراجعات
النتائج والحلول
خاتمة
مقدمة
ينقلب الجيش على حاكمه في كثير من الأحيان وينحاز للشعب في أغلب الثورات التي قامت على حكام الأنظمة الشمولية في العالم، وذلك نتيجة استخدام هؤلاء الحكام للقوة المفرطة في قمع الاحتجاجات، أو يظهر جناح عسكري من المحتجين مهمته حماية هذه الثورات وهذا ما كان في الثورة الإنكليزية (1642-1660 ) والثورة الفرنسية (1789-1799) والثورة الكوبية (1953 – 1959) وفي الجزائر (1991)، وهذا ما حدث في ثورات الربيع العربي باستثناء مصر وتونس نتيجة تنحي حكامهما عن السلطة باكرًا، وانصياعهم للضغط الشعبي السلمي، أما في ليبيا واليمن فقد اتجهت الأمور نحو عسكرة الثورة وما زالت رحى تلك الثورات -التي تحولت إلى حرب طاحنة- دائرة حتى الآن بعد أن أخذت طابعًا مذهبيًا في ظاهرها وثورات مضادة في مضمونها، وهذا حال الثورة السورية التي لم تستطع إجبار بشار الأسد على الاستقالة منذ البداية، نتيجة ظروف داخلية وخارجية كثيرة لسنا في وارد ذكرها الآن، ونتيجة إصرار الأسد ونظامه على هدر دماء الشعب السوري باستخدام القوة العسكرية في قمع المتظاهرين السلميين ظهر مصطلح الجيش الحر ليشمل كل من حمل بندقية في وجه الأسد ونظامه، وفي هذه الدراسة سأتحدث عن بدايات الجيش الحر والنجاحات التي حققها على مدى ثلاث سنوات منذ بداية العمل المسلح ومن ثم سأتطرق إلى التحول الكبير في مسيرة هذا الجيش وصولًا إلى الحالة التي وصل إليها الآن وطمس معالمه الحقيقية.
البدايات والنجاحات
نتيجة إرهاب الدولة المنظم وجرائم القتل المنهجي والتنكيل المدروس الذي مورس على سكان المناطق الثائرة منذ اليوم الأول لانطلاق التظاهرات السلمية، ونتيجة إصرار الشعب الثائر على الخروج للمطالبة بحقوقه المشروعة في الحياة الكريمة، ونتيجة عدم تراجع الأسد وأجهزته الأمنية عن مخططهم في إنهاء تلك الاحتجاجات بالقوة المفرطة؛ تنادى عدد من أبناء تلك المناطق لتجميع أنفسهم في مجموعات غلب عليها الارتجال في التشكيل والعمل فشُكلت المجموعة من أبناء الحي الواحد أو العائلة الواحدة أو من مجموعة من الأصدقاء الموثوقين في ما بينهم، وكان هدفه العمل من دون خطط حماية المتظاهرين من القتل بقدر الإمكان والقيام بعمليات يمكن أن تثني النظام عن استهداف الشعب الثائر، هكذا كانت البداية في درعا والغوطة الشرقية وحمص وإدلب ودير الزور وغيرها من المناطق التي شهدت الاحتجاجات، ولم يكن للشباب الثائر الذي رأى القتل والتنكيل بأهله وجيرانه بأبشع الطرائق إلا المقاومة المسلحة حلًا، ومن هنا انطلقت هذه المجموعات في العمل وللأمانة كان يقود هذه المجموعات شباب أغلبه غير متعلم ومن أصحاب الحِرف الحرة أو من الشباب العاطل عن العمل، ونادرًا ما وجدنا قادة لهذه المجموعات من المثقفين وأصحاب الرأي، بدا ذلك فرزًا للمهمات من دون تخطيط، فالسياسيون من المثقفين وأصحاب الشهادات الجامعية انصرفوا إلى تنظيم التظاهرات وقيادتها، والمجموعات المسلحة اهتمت بحماية هذه التظاهرات وهكذا بدأت الأمور، إلى أن ظهرت الانشقاقات في صفوف جيش الأسد وكان أولها انشقاق العسكري المجند (وليد القشعمي) الذي انشق من مدينة حرستا في الغوطة الشرقية في 23 نيسان/ أبريل 2011، وتبعه انشقاق الملازم أول (عبد الرزاق طلاس) الذي انشق في 7 حزيران/ يونيو 2011، وفي 9 حزيران/ يونيو 2011 أعلن المقدم (حسين هرموش) انشقاقه عن جيش الأسد، منذ تلك اللحظة بدأت عملية تنظيم الكفاح المسلح وأعلن تشكيل حركة لواء الضباط الأحرار، إلا أن الهرموش اختفى في نهاية شهر آب/ أغسطس 2011، لتنشق بعدها مجموعة من الضباط في 31 تموز/ يوليو 2011 وتعلن تشكيل الجيش الحر الذي حدد هدفه في إسقاط نظام بشار الأسد وحماية الثورة(1)، لتتوالى الانشقاقات التي شملت كثيرًا من الضباط ذوي الرتب العالية كاللواء (محمد فارس) والعميد (مصطفى الشيخ)، لتبدأ محاولات تنظيم الجسم الوليد، فظهرت المجالس العسكرية في أغلب المناطق المحررة وكان أولها في حمص ومن ثم شُكِّلت قيادة لهذه المجالس برئاسة العميد مصطفى الشيخ وكبار الضباط المنشقين وحاول كثير من كبار الضباط المنشقين تأسيس نواة لجيش وطني، لكن مساعيهم جَمِيعهَا باءت بالفشل نتيجة عوامل عدة، أهمها حرص أصدقاء الشعب السوري -قبل أعدائه- وحرص بعض الأحزاب والحركات الإسلامية التي اخترقت قيادات الثورة على عدم تنظيم الجيش الحر وفق هيكل تنظيمي منضبط يمكن أن يقود الحراك المسلح بحرفية عالية، ولهذا أسباب منها منع انتصار الثورة إلا بقيادتهم، ومنها محاولات السيطرة على الثورة بأكملها، ليظهر من خلال هذه التحركات انقسام واضح في القيادات العسكرية للثورة بين مؤيد للمجالس العسكرية ومؤيد لقيادة الجيش الحر، وهذا أثر كثيرًا في وحدة الصفوف ومسيرة الثورة العسكرية من حيث تنظيم عملها وقيادة معاركها وبقيت كذلك حتى الآن، وفي أثناء تلك المرحلة ظهرت على السطح قيادة أخرى سميت (القيادة المشتركة) التي فشلت منذ اليوم الأول لإعلانها، وظهرت هيئة الأركان فقضت عليها الفصائل الراديكالية التي غزت الثورة وسيطرت على معظم فصائلها، وفي هذه الأثناء كانت المعارك محتدمة على أشدها في المناطق الثائرة بين قوات الأسد والميليشيات الطائفية التي جلبها من لبنان وإيران والعراق وأفغانستان وكتائب من الجيش الحر بلا قيادة مركزية إطلاقًا، تعمل بشكل منفرد أو بالتعاون مع الكتائب أو المجموعات في الجوار وفق الظروف المحيطة بها، من دون أي تخطيط استراتيجي يستطيع من خلاله الجميع التعاون في ما بينهم في كافة المناطق الثائرة، من حيث خطط إشعال الجبهات وتهدئتها، أو من حيث استلام الدعم اللوجستي والمالي وتوزيعه بما يلبي متطلبات المعركة، وبحسب تلك الاستراتيجيات التي يفترض بها أن تخدم الهدف الإستراتيجي للجيش الحر، وبهذا عملت الفصائل التي سمت نفسها جيشًا حرًا على الوصول إلى هذا الهدف، من دون وجود أي علاقة بينها وبين قيادة الجيش الحر وهذا ما لمسته شخصيًا عندما خرجت من الغوطة الشرقية والتحقت بقيادة الجيش الحر في 30 آذار/ مارس 2012، حيث لم أجد أي شيء تنظيمي يدل على مؤسسة اسمها الجيش الحر، فلا توجد أسس لأبسط متطلبات القيادة العسكرية للقيام بواجبها العملياتي وحتى التكتيكي والإداري؛ ومنها افتقاد هذه القيادة إلى فرع الذاتية أو الموارد البشرية المسؤول عادة عن الهيكل التنظيمي لهذا الجسم، ولم يكن هناك إدارة مالية أو خطة دعم لوجستي للفصائل العاملة على الأرض، ولم يوجد آنذاك أي مقر عملياتي لقيادة الأعمال القتالية للجيش الحر، ولم يكن هناك جسم إعلامي لقيادة الحرب الإعلامية التي كان تأثيرها في كثير من الحروب والثورات يفوق تأثير العمليات القتالية على الأرض، وغير ذلك كثير من المتطلبات الضرورية لضمان نجاح تلك القيادة، وللأسف استمر هذا طويلًا، حتى فرط عقد هذه القيادة وشُكلت أجسام أخرى كالقيادة المشتركة التي لم تكن أحسن حالًا من سابقتها من حيث التخطيط الإستراتيجي والعملياتي والتكتيكي ومن حيث تنظيم الوحدات والتشكيلات التابعة لتلك القيادات في هيكل تنظيمي يُسهّل قيادتها وتأمين متطلباتها، وأعتقد جازمًا أن هذا كله كان مخططًا له ونفِّذ بدقة متناهية، كل هذا الحراك انطلق من خارج سورية أما في الداخل وعلى الأرض فكان للثوار رأي آخر وتحرك نوعي باهر على الرغم من بساطة الخطط -إن وجدت- وغياب الخبرة القتالية للقادة.
أنتج الدعم اللوجستي المحدود من الخارج انتصارات باهرة حققها أبطال الفصائل العاملة على الأرض في كل المناطق الثائرة التي لم يكن لديها قيادة مركزية وحاربت بالأسلحة الخفيفة وبعض الأسلحة المتوسطة، ومع انتهاء 2013 حققت هذه الفصائل نتائج عسكرية فاقت التوقعات، إذ حُرِّر أكثر من 70% من الجغرافية السورية(2)، فحرر ريف درعا بالكامل وجزء كبير من ريف القنيطرة وريف دمشق بالكامل بما في ذلك القلمون الغربي والشرقي باستثناء المناطق المحيطة بالمستوطنات التي أنشأها حافظ الأسد لحماية حكم أسرته، وحررت معظم أحياء مدينة حمص وضواحيها، وحُرر الريف الجنوبي والشمالي ومعظم الريف الشرقي لمدينة حمص، والريف الشمالي والشرقي والجنوبي لمدينة حماة وأيضًا معظم أحياء مدينة حلب وأريافها الجنوبية والشرقية والشمالية والغربية وسقطت مدينة الرقة ريفًا ومدينةً تحت قبضة الجيش الحر، وحررت أجزاء كبيرة من أحياء مدينة دير الزور ومعظم ريفها الشمالي والغربي والشرقي والجنوبي، والجزء الشرقي والشمال الشرقي المتمثل في جبل الأكراد وجبل التركمان في ريف مدينة اللاذقية، إضافة إلى جزء من مدينة السويداء الذي سيطرت عليه فصائل رجال الكرامة بقيادة الشيخ (وحيد البلعوس)، واستطاعت هذه الفصائل دحر قوات الأسد والميليشيات الطائفية المساندة لها على الرغم من عدم امتلاكها الأسلحة والذخيرة النوعية، والإمكانات القتالية والخطط الاستراتيجية واستبدلت بهذا كله إرادة قتال لرجال نذروا أنفسهم لتحرير بلدهم ووضعوا نصب أعينهم الانتصار بأي ثمن على الطاغية الذي نكل وقتل وارتكب كثيرًا من المجازر من دون أن يرف جفن لعين المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والدول صاحبة القرار في العالم، وبدا ذلك هدفًا متفقًا عليه لكن إرادة الأحرار كانت لهم بالمرصاد واستطاعت أن تقلب المعادلة لمصلحة الثورة وأهل سورية وشعبها الثائر، وحررت معظم الأراضي السورية خصوصًا في الأرياف والضواحي، وهذا ما أرّق أصدقاء الشعب السوري قبل أعدائه ودق ناقوس الخطر في سراديبهم ليعلنوا لاحقًا تنفيذ خططهم السرية لإعادة السيطرة على الوضع وفق سيناريو سنتحدث عنه لاحقًا.
الانكماش والتراجعات
ومع انتهاء 2013 استطاع الجيش الحر فرض سيطرته عسكريًا وأمنيًا وإداريًا على كل المناطق المحررة، وكانت هذه المرحلة الذهبية للثورة السورية، إلا أن هذه الحالة لم تستمر طويلًا فسرعان ما تمكن أصحاب الفكر السلفي الجهادي -الذين أفرج عنهم الأسد من معتقلاته في بداية الثورة- من فرض سيطرتهم على جزء كبير من المشهد العسكري بعد تصفيتهم فصائل كثيرة من الجيش الحر، وعقدهم تحالفات في ما بينهم من خلال تشكيل ما سمي (الجبهة الإسلامية).
بدأت حينذاك التنظيمات التابعة لتنظيم القاعدة في الظهور مثل النصرة وداعش، وكان هدفها الأساسي محاربة الجيش الحر والقضاء عليه ولم يمضِ عام 2015 حتى سيطر تنظيم (داعش) على أكثر من نصف المناطق المحررة الممتدة من شمال مدينة حلب باتجاه الحدود التركية، ومن شرق مدينة حلب إلى الحدود العراقية مرورًا بمحافظة الرقة، وسيطر على البادية السورية بالكامل، وفي 29 حزيران/ يونيو 2014 أعلن التنظيم دولته المزعومة (دولة الخلافة الإسلامية)(3)، ولم يكن تنظيم النصرة الذي أصبح اسمه (هيئة تحرير الشام) أقل شأنًا من (داعش)، إذ قضى هذا التنظيم على أغلب فصائل الجيش الحر الموجودة في مدينة إدلب وريفها وريف اللاذقية وريف حماة الشمالي واستطاع أن يفرض نفسه محاورًا باسم الثورة السورية وشعبها، على الرغم من إدراجه على قوائم الإرهاب الأميركية، وهنا المفارقة التي تؤكد أن هذه التنظيمات إنما هي صناعة أجهزة المخابرات الدولية، أُسست في سورية لوأد الثورة السورية ومنع سقوط نظام الأسد وهذا ما ترجمته الوقائع على الأرض، في هذه الأثناء وبالتوازي مع تنفيذ مخطط التنظيمات الإرهابية بدأ الأسد وجيشه فرض حصارٍ خانقٍ على المناطق المحررة، في خطة عمد فيها إلى ترهيب سكان تلك المناطق من خلال القصف المكثف على المرافق الحيوية المدنية بخاصة مثل الأسواق والمستشفيات والنقاط الطبية والأحياء المكتظة بالسكان، ومنع دخول المواد الغذائية حتى الأساسية منها كالطحين والسكر والأرز والمعدات الطبية والأدوية؛ في خطة كان هدفها تركيع الحاضنة الشعبية للجيش الحر وفرض سياسة الأمر الواقع تمهيدًا لتطبيق خطة المصالحات مع الأسد، وقد نجح الأسد وحلفاؤه في ذلك جزئيًا في بعض مناطق دمشق وريفها مثل الغوطة الجنوبية، وكانت أول عملية مصالحة بين النظام والمناطق المحررة هي التي عُقدت مع فصائل موجودة في بلدة بيت سحم الواقعة على مشارف العاصمة بالقرب من طريق مطار دمشق الدولي، وكان مهندس هذه المصالحة أحد مشايخ دمشق المحسوب على الثورة الذي تقلد منصبًا رفيعًا في مؤسسات الثورة، تبعها مناطق أخرى مثل ببيلا ومخيم التضامن والقزاز ومعضمية الشام وجديدة الفضل والنبك ودير عطية والضمير وجيرود وفي حمص حي الوعر وحمص القديمة، وحماة المدينة التي جرى الاتفاق بين الأسد وأحد التنظيمات الإسلامية النافذة في المعارضة على عدم الاقتراب منها وقصفها وبقاء أهلها في منازلهم مقابل التعاون في قضايا أخرى منها المشاركة في مؤتمرات آستانا وسوتشي، حدثت أغلب هذه المصالحات والترتيبات نتيجة تدخل بعض مشايخ دمشق وتجارها ومباركتهم بحجة حقن الدماء، وللأسف ظهر مؤخرًا أن هذه الحجة استخدمت لوضع المسمار الأول في تركيع المناطق المحررة، إلا أن الجزء الأكبر من تلك المناطق رفض المصالحات وصمد في وجه الحصار وآلة القتل والتجويع الأسدية، على الرغم من وجود الميليشيات الإيرانية الطائفية التي منعت سقوط الأسد وجيشه منذ السنين الأولى للثورة، واستمرت الأمور على ما هي عليه حتى دخول القوى الجوية الروسية في نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، حين بدأت القتال إلى جانب الأسد وجيشه المتهالك، لكن ضعفها ظهر جليًا منذ أول معركة خاضتها في منطقة (كفرنبودة) في الريف الشمالي الغربي لمحافظة حماة إذ لم تستطيع القوى الجوية الروسية -على الرغم من استخدامها أحدث الطائرات والحوامات القتالية والذخائر النوعية- تحقيق أي تقدم يذكر طوال ثلاثين يومًا من القصف المركز والقتال الشرس، وانكفأ الروس لتكرار المحاولة وتحقيق شيء يحفظ ماء وجههم في مناطق أخرى لكنهم فشلوا مجددًا، وهنا بدأت تتجه روسيا نحو استراتيجية قصف المدن بمن فيها للتأثير في الحاضنة الشعبية للثورة لكنها فشلت في ذلك أيضًا، وهنا بدأ العمل الاستخباراتي يأخذ طريقه في تفكيك شيفرة الفصائل واستطاعت روسيا وحلفاؤها من الدول العربية والإقليمية التأثير في قادة بعض الفصائل، فاشترت ذمم كثيرين، منهم وضمنت الباقي بقرار سياسي من قيادة التنظيم الإسلامي المهيمن على مؤسسات الثورة وينتمون إليه، رتِّب لعقد مؤتمر آستانا -سيء الذكر- حيث عقدت أول جولة من هذا المؤتمر في 23 و24 كانون الثاني/ يناير 2017(4)، وأُعلن منذ ذلك الوقت أنه مسار عسكري داعم لمسار مؤتمر جنيف، إلا أن مجريات الأحداث التي رافقت المؤتمر منذ عقد الجولة الأولى له وحتى الجولة الخامسة عشرة لم تأتِ بنتائج إيجابية للثورة السورية، بل على العكس جرى البدء في تسليم المناطق المحررة تباعًا على الرغم من الإعلان في نهاية كل جولة من جولات آستانا عن تثبيت وقف إطلاق النار، لكن القوات الروسية وجيش الأسد لم يتقيد بهذه القرارات مرة واحد ، ومن خلال قرارات الجولة الرابعة من مؤتمر آستانا المنعقدة في 4 أيار/ مايو 2017 أصبحت المناطق المحررة مقسمة إلى أربع مناطق سميت مناطق خفض التصعيد، وأظن أن هذا المصطلح لم يدرج يومًا في قاموس المصطلحات العسكرية أو السياسية، وكانت مقسمة كما يأتي:
* محافظة إدلب وأجزاء معينة من المحافظات المجاورة (اللاذقية، حماة، وحلب).
* مناطق معينة من شمال محافظة حمص.
* الغوطة الشرقية.
* مناطق معيّنة من جنوب سورية (محافظتي درعا والقنيطرة)(5).
ومن هنا بدأ مسلسل انهيار المناطق المحررة وتسليمها ابتداء من الريف الشمالي لمدينة حمص ومن ثم الغوطة الشرقية وتبعها تسليم مناطق درعا والقنيطرة، ورُحِّل المقاتلون والأهالي الذين لم يقبلوا بمصالحة الأسد إلى الشمال السوري ووزِّع أغلبهم في مناطق شرق الفرات وقليل منهم في محافظة إدلب وما حولها، لكن سرعان ما سُلم الريف الشمالي لمدينة حماة والريف الجنوبي لمدينة إدلب وصولًا إلى شمال الطريق الدولي (M4)، وجاء هذا كله نتيجة مقررات جولات آستانا، وبهذا السيناريو حُصر ما تبقى من الفصائل المحسوبة على الثورة في جزء من إدلب تسيطر عليه هيئة تحرير الشام (النصرة)، والجزء الآخر شرق الفرات يسيطر عليه ما يسمى (جيشًا وطنيًا) شُكل على أنقاض الجيش الحر، واستُخدم لمصالح ضيقة حزبية وإقليمية ليس لها أي علاقة بأهداف الثورة والمبادئ التي أُسس عليها الجيش الحر، فأبعد الضباط ذوو الكفاءة العالية واستبدلت بهم مجموعة من قادة الفصائل التي لا تعرف ألف باء العلوم العسكرية أو الأمنية، وهذا أدى إلى كثير من الكوارث العسكرية والأمنية التي عصفت بأهلنا في تلك المناطق، فضلًا عن التسلط والإرهاب الذي تمارسه بعض الفصائل تارة بحجة الإسلام وتارة أخرى بحجة الفساد.
النتائج والحلول
من خلال مسيرة الجيش الحر منذ البدايات وحتى الآن يمكن أن نلخص المراحل التي مر بها:
المرحلة الأولى: ويمكن أن نطلق عليها المرحلة الذهبية، بدأت منذ اللحظة الأولى لتشكيل أول مجموعة مسلحة وحتى مرحلة بدء تطبيق الحصار على المناطق المحررة.
المرحلة الثانية: يمكن أن نطلق عليها مرحلة تحول فصائل الجيش الحر من الفكر الوطني إلى الفكر الإسلامي من خلال الصراع البيني بين تلك الفصائل، وسيطرة الفصائل الراديكالية على المشهد العام للحراك المسلح.
المرحلة الثالثة: مرحلة صهر الجيش الحر وأدلجة الفصائل وحرفها عن هدفها الوطني الحقيقي.
ومن خلال النتيجة النهائية لمسيرة الجيش الحر يمكن أن نقرأ الحالة التي وصل إليها الكفاح المسلح بعد أن قُضِي على الكيان الذي حقق انتصارات أمام عدو شرس وحلفاء له مجرمون قتلة يملكون أعتى أنواع الأسلحة والذخائر، هذه الانتصارات التي تعجز جيوش جرارة عن تحقيقها، حيث بدا واضحًا أن المصالح الفردية والحزبية انتصرت على حساب مصالح الشعب السوري والأهداف التي خرج من أجلها وضحى بسببها بمئات آلاف الشهداء والمغيبين وملايين المشردين في أصقاع المعمورة، وحساب مصلحة الوطن السوري المكلوم بأبنائه والسائر في طريق تقطيعه إلى كانتونات إرضاءً لشهوة البعض الجامحة للسلطة ولو على حساب تمزيق النسيج الوطني للشعب السوري ووحدة أراضيه، وبهذا حُرِفت الثورة باتجاه تحقيق مصالح فئة قليلة جدًا من السوريين من خلال تماهيهم مع الأهداف التي قاتل الأسد وحلفاؤه الشعب السوري من أجلها، فعملوا بكل قوتهم على تفكيك الجيش الحر واستنساخ جيش لا هو حر ولا هو جيش، بل تنظيمات تقتات على آلام الشعب المهجر من بيوته وأراضيه، إضافة إلى نجاحه في لصق تهمة الإرهاب بالثورة السورية والشعب السوري وهذا ما كان يسعى إليه الأسد وحلفاؤه منذ بداية الثورة، وما يحدث من انتهاكات أمنية وتسلط وبغي على أهلنا المهجرين في المناطق المحررة دليل دامغ على ذلك.
في ظل هذا الواقع المؤلم على كافة الصعد لا بد من إيجاد حلول لهذه المعضلة والمأزق الذي وضعت فيه الثورة السورية، فالصمت لم يعد يجدي ولا بد من أن تتنادى النخب السورية من مثقفين وعسكريين وطنيين لوضع حد لهذه الجريمة التي لن تتوقف نتائجها على واقعنا الحالي، بل ستمتد عقودًا سيدفع ثمنها غاليًا أبناؤنا وأحفادنا والأجيال القادمة، ومن وجهة نظري الشخصية أظن أن العمل على توحيد صفوف العسكريين المنشقين والوطنيين الذين لم تتلوث أيديهم بدماء السوريين ومن ثم تلاحمهم في جسم سياسي وطني يمثل أطياف الشعب السوري بأكمله، داخل مناطق الأسد وفي مناطق المعارضة بعيدًا عن الطائفية والمذهبية والقومية والحزبية المقيتة التي عمل من خلالها الأسد وعصاباته والمعارضة وفصائلها للتلاعب بعواطف السوريين، وأوصلوا من خلالها الشعب السوري إلى هذه الحالة البائسة، فترميم البيت السوري وإعادة بنائه لا يمكن أن تحدث إلا من خلال السوريين أنفسهم وبخاصة العسكريين الوطنيين في ظل الأخطار التي تحدق ببلدنا وأخطرها التمدد الإيراني وتغلغله في مؤسسات الجيش والأمن والنسيج الاجتماعي السوري، وفي حال حدث ذلك سيسقط من يحمل مشروعه الخاص الحزبي أو الطائفي في أول امتحان أمام وحدة هذا الشعب العظيم الذي لم تتمكن حتى الآن قوى العالم وعملاؤها بيننا من ثنيه عن تحقيق مطالبه التي خرج من أجلها، فاللبنة الأولى تأتي من إيجاد قوة عسكرية وأمنية وطنية تطيح أصحاب المشروعات العابرة للحدود الذين عاثوا فسادًا وإفسادًا في الثورة وحققوا ما لم يستطع تحقيقه الأسد وعصاباته وميليشياته وحلفاؤه.
خاتمة
خلاصة القول إن ما حدث للجيش الحر هو جزء رئيسي مما حدث في مؤسسات الثورة السورية وهذا أمر طبيعي لمن أراد أن يضعف الثورة ويسيطر عليها، ومن ثم يسوقها إلى ما وصلت إليه الآن، ساهمت في ذلك أطراف عدة أهمها ما سمي الدول العربية والإقليمية والدولية الصديقة للشعب السوري التي سيطرت على القرار السياسي لمؤسسات المعارضة السورية وفي الدرجة الثانية الدول الحليفة للأسد مثل روسيا وإيران التي اخترقت الفصائل ومؤسسات الثورة واشترت ضعاف النفوس وجندتهم لخدمتها وخدمة مصالحها التي تصب في مصلحة الأسد في القضاء على الجيش الحر والثورة، وفي الدرجة الثالثة مخابرات الأسد وجيشه والميليشيات الرديفة له التي استطاعت اختراق الثورة وفصائل الجيش الحر منذ بدايتها، ودُس كثير من العملاء في صفوف هذه الفصائل والطرف الأخير والأخطر هو الطابور الخامس الذي تربع على قيادة بعض المؤسسات ووقع على قراراتها المتماهية مع تفكيك الثورة بدافع الحصول على مكاسب شخصية أو في إطار مصالح حزبية ضيقة لتحقيق مشروعات عابرة للحدود لا علاقة للشعب السوري والثورة السورية بها، وهؤلاء لم يكتفوا بذلك بل جندوا كل من هو فاسد ورخيص الثمن وعلى الأخص الضباط الذين تم تكليفهم وتسليمهم أعلى المناصب في حكومات المعارضة وكانوا سببًا رئيسيًا في تسليم المناطق المحررة كما حدث في حمص القديمة وحلب وحماه ودرعا، ولم ينسوا أن يتبنوا الفاسدين الذين عدّوا الثورة تجارة فباعوا السلاح والذخيرة للفصائل الراديكالية في الوقت الذي كان الجيش الحر بحاجة ماسة إلى هذه الأسلحة، وتاجروا بالممنوعات وعلى رأسها المخدرات لتحقيق مكاسب مادية، وبهؤلاء وأمثالهم قضي على الجيش الحر وظهرت أجسام تشبه كل شيء لكنها لا تشبه لا الجيش ولا الحرية.
الهوامش:
- (1) موقع قناة الجزيرة، أهم الانشقاقات إبان ثورة سوريا https://bit.ly/2OcV7qI
- موقع مركز دراسات الشرق الأوسط، تسع سنوات على الثورة السورية: كشف حساب للمواقف والنتائج https://bit.ly/2OigTZS
- موقعBBC عربي، تنظيم الدولة الإسلامية: كيف بدأ وإلى أين انتهى http://bbc.in/3qvL25f
- (4) موقع مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، سلسلة مؤتمرات آستانا منذ بداية العام وحتى اليوم http://www.asharqalarabi.org.uk/
- موقع قناة الجزيرة، النص الكامل لاتفاق وقف التصعيد بسورية https://bit.ly/3v6iHFY