لعلها إحدى المفارقات المثيرة للاستغراب أن يكون فهم السوريين وطبيعة وعيهم لماهية نظام الأسد هو جزء من المشكلة السورية، بل ربما كان هذا الفهم ، في أحد أشكاله، عاملاً من عوامل تشعّب المشكلة، ولعله من البدهي القول: إن التشخيص الدقيق لماهية للخصم هو الخطوة الأهم في المواجهة، كما أن التشخيص الخاطىء يقود – بداهةً – إلى خطوات لا تخدم الهدف المنشود.
يكشف تعاطي السوريين من معارضي الأسد، مع الأحداث المتلاحقة منذ عام 2011 وحتى الآن عن تباينات واضحة في التصورات والفهم لبنية وتركيبة نظام الحكم الأسدي، وبالتالي لا بدّ أن تنعكس هذه التباينات على سلوك المعارضة الذي تمحور جزء كبير منه في إطار ردّات الفعل فحسب، ولعل هذا النمط من السلوك لا تعود أسبابه إلى افتقار شطر كبير من القوى الوطنية السورية إلى المقوّمات الفعلية للمبادرة فحسب، بل إلى فهم مرتبك لم يستطع استقراء ما حدث وما سيحدث من وقائع.
ربما كانت ردّة فعل كثير من المعارضين السوريين على الانتخابات التي أجراها بشار الأسد في السادس والعشرين من أيار الماضي، مدعاةً للتساؤل عما إذا جاءت تلك الانتخابات بنتائج غير متوقعة، أو أنها حملت أيّ جديد مخالف لما جرى من انتخابات رئاسية منذ الجولة الأولى التي أجراها الأسد الأب في شباط 1971 وحتى الجولة التي كررها بشار في أيار الماضي؟ أقول: يمكن أن تكون ردّة الفعل هذه نموذجاً مساعداً على تحديد وتقييم طبيعة وعْيِ أكثر المعارضين بماهية نظام الحكم، وبالتالي عن تصوراتهم ورؤاهم حول وسائل وآليات مواجهته.
لئن كان من الصحيح أن انبثاقة الثورة انطلقت من العمق الشعبي السوري، إذ كانت المدن والبلدات والقرى السورية هي المهاد الذي نشأ ونما فيه حراك الثورة، ولعله كان من البديهي أيضاً أن يفرز ذلك الحراك قياداته وكوادره الفاعلة من نسيجه الذاتي الداخلي، كما كان من المفترض أن تبقى تلك القيادات – أو القسم الأكبر منها – موجودة على الأرض السورية، المجال الطبيعي للحدث، علماً أن العديد من المدن والبلدات السورية كانت قد تحرّرت من سلطة النظام منذ منتصف العام 2012 ،( القسم الشرقي من حلب – ريفي حلب الشمالي والغربي- عين العرب – الباب – منبج – جرابلس ) وكانت تلك المدن والبلدات متاحةً لشتى الفعاليات الثورية، كما غدت – آنذاك – موئلاً مطلوباً ومُفضَّلاً لشتى البعثات والوفود الإعلامية والصحفية العربية والأجنبية، ولكنْ – وحدهم – المعارضون السوريون آثروا العمل من خارج سوريا، إذ تداعوا أفراداً وجماعاتٍ لتشكيل أول كيان سوري معارض يمثل الثورة (المجلس الوطني السوري – 2 – 10 – 2011)، وعلى الرغم من أن عدد أعضاء الكيان الجديد تجاوز (300 عضو) إلّا أن القسم الأكبر منهم كان ممّن غادر سوريا قبل عقود من انطلاق الثورة، قسم من هؤلاء غادر سوريا مرغماً بسبب الملاحقات الأمنية لنظام الأسد، وقسم أيضاً كان قد غادر البلاد لأغراض أخرى، إلّا أن شرارة الثورة قد نبّهت هؤلاء المغتربين جميعاً إلى أن احتمال التغيير في سوريا بات أمراً وارداً، بعد أن كان ميؤوساً منه.
لعل الإشكال الأبرز في أول كيان سياسي رسمي يمثل الثورة، إنما يكمن في الجزء الأكبر من أعضائه، ممن أمضى سنوات بل عقوداً طويلة في الاغتراب، بل ربما تماهى البعض منهم مع مشاغله وأعماله الأخرى، إلّا أن حاجة السوريين إلى من يمثّلهم أمام المجتمع الدولي جعلت هؤلاء يتداعون لتلبية النداء، يدفعهم شعورهم بقرب نهاية نظام الأسد بفعل تدخل خارجي متوقع، على غرار ما حدث في ليبيا، فالطريق الأمثل والأقرب – وفقاً لهؤلاء هو العمل على مستوى التواصل الخارجي والتماس علاقات الود مع الأطراف الدولية صاحبة النفوذ والتأثير، بل وصاحبة قرار التغيير، إذ لا وقت للالتفات للداخل السوري، بل يكفي أن يكون تمثيل رمزي للحراك الثوري في الداخل، عبر علاقات شخصية مع بعض ناشطي الثورة.
ولعل الغريب في الأمر، هو أن أغلب أعضاء هذه الطبقة القيادية لم تكن معرفتها بالجغرافية السورية تفوق معرفة أيّ سائح أجنبي آخر، بل كثيراً ما كان أحدهم يتحدث على شاشات القنوات الإعلامية متحدّثاً عن مدينة (القصير) وهو يظن أنها تقع في ريف دمشق، وربما رغب بعضهم بزيارة مدينة أو بلدة في الداخل السوري، فلا بدّ – عندئذٍ – من فريق عمل يقوم باصطحابه ولا يفارقه لحظة واحدة، من إسطنبول إلى المكان المراد زيارته، ثم ليلتقط بعض الصور لدى إحدى الفصائل العسكرية، ليعود في اليوم ذاته إلى حيث كان.
يمكن التأكيد على أن ثمة انسجاماً لدى هذه الطبقة القيادية بين سلوكها ووعيها بطبيعة المهمة التي تقوم بها، أعني قيادة الثورة أولاً، قبل العمل على تنمية عوامل قوتها واستمرارها، وذلك باعتبار التغيير فعلاً خارجياً، ولا تعدو الثورة سوى أن تكون بمثابة المحرّض له، الأمر الذي كشف عن نمط من التفكير المؤسِّس لظاهرتين، ما تزالان الأكثر خطورة وخراباً في أدّاء المعارضة السورية، وأعني بهما: انزياح العمل الوطني الثوري إلى دور وظيفي، ثم الاعتماد على تصوّر نمطي لطبيعة الخصم، واستمرار الاعتقاد بأن الفعل الثوري لا يخرج عن سياق الحادثة الطبيعية وليست الحادثة التاريخية.
الوعي السطحي بتاريخية الحدث السوري أعفى الكثير من المعارضين السوريين من كدّ الذهن لاستنباط تصوّر أكثر دقةً وتشخيصاً لنظام الأسد الذي ما يزال يُختزَلُ بنظر الكثيرين بصورة (نمطية للحاكم الديكتاتور)، بينما واقع الحال يؤكّد أن حاكم سوريا قد تجاوز حتى السمات القبيحة للدكتاتورية، ربما لم تقنع المعارضة السورية حتى الآن بأن (النسخة الديكتاتورية الأسدية) ليست نظام حكم ينطوي على بنى مؤسساتية كانت تعيد إنتاجه على مدى نصف قرن، بل هو عصابة كانت وما تزال تعيد إنتاج ذاتها عبر دوائر وكيانات تجسّد توحّش السلطة ولا تعبر عن مفاهيم الدولة.
مفهوم (الدور الوظيفي) في العمل الوطني لم يعد حالة طارئة، بل لعله بات منهجاً أكثر رسوخاً فيما تلا من كيانات أعقبت تشكيل المجلس الوطني، ذلك أن إصرار الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة على التشبّث بنهجه التقليدي – تنظيمياً وإدارياً وسياسياً – وكذلك تعدد المنصات ذات الرؤى والولاءات الخارجية المختلفة داخل هيئة التفاوض، وتماهي اللجنة الدستورية مع الرغبة الروسية في المسار السياسي، والركون إلى التصورات النمطية لطبيعة الخصم، لعل جميع ذلك يفسر أن التداعيات الراهنة للمأساة السورية لا يمكن إرجاع أسبابها إلى النفوذ الإقليمي والدولي وصراع المصالح على الأرض السورية فحسب، بل إلى العوامل الحاضنة والتربة الخصبة لنمو تلك الأسباب وتعاظمها أيضاً.
ثمة من يرى أن القضية السورية في راهنها قد تجاوزت قدرات وإمكانيات الأطر الرسمية للمعارضة، ذلك أن سوريا باتت بلداً محتلّاً، ولم يعد نظام الأسد أكثر من سلطة أمر واقع، كباقي سلطات الأمر الواقع الأخرى التي تحكم كل واحدة منها – بالوكالة – جزءاً من الجغرافية السورية، وباتت الحاجة تستدعي إيجاد حركة تحرر وطني تنبثق من نسيج سوري وإرادة سورية، بينما يرى المعارضون الرسميون أن تلك الدعوة ليست أكثر من نزعة (شعبوية)، أو تصوّر (رغبوي) مفارق لمعطيات الواقع. وبين جمهور مُتّهمٍ بشعبويته ورغبويته، ومعارضةٍ تسترُ عجزها بواقعية موهومة، تستمر جراح السوريين نزيفاً ووجعاً.