الرواية السورية عندما تواجه الاستبداد والطغيان

ديسمبر 22, 2022

دراسات, مقالات

(حفريات سردية في عمق المأساة)

يُعدُّ سؤال علاقة النصّ الأدبي بالواقع من أقدم الأسئلة التي شغلت النقّاد والكتّاب على حدٍّ سواء في العصر الحديث، وكُتبت كُتبٌ كثيرة في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، وأيهما أكثر أثرًا في النصوص الأدبية: الواقع أم الخيال؟ ويكشف تأمل المدونة الروائية السورية في سنوات الثورة العشر أنّ هناك عشرات الروايات.

رأى نقّاد سوريون أنّ قراءة المدونة الروائية المتعلقة بالثورة السورية تكشف أنّ أهم الموضوعات التي عالجتها الروايات الصادرة هي: القمع والاستبداد، ومآلات الثورة، والتشدد الديني، واللجوء، والمنفى، العامل الطائفي، ومفهوما الهوية والوطن، والطائفية.

وشكّلت السير الذاتية لبعض الكتّاب والكاتبات مرجعية لافتة في عدد من الروايات. فأن يعيش الكاتب الحدث ليرويه، هو تحدٍّ بالغ الخطورة إذ هو أمام مواجهة حقيقية بين لحظة توثيق تاريخي ولحظة إبداع إنساني كليهما يجره إلى منطقته الخاصة.

وإذا كان للكتابة وأسئلتها في أزمنة السّلم تعقيداتها المتعدّدة، فكيف يكون الحال عندما يواجه الكاتب أسئلة الكتابة في أتون الحرب، وفي زمن الاحتراب والقتل والخطف والتدمير والعسف والقهر والحرمان والمآسي الكبرى في تاريخنا المعاصر؟

في محاولة من (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) للوقوف على مدى ما تركه الزلزال/ الثورة/ الانتفاضة/ الحرب، من أثر في الإبداع الروائي السوري في العشريّة الأخيرة. ولمعرفة ما إذا كان المشهد الروائي السوري في سنوات الجمر قادرًا على توثيق الفاجعة السورية أو تقديمها من خلال الأدب؟

توجّهنا إلى عدد من الروائيات والروائيين متبايني الأعمار والتجارب، ومن المكوّنات السورية المختلفة، من المنتشرين في أصقاع المعمورة، لنسألهم بداية، أيّ فعل بوسعِ الروائيّ فعله في زمنِ الحرب؟ ثم ما الذي يمكن أن تغيره الكتابة في واقع الحال والنار تأكل الأخضر واليابس في البلاد؟ وقبل كيف استحضرت الثورة/ الحرب في نتاجك الروائي؟ وإلى أيّ مدى استطعت أن تعري الطغاة والمستبدّين في كتاباتك، وأن تكون شاهدًا على مرحلة هي من أهم مراحل التاريخ السوري المعاصر وأخطرها؟

ثمّة أسئلة أخرى طرحناها في السياق مثل: ما أهمية أن ننقل حكايا الناس المظلومين وأوجاعهم وآلامهم إلى العالم؟ وإلى أيّ مدى يمكن أن تكون هذه الروايات وثائق لقراءة التاريخ في المستقبل؟ وهل فعلًا كما يقال إنّ “الإبداع عمومًا يختمر داخل بوتقة المحنة”، أو كما يقول جان جنيه: “وراء كل كتابة جيدة ثمّة مأساة كبرى”؟

إلى ذلك، هل توافق الرأي القائل إنّ “الرواية هي التعبير الأوّل للهويّة الوطنية؟”، وإنّ “العملية الإبداعية لا تنفصل عن نزعة التمرّد؟”.

من ناحية ثانية، يرى نقّاد أنّ السواد الأعظم من الروايات السورية في العقد الأخير هي روايات سياسية؛ فإلى أيّ درجة برأيك يمكن لهذا الشكل من الكتابة أن يؤذي فن الرواية والتجريب اللغوي؟ وهل من جماليّات يمكن الحديث عنها في النتاج الروائي السوري في عشرية الثورة/ الحرب؟

أخيرًا، هل يمكن الحديث الآن عن أدب “الثورة السورية” أو أدب “الحرب السورية”؟

أسئلة يجيبنا عنها كل من الروائيات والروائيين: فواز حداد، هيثم حسين، سوسن جميل حسن، نهاد سيريس، خيري الذهبي، واحة الراهب، ثائر الناشف، زهراء عبد الله، جان دوست، مازن عرفة، ابتسام تريسي، وإبراهيم اليوسف.

فواز حداد: الألم يختلق لغة الرواية التي لا تنفصل عن التمرّد

إذا كان هناك سلاح للكاتب، فهو لا يزيد على القلم، فالكاتب مسالم، وإن كان الأكثر مطاردة عبر التاريخ، وليس من دون سبب، إذ كان وراء التنوير والثورات والانتفاضات والاحتجاجات والفضائح، ودفع الثمن باهظًا، أُعدم وشُنق وأُحرق ونُحر وانتحر.

في سورية، لم يتخلف الأدباء عن المشاركة في الثورة، منهم من مات تحت التعذيب، أو أُعدم ميدانيًا كالكاتب إبراهيم خريط وولده، لمشاركتهم في التظاهرات. كذلك لن يتخلف آخرون عن ممالأة النظام، أو المراوغة بالادّعاءات الكاذبة.

إضافة إلى القلم، سلاح الفنانين، الكاميرا للسينمائي، والريشة للرسام، والإزميل للنحات… عمومًا، لم يشارك المثقفون في أعمال قتالية، شكّلت أعمالهم موقفًا عبروا من خلاله في أيّ جانب يقفون، سواء مع النظام أم ضدّه.

في أعمالي الروائية، كتبت عن سورية والسوريين في ظل نظام الاستبداد والانتفاضة والثورة. حاولت تقديم سردية لخمسة عقود من جوانب مختلفة، كما رأيتها وعشتها وتفاعلت معها. من طرف كنت الكاتب الشاهد، ومن طرف آخر، واحدًا من هؤلاء الناس، فكتبت عنا نحن، لم أفصل نفسي عن الآخرين. من هذا الموقع كتبت تصوراتي عن التراكمات الهائلة للطغيان السوري، وحكم العسكر، والتسلط، وتعميم الفساد، التوريث ودولة المخابرات والقمع والتعذيب… ما أدى إلى انخراط سورية في الربيع العربي. فكان من الطبيعي التحرّك في هذه المناخات. نريد أن نحكي لهذ الجيل والأجيال المقبلة، عمّا ارتكب من جرائم، يجب ألّا ينسوا، لئلا تتكرر.

السؤال: هل في توظيف هذا القول إساءة للفن الروائي، إذا كان فحسنًا، لكنه تكريم للناس الذين ضحوا من أجلنا. أما الفن، فلندعه لتاريخه، هناك محكمة ستصدر أحكامها، فلا يتسرع النقّاد الغيورون على الفن، هناك محل للبشر والفن معًا. أما رأيي، فهو من دون هذه الأعمال، ستحصل فجوة في الأدب نفسه، كأنه لم يكن حاضرًا، أو أنه خاف من الواقع فاختار الصمت.

هل يصلح ما نكتبه لقراءة التاريخ؟ التاريخ في عهدة المؤرّخين، ما يهم قارئ التاريخ، قد لا يهم قارئ الرواية. وإن كان الدربان يتقاطعان، لكن لا يحل أحدهما محل الآخر. تذهب الرواية إلى الناس، ما يعانونه، ما يختلج في أنفسهم، ما يتراءى لهم، ما يحلمون به، يعاقرون الأوهام والكوابيس، يناضلون، يعيشون، يموتون… أناس عاديون، ليس من الضروري أن يعرفوا ما جرى من صفقات بين الدول، ولا القنوات السرية.

في عرف الدول الشمولية، لا حساب للشعب إلّا في أعداد الضحايا، ودائمًا بالجملة، لا يزيدون على أرقام بالإمكان تجاهلها. في الرواية، هؤلاء الأرقام عماد الرواية. نحن نريد أن نكتب عنهم. بالمناسبة، لا محنة ولا مأساة من دون لغة تعبر عنها، الألم يختلق لغة الرواية، لا مسوّغ لأن تكون جيدة، لكنها بليغة، جودتها في أنها حقيقية. لا تنفصل الرواية عن التمرّد، يذهب الروائي إلى عمق الواقع والذات لا ليتنزه هناك أو ليستريح، يذهب ليعرف ويتعرف، وبمقدار ما تكون حمولته كبيرة، يظفر بمكاسبه.

لا تُعتمد الرواية في التوثيق، قد يُستأنس بها، ما دامت لا تتجاهل الواقع والوقائع والحقيقة. التوثيق مجال آخر مختلف، لم يتوقف، الوثائق متوافرة، ووثائق أخرى سيكشف عنها بعد حين، تحتوي على فيديوهات، وأفلام واعترافات وشهود وسير ذاتية ومذكرات… هذا ضروري، وإلّا لن تكون هناك سوى رواية الدكتاتور.

أن تكون الرواية سياسية، فهذا الشكل استدعاه الحدث السوري، لا أدري ما الذي سيصمد منه عبر الزمن. الرواية حاجة للروائي والقارئ معًا، إنها فسحة تعارف وتضامن بينهما، تسمح لكليهما بالعبور إلى عوالم لا يجوز أن تغفلها الرواية، ما دام الواقع لا يتجاهلها.

لا يمكن إغماض عيوننا عن حدث استمر عشر سنوات، لن نكذب أو نغض النظر عنه. إذا كان لا بد من جماليات، فعلى الرواية أن تبتكرها من تجربة لم تتطرق إليها الرواية العربية بهذا الاتساع، ما هي الجماليات في هذه الحالة؟ فلنقل أنه لا موانع، ولا محاذير، ما دام الكاتب يتمتع بحرّية لم يتمتع بها من قبل، لا سيما الذين في الخارج، أو الذين في الداخل يكتبون بجرأة أو خفية. هذه فرصة كبرى كي تخوض الرواية تجربة الحرّية، هناك روائيون لن يتمكنوا من الكتابة لأنهم لم يعتادوا بعد أن يكتبوا بحرّية، ما زالوا يعطون للدكتاتور ملامح طاغية من العصور القديمة، أو من أميركا اللاتينية، بينما يتجنبون الطاغية المحلي الذي يطالعهم صباح مساء، ولا يتجرؤون على توجيه الاتّهام للنظام، ما داموا يدعون أنّ الثورة، ليست أكثر من زلزال، ليتهم يصمتون.

ليس هناك أدب ثورة وأدب حرب… ما دمنا نطمح أن نكتب أدبًا عن العصر الذي نعيشه، وبشر يتعرفون إلى أنفسهم، وإلى القتلة، والعالم اللامبالي، ويدركون أن لا محالة من العدالة والتغيير.

هيثم حسين: الكتابة موقف حياتي وتاريخي

في زمن السلم أو في زمن الحرب، يمارس الروائيّ ما يدأب عليه من فعل الكتابة، يقدّم شهادته على زمنه، ينخرط في قضايا مجتمعه، يكون فاعلًا في عالمه ومحيطه من خلال روايته التي تكون سلاحه لمواجهة الواقع بما يعترك فيه من متغيّرات، لذلك ففي الحرب، يكون فعل الكتابة مواجهة متجدّدة، محاربة بالقلم، وسير ضدّ تيّار العنف والجنون والإجرام، عبر تعرية الممارسات التي من شأنها تشويه المجتمعات، وبثّ الضغائن بين أبنائها الذين يقعون فرائس في لعبة كبرى لا تستثني أحدًا من فتكها وتشويهها.

لا أودّ أن أكون متشائمًا، أو أجرّد فعل الكتابة من أيّ قدرة على التغيير المنشود، لأنّ الكتابة لا تغيّر تغييرًا مباشرًا، لا تملك قوّة لفرض أيّ تغيير، بل تمهّد للتغيير الذي تصوّره أو تتأمّله، وذلك انطلاقًا من رؤية الروائي وتصوّره لواقعه ومستقبل بلاده، بعيدًا عن ركام الأحقاد والثارات التي تنهش بنية المجتمع في هذه الأوقات المأساوية.

واقع الحال لا يتغيّر والنيران مستعرة، والجبهات مستعرة، ولا أحد يلتفت لقولٍ أو كلمة مكتوبة، ولا لرواية مهما بلغت من العبقرية والعظمة، لأنّ صدى الكلمة يضيع بين دويّ المدافع وأزيز الرصاص ونداءات الانتقام، لذا لا بدّ من التحلّي بالصبر والكتابة على الرغم من الجعجعة التي يثيرها المتحاربون، وعدم الارتكان إلى اليأس القائل: لا مكان للكلمة في عالم مضطرب مجنون يتحاور بالبنادق.

استحضرت ممهّدات الثورة في أكثر من عمل لي، ففي «إبرة الرعب» مثلًا، تحدّثت عن الفساد الذي ينخر بنية مؤسسات الدولة، ومن ضمنها الجيش، وتناولت جانبًا من تفاقم ظاهرة التطرّف وكيف كان الإرهاب يبني أعشاشًا له ويضرب بجذوره الفكريّة في بقع معتمة في البلاد، وذلك تحت سمع السلطات الأمنية ونظرها، بل بإدارة منها، كمن يربّي ذئبًا في حجره ليهدّد به الآخرين.

وفي روايتي «عشبة ضارّة في الفردوس» تناولت بدايات الثورة، وكيف بدأت التظاهرات في المدن الكردية في سورية، وكيف واظب النظام على سلوكه الأمني، وعمل على تفتيت الناس بطريقته المعهودة، وبدأ باصطياد مَن يرى فيهم تهديدًا له بطريقة انتقائية، ومن خلال عملاء له، من دون أن يوغل في الدم الكرديّ كي يبقي الثورة مقيّدة ومحصورة في إطار طائفيّ، ويسوّغ بذلك حربه على البلاد والعباد، وتدميره الإجرامي للمدن التي ثارت ضدّه كلها لاحقًا.

أمّا في سيرتي الروائيّة «قد لا يبقى أحد» تحدّثت عن جانب من تداعيات الكارثة الكبرى التي حلّت بنا، وكيف أصبح جزء كبير منّا –نحن السوريين- كالأيتام على موائد اللئام، وذلك في أثناء بحثنا عن ملاذات آمنة لنا ولأبنائنا.

كلّ كتاب كتبته، سواء رواية أم نقدًا، هو تعبير عن موقف حياتي وتاريخي بالنسبة إلي، هو شهادتي على واقعي الذي لا أنظر إليه كلوحة سوداء فقط، لأنّ حصره بهذه الزاوية إلغاء لألوان الحياة وجمالياتها المختلفة التي تصنع إنسانيتنا وتجمّل حيواتنا وتلوّن أيّامنا وترسم الدروب المختلفة لمصائرنا.

احتفيت بالحياة والحبّ والجمال، بالموازاة مع القضايا التي تناولتها، سواء الهوية أم الاغتراب أم الفساد أم العلل النفسية والاجتماعية.. إلخ تلك الموضوعات والمحاور التي اشتغلت عليها، كي أساهم بقسطي وأؤكّد بدوري أنّ الطاغية لم يتمكّن من تجريدنا من إنسانيتنا وتحويلنا إلى وحوش على شاكلته.

بالكتابة أعمل على تأكيد فكرة أنّ الطاغية مؤقت؛ على الرغم ممّا خلّفه من جرائم ستحتاج إلى زمن طويل لترميم تداعياتها المفجعة.

أحيانًا أشبّه الطغاة والمستبدّين بالضفدعة التي بصق عليها أحدهم فضحكت مقهقهة وهي تقول: “ماء البحر لم يبلّل وجهي فهل يمكن لبصقتك أن تبلّله..”، وهذه حكاية كردية متداولة عمّن فقد الحياء والخجل، وبات يتباهى بقذاراته، أو لا يكترث بأيّ شكل من الأشكال لما يقوله الآخرون عنه. الطغاة يمارسون طغيانهم بعيدًا عمّا نقوم به من تعرّية لهم وفضح لسلوكاتهم وممارساتهم، وإذا تمكّنوا من الوصول إلى أحدنا فإنهم يحاولون جعله عبرة للآخرين.

سوسن جميل حسن: عن الإبداع في ظل الزلزال السوري

لا يمكن التكهن بتوقيت انتهاء الحرب، كذلك لا يمكن القول إنّ الروائيين سيتوقفون عن الكتابة، وعن رفد المدونة الروائية بسرديات كثيرة، بين روايات وشهادات وسير وقصص وغيرها، فالمحنة كبيرة والزلزال يولد هزات ارتدادية متتابعة أظن أنها الأوْلى بالكتابة، إنما السؤال هو عن قدرة الروائي على صنع الجمال تحت رحمة الحرب والدمار؟ أظن أنّ أهم شرط بالنسبة إلى الروائي ألاّ يكون مستقطبًا سياسيًا لأيّ جهة.

قد يكون من المبكر الحديث عن الرواية السورية في ظل الحرب، على الرغم من الأعداد الكثيرة التي نشرت في سنوات المحرقة، منها ما كان متواضعًا للجهة الفنية وتوفير معايير هذا الجنس الأدبي، ومنها ما جاء في هيئة تقارير صحافية أو توثيق فج، ومنها ما كان غارقًا في الإيديولوجيا والتنظير وغيرها، قائمًا على صراع الأفكار فاقدًا الحد الأدنى من التشويق، وبعضها كان سردًا مشهديًا يشبه الكاميرا على الرغم من أنّ المنافسة مع الكاميرا هنا خاسرة تمامًا.

أظن، في عصرنا الحالي، عصر الثورة الرقمية، أنّ الميديا بأوجهها الكثيرة وتقنياتها الرديفة أقدر على توثيق الأحداث، على الرغم مما مورس من تضليل معتمد على هذه الميزات، إنما يبقى المنتج الثقافي، وبخاصة الرواية، أقدر على توثيق ما هو أبعد من الصراع والأحداث، إنه نبض الحياة وكيف تفعل الحروب فعلها في المجتمع وفي منظوماته القيمية والمعرفية، وكيف تنهار جدر كانت تبدو منيعة قبل حروب على هذه الشاكلة، وكيف أنّ الخط البياني لحياة الشعوب ترسمه الهزات الارتدادية وليس الزلزال بحد ذاته.

يمكن أن تكون الروايات بهذا المعنى وثائق لقراءة التاريخ، إنما التاريخ الذي يكتب في الظل لا تحت الشمس وعلى وقع المدافع ولهيب النيران والأجهزة الإعلامية المسيّسة، خصوصًا في ما بتعلق بالحالة السورية التي انقسم فيها الشعب بين موالاة ومعارضة، ومعارضة انقسمت أيضًا على نفسها، والأطراف كلها كان لديها من استجارت به حتى أصبحت البلاد مقسمة تخضع لاحتلالات متعدّدة، ولكل منطقة زاوية رؤيتها لما يدور في الميدان وفي المطابخ السياسية، فإذا اعتمد الدارس على الرواية لتوثيق تاريخ سياسي فإنه لن يصل إلى نتيجة موضوعية، لكن البحث في تاريخ تشكّل على وقع الحرب وتحت رحمتها من خلال المنتج الأدبي قد يعطينا فكرة أكثر شفافية عن التحولات الكبيرة التي طالت مناحي الحياة كلها، وسوف يجد الدارس أنّ هناك كثيرًا من القضايا المشتركة يعانيها الشعب تحت أيّ سلطة كانت، فالرواية لا تكشف الواقع فحسب، إنما تعرّي الماضي وتتحرّى الخيوط التي تربط الحاضر به، وهنا تترتب المسؤولية على الناقد الذي يجدر به أن يكون موضوعيًا ومستقلًا في مقاربته للأعمال المنجزة، وأن تشمل دراسة النقّاد المنجز الأدبي كله الذي ينجز في مناطق الموالاة أم المعارضة أم في المنافي، بعدها يمكن الحديث عمّا أُنتج؛ وعن أدب الثورة وجماليات الرواية المنجزة، أما القول: “إنّ الإبداع يختمر داخل بوتقة المحنة”، أو “إنّ وراء كل كتابة جيدة ثمّة مأساة كبرى”، فإنّني أذكّرُ بقول الألباني إسماعيل كاداري بعد سبعة أعوام من سقوط الدكتاتورية في بلاده: “إنّ الكتابة والإبداع في ظل الدكتاتورية أكثر إثارة وإمتاعًا. كنا نعتقد -نحن كتّاب الدول الاشتراكية والشيوعية السابقة- بأنّ الحرّية تمنحنا كتابة أعمال عظيمة، لكن ذلك لم يحدث ولم نرَ شيئًا من هذا الإبداع حتى الآن”. لكنه عقّب: “يجب أن ننتظر”.

وإذا أردنا مناقشة قول: “إنّ الرواية هي التعبير الأوّل عن الهوية الوطنية”، علينا أن نحدد مفهوم الوطنية قبل كل شيء، وهذا تمامًا ما سبب التشظي في الواقع السوري، وهذا التشظّي الذي انعكس على الرواية فبدت بعض الأعمال جانحة باتجاه عصبية ما، مدّ حبالًا جعلت من الرواية ملحقة بالسياسة بمعنى أنها تعبّر عن وجهة نظر أو أهداف طرف من أطراف النزاع، وهذا برأيي أكثر ما يضعف المنتج الإبداعي، من حيث المبدأ لا يمكن تناول القضايا العامة بمعزل عن السياسة، لكن المطلوب هو عدم الارتباط بالسياسة، صحيح إنّ الرواية لا تملك عصًا سحرية لتغيير الواقع، لكن يكفيها أن تحرّض الوعي وتثير الشك في اليقينيات وتطرح الأسئلة حتى تكون لديها القدرة على التغيير، ومثلما فتّحت الوعي على الاستبداد فإنّ لديها اليوم أشكالًا عدة من الاستبداد المطلوب مواجهته، لا يقلّ شأنًا عن الاستبداد السياسي، وهذا أحد أشكال الهزات الارتدادية للزلزال السوري، وكان من الشواغل الروائية التي انشغلت بها في أعمالي السابقة، الاستبداد السياسي والاجتماعي والديني والثقافي كما في روايتي «قميص الليل»، والمقولات الراسخة -كاليقين- التي تحتاج إلى تفتيت كما رواياتي معظمها؛ وأهمها «النباشون»، وأهمها البحث في مفهوم الهوية بوعي الذات والعالم ومدّ جسور بينهما، وهذا كان الشاغل الأهم في روايتي «خانات الريح» المعنية بمشكلة اللجوء أيضًا.

نهاد سيريس: الروائي يعيش صيرورة التغيير

الحرب ليست غريبة عليّ، فقد سبق وكتبت عنها، عن الحرب العالمية الأولى تحديدًا. لقد اخترت الكتابة عنها، رواية «رياح الشمال»، أوّل عمل روائي أكتبه. كانت بالنسبة إليّ شيئًا أكتب عنه، كأيّ موضوع على الكاتب أن يجمع عنه المعلومات بشكل كاف فكان لي شرف مقابلة أناس عاشوها قبل أن يغيبهم الموت. حتى أنّني سمعت عن معاناة أهل مدينتي حلب بسبب الحرب، وكيف أنّ آلافًا قد ماتوا جوعًا وكيف كانوا يجمعون الحبوب غير المهضومة من روث الحيوانات في الطرقات. كتبت عن الحرب، مثل غيري من الكتاب الذين وجدوا فيها موضوعًا مهمًا، من دون حتى أن يتكسر زجاج نافذتي بسبب عنفها.

كنت أعتقد -وما أزال- أنّ الحروب تأتي بالتغيير، وأنّ الكاتب الجيد يُظهر ذلك في روايته. روايات الحرب في هذا العالم معظمها يرصد التغيير.

الرواية هي فن رصد التغيير. الرواية الجيدة هي التي ترصد وتُظهر التغيير ببراعة. لنعد إلى الحرب العالمية الأولى التي قلبت عالمنا رأسًا على عقب، فمن كان يعتقد في بداية القرن العشرين بأنه يمكن اقتلاع السلطة العثمانية وتحريك الساكن وتغيير الجغرافيا ونسف العقول والأيديولوجيا القديمة؟ لقد سببت الحرب ذلك كله فوُلدت أمم جديدة وأفكار أكثر حداثة. وعندما جلست لأكتب روايتي كان في نيتي أن أرصد ذلك كله.

لقد منعت الحربُ السلطةَ الاستبدادية من محاربة التغيير.

ولكن الأمر اختلف جذريًا بعد 2011، فقد قصفت مدينتي وقتل كثيرون من أهلي ومعارفي ولم يتكسر زجاج نافذتي فحسب بل تعداه إلى تحطم نوافذ بيتي جميعها، ولم يسلم باب الدار من ذاك المصير. لم تكن هذه الحرب لمنع المستبدّ من محاربة التغيير بل إنها حدّثت من قبله لمنع التغيير.

كان عليّ أن أجلس للكتابة، لا مناص من ذلك فما دُمِّر هو بيتي وعالمي والذين ماتوا هم أهلي وأحبتي. أردت أن أكتب فأنا لا أملك خبرة أخرى، وأرى أنّ الكتابة عمّا جرى مشاركة في فضح النيات والوقوف إلى جانب الضحايا.

الكتابة في زمن الحرب هي محاولة لرسم ما كان يجري بأسلوب جديد، هذا هو دور الروائي الآن لأنه يعيش صيرورة التغيير. إنّني مصر على أنّ الأحداث الكبيرة تحدث تغييرًا عميقًا في دواخل الناس وفي المجتمع، حتى ولو قُدِّر لها ألّا تنجح في بعض الأحيان في إزاحة المسبب. موت مليون إنسان وهجرة ملايين الناس، العيش تحت القصف والخوف من الاختفاء القسري، سوف يحدّثان تغييرًا كبيرًا في بنية المجتمع. كنت أتوقع أن يصل التغيير إلى الأفكار والأساليب وطرائق التعبير، وفعلًا، فقد وجدت قلمي يميل إلى ذلك في أثناء كتابة آخر رواية لي، أقصد رواية «أوراق برلين».

كتبت هذه الرواية في أوضاع جديدة، فقد اُقتلعت من حياتي الماضية وعالمي الذي التصقت به وكتبت عنه أعمالي كلها بلا استثناء. لقد التجأت إلى مدينة برلين التي تتشابه مع مدينتي في بعض الأمور الأساسية.

لقد حكم البلاد، هنا وهناك، حزب قومي أيديولوجي ذي عقيدة عسكرية، فرض عقيدته تلك على المواطنين وقادهم إلى مغامرة عسكرية رهيبة، كان من نتائجها دمار البلاد وتقسيمها وموت الملايين وتهجيرهم.

دُمرت برلين كما دمرت مدينتي ولكن التغيير الذي حدث بعد الحرب لافت كثيرًا. لقد أعيد بناء ما دمرته الحرب، وأعيد أيضًا بناء الإنسان والقوانين والدستور والثقافة والتفكير.

كانت كتابة هذه الرواية رحلة اكتشاف ودراسة، متعة وألم، الماضي والحاضر واستشراف المستقبل. برلين وحلب في عمل واحد، المدينة الأولى خرجت ماردًا من الرماد بينما الثانية ما تزال تعيش القتل والتهجير والعوز والاستبداد، من دون أمل في أن نتمكن يومًا من رؤية التغيير الذي تتطلبه مثل هذه الأحداث الكبيرة.

خيري الذهبي: يخشى الطغاة من الكتّاب والشعراء

لطالما كان الأدب السوري مواكبًا للحوادث العظمى في تاريخ الأمة السورية وتاريخ الأمة العربية، والشواهد على تلك المساهمات الخالدة حاضرة في أعمال أسامة بن المنقذ وأبي العلاء المعري والبحتري ومنصور بن سرجون وصولًا إلى شفيق جبري وعمر أبي ريشة وشوقي بغدادي ونزار قباني وبدوي الجبل ونديم محمد وعبد الكريم الكرمي… وكان الأدباء حاضرين كذلك في تخليد ذكرى الجلاء والنكسة والوحدة وغيرها من عظام الأحداث كما كتب عبد السلام العجيلي وفارس زرزور وحسيب كيالي وحكمت محسن وغيرهم كثيرون. وبقي الأمر على ما هو عليه من تفاعل بين الأديب والوطن حتى دخلنا عصر كمّ الأفواه عام 1963، حين بات الأديب الجيد هو من يشيد بعبقرية (الزعيم) والحزب القائد، وليس من يكتب أدبًا جيدًا، ويمكنكم مراجعة أقبية اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق، ومخازن وزارة الثقافة حتى تشاهدوا أطنانًا من الكتب التي تمجد الانتصارات التي قامت بها ثورة آذار/ مارس وعبقرية الحزب القائد، وكلها مكتوب من دون صدق أو حقيقة.. ولكن ما أنجزته ثورة 2011 حقًّا للكاتب السوري أنها أعادت قلمه إلى الهم الوطني وجعلت المسافة بينه وبين القارئ/ المواطن صفرًا بالمعنى الحرفي، بمعنى أنّ الكاتب السوري -وخصوصًا الروائي- بات يكتب عن هموم بلده وأبناء بلده من دون خوف من تهمة التزلف والكذب، لأنّ ما يحرّكه هو الألم السوري من دون أيّ مزاودات.

أما بالنسبة إلى التوثيق، فليس من مهمة الكاتب توثيق المرحلة، بل هي مهمة المؤرّخ والصحافي، ولكن الرواية مهمتها توثيق رؤية الروائي لتلك المرحلة، فهنالك من يرى الثورة السورية ثورة عالمية، ومنهم من يرى أنها كارثة أو أنها غير مكتملة أو متسرعة أو أنها ما تزال مستمرة، ولكلٍ أسبابه، ولذلك ستكون الرواية هي تاريخ الفرد ضمن المجتمع، هي صوت الفرد المعبر عن علاقته بما يجري حوله من عواصف، وهنا تتحوّل الرواية إلى فعل ديمقراطي، ويتحوّل الروائي إلى مؤرّخ يؤرّخ لنفسه قبل أن يؤرخ للآخرين، يؤرخ قصته وقصة عائلته وحارته ومدينته… لذا يجب على الروائي أن يكتب، أن يكتب بكثافة عن كل ما يلفت نظره، كما ينبغي على المصور حينما يسمع صوت سيارة الإسعاف أن يهرع بكاميرته إلى مكان الحدث، يجب على الروائي حينما يخفق قبله لحدث ما أن يهرع إلى الورقة والقلم، ويبدأ بإنشاء حكايته، وما الضير في أن تنتج سورية ألف رواية في السنة، إنّ إيطاليا وحدها تنتج نصف مليون كتاب سنويًا، ولكن المشكلة تكمن في أنّ الكاتب يجب أن يكون حريصًا على أن يكتب ما يُقرأ، لا أن يكتب لنفسه، وكلما ازداد الصدق زادت قابلية نجاح الكتاب.

في الحقيقة لن تغيّر الكتابة أيّ شيء في العالم، لم تغيّر ولن تغيّر، لكن الكتابة قد تتحوّل إلى تاريخ يصفع الظالم ويلعنه طوال الدهر، قد تتحوّل الرواية إلى تاريخ معلن، وإلى ما يشبه المنشور السري يتداوله الأحفاد جيلًا بعد جيل، لذا يخشى الطغاة من الكتّاب والشعراء، ويسعون لكتابة أدب يمجدهم، لأنهم يعلمون أنّ الأدب يتسلسل من بين قضبان السجون ومن الممكن أن تردده حكايات الجدّات للأحفاد قبل النوم، وحينما ينام طفل على قصة تتعلق بالظلم، تأكد أنّ الأرق سيقض مضجع الطاغية في تلك الليلة.

في أعمالي كلها تقريبًا كانت (تيمة) الثورة حاضرة، بل كانت تتجسد على الدوام في شخصية من شخصيات الروايات تلك، في رواية «هشام أو الدوران في المكان» كان هشام يقوم بثورته الخاصة على الظلم ورجال المخابرات الذين قمعوا حرّيته يومًا، وفي رواية «لو لم يكن اسمها فاطمة» كانت فاطمة تبحث عن ثورتها الخاصة. ولكن مؤخرًا في رواية «المكتبة السرية والجنرال» كانت الثورة السورية حاضرة بقوة في ثنايا العائلة والأحداث التي تجري في الرواية، وعلى الرغم من الثورة التي كانت تعم أحداث الرواية، فإنها تنتهي بزوال المكان الذي يحتضن الحبكة، بقصف روسيا للبيت الشامي الذي تجري فيه الأحداث.

في رواية «صبوات ياسين» كان المثقّف السوري المخصي هو بطل الأحداث في محاولته قراءة كيف يكتب الطاغية تاريخه الشخصي، وكيف يطلب من أدباء عصره أن يكونوا نسخًا منه، نسخًا تبيض صفحته. الطاغية الشرقي مفتون على الدوام بالأدب، وذلك لارتباط السلطة في المنطقة العربية عمومًا بالفن، وتلازمهما، بيبرس البندقداري، كان مهووسًا بمن سيكتب له سيرته، وكان قد أقام ما يشبه لجنة فاحصة لاختبار كتبة سيرته، حتى وقع اختياره على من أقنعه أكثر من غيره. هذا كله موجود في رواية «صبوات ياسين».

تعلمون أنّني خصصت كتابًا كاملًا عن الثورة والطغيان اسمه «التدريب على الرعب». كان هذا الكتاب شهادة حقيقية تربط التاريخ بالواقع السوري، حيث كنت متموضعًا في الزمان والمكان الذي أتاح لي أن أكون المثقّف العربي الوحيد ممن يخوضون حرب تشرين الأول/ أكتوبر، ويؤسر فيها، داخل إسرائيل، وهذا مذكور في كتابي «300 يوم في إسرائيل»، حيث كنت العين الواعية الشاهدة على تلك الأحداث كلها، كنت هناك أيضًا في الوحدة وفي الانفصال، وكتبت كثيرًا عن تلك المرحلة في روايتيّ «حسيبة» و«فياض».

كتبت عن المحرومين والمهمشين، وكنت أركز على التاريخ الذي تحاول الماكينة الرسمية تغييبه، وأحرص على توضيح دور المرأة في التاريخ السوري المعاصر، لأن ما هو أبعد من الظلم وقتل الضحية أن تخنق صرختها وتمنع قصتها عن التداول.

صرخات الضحايا في سورية تكفي لكتابة ملاحم أدبية كاملة، وجيلنا بأكمله لم يكتب سوى النذر اليسير، أما عن الثورة السورية، فأنا لم أستطع الكتابة عنها كما كانت وكما صارت، لأنّني لا أحبذ الكتابة الانفعالية لحدث غير منته حتى الآن، يمكنني ذكر تفاصيل عنها وأخذ خطوط منها، ولكن لا يمكنني حتى الآن أن أكتب عملًا ملحميًا عن ثورة سورية، ربما سأفعل حينما تنتهي الثورة بتحقيق أهدافها. ولكن بكل تأكيد فإنّ المأساة السورية قد هدمت جدار الخوف والمواربة والتورية التي كان يعتمدها الكتّاب السوريون قبل الثورة، فقبلًا كانت الرمزية سيدة الأساليب الأدبية في سورية، كان من الممكن أن نبكي ونصفق لقراءة قصة تتحدّث عن “سائس يجلد حصانه يوميًا ثم يفر ذلك الحصان في يوم ما نحو الحرّية”.

اليوم يمكننا الحديث بمباشرة ووضوح، ولا عزاء للمحورين في الحقيقة السياسية، فالرواية السورية غارقة حتى أذنيها في السياسة، من كل عشرة روايات يمكنك أن تجد رواية واحدة تبحث في الخيال غير السياسي، أو في الأدب البوليسي، أو الخيال العلمي، ربما يُصفي الروائيون حساباتهم مع التاريخ والمؤسسة الرسمية، ولهم الحق كله في ذلك، ولكن الجماليات العالية للرواية التي ميزت الرواية السورية في القرن العشرين، اختفت مع القمع السياسي الذي ضاعف رغبة الكتّاب في الغرق في كتابة رؤاهم السياسية لسيرهم الذاتية، وهذا مقتل للرواية السورية التي يجب عليها أن تكون متنوعة بالقدر الكافي لإنتاج أدب قابل للحياة في المستقبل. ربما سيستطيع كتّاب الجيل المقبل أن يتجاوزوا هذه المحنة وينظروا إلى الخلف بألم حين يقرؤون روايات العشرية السورية السوداء، وسيقولون في حينها إنه أدب الثورة والحرب، وهذا هو تاريخنا وهذه هي رواياتنا، وهذا أنا.

واحة الراهب: رواياتي شاهدة على عصرها

لا شكّ في أنّ اندلاع الثورة السورية وما آلت إليه كان بمنزلة تسونامي الذي توقعت الأرصاد الجوية حدوثه في سورية زلزال سيدمر مدنًا بكاملها، فانحرف مساره كما تقول بطلة روايتي الجديدة «حاجز لكفن». وما كان بإمكان ديستوبيا نظام الأسد درء مخاطره آنذاك، وهو لا يملك حتى سيارات إسعاف تتجاوز عدد أصابع اليد، فكأن الثورة جاءت بديلًا لاستحقاقه، تسونامي شعبي هائل صدع الأساسات المنخورة كلها ونسفها من جذورها.

عرى اندلاع الثورة مستشفى المجانين، كان السوريون يرزحون تحت نير انتهاكاتٍ جعلت الجنون طليقًا من عقاله، حوالى نصف قرن من الخوف والعنف بعبودية تامة، ما ضيع الحدّ الفاصل بين الجنون والعقل. وهو ما كان جوهر روايتي الثانية «الجنون طليقًا».

وقد عرى اندلاع الثورة استلاب روح السوري التي هامت ما يقارب قرنًا من الزمن، مستعصية على التشكّل في جسد يحرمه الحرّية المشتهاة إلى أن توهم حصوله على مبتغاه في مرحلة الخمسينيات، الشاهدة على المتنفس الحرّ الوحيد الذي عاشه السوري بمناخ ديمقراطي مترافقًا مع مشروع الوحدة بين سورية ومصر، استدعى التفاؤل بالمستقبل والاستسلام أخيرًا لولادته الجديدة. ليكتشف أن نحس عنف الدكتاتوريات يلاحقه روحًا وجسدًا، مهددًا وجوده ورجولته ومستقبله ومستقبل ثورته التي شكّلت المنقذ الوحيد له من انهياره التام. وهو موضوع روايتي الأولى «مذكرات روح منحوسة».

وهكذا يمكنني الاستنتاج أنّ رواياتي الثلاث كُتبت في العشرية الأخيرة المرتبطة باندلاع الثورة بدافع وإلهام منها، وهو ما يعني أنّ الثورة تفرض استحقاق وجودها على الأدب السوري وتفرض هامشها الحرّ الذي لا يمكنه أن ينفصل عن واقعه ويدعي أنه ينطوي تحت جناح مدرسة (الفن للفن)، يعتمد جماليات فارغة من المضمون، منفصمه عن واقع يعصف بمصير بلد وشعب بأكملهما.

لا يمكنني البتُّ بمدى تمكّن أدب هذه العشرية من توثيق الفاجعة السورية بأبعادها كلها، ربما لم يستوف استقراء الوقائع واستبصار أبعاد التجربة ومآلاتها. لكن بإمكاني الجزم بأنّ كمًا ونوعًا مهمين من الإبداع قد تحقّقا، وشكّلا ذخيرة من التأريخ وشهادة على الثورة تنطلق من الخاص إلى العام، تعكس الشهادة أيضًا عصر توحُّش العالم لإجهاض تلك الثورة. وهو ما حاولته من خلال رواياتي التي كانت شاهدة على عصرها، عرّت وفضحت جوهر مسببات الكارثة السورية بوضع الإصبع على الجرح، وقد تحمل أحيانًا رؤية تنبؤية بالآتي، تحرّض على التغيير وتشكيل وعي مغاير، لكن لا يمكنها ادّعاء وضح الحلول. فادّعاء كهذا يتعدى مهمات الأدب وقدراته، ويصبح تعسفيًا مصادرًا لحرّية خيارات الآخرين في إيجاد حلولهم لتغيير واقعهم. فالأدب لا ينطلق من أفكار أو أيديولوجيات عامة، بعيدًا عن انبثاقها من هموم الفرد وأوجاعه وأحلامه، في رواية قصصه الخاصة للوصول إلى قضاياه الكبرى.

لذا يمكننا القول: إنّ التعبير عن المحن الكبرى يكون أكثر تأثيرًا من الهموم الصغيرة السطحية إذا انبثق منها، واختمر ببوتقة المحن المنطلقة من خصوصية أفرادها ومعاناتهم العميقة، أي الانطلاق من الذات الفردية للتعبير عن العام وليس العكس. وقد سبق لجان جنييه أن عبر أيضًا عن عجز العربي عن تحرير أراضيه وهو العاجز عن التحرّر في المستوى الفردي. وبهذا يمكن للرواية أن تكون فعلًا تمرّديًا لا يستقيم وجودها من دون انصهارها بالحرّية شرطًا للإبداع، وكلّما تلاحمت مع التعبير الأعمق عن الهوية الوطنية الحقيقية والغوص في الخصوصية نحو العمومية. حتى وهي تعكس ضياع تلك الهوية في ظل الأزمات، يكون تعبيرها متغلغلًا أكثر في عمق البحث عن الجوهر. وإلّا فالرواية تكون مكتفية بكونها محض سفسطة كلام، أو أداة ترفيه سطحية أو تجريب لغوي يفتقد إلى الأرضية الواقعية.

في متغيرات قاهرة كواقعنا تتغلغل السياسية لتحدد لقمة عيشنا ومصيرنا، لتصبح جزءًا حتى من أحلامنا، لذا لا أظن أن بإمكان الرواية أن تقدّم نفسها منفصلة عن واقعها السياسي حتى لو لم تطرحه مباشرة. إذ هل يمكن لشخصية (سي السيد) عند نجيب محفوظ، المنبثقة من علاقة العبد بالسيد أن تنفصل عن التوليفة السياسية التي تحكم صيغة حياتنا كما شخصياتنا الروائية؟ وكذلك روايتيّ صنع الله إبراهيم «اللجنة» و«ذات» وغيرهما. وروايات جورج أورويل وإليزابيت أللندي وغيرهما، لم ينتقص من قيمتهما كونهما روايتان سياسيتان عبرتا عن مآسي بلادهما، بل شكّل ذلك القيمة الكبرى لنجاحهما. المهم ألّا يكتفي هذا الانصهار الحرّ بالسياسي وحده في التعبير عن الواقع، بل أن يتلاحم مع العناصر المؤثرة الأخرى كلها. والأهم أن يحاك هذا النسيج بكلّيته ليشكّل الأرضية والعوالم التي تنطلق منها شخوص الرواية وحبكتها الروائية، بوصفها مرجعية لها من دون أن تطغى الأفكار على النزعة الروائية للأدب وفنيته. وأن يكمل الشكل مضمونه بما يحقّق المتعة والفائدة معًا، فأيّ طغيان لأحدهما على الآخر يفضح هشاشة الطرفين، ويحوّل العمل إلى محض منشور أو أدب مباشر توثيقي أو دعائي.

فالرواية طواف في فضاءات الإنسان والحياة المتنوعة، والأكثر غنى وبعدًا عن السطحية. والسياسة جزء منها، تسمح باستلهام سحر الواقع والانطلاق من جمالية صدقيته نحو الحلم بيوتوبيا تنبؤية لواقع مغاير. من دون حاجة إلى تأطيره ضمن عناوين كأدب سياسي أو أدب ثورة، تعزله عن كونه أدبًا أو لا أدب قبل كل شيء.

ثائر الناشف: مواجهة الاستبداد والطغيان بالكلمة الحرّة

يمكن أن تغدو الكتابة الروائية في زمن الحرب حدثًا خاصًا وفريدًا، كما يمكنها أن تغدو أيضًا سببًا جوهريًا في نقل الأدب من الحيز المحلي الضيّق إلى الآفاق الرحبة، فالروائي الذي يطلق العنان لمخيلته وأفكاره في ظل أجواء الحرب ستكون تجاربه السردية مختلفة تمامًا عن تجربة أيّ روائي آخر لم يشهد فصولها المريرة، علاوة على ذلك فقد ظهرت محاولات بعض الروائيين السوريين في إحداث تأثيرات واسعة وعميقة في وجدان القارئ المعاصر والأجيال المقبلة كمسعى حاسم لتحديد الإطار الثقافي العام، لكن هذا يتوقف على الراوية نفسها في حال اتّخذت التنوير منهجًا لها، ونجحت في تفكيك ذهنيتي التحريم والتقديس الراسختين في عمق الذات السورية، فحينها يمكن أن تؤدي دورها الفاعل والمأمول في خلق الوعي الجمعي، وتنمية الشعور الوطني إن نجحت في استثمار مناخ الحرب، فعلى الرغم من بشاعة الحرب لا يمكن أن تثني الروائي السوري عن مواصلة دوره الأدبي أو أن تحطّ من عزمه في معالجة أسبابها وتداعياتها إن بطريقة الرصد والتحليل أو التوثيق، لأنّ التغيير والتنوير اللذين تحدثهما الرواية في حياة الشعوب هما حدثان تراكميان وليسا آنيين، ويظهران بشكل تدريجي من جيل إلى آخر.

يمكن لرواية الحرب السورية أن تصبح وثيقة تاريخية ما لم تتأثّر بالتحوّلات السياسية الكبرى التي عصفت بالمجتمع، بل إن أثّرت في صنعها من خلال ملامسة القضايا الحساسة التي لم يكن بالإمكان التطرق إليها قبل الحرب، كقضايا الحرّية والاستبداد والشر الإنساني والجنس والدين، ومن ثم يمكن أن تساهم أيضًا في إعادة تعريف الهوية الوطنية وصوغ العقد الاجتماعي الجديد من خلال معالجاتها الجريئة للقضايا الاجتماعية الشائكة، فضلًا عن مسها للمحظورات.

انطلاقتي الروائية الأولى جاءت من خلال «قيامة الروح» وهي رواية توثيقية ليوميات الثورة خلال الأشهر الستة الأولى من عام ألفين وأحد عشر، استعرضت فيها أجواء الصمت والخوف التي سبقت اندلاع الاحتجاجات اعتمادًا على تجربة المنفى المريرة التي عشت فصولها في عدد من البلدان، فكانت تلك الأجواء سببًا مباشرًا لاندلاع شرارة الثورة، وطرحت عددًا من التساؤلات حول حقيقة ما حدث في سورية، هل كان ثورة أم مؤامرة؟ بمعنى أنّ الرواية لم تغفل عن ذكر الأصوات المناهضة للثورة سواء أكانت من طرف السلطة أم من الفئة الرمادية، ثم إنّ أبطالها هم المتظاهرون الذين اندفعوا إلى الميادين والساحات من دون أن يأبهوا لرصاص أجهزة الأمن، وهنا يبرز التحدي الأكبر فيها بين قيم الحرّية والاستبداد، أمّا التجربة الروائية الثانية فكانت من خلال «المسغبة» التي ذهب بعضهم إلى وصفها بالسردية، نظرًا لضخامة حجمها (3 أجزاء)، وتشعّب أحداثها وشخصياتها، فالمسغبة هي التجسيد الأمثل لرواية الحرب في الأدب العربي، ليس لأنها ترصد وقائع الحرب والحصار، بل لأنها تجتاز الحدود القائمة بين المتصارعين، وتعرّي ماضيهم الدموي ثم تسير بهم إلى نهاياتهم المحتومة.

حرصت منذ بداية خروجي من سورية قبل أكثر من أربعة عشر عامًا على كسر حواجز الخوف كلها، فما دمت قد أصبحت خارج حدود الوطن، لم يعد لديّ ما أخشاه، بل لم يعد عندي ما أفقده، ولذا فقد ركّزت في كتاباتي المسرحية الأولى على مواجهة الاستبداد والطغيان بالكلمة الحرّة والواعية، وهو ما استمررت به أيضًا في الروايات التي نشرتها معظمها، أو تلك التي تنتظر دورها للنشر، فالخوف والإحباط والقلق وحياة الفوضى والتشرد خلال سنوات المنفى القسري كلها أسباب موضوعية دفعتني بقوة إلى التعبير عن ذاتي في الأدب، فكانت الرواية سبيلي الوحيد إلى الكتابة بغض النظر عن النجاحات الكبرى التي ينشدها أيّ روائي في حياته، وسعيت من خلال رواياتي لسرد أوجاع السوريين وآلامهم للعالم كله، وفي الوقت عينه أصررت على عرض الصورة الكاملة للشعب السوري بألوانها المتباينة كلها، مستفيدًا من هوامش الحرّية التي لم تكن متاحة قبل نشوب الحرب، ولم أشعر البتة أنّ الحرب أتت على كل شيء، وأنّها لم تترك شيئًا يمكن الاتكاء عليه ليكون مادة للأدب، ولذا فإنّني أرى أنه من الطبيعي أن تتأثّر الرواية السورية بالمناخ السياسي القائم في سورية، لأنه ليس لدينا اليوم نحن الكتّاب والأدباء والروائيين أيّ همٍّ وطني أو شأن عام بالغ الأهمية سوى ذلك الهمّ، ولعل هذا الأمر أكسب الرواية طابعًا مميزًا عن غيرها من الروايات العربية التي ما زالت تخوض في خضم الحراك الاجتماعي والرصد التاريخي.

زهراء عبد الله: ما بعد الحرب يتحوّل الأدب إلى ذاكرة لا تشيخ

الثورة وقود الأدب، تدفع به إلى ذروة العطاء، حيث يتلاحم الواقع مع الخيال ليصبحا سلاحًا ثقافيًا مقاومًا في وجه الظلم والاستبداد.

والأدب مُكمّل للثورة، فحين تُساق الحناجر إلى السجون، أو إلى المنافي، أو إلى ضفة الاستسلام، يرسم الأدب خطًا موازيًا ليحفظ أهدافها وأسبابها ومطالبها من التقادم. حقيقة، في خضم الحرب المشتعلة يكون الأدب عاجزًا عن إنقاذ أيّ روح قبل أن تُزهق، أو أيّ بيت قبل أن يُهدم، لا يُمكن للأدب أن يسحب الوطن إلى تحت سماء صافية بعيدًا عن الدخان الأسود. لكن حين تنتهي الحرب -والحرب لا بدّ أن تنتهي يومًا ما- يكون الأدب حاضرًا قويًا، يتحوّل إلى ذاكرة لا تشيخ.
خلال السنوات الماضية حرّكت الحرب السورية غريزة الكتابة عند كثيرين من الكتّاب السوريين، فأصبحنا أمام نتاج مهم من الروايات ولّد “أدب الحرب السورية”.

على الرغم من تيمات المأساة والحرب التي صُبغت بها الروايات السورية في هذه الحقبة يبقى العنصر الجمالي مطلوبًا ومهمًا في هيكلية النصّ الروائي وبنائه، ويمكن في هذه المرحلة تحديدًا أن يسمو التجريب وتتعدّد أشكاله، ليخلق أنماطًا وأوجه جديدة في فن الكتابة.

بعض الكتّاب السوريين أبدعوا في تعبيرهم بدقة عمّا حدث ويحدث، وبعضهم الآخر عَلقت أعمالهم في دائرة الاندفاع المتهور.

كانت الحرّية الفكرية هي النقطة المشتركة للأعمال كلها التي حوّلت -أو حاولت تحويل- الثورة إلى رواية.

بما أنّ الكتابة فعل من أفعال الحرّية، ولأنّ الكتابة فعل تفكير أوّلًا، والتفكير أكثر ما تخافه الأنظمة السلطوية، بحيث تريد إقصاء شعبها بعيدًا عن كل ما يُحفز العقل. حتّم هذا الخوف على هذه الأنظمة أن تدافع عن نفسها مقابل الإنتاج الفكري، ببتر فرص الانتشار لكل رواية لا تتواطأ أفكارها مع سياساتها التعسفية.

على الرواية أن تنجح في هذه المهمة أو تُطمس وتُكبّل، ذلك يعتمد على قوتها وعلى جبروت من يقف في وجهها.
ويبقى ممكنًا للرواية أيضًا أن تكون جزءًا مهمًا من الهوية الوطنية -التي هي مزيج متنوّع من محتوى ثقافي واجتماعي وتاريخي وسياسي- إذا انطلقنا من أنّ العملية الإبداعية مرتبطة بنزعة التمرّد الفردي الذي يمتّد ليشمل الفكر الجماعي.
إن أحد أخطر وجوه الحرب الإلغاء، وأحد أعظم وجوه الكتابة البقاء.

لذلك تناولت الحرب في روايتيّ «على مائدة داعش» و«من التُّراب إلى الماء»، ولكن الأهم من الكتابة عن الحرب الكتابة عن مخلفات الحرب حاولت كتابة كل ما أريد قوله، تطرّقت إلى الدين والسياسة والإرهاب، وهذه مفردات تُرعب الأنظمة المنغلقة على نفسها، الاستبدادية، لذلك مُنعت روايتي «على مائدة داعش» من الدخول إلى الدول العربية معظمها. لكن أن نكتب عن المقهورين والمظلومين وأن نحاول إيصال قضاياهم إلى العالم، ذلك جزء من رد حقٍّ بسيط من جملة حقوقهم المنتهكة.

صحيح أنهم يقولون: “يخرج الإبداع من رحم المعاناة”، ولكنه يخرج أيضًا من قلب الفرح، لذلك يمكننا أن ننتج أعمالًا عظيمة في زمن الحرب، كما يمكننا ألّا نتأخر عن إنتاج أعمال مشابهة في زمن السلم.

الكتابة هي الكتابة، ليست مرتبطة بحال أو وضع معين، يمكن لكاتب ما ألّا يستطيع كتابة فكرة واحدة في ظل الضغط الذي تشكّله الحرب. والعكس صحيح، بعضهم يزدهر خيالهم وإنتاجهم في الحقبات العصيبة.

انطلاقًا مما يقوله وليام جلاسم: “تتحكم بنا خمس احتياجات جينية: النجاة، الحب، الانتماء، القدرة والحرّية”. تنطلق الثورات من نقص هذه الاحتياجات التي نقاتل من أجل أن نؤمّن فتاتها في دولنا. وتبقى الثورة والكتابة والحرّية في بوتقة واحدة ضدّ ثلاثية الأنظمة المسيطرة: الدين والمجتمع والسلطة.

أحيانًا تقود الحرّية إلى الثورة، وأحيانًا أخرى تقود الثورة إلى الحرّية، في حين تقود الكتابة عن الثورة والحرّية إلى الهلاك اللذيذ.

جان دوست: التقاط إيقاع الحياة في ظل الموت

بداية لا أدعي أنّني قرأت ما كتبه السوريون جميعه خلال هذه العشرية الأليمة لكنني قرأت من الروايات ما يمكن أن يعطيني صورة أوّلية عن اهتمامات الروائيين في هذه المرحلة وطرائق سردهم وزاوية النظر الخاصة بكل واحد منهم.

لا أرى أنّ بوسع الروائي أن يفعل شيئًا في سنوات الحرب سوى توثيق اللحظات المهولة التي يمر بها الناس من قتل ودمار ونزوح وما تبقى من الكوارث المرافقة للحروب كلها.

الروائي يلتقط النبض أو ما يمكن أن نسميه إيقاع الحياة في ظل الموت. ولهذا الأمر أهمية قصوى في اعتقادي لأنّ المؤرّخ ينشغل بالحوادث مجردة من المشاعر، والمصور يلتقط اللحظة بلا أحرف ولا تعبير، بينما الرواية تأريخ وتوثيق وتصوير واستنطاق. لكن ما يفعله الروائي لا يمكن أن يغير شيئًا ذا جدوى في زمن الحرب. الروائي ليس رجل إطفاء ولا هو بمسعف يداوي الجرحى. إنه يقدّم ما يمكن أن يؤثّر في المدى البعيد فحسب. وأهمية عمله تكمن في تخليد ما يمكن أن يتعرض للنسيان في خضم زحمة الأحداث الكثيرة والتفاصيل التي قد لا ينتبه إليها الإعلام الذي يغطي الحرب.

بالنسبة إلي شخصيًا حاولت تسليط الضوء على الوجه البشع للحرب. الآثار الجانبية لأيّ حرب تتشابه في كل مكان وفي كل زمان: أرامل، ثكالى، أيتام، نازحون، بيوت مدمرة، وضع اقتصادي مزرٍ للغاية، أمراء حرب وآثار نفسية تمتد عقودًا وتطال أجيالًا كثيرة. كتبت في مرحلة مبكرة عن الحرب. وبما أنّني روائي كردي مطلع على حيثيات الحرب والثورة في منطقتي فقد اهتممت بها أكثر من غيرها. كتبت أوّلًا «دم على المئذنة»، وفيها سلطت الضوء على ما يمكن أن تفعله فاشية محلية ناشئة وتحت شعارات الثورة نفسها، ثم كتبت «كوباني» عن الحرب التي دارت رحاها في مدينتي. بعدها جاءت رواية «باص أخضر يغادر حلب» ثم «ممر آمن» أخيرًا عن احتلال عفرين وما تلا ذلك من قتل وتشريد للسكان ونهب لممتلكاتهم.

في رواياتي كلها كان الإنسان المدني، المواطن البسيط هو الشخصية المحورية. لم أكتب عن أبطال أسطوريين ولا أيقونات، بل اقتربت ما وسعني من المهمشين والبسطاء الذين لا يلتفت إليهم أحد. أردت أن أكون صوت الإنسان العادي الأكثر تضررًا في الحرب، أسرد معاناته وأصور مأساته من باب الإنصاف.

في اعتقادي لما نكتبه أهمية قصوى. نحن ننقل المأساة بطريقة مغايرة للخبر الصحافي، والنشرة التلفزيونية وحتى الصورة الفوتوغرافية. نحن ننقل وجع الضحية وصراخها إلى الآخرين عبر سرد القصص والغوص في أعماق الشخصيات التي نتناولها. تلتصق الشخصية الروائية بخيال المتلقّي أكثر كثيرًا من شخص عابر في تقرير صحافي.

بالطبع هذه الروايات ستكون في المستقبل وثائق مهمة. أوّلًا سترصد حالة الإبداع والاهتمامات التي انشغل بها الكتّاب خلال سنوات الحرب ولهذا فائدة عظيمة في دراسة تاريخ الأدب.

ثانيًا ستعرف الأجيال المقبلة كثيرًا من التفاصيل التي لن يجدها الإنسان في مصادر أخرى ككتب التاريخ التي توثق المرحلة، وحتى بعض الأفلام الوثائقية.

أوافق النقّاد الذي يرون أنّ الروايات السورية في العقد الأخير سياسية. هذا أمر طبيعي في اعتقادي. نحن نكتب عن الحرب. والحرب فعل سياسي. وما حدث في سورية تدخلت فيه سياسات متشابكة بأبشع صورة. لم تكن الأزمة لتتفاقم إلى ما وجدناها عليه لولا تدخل الدول الإقليمية والقوى العظمى في الصورة السورية. وعلى هذا فإنّ من يكتب عن هذه المرحلة لا بدّ أن يشير بصورة أو بأخرى إلى هذا الموضوع وبذلك تكون لروايته صبغة سياسية. هل يمكن مثلًا كتابة رواية عن احتلال عفرين بمعزل عن الخوض -ولو بصورة عابرة- في السياسة الإقليمية؟ هل يمكن أن يكتب روائي عن أيّ مدينة سورية انتفضت ثم تعرّضت للدمار من دون أن يعرج على سياسة الاستبداد المزمن الذي أفرز هذه المآسي كلها؟ لكن لا بدّ أن نشير إلى أنّ بعض الروايات تزيد من جرعة السياسة بحيث تبدو لغتها تقريرية جدًا وبعيدة عن لغة الرواية. هناك من وقع في هذا المطب وابتعد عن الاشتغال على الجانب الإبداعي وأفرغ حمولته السياسية كلها على أرض روايته مما أضعفها.

إن إطلاق تسمية أدبية على مجمل الأدب الذي ظهر بعد آذار/ مارس عام 2011 في سورية يحتاج إلى بعض الوقت. ستتوضح الرؤيا قريبًا حين تسكت المدافع ويلملم الناس جراحهم.

مازن عرفة: وثائق روائية عن زمننا المجبول بالقهر والدم

كنت أعيش في البلاد، والمنفى في داخلي، في تفاصيل الحياة اليومية؛ تلك البلاد المنفى التي لم نكن نجرؤ فيها حتى على الحلم. كنت بحاجة إلى الشعور بالحدّ الأدنى من الكرامة، من الإنسانية. الآن أعيش في المنفى، والبلاد أضحت حكاية في داخلي. الحكاية تنمو، تعرّش في الحنين، كلما غرقت أكثر في أوجاع المنفى. عن هذه الحكاية أكتب رواياتي، لكن ماذا بقي منها؟

لم يكن هناك وطن؛ كانت البلاد “مزرعة”، امتلكها أحد “غرانيق المشرق”؛ صورة إله على الأرض. بعض “الغرانيق” يرتدون بزة عسكرية، وبعض آخر قفطانًا بدويًا. لكن “غرنوقنا”، انتعل بوطًا عسكريًا في رأسه. ثم زين بزته العسكرية بأوسمة انتصارات وهمية، ووزع المزرعة غنائمًا على حاشيته من “المافيات” الرسمية المحلية. وعندما أسقطنا تماثيل الإله ـ الوهم، في الساحات، وفي العقول، في لحظة اشتعال إنساني في القلوب المحرومة، استنجد بـ “الغزاة” من أصقاع غريبة. وجعل الدم السوري مزادًا لشهية عمائم خرافية، تعيش في توهمات تاريخية، ممسوخة بالجنون والمازوشية، ومزادًا لفاشية معاصرة، حوّلت البلاد إلى حقل تجارب لأسلحة دمار شامل. باع “المزرعة” بكاملها للغزاة؛ الحجر والشجر والمطر والهواء، كي يحموه من انتفاضة الأموات ـ الأحياء في المقابر الجماعية التي يجثم فوقها عرشه. ومن بقي في “المزرعة” من الرعية، يتنقل يوميًا بين موت وموت، يشحذ اللهفة، عله يعوض بها كسرات الخبز المفتقدة، في وقت عزت فيه اللهفة.

تشظّت البلاد، والإنسان تشظّى، والأحلام تشظّت. بنادق “بزّات مموهة” لميليشيات، ممسوخة بالتبعية للغزاة، وسيوف “لحى إسلامية”، غارقة في جنون تبعيتها لصحراء الخواء، هي من بقيت على قيد الحياة، متماسكة. “مافيات معاصرة”، لا تنتشي إلّا بالدم، ونحن الطرائد المشتهاة. وعندما لم تعد تجد طرائد كافية، في “المزرعة”، عرضت نفسها للإيجار، “مرتزقة”، في أيّ أصقاع، لمن يدفع أكثر بالدولار.

لكن، بقيت لنا أيضًا ذات حكاية، ذات ذكريات، ذات حنين لمصاطب طينية، أمام بيوت ريفية معطاء، تحت أشجار الجوز الوارفة، نشرب الشاي عليها، ويراودنا الحنين، ولحارات مدن عريقة، نشرب في مقاهيها العتيقة القهوة، ونسافر مع الأمنيات، على إيقاع خرير “النوفرة”، وهذا ما حاولت أن أفعله في رواياتي الثلاث ـ «وصايا الغبار»، و«الغرانيق»، و«سرير على الجبهة» ـ، أن استدعي الحكاية؛ حكايتنا نحن، في وجه “البوط العسكري” و”اللحية الإسلامية” اللذين دمرا المصطبة الطينية، والمقهى العتيق.

عندما كنا صغارًا، علمونا في المدارس أشعارًا عن مجد “القبيلة”؛ عن الغزو، و”سبي النساء والماشية والغنائم”. كنت أعرف أن “البدوي الدموي” يعيش فينا؛ من دماء “ليلة الدخلة” في الأعراس، إلى “دماء الثأر”، مرورًا بـ”سطو مافيات الدولة”، تمتص دماءنا. لكن، لم أتوقع أن هذا البدوي سيرتدي بزّة مبرقعة، و”يعفش” بروح القبيلة الديار التي مات أهلها تحت “قصف البراميل المتفجرة”، أو هجروها هاربين بأرواحهم، وسيستبدل بالحصان شاحنة عسكرية، وشتائم طائفية؛ وهو ما عشته يوميًا على مدى أعوام ستة، ودونت بعضًا منه في رواياتي.

عندما كنا صغارًا، علمونا في المدارس مجد “الجهاد”، و”ما عرف العالم فاتحًا أرحم من العرب”. بالطبع، لم أكن أصدق مثل هذا “الكذب”. لكن، ما إن أعلنّا الانتفاضة على “الغرانيق”، حتى تكاثرت “الدويلات الإسلامية”؛ كل دويلة، بثلاثة أشبار، تتصارع بدموية في ما بينها، على “حف الشوارب”، و”عورة الركبة”. وبعضها كان يبعد عن بلدتي بضع كيلومترات، لا تتجاوز أصابع اليد. يتلذذ خلفاؤها بسادية “قطع الأطراف والرؤوس”، و”الجلد”، و”الرجم”، و”سبي النساء”. في وقتها، أصبح لديّ برهان عملي، بأنه “لم يعرف العالم أسوء وأشرس وأكثر دموية من فتوحات العرب”، وأنه ليس هناك “جهاد النفس”، وإنما فقط “جهاد الدم”، بكل قداسة البداوة”، القادمة من الصحراء، وأن تاريخنا كله، من مقدساته الاستيهامية إلى دنيويته الاستعراضية، هو كذبة من توهمات، حتى يوم البارحة لدينا، هو كذبة، ونحن نتنقل بها من وهم إلى وهم.

عندما كنت أشهد تظاهرات الآلاف السلمية في بلداتنا ضدّ الدكتاتور، وقد غُلبت على أمرها بإطلاق النار مباشرة عليها، وهم يصرخون بصوت واحد يهز العرش “يالله، مالنا غيرك يالله”، فيتساقطون أكثر، تأكّدت وقتها أنه إما أنّ الإله نائم، أو غير موجود. وإن كان موجودًا، فهو متعاطف مع كل “دكتاتور” في العالم. وعندما أتحفنا الإسلاميون بأنّ الله “يختبرنا” بالمصائب، ولا يملكون إلّا هذا الجواب، عرفت أنّ الغباء مستحكم لدى أهل العمائم. ما هذا الإله الذي يحتاج إلى أكثر من مليون قتيل، ومثلهم من المفقودين، وضعفهم من الجرحى والمعوقين، ودمار بلاد كامل، هُجّر في داخلها سبع ملايين إنسان، ومثلهم خارجها، كي يختبرنا. واكتشفت أخيرًا، أنه في الواقع، ليس هناك إله، وإنما آلهة؛ كل فرقة، كل طائفة، كل عشيرة، كل عائلة، وكل عمامة تفتي بجنونها، لها إلهها الخاص، ينتشي بدماء الآخرين، الإسلاميون كلهم، بدءًا من أصحاب “العودة إلى الأصول”، حتى المنتظرين “مهديهم”، ومرورًا بكل من يلبسون إسلامهم، لحية أنيقة وربطة عنق، يؤسسون للدكتاتور؛ الوجه الآخر لهم، على “عملة” حياتنا اليومية، التي خسرت حتى قيمة شراء خبزنا اليومي.

قدّمت رواية «وصايا الغبار»، حكايات من بلادنا عن تراكم قهر المحرومين، من قبل دكتاتور، مدعوم بوصايا الصحراء الإسلامية “الغبار”، ما شكّل مقدّمات لانتفاضات “الربيع العربي”.

وقدّمت رواية «الغرانيق»، حكاية “انتفاضة معاصرة”، كسرت حدود الزمان والمكان؛ “انتفاضة” تحدّث في أيّ مكان وزمان، إلّا أنّ ذروتها كانت في بلادنا.

وقدّمت «سرير على الجبهة»، حكايات جدتين؛ واحدة ريفية، والثانية مدينية، عن الحنين والذكريات، في مواجهة الدمار، الذي خلفته البندقية والسيف.

ليست رواياتي سياسية، إنما إنسانية؛ هي حكايات الناس البسطاء، في حياتهم اليومية. حكايات ممزوجة بالفنتازيا، وأسفار الخيال، والكوميديا السوداء، والمونولوجات الداخلية، والقفز بين الأمكنة والأزمنة. وهو ما يلجأ إليه الأفراد في أزمنة القهر، كـ”أحلام يقظة”. لكن تراكم “أحلام اليقظة” الفردية يقود، حتمًا في النهاية إلى “انفجار جمعي”؛ إلى “انتفاضة”، إلى “ثورة”. ومع ذلك، كنت أريدها وثيقة روائية عن زمننا، المجبول بالقهر والدم. الرواية “السياسية المباشرة” تفقد ألقها سريعًا، بينما الرواية ـ الحكاية تُزرع في الذاكرة، وتُعرّش في حنين الأجيال.

ابتسام تريسي: أسسنا لأدب الثورة السورية

في زمن الحرب يجتهد الروائي في جمع الحكايات والأحداث الملهمة من أجل اصطفاء ما يمكن إعادة صوغه وتشكيله ضمن نصّ روائي، المؤكّد أنّ الرواية ليست عملًا وثائقيًا وإلّا كان الأجدى أن نسميها “كتاب تاريخ” أو “وثيقة لأيّام الحرب”. علمًا أنّ الحرب ليست التسمية الدقيقة لما حدث في سورية. ما حدث ثورة حقيقية كانت الرواية خير من عبّر عن تناقضاتها ومطباتها والعنف غير المسبوق الحاصل في زمنها.

الرواية في هذا الزمن لا يمكنها أن تقوم بفعل التغيير وتأثيرها محدود جدًا ومرتبط بنسبة الوعي والاهتمام بالقراءة لدى الجيل الذي طحنته الحرب، وقتلت كل جميل فيه وجعلت دائرة اهتماماته تضيق وتنحصر في الحصول على خيمة ورغيف خبز وأحلامه تتجسّد في الرحيل عن البلاد التي ثار لأجلها وانتفض مطالبًا بالتغيير وإسقاط النظام.

الرّواية بالنّسبة إلي منذ بدأت كتابتها عملٌ إبداعي أقرب إلى الواقع، كان أحيانًا وثيقة تاريخية لعب فيها الخيال دورًا متفاوتًا.

ما كُتب خلال سنوات الثورة يمكنه أن يؤسس لأدب يحمل اسم “أدب الثورة السورية” حتّى ذلك الذي كتبه رماديون تعاموا عن الحقيقة أو الذي كتبه موالون، فهو يشكّل الحلقة المفقودة في الصراع ويكمل المشهد السوري الدموي وإن حاول كتّابه تشويه الحقائق بالطريقة التي ترضي السلطة من موقعهم كعبيد لها.

هذا الكم الكبير من الإنتاج الروائي المرتبط بالمرحلة الزمنية يدفعنا إلى تقييمه، بالنسبة إلي لم تؤثر سخونة الحدث وطزاجته في تسييس أعمالي إلى الحد الذي أتخلى فيه عن جماليات الكتابة الروائية “اللغة والتخييل” يمكن للقارئ مثلًا أن يبحث عن حقائق موثقة في رواياتي التي أنجزتها في زمن الثورة «مدن اليمام»، «لمار»، و«لعنة الكادميوم» التي غاصت في عمق الحدث منذ بدايته حتى نهاية عام 2014.

أزعم -وأنا على يقين- أنّ تلك الرّوايات على الرغم من توثيقها للحدث بصدق كانت عملًا روائيًا خالصًا فيه من التجريب والجماليات اللغوية والأسطرة والتخييل ما يرتقي به ويبعده عن التوثيق والسّياسة.

في رواية «مدن اليمام» التي طبعت عام 2012، تناولت بداية الثورة واعتقال ابني بتفاصيل المرارة التي عشتها كلها أمًا وكاتبة، وكانت وثيقة حقيقية وصادقة كنت فيها الراوية الأم والشّاهدة على كل ما جرى.

في رواية «لمار» تناولت طاغية سورية منذ النشأة الأولى. قد تتقاطع سيرته مع بعض طغاة العالم وقد تفترق عنها لكنها بكل تأكيد رسمت ملامحه بشكل متكامل وعرّت تاريخه القذر. وتابعت في «لعنة الكادميوم» دخول تنظيم “داعش” الإرهابي والفصائل الإسلامية إلى الشمال وسيطرتها على الثورة وحرف مسارها، وكنت أيضًا شاهدة على أحداث امتدت من ثمانينيات القرن الماضي إلى الوقت الذي أنهيت فيه كتابة الرواية. وتابعت رحلة النزوح إلى الغرب والعودة في رواية «سلّم إلى السّماء» وخصصت «الشّارع 24 شمالًا» بحكايات النساء في مدينة اللاذقية خلال قرن من بداية بناء حيّ “الشّيخ ضاهر” خارج السور مرورًا بالتغييرات الحاصلة في نهاية السبعينيات والاعتقالات في الثمانينيات والثورة والمآسي التي حصلت في الحيّ.

لا أزعم أنّني الوحيدة بين الكتّاب والروائيين الذين حافظوا على جماليات الرواية مع اعترافي أنّ النسبة العظمى من النتاج الروائي اعتمدت التوثيق وأسلوب الرواية السيرية.

قلائل الذين جاؤوا بالحدث وصنعوا منه رواية وهذا القليل يجعلنا ننظر بأمل إلى وجود رواية حقيقية ستحقّق اكتمالها في الأجيال المقبلة.

المأساة السورية بتداعياتها كلها وعن طريق كتّابها ستترك للعالم أدبًا ينقل ما عاشه الشعب السوري العظيم من ظلم وقهر واضطهاد، وهذا الشعب العظيم سيمنح الأدب عظمته ويترك بصمة مميزة تخلّده بوصفه أدبًا جيدًا خرج من بوتقة النّار التي أحرقت سورية بيد الطغاة ودمرتها.

أجمل الروايات تلك التي انبثقت من روح البيئة المحلية وهي لذلك تعبيرٌ جمالي عن الهوية الوطنية على الرغم من التساؤلات كلها التي تُطرح اليوم حول مفهوم الوطن الذي يبدو أنه لم يتحقّق بعد في أنساقنا المعرفية، ولم يتأسس بصورة صحيحة في نظمنا السياسية. هنا يأتي دور العملية الإبداعية التي يُعدُّ فيها التمرّد من ضمن خصائصها البنيوية، فأن تبدع يعني أنك متمرّد على واقع معين أو على نسق ثقافي معين بغض النظر عن المجال الذي تبدع فيه (الأدب، الموسيقا، الرسم…).

إبراهيم اليوسف: أثرنا في مواجهة الزوال

إذا كان استئنافي العمل، في مضمار السرد في تجربتي الكتابية، أو: ردتي السردية، وتخصيص الرواية منزلة في هذه التجربة حلمًا لطالما راودني بعد محاولة أولى كتبتها في مطلع حياتي، في هذا المضمار، ولم يشأ لها النشر، ولربما كان ذلك خيرًا لي، فإنّني لم أرَ في التوجه إلى هذا العالم ضرورة أكثر إلحاحًا، إلّا في ظل الحرب على السوريين، إذ كنت أحد من تناولوها بأشكال عدة: المقال والقصيدة والقصة القصيرة جدًا، بل حتى الظهور المتلفز، والمشاركة في الندوات، فضلًا عن التوجه إلى العمل السياسي في هذا المضمار، في أولى النويات التي ظهرت آنئذ للعمل الجماهيري، لآيسَ، وأرى أنّ ما يحدث أكبر من محاولات تناولنا لها كلها، لا سيما بعد أن غدت القصيدة أمام مهمات جديدة، تناولتها في أكثر من كتاب، مثلًا: «استعادة قابيل: صياغات جديدة للوعي والأدب والفن»، و«هكذا أكتب قصيدتي- الشاعر والنصّ في مهب النظرية».

أجل، تدريجيًا، بدا لي أنّ ما يجري على امتداد خريطة المكان، لا يمكن تناوله -كما ينبغي- عبر أدوات الكتابة المتاحة، ولا سيما قد أنجزت أكثر من مجموعة شعرية من بينها «ساعة دمشق» التي تناولت فيها -يوميات الثورة- ووجوه الشهداء الأعلام: ثوارًا وأمكنة ثائرة، منذ بداياتها، بل أنجزت نصوصًا ملحمية عن أشخاص وأحداث، لأرى أنّ ثمّة تفاصيل كثيرة لا بدّ من أن تتناول، وأنّ القصيدة التي باتت تفرض ذاتها إنما هي مختلفة عن تصوّراتنا، ونظرياتنا المُستظهرة، في شعر الحداثة، لأنّ النصّ الجديد لا بدّ من أن يتخفف من كثير من أناقته، وبهرجته، بما يتواءم مع رائحة الدم والدمار والخراب، لتؤدي الصورة مهمتها، ولا توأد.

هذه الهواجس، في ضوء تجربتي الشخصية مع القول والفعل تحوّلت إلى أسئلة ملّحة، لأرى أنه مع مرور السنوات، لا بدّ من الارتقاء إلى مستوى الحدث -أكثر- بخاصة أنّ جمهور الرواية بات يتعاظم، لدواع ليس هنا مكان استقرائها، على حساب انحسار القصيدة، مهما سمت، وأحاطت -بما هو ممكن بالنسبة إلى عالمها- لأنها لا يمكن أن تخرج عمّا هي محكومة به، لا سيما في حضرة قارئ آخر، مختلف، مغاير، بل في حضرة انتشار -الصورة- أو لنقل: شبكات التواصل الاجتماعي، بأشكالها، ومقدرة -الفيديو- على التأثير الكبير، حتى وإن كان معرّضًا لسوء الاستخدام، بعكس، الواقع، إلّا أنّ هذا الفيديو -بالنسبة إلى كاتب مثلي ووفق رؤاي- غير قادر أن يؤثّر أكثر، وأعمق، وأبعد، وأرسخ من دور الكتابة. من دور السرد، والروائي منه، تحديدًا.

عندما تعرّض شارع منزلي، في مدينة “قامشلي” لتفجير إرهابي، كتبت عددًا من المقالات ذات الطابع الأدبي، بل رحت أكتب عن وجوه الضحايا/ الشهداء، لأنّني كنت أعرف كثيرين منهم. إنهم جيراني. أبناء الحي الذي عشت فيه حتى آخر نفثة هواء، لكنني أحسست أنّ أرواح هؤلاء تستحق ما هو أكثر -شأن كل شهيد من أبناء وطني وبلدي- وهم في مواجهة آلة الدكتاتور الذي لم يتوانَ عن الإقدام على حرق المكان والكائن، من أجل محض كرسي زائل.

أتذكر، وأنا أتعرّض –للتحقيق- من قبل جلاوزة النظام الذين كانوا ينزعون إلى ممارسة التعذيب النفسي بحقّي، في إثر كتابة مقال، أو إبداء رأي، لم يكن لديّ غير أن أقول: سأظل أواجهكم بسلاح أعظم هو الكتابة، وهو ما كنت أفعله، ومارسته، وأمارسه على امتداد سنوات الثورة/ الحرب، بعد أن أعلن نظام دمشق هذه الحرب على السوريين، ليقابل: غصن الزيتون بالقذيفة، ويجعل المكان مرتعًا لكل المولعين بممارسة القتل واحتساء الدماء: من قبل مستقدمين من خارج البلاد كما من قبل أمثالهم من داخلها، ليحدث كل ما حدث وما يزال يحدث حتى الآن من تدمير وتهجير وسفك دماء وإزهاق أرواح وحرق تاريخ وحضارة وحاضر بل مستقبل قريب.

من هنا، جاءت تجربتي في رواية «شارع الحرّية» (2017)، لأتناول تفاصيل أحد جراحات جسد الوطن، كي يكون ذلك في إهاب سردي جمالي، بما يقارب الوثيقة، ولا يكونها في آنٍ، كما تقتضي طبيعة عالم الرواية، لأجمع بين شخصيات حقيقية وأخرى متخيّلة، وهكذا بالنسبة إلى الأسماء، والخطوط الرئيسة أو الفرعية للحدث، بعد أن أيقنت أنّ هذا النصّ مؤهل لمزيد من القراءة، وهو ما جرى، ليطبع هذا العمل أكثر من مرة، ويكون إحدى الوثائق الأدبية عن بشاعة الحرب. عن بشاعة العقل الإرهابي. عن بشاعة الأدوات التي آزرت نظام الطاغية، وقدّمت سند كفالة جديد من دماء أبرياء أعرفهم، كما دماء كثيرين من أمثالهم، على امتداد خريطة سورية، من دون أن أظل أسير الوثيقة، أو المذكرة، أو السيرة -وكلها موجودة بشكل جزئي- ضمن إهاب عمل أردته أشمل، وأوسع، كما خطّطت له، وإن كنت هنا لا أدخل في نطاق التقويم، لأنه شأنه الناقد المتخصص.

غير بعيد عن عالم هذه الرواية فقد كتبت رواية «شنكالنامه» (2018)، عن جرائم “داعش” ضدّ الأيزيديين، في مناطقهم، ضمن الجغرافيا الملفقة التي سمّوها، على امتداد مكانين في أطلس الاعتراف الدولي: سورية والعراق، بما فيهما من مفردات لها خصوصياتها، وتناولت محاولات محو هؤلاء لبشر مسالمين، لطالما عاشوا بيننا، وتعرضوا للإبادة، وكان هذا الغزو أو هذا السبي الأخير، محطة جديدة في “الفرمانات” التي مورست بحقّهم، لأتفاجأ بشهادات أبناء المكان، وبعض المحرّرات من الأسر ممن قالوا وقلن لي: “وكأنك كنت معنا”، على الرغم من أنّني كنت بعيدًا عنهم آلاف الكيلومترات جغرافيًا.

تأسيسًا على ما سبق، فإنّني أرى أنّ الرواية، وفي ظل انتشارها السريع والواسع، من أكثر الفنون الإبداعية التي تستطيع أن تنهض بالتفاصيل، ليس من أجل أرشفتها -وإن راح بعضنا يعمل في هذا المجال- وإنما من أجل تقديم نصٍّ مواز للواقع، يبيّن قبح صناع الحروب، والطغاة، والقتلة، لا سيما إن لم تكن هذه النصوص محض فانتازيا لا رصدًا حرفيًا للواقع، لأنّ أدوات التقانة، في عصر ثورة ما بعد الحداثة قد تجاوزت فجاجة التقريرية، وكسرت كل جدار بين المتابع المراقب والواقع، بعكس النصّ الإبداعي الذي يلبي حاجة جمالية لدى المتلقّي، إضافة إلى تحريضه، وهزِّه، من أعماقه.

مؤكّد، أنّ ما قدّمتُه من جهد ضئيل في هاتين الروايتين، إضافة إلى رواية أخرى صدرت للتو في عمان بعنوان «جمهورية الكلب» (2020) التي رصدت فيها واقع المُهجَّر، المقتلع من ترابه، في لحظة صدمة اللقاء بين الشرق والغرب، امتدادًا لحالة الحرب التي أراني أحد ضحاياها، وشهودها، وإن كنت أراني غير قادر -البتة- على قول إلّا ما هو جدّ ضئيل، بما لا يوازي أنّة أنثى اغتصبت على يدي قاتل، أو دمعة طفل تحت الأنقاض فقد بيته وألعابه، وقبل ذلك أخوته وأخواته وأبويه، فضلًا عمّا لا ينتهي من أمثلة من سلسلة تراجيديات الحرب القذرة، ليكون المتناول -من لدني- أشبه بمحاولة طائر يروم إطفاء نار تلتهم غابة فيها عشه وفراخه وفضاؤه، وهذا كله -أعني الفعل الكتابي وهو الروائي هنا- ما لا يستهان به البتة -في ترك أثر أراه جدّ ضروري، لأنّ الكتابة- كما رأى تولستوي مبدع رواية «الحرب والسلم» الأداة التي تجعلنا نترك أثرنا في مواجهة الزوال.

لم يغب عن بالي، كلما انتهيت من إنتاج عمل سردي سؤال جدّ مهم: ما القيمة الفنية لمثل هذا المنجز؟ حقيقة، إنّني جدّ معني بأن يكون لكل عمل أتنطع خلاله لتناول تفاصيل الألم، من منظور إبداعي، ألّا يكون ما أقدّمه محض مرجع تاريخي -فحسب- لأنّ كتّاب اللحظة، ومؤرّخيها -ما أكثرهم-، بل أكاد أقول: لم تعد ثمّة حاجة إليهم، أمام -الأقمار الصناعية- التي تصوّر حركة أي عصفور بعد انتفاضته في وجه أيّ قطرة مطر، أو نسمة، أو كف ريح، أو خطر أفعوان، أو سواه، ولقد جرى الحديث في حرب الخليج -عن بخار وجبة الطعام المقدّم لهذا المتواري عن الأنظار في أحد الأقبية تحت الأرض- إذ لا أحد خارج الرصد التكنولوجي، لهذا فإنّ مثل هذا التقويم متروك لاثنين: قارئ حقيقي ذي ذائقة، وناقد منصف ذي ضمير وحساسية، معترفًا -سلفًا- أنّ كثيرًا مما هو غثيث بات يُكتب، بسبب نيابة بعضنا عن دور المراسل الحربي في الكتابة عن الحرب، أو المؤرّخ وهو يرصد ما يدور في السجون أو حتى الحياة اليومية، خارجها، في ظل سقوط الرقابة، وانتشار المطابع كما الفطر، درجة أنها باتت موجودة في بيوتنا بكثرة، فضلًا عن النشر الإلكتروني الذي يسقط زمن النشر ليكون محض ثوان بعد الانتهاء من أيّ سفر كتابي عظيم.

أخيرًا، إنّني أرى كثيرًا من الروايات باتت تتحلّل -هي الأخرى كما الشعر أو اللوحة أو حتى الأغنية- من تبرجها، لتهيمن اللغة التقريرية -أنى كانت هناك أحداث ملتهبة الوطيس مقاربة للواقع- لتكون هناك -رواية حرب- بعلامات فارقة، فيها إعادة اعتبار للحياة، في نسختها -الأصيلة- وهي تواجه أعداءها، عبر ناص لم يذعن، وكان الأكثر استدعاء للتفاصيل، لا يفتأ يقدّمها في محاكمة ما: في حرب الخير والشر. الأفول والبقاء، يقدّم -حبل الخلاص- في اللحظة التي يعقد الحبل/ الأنشوطة، لرقبته، كما محيطه، إلّا أنّ حبر دواته لا يرعوي ولا يغيب قبالة أيّ دخان أو ألسنة حريق أو سيل دماء.

المزيد
من المقالات