قدمت الوحشية والسادية التي انتهجها النظام في سجونه للإنسانية أسوأ نماذج ممكنة في التعذيب والإجرام، عمل من خلالها النظام جاهداً على أن يقتل الإنسانية وروح الثورة في نفوس المعتقلين لإجبارهم على الرضوخ، ولأهالي المعتقلين وأصدقائهم والمهتمين بشأنهم ثانياً.
لم يعتقل النظام مئات الآلاف من الأبرياء في زنزاناته وحسب، بل اعتقل نفسياً مئات الآلاف من المحيطين بهم، المتألمين لمصابهم، الخائفين على مصيرهم، وكل الأسر التي تقضي أيامها على نار الانتظار والقلق، وكل الأمهات اللواتي لم تجف دمعاتهن حسرة وهن ينتظرن عودة الغائبين من المجهول،
اعتقل مدناً وبلدات وقرى، اعتقل دولةً بأسرها وزج بها في أقبيته، وعتّم على جرائمه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولما حصل على الضوء الأخضر وشعر أنه ناجٍ مهما أسرف وأمعن في الإجرام أعلن جرائمه على الملأ، ليقنع نفسه بأنه منتصر بالسوط والأغلال والمشنقة والرصاصة المكتومة.
أراد قتل الزهور بحرب خفية في الزنزانات لا يدري بها أحد، تفنن في التعذيب وطوره إلى أساليب جديدة، وتركت روسيا الراعية الرسمية لإجرامه بصمتها في المعتقلات، تماماً كما يترك كل محتل آثاره البشعة في المكان وفي النفوس وذاكرة المعتقلين، أرادوا وأد المبادئ، وقتل كل محاولة للانتفاض، وكل أملٍ للتغيير، ليخرج المعتقل إن خرج مستسلماً راغباً بالموت أكثر من رغبته بالحياة.
التعذيب الممنهج الذي يسلكه النظام يسعى لأن لا يبقى للحرية قرار في أرض يحكمها الأسد، ولكن في صراع الخير والشر تظهر النتائج بشكل مفاجئ غير محسوب له، فأدب السجون الذي نفذت من خلاله القوقعة إلى العالم، وخمس دقائق وحسب (تسع سنوات في سجون سورية)، ومن تدمر إلى هارفرد، كلها صرخات مكتومة أراد كتابها أن يوصلوا للعالم كله الحقيقة لا شيء سوى الحقيقة، ولو كلفهم ذلك بقية حياتهم، فأعمارهم التي استنزفت خلف القضبان، وأجسادهم التي اهترأت في العزلة والوحشة والألم، وذاكرتهم التي امتلأت بمشاهد الإعدامات الميدانية وصرخات الألم كلها شواهد للتاريخ وعبر العصور بحجم الصبر الذي عاشه ويعيشه الشعب السوري الأبي لينال حريته، كما أنها دلالات واضحة أن هناك شيئاً ما أرادوا كسره ولم ينكسر!
نظرة في عيون معتقل قادرة أن تُشعل ثورة، وأن تقدم للإنسانية تجارب في الصبر والثبات والمقاومة، نظرة واحدة يمكن أن تترجم معنى القهر لألف معنى جديد، ويمكنها أن تكون مخزون كرامة يوزع على الشعوب والأمم.
السّجانون هم سجناء بطريقة أو بأخرى، هم يمارسون التعذيب على الآخرين خوفاً على بقائهم، لأنهم يعتبرون حرية السجناء تهديداً صارخاً لهم، فأنفاس المعتقل الذي يبقى على قيد الحياة تمثل حالة من القلق والخوف بالنسبة للسجانين، هم مرعوبون حتى من إظهار وجوههم، مرعوبون من القيود الموضوعة في معصم السجين لأن بفكاكها إمكانية لملاحقتهم أو محاكمتهم، ولأن في قوتها ضعفهم، ولأن قوتها قوة الحق التي من مهامها ردع الباطل بأشكاله وأنواعه، ولذلك فهم يقدسون الحاكم إلى حد التأليه، ويمارسون تعذيبهم السادي للأبرياء ليبقى الحاكم ففي بقائه أمانهم، ومن ناحية أخرى فبقاؤهم مستعبدين إلى هذا الحد، خانعين ممتثلين لأوامره، منتزعة عنهم إنسانيتهم، يعيشون مسلوبي الضمير والإحساس، هم بذلك بمثابة واجهة أو درع يتحصن به الحاكم،
وهو درع هش لأنه قائم على هشاشة ما يتبناه من أفكار وقيم وأخلاق، وهو هش بما يقوم عليه من انحراف عن الحق ومراءاة للظلم والباطل، ولكنه يستمر ويستمر طالما جاور ذلك الصمت والسكوت من جهة الناس، وطالما غاب الوعي والرغبة في إنهاء هذه الحالة من الخوف المسيطر والبطش اللامحدود.
نحن في مرحلة صعبة من مراحل الثورة، خسرنا الأرض، وفارقتنا أسراب من الشهداء إلى الجنة، وظلت الزنزانات مغلقة على المعتقلين بانتظار أن تُفتح ذات حرية.
أما عن آلاف الأسماء التي أخذت تتوارد بإعلان فاجر لتفتح عزاء في كل بيت، وتجدد نزف الجراح، فإن الراحلين من الأحرار والمظلومين قد انتقلوا إلى حياة الخلود والراحة الأبدية، كل وخزة ألم دلالة واضحة بأنهم لم يذعنوا للسجان، ولا حادوا عن رسالتهم يوماً، نفكر باللحظات المؤلمة الكثيرة التي عبروها حتى فارقوا الحياة، لكننا على يقين بأنها اللحظات التي جعلت لحياتهم معنى.
فصرخاتهم ثورة، وأنينهم ثورة، وصبرهم ثورة، وصمتهم ثورة، وصوت صرير الزنزانات تغلق عليهم صوت ثورة، لا قضبان تسكته، لا تعذيب يمنعه، لا سطوة حاكم تضع له حداً.
صوتٌ ممتد عبر الماضي والحاضر والمستقبل، يتسلل عبر الأزمنة، يطرق أبواب البيوت، يجلس في كل الأمكنة متربعاً داخل كل ضمير حر، صوتٌ لا يتوقف عن الدفع باتجاه المقاومة والثورة وتحطيم الأقفال ومحاكمة المجرمين.
الصوت أقوى من أي سجن، الصوت نورٌ يغزو كل عتمة، صوت الذين استشهدوا ورحلوا وهم على مبادئهم، وصوت الذين ينتظرون مصيرهم بصبر وإيمان كبيرين.
بقي علينا نحن الذين اعتقلونا من غير زنزانة أن لا نفقد أصواتنا، وأن نواصل المواجهة وألا نستسلم، السجون ستفرغ ذات يوم، الأبواب الموصدة ستُفتح، الأقفال ستتحطم، والحرية والعدالة ستقول كلمتها ولو بعد حين.