لم يكن يخطر ببال “عبد الباسط السّاروت ” الشاب النحيل الأسمر ابن حي البياضة بحمص الذي لم يكن يتجاوز عمره عند اندلاع الثورة السورية تسعة عشر ربيعاً، ولا في بالنا نحن الذين قُدّر لنا أن نسكن في منطقته ونتلقّف هتافاته الحماسيّة منذ ولادة الثورة؛ لم يكن يخطر في بالنا جميعاً أن هذا الشاب ذو الشخصية العفويّة المتمرّدة سيصبح يوماً أحد أهمّ رموز الثّورة وأيقونتها التي أجمع السوريون على محبّتها وبكوا فقدها طويلاً …لكن من أُتيح له التعرف على الساروت عن قربٍ سيفهم لماذا هو ودون غيره وكيف استحقّت تفاصيل شّخصيته الشّجاعة غير المتكلّفة وحياته النبيلة المميّزة أن تتحوّل إلى أسطورةٍ ورمزٍ بالنسبة لكثيرين سأحاول هنا استعراض جزءٍ يسيرٍ من تلك التفاصيل التي عايشتها وكنت شاهداً عليها .
منذ اليوم الأوّل للثورة، وبتوقيت صيحة الحرية الأولى التي أعلنت ولادة فجرٍ جديدٍ لسوريا، لم يفكّر السّاروت طويلاً أو يحاول وضع خطّة تفاضل بين كرامة وطنه ومصالحه الشّخصيّة أو تُوازن بين ما سيفقد وما يمكنه تجنّبه، وهو الذي كانت النّجومية في تلك الفترة تفتح له ذراعيها لاحتضانه بصفته حارس شباب نادي الكرامة الحمصي ذائع الصيت والحارس الأول لمنتخب شباب سوريا. أشاح بوجهه عن كل تلك المغريات وهرول نحو المظاهرة الأولى لاحقاً بركبها وملبّياً صرخة الضمير المقدّسة التي دوّت في روحه الرّافضة للظلم والتواقة لحرية السوريين .
بالكاريزما التي يمتلكها والحماسة التي تشعّ من عينيه استطاع أن يعتلي الأكتاف مبكّراً بهويته الحقيقية وباسمه الصريح ويدين كلّما تحركتا في المظاهرة بحركات التحفيز التهبت قلوب المتظاهرين وصدحت الحناجر أسوةً بحنجرة باسط التي ما عهدتها في تلك الفترة إلا وقد بُحّت من كثرة الهتاف حتّى بات خلال أشهر أحد أبرز المطلوبين لأجهزة النّظام الأمنيّة التي خصّصت مبالغ طائلة لمن يساعد في إلقاء القبض عليه، وتحوّل باسط إلى أبرز قادة التّظاهر في حمص متنقّلاً بين حاراتها رغم الحواجز الكثيرة والمخاطر الكبيرة ليقود المظاهرات التي ما إن يصل إلى إحداها حتى تضجّ بهتاف التحيّة له “باسط حبيبي باسط ..باسط حبيبي “.
وأدرك الساروت أن حنجرته باتت ترعب النظام منذ ذلك الوقت فغنّى عشرات الأغاني الثّوريّة التي تحيّي الوطن، تختصر الحكاية، تتحدّى الرّصاص، وتتحدّث طويلاً عن الشّهادة التي لا يليق بالأبطال نهايةٌ سواها، وتوصي الأمّهات بالصبر على الفراق. فهنالك ما يستحقّ كلّ هذه التّضحية، وشكّلت تلك الأغاني الثوريّة والهتافات التي أداها السّاروت بمجملها مرآةً لمطالب وتحوّلات وأهداف الثّورة وأصبحت إرثاً خالداً وذاكرةً حيّةً لثورة وطن.
مع إمعان النّظام بالقتل والتهجير وارتكابه لمجازر جماعيّة متتاليةٍ في مدينة حمص مطلع عام 2012 وعدم وجود أي نية دولية لوقف شلال الدم، اختارت الثورة طريق الكفاح المسلح والدفاع عن النفس بعد أكثر من عام على محاولتها التمترس خلف خطها السلمي وحده، فدخل باسط مجال العمل العسكري وشكّل مجموعةً صغيرةً من رفاقه وأبناء حيّه أطلق عليها اسم “كتيبة شهداء البياضة” تيمّناً باسم الحي الذي ولد فيه ودَفن فيه شهداء كثر من رفاق دربه من بينهم أخوه الأكبر “وليد” الذي قتلته ميليشيا النظام عام2011 ،،وبعد أشهر من تشكيل الكتيبة واجتياح النظام لمعظم أحياء حمص الثائرة ،أصبح ما تبقى من تلك الأحياء داخل المدينة على موعد مع حصار حمص الشهير الذي أطبق فكّيه على بضعة آلاف من الثوار ومئات العوائل في حزيران من عام 2012، لتبدأ مسيرة فدائية للساروت منذ ذلك الحين بمعارك متتالية تهدف إلى كسر الطوق عن المحاصرين ابتدأها في الشهر الأول من الحصار بعملية عسكرية من داخل الحصار لم يكتب لها النجاح ثم خرج عبر أحد الأنفاق إلى المناطق المحررة القريبة خارج الحصار ليشارك في معارك متتالية كلها لذات الهدف أصيب في أحدها وصرخ تحت تأثير المخدر في عمليته الجراحية “ودي افتح طريق للعائلات” كأصدق ما يكون الثائر المستعد للتضحية بكل شيء من أجل إنقاذ ملهوف أو نجدة محاصَر.
وفي جميع المعارك التي خاضها كان الساروت قلب الهجوم دائما ورأس الحربة في عمليّات الاقتحام وشريانها النابض.
وعندما عجز عن كسر الحصار من الخارج اختار الدخول عبر بساتين الوعر إلى داخل الحصار ليشارك المحاصرين مصيرهم ففقد أخاه الثاني “محمد”وأصيب هو فور دخوله إلى الحصار وعاش أشهراً من الجوع الذي فتك بأجساد المحاصرين وسطر في الوقت ذاته ملاحم في التصدي لمحاولات قوات النظام المتتالية اجتياح المنطقة المحاصرة.
وعندما اشتدّ الجوع أكثر شنّ عمليّة عسكريةً خطّط لها لأشهرٍ استهدفت منطقة المطاحن المحاذية للحصار والخاضعة لسيطرة النظام بهدف جلب الطحين للمحاصرين الجوعى ،لكنها لم تكتمل واستشهد أخوان آخران لعبد الباسط هما “عبد الله” و”أحمد” فيها ولم تحقق العملية مرادها، واستمر مناضلاً صابراً حتى توقيع اتفاقية التهجير القسري من الحصار إلى ريف حمص الشمالي في أيار من عام 2014 ليبدأ الساروت مرحلةً جديدةً من المقاومة.
في الريف لم يتوقف كفاح الساروت واستمرّ فيه راهناً كل دقائق حياته للثورة واستطاع ببراعةٍ وجاذبيّة أن يجمع بين ثنائية القتال والغناء الثوري فبقي الرمز الذي لمع نجمه في ساحات القتال كما كان كذلك أيضاً في ساحات التظاهر.
وبعد عدّة عمليات عسكريّة قام بها في ريف حمص متّبعاً أسلوباً جديداً وهو حرب العصابات والكمائن والإغارات التي مكّنته من اغتنام أسلحةٍ نوعيّة وتكبيد ميليشيات النظام خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد أثبت الساروت للجميع بأن أبناء الثورة قادرون على الاعتماد على أنفسهم دون تبعيّة وارتهان للدّاعمين وشكّل قوّة مميزة في ريف حمص خلال تلك الفترة.
بدأت بوادر الاقتتال الدّاخلي تظهر في الريف لكن الساروت استطاع رغم كل التهم الزائفة التي وجّهت له والاستفزازات المتكررة أن يتجنب أي صراع مسلح مع أيٍّ من الفصائل ولم يشارك في معركة داخلية واحدة ،ورغم ذلك كان هدفاً لجبهة النصرة التي لاحقته في ريف حمص وداهمت مقرّاته لكنّه آثر عدم قتالهم رغم قدرته على ذلك تجنّباً لسفك الدماء فخرج إلى الشمال السوري ومنه إلى تركيا التي لم يجد فيها ما يطفئ لهب الثورة في روحه التواقة دوماً إلى التّضحية فأدار لها ظهره وتمكّن بعد عدة محاولات من الدخول إلى سوريا رغم تعرضه لمضايقات لم تمنعه من العودة إلى مكانه الطبيعي على الجبهة الأسخن والأقرب إلى محبوبته حمص، التي ما انفك يغنّي لها شوقاً وحبّاً ويعاهدها على إكمال المسير حتى تحريرها هي وكل تراب سوريا.
بين الفينة والأخرى في تلك الفترة كان يطلّ الساروت بكلماتٍ بسيطةٍ وصوتٍ شجيٍّ وحنجرةٍ وفيّة تحيي آمال الثورة في نفوس الناس، هذا ما كان يظهر على الشاشات أمّا بعيدأً عن الأعين فقد كان ورفاقه يعيشون تفاصيل تضحيات وفداءٍ في كل يوم ويستحضرون دائما ما غنّاه الساروت قبل سنوات ليس من قبيل الذكرى فقط، إنما لتذكير أنفسهم بعهد إكمال الطريق والوفاء للشهداء والمعتقلين الذين ماغابوا عن كلمات وقلب باسط يوماً.
ولأنّه غنى يوماً “حلمي الشهادة يابا” وتنبّأ بيومٍ سيأتي فيه بثوب الشهادة لتزفه أمه عندما غنى “يا يمّا ..بثوب جديد” ولأنّه أقسم فأبرّ ووعد فوفّى ..كان على موعده مع الشهادة في 8/6/2019 على جبهة ريف حماة في المعركة الأصدق والأنبل وشيّعه الملايين بدموعهم وكلماتهم ورحل نحو الخلود كأنقى ما يكون الرحيل .
لم تكن الرمزيّة والأسطورة التي وصل إليها عبد الباسط أثناء حياته وبعد استشهاده إذاً بحاجةٍ إلى أيّ شهادات أو مؤتمرات أو تنظير ،كان كل ما امتلكه وفاءٌ وصدقٌ وشجاعةٌ وعشقٌ فطريٌّ للوطن وأهله ليصبح أحد أهم رموز الثورة السورية التي أوصانا الساروت بأن نستمر في طريقها حتى النصر ووصفها قبل رحيله بأنها “ثورة شعب “وأخبرنا أن” الشعب بعمرو ما انغلب”.