بعد أكثر من عام على اتفاق سوتشي في آذار/ مارس من العام 2020، بين الرئيسين التركي والروسي، عاد الشمال السوري إلى دائرة الحدث، نتيجة التصعيد العسكري والقصف الجوي والمدفعي، من قبل جيش النظام السوري وحليفه الروسي، باستهدافه المدنيين في مناطق التفاهمات الروسية التركية التي تقع تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية، في محافظة إدلب[1]، على الرغم من تأكيد الرئيسين التركي والروسي في لقائهما الأخير، أواخر الشهر الماضي أيلول/ سبتمبر 2021، على ضرورة الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار الموقّع بين الطرفين في الشمال السوري.
من جانب آخر، وعلى جبهة مختلفة، استهدفت ما يُسمى بـ “قوات سوريا الديمقراطية/ قسد” مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، وصعّدت من هجماتها على القوات التركية داخل الأراضي السورية، بل وصلت قذائف (قسد) إلى داخل الأراضي التركية، في مدينة قرقميش (مقابل منطقة جرابلس). وهو ما فتح المجال للحديث عن عمليات عسكرية تركية مرتقبة، تستهدف المناطق التي تسيطر عليها (قسد).
أمام هذا المشهد المعقد، تستعرض هذه الورقة الواقع العسكري شمال سورية، ومواقف الأطراف المتداخلة هناك، وسيناريوهات العملية العسكرية، في حال حدوثها، وانعكاس ذلك على المدنيين.
لقاء بوتين-أردوغان.. لا تفاهمات لاحتواء التصعيد:
عقد الرئيسان التركي والروسي قمة ثنائية في مدينة سوتشي، أواخر الشهر الماضي أيلول/ سبتمبر 2021، وعلى الرغم من هدوء وانخفاض وتيرة القصف خلال انعقاد القمة، فقد سبقها تصعيد عسكري على الأرض، من جهة قوات النظام السوري، بدعم من الحليف الروسي، كما تلاها عمليات قصف مدفعي من جيش النظام وصل مداها إلى مدينة سرمدا الحدودية مع تركيا، وصعّد الطيران الروسي هجماته على مواقع لفصائل من الجيش الوطني السوري الذي تدعمه تركيا، وشملت غاراتها مناطق حدودية مع تركيا، وهو أمرٌ لم يكن مألوفًا خلال السنوات الماضية.
وعلى الرغم من أن القمة قد ناقشت مواضيع كثيرة، منها ما هو متعلق بالشأن السوري، كمحافظة إدلب والتفاهمات الروسية التركية هناك؛ ومنها ما هو متعلق بالشأن الإنساني وموضوع إرسال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين؛ ومنها ما هو متعلق بالعملية السياسية ككل في سورية، وخاصة اجتماع اللجنة الدستورية السورية، المنعقد حاليًّا في جنيف، فضلًا عن مناقشة قضايا ذات اهتمام مشترك بين الطرفين، في جوانب مختلفة اقتصادية وسياسية وعسكرية وتتعلق بملفات أخرى، فإن ما هو ملاحظ أن القمة لم تخرج بنتائج ملموسة تعكس الرغبة في احتواء التصعيد العسكري وما استتبعه من حشود عسكرية لقوات النظام والميليشيات الداعمة لها من جهة، وتعزيزات للجيش التركي في نقاط المراقبة العسكرية، وإنشاء عدد جديد منها في منطقة جبل الزاوية في إدلب، بل لم يعقد الرئيسان أي مؤتمر صحفي، واكتفيا بالتصريحات الصحفية التي لم تتعدّ الجانب الدبلوماسي، وتُرك الأمر للوفود التقنية التي تنسّق الجوانب العسكرية والأمنية بين البلدين.
وعلى الرغم من الضغط الذي تمارسه روسيا بشكل مستمر على تركيا، في محاولة منها للحصول على أكبر قدر من المكاسب على أرض الميدان، مستغلة سوء العلاقة بين أنقرة وواشنطن؛ فإن طبيعة العلاقة بين تركيا وروسيا معقدة ومركبة في وقت واحد، ولذلك يظلّ حصول صدام عسكري مباشر بين الطرفين أمرًا مستبعدًا.
الواقع الميداني في الشمال السوري:
الاستهدافات المتصاعدة من قبل ميليشيا (قسد) للقوات التركية في الأراضي السورية، التي أسفرت عن مقتل عدد من العسكريين والأمنيين الأتراك، والقصف العسكري الأخير للداخل التركي، دفع الرئيس التركي إلى التلويح بالقيام بعملية عسكرية في المناطق التي تنطلق منها التهديدات، وقد صرّح أردوغان بأن صبر بلاده قد نفد، حيال القصف الذي يستهدف الجيش التركي في الشمال السوري، وهدّد بالقول: “سنقضي على التهديدات التي مصدرها من هناك (شمال سورية)، إما عبر القوى الفاعلة هناك، وإما بإمكاناتنا الخاصة”، وأن “كفاحنا في سورية سيستمر بشكل مختلف للغاية في الفترة المقبلة”، مضيفًا: “سنخوض كل أشكال الكفاح اللازم ضدّ تلك التنظيمات الإرهابية والقوات المدعومة أميركيًا هناك، وكذلك ضدّ قوات النظام، ونحن عاقدون العزم في هذا الخصوص”. والجديد هنا هو القول بأن “الكفاح التركي” سيستمر حتى ضد قوات النظام السوري، وهو تصعيد جديد من قبل الأتراك. والسؤال في هذا المقام هو: هل بإمكان أنقرة ترجمة تصريحاتها على أرض الميدان، خصوصًا إذا ما استمر التصعيد العسكري من قبل روسيا والنظام السوري؟!
ومن خلال النظر إلى العمليات العسكرية السابقة التي أطلقتها أنقرة خلال الأعوام المنصرمة، وبسبب تعقد المشهد وتداخل المصالح في الشمال السوري، نجد أن تركيا عادةً ما تسعى للحصول على غطاء سياسي لأي عملية تنوي القيام بها، وعلى اعتبار أن مناطق التهديد التي تنطلق منها الهجمات العسكرية، التي تستهدف مناطق النفوذ التركي وصولًا للأراضي التركية، تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية”، وهي ضمن مناطق النفوذ الروسي، فإن المشهد يزداد تعقيدًا، وهو ما يوجب حصول توافق روسي-تركي، وتركي-أميركي.
قد تبدو الأمور معقدة وغير واضحة تمامًا في الشمال السوري، وتستبعد بعض التحليلات العسكرية وجود عمل عسكري من قبل قوات النظام السوري وروسيا باتجاه محافظة إدلب، ولكن في الطرف الآخر، تبقى العملية العسكرية التركية تجاه مناطق سيطرة (قسد) مفتوحة
على أرض الميدان، تركيا لديها أوراق ضغط كثيرة، وهو ما يسمح لها بهامش من المناورة، منها وجود عدد كبير من نقاط المراقبة التركية، التي حولتها أنقرة في الفترة الأخيرة إلى قواعد عسكرية، وإلى طوق عسكري يمتد من مناطق درع الفرات حتى جبل الزواية والكبينة في ريف محافظة اللاذقية، إضافة إلى أن تركيا قامت بتدريب وتنظيم القوات الحليفة لها من فصائل المعارضة السورية، كالجيش الوطني والجبهة الوطنية للتحرير. ومن المتوقع أن يتكرر ما حدث في عملية “درع الربيع” في العام 2020، إذ استطاعت تركيا -من خلال استخدامها للطائرات المسيرة “بيرقدار”- صدّ هجوم قوات النظام السوري وإيقاف تقدم تلك القوات، ويعدّ امتلاك هذه الطائرات المسيرة ميزة إضافية لدى أنقرة، لم تستطع أجهزة الدفاع الروسية صدّها. وقد ذكرت صفحات عدة أنباءً عن بدء هذه العمليات فعليًا، حيث اعترفت “قوات سوريا الديمقراطية” بمقتل 3 من مقاتليها بقصف من طائرة مسيّرة تركية في مدينة عين العرب (كوباني) في 23 الشهر الجاري، وكان “المرصد السوري لحقوق الإنسان” قد وثق، في 21 من الشهر الجاري، مزيدًا من الخسائر البشرية، من “جراء الاستهداف الجوي الذي نفّذته طائرة مسيرة تركية على سيارة في مدينة عين العرب (كوباني) شرقي حلب، الأربعاء 20 أكتوبر، حيث ارتفع تعداد القتلى إلى 5، بينهم اثنان من الكوادر”[2].
ولا شك في أن تركيا ستعمل على منع أيّ عمل عسكري يؤدي إلى موجة جديدة من اللاجئين، وهي التي تعاني ضغوطًا داخلية وأوضاعًا اقتصادية صعبة، وهذا أمرٌ يدخل ضمن حسابات الخطر للأمن القومي التركي.
يعيش في محافظة إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي ما يقارب 4 مليون مدني، وهناك العديد من مخيمات النازحين على الشريط الحدودي مع تركيا، وسيؤدي أيّ عمل عسكري إلى موجة جديدة من اللاجئين، ويعاني السكان هناك أزمات اجتماعية واقتصادية عديدة، إضافة إلى أن المنشآت الصحية تعاني حالة ارتفاع في أعداد المصابين بفيروس كورونا، فضلًا عن عدم توفر المسحات الضرورية للمصابين، هذا الأمر يقابله نقص كبير في المعدات والكادر الصحي والمنشآت الطبية التي خرجت عن الخدمة خلال عشر سنوات من الحرب، بسبب تعرضها للقصف من قبل الطيران الروسي والسوري. وتشكّل هذه الوقائع مجتمعة عوامل ضغط على صانع القرار التركي، لمواجهة أي تصعيد عسكري من قبل النظام السوري وحلفائه على جبهة إدلب.
سيناريوهات العملية العسكرية:
قد تبدو الأمور معقدة وغير واضحة تمامًا في الشمال السوري، وتستبعد بعض التحليلات العسكرية وجود عمل عسكري من قبل قوات النظام السوري وروسيا باتجاه محافظة إدلب[3]، ولكن في الطرف الآخر، تبقى العملية العسكرية التركية تجاه مناطق سيطرة (قسد) مفتوحة على ثلاث سيناريوهات:
– السيناريو الأول هو عدم حدوث عملية عسكرية، وهذا مرتبط بضبط الأمور والالتزام بوقف إطلاق النار من جميع الأطراف العسكرية الموجودة على الأرض، وهو ما تعمل عليه تركيا حاليًا، من خلال القنوات الدبلوماسية المستمرة مع كل من روسيا وأميركا.
– السيناريو الثاني هو حصول عملية عسكرية محدودة، ولكن هذا الأمر منوط بحصول الأتراك على ضوء أخضر روسي أميركي مشترك، يسمح لهم بشن هذه العملية، على غرار ما حدث في العمليات العسكرية الثلاثة الماضية التي شنتها تركيا[4]، ولكن بشرط ألا تستهدف تركيا قوات النظام السوري، وهو ما يتطلب ضمانات تركية للروس حول هذا الجانب، وهذا السيناريو مرتبط بلقاء الرئيسين التركي والأميركي في روما، أواخر الشهر الحالي.
– السيناريو الثالث، ويتوقع حصوله في حال استمرار القصف والتهديد لتركيا من قبل “قوات سوريا الديمقراطية”، وهو أن تتحرك أنقرة بمفردها، حتى في حال عدم حصولها على ضوء أخضر أميركي أو روسي لشن هذه العملية، وهذا الأمر دافعه الأمن القومي، والبعض يعدّه “شرعيًا” في القانون الدولي، لكونه لا يعارض شروط اتفاقية أضنة الموقعة بين تركيا وسورية، وهو ما يؤكده المسؤولون الأتراك، مرارًا وتكرارًا، ولكن هذا السيناريو قد يحدث في حالة واحدة فقط، وهي فشل المساعي الدبلوماسية التركية، في الحصول على التفاهمات المطلوبة ضمن هذا السياق.
ومن المُستبعَد أن تظلّ الأمور على حالها فترة طويلة من الزمن؛ حيث تستهدف قوات النظام -بدعم من الجيش الروسي- مناطق في جنوب إدلب، بصورة متكررة، وتستهدف (قسد) مواقع تخضع لسيطرة الجيش التركي وحلفائه، وتستمرّ تركيا في استهداف نقاط وأهداف لقوات (قسد) بالطائرات المسيّرة.
[1] تجدر الإشارة إلى أن هذا التصعيد هو نتيجة فشل قمة الرئيسين أردوغان وبوتين، وبالتالي غياب التفاهم بين الطرفين، ولذلك تسعى روسيا إلى ممارسة مزيد من الضغط العسكري على تركيا.
[3] ولكن تبقى إمكانية حدوث عملية عسكرية للنظام مرتبط بالتفاهمات غير المعلنة بين كل من تركيا وروسيا في حال شنت تركيا عملية عسكرية ضد قسد في مناطق النفوذ الروسي.
[4] درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام