1- من تعريفات الأخلاق
2- العلاقة بين الأخلاق والواقع الاجتماعي
3- العلاقة الجدلية بين الاستبداد والفساد
4- الوضع الأخلاقي في سورية قبل عام 2011
5- الانعكاسات الأخلاقية الخطيرة للنزاع في سورية
5. 1 – لاأخلاقيات السلطة
5. 2- لاأخلاقيات القتال
5. 3- نمو التعصب الفرقي والمذهبي
5. 4- تفاقم الاستلاب
5. 5- انتشار النفاق السياسي
5.6- لاأخلاقيات الأزمة
5.7- نمو العشائرية والعائلية
5.8- الزعرنة تنمو وتنتشر
5.9- ماذا عن التطرف؟
6- تدهور الأخلاق ومخاطره المستقبلية
7- خلاصة
تختلف الأخلاق بين مجتمع ومجتمع، ويمكن أن تختلف بين عصر وعصر في المجتمع الواحد، وعلى الرغم من أن المداخل في دراسة الأخلاق تتعدد وتختلف في مدارس الفلسفة والعلوم الإنسانية المختلفة، فإن المتفق عليه هو أن الأخلاق هي دومًا جزء أساسي من حياة الناس، في كل المجتمعات والعصور، تؤثر في حياتهم وتتأثر بدورها بظروفهم، فتتقدم مع تقدم الحياة، وتؤدي دورًا مؤثرًا ومتأثرًا في تقدّمها، وتتقهقر مع تقهقر الحياة، ويكون لها دور مماثل في تقهقرها.
1- من تعريفات الأخلاق:
بما أن الأخلاق هي دومًا عنصرٌ جدلي تكاملي، من عناصر الواقع الاجتماعي وشخصية الفرد البشري، فإن تعريف الأخلاق يختلف باختلاف المفاهيم السائدة في ثقافة مجتمعها العامة، أو بثقافة الشخص الذي يعرّفها الخاصة، ولذلك تتعدد تعريفات الأخلاق وتختلف باختلاف أصحابها، ومن ذلك مثلًا:
يقول المعجم الفلسفي المختصر، السوفيتي، عن الأخلاق: «إن الأخلاق تلعب دور المنظم للعلاقات بين الناس، فالفرد، إذ يهتدي بالقواعد الأخلاقية، إنما يساعد في النشاط الحيوي للمجتمع… وبالمقابل فإن المجتمع، إذ يؤيد وينشر هذه الأخلاق أو تلك، إنما يكوّن شخصية الإنسان وفقًا لمثله العليا»([1]).
أما الكاتب العراقي الليبرالي راغب الركابي، فيقول: «الأخلاق في المذهب الليبرالي عبارة عن مجموعة قيم ضرورية واحترازية في الوقت نفسه، والضرورة والاحتراز هنا من أجل صيانة المجتمع وحمايته من التعدي والتجاوز، أي إنها تتخذ شكل القانون في طبيعته وفي فعليته ومنجزيته، وإيمان الليبراليين بالأخلاق إيمان بالمبادئ الأولية اللازمة في صناعة المجتمع وصناعة الحياة، والتي يترتب عليها تطوير بنى العمل الاقتصادي والسياسي والثقافي الاجتماعي، وعلى هذا الأساس، اعتبرها الليبرالي حاجة تعزز الشعور بالذات في صف الفعل الموجب»([2]).
فيما تقول موسوعة ويكيبيديا في نسختها الإنكليزية: «الأخلاق هي التفرقة في النيّات والقرارات والأفعال بين تلك التي يتم تمييزها على أنها قويمة (أو صحيحة) وتلك غير القويمة (أو الخاطئة). يمكن أن تكون الأخلاق مجموعة من المعايير أو المبادئ المستمدة من مدونة سلوك مشتقة من فلسفة أو دين أو ثقافة معينة، أو يمكن أن تكون مشتقة من معيار يعتقد الشخص أنه يجب أن يكون عالميًا. وقد تكون الأخلاق أيضًا مرادفة على وجه التحديد لـمفهومي “الخير” أو “الصواب”»([3]).
وكما سلفت الإشارة أعلاه، فما يمكن أن نجده مشتركًا في معناه بين هذه التعريفات، على الرغم من اختلاف أصحابها، هو علاقة الأخلاق بالمجتمع والفرد، فالأخلاق تنشأ في المجتمع وفقًا لمعايير المجتمع لما هو صحيح وما هو خاطئ، وهي موجودة لخدمة صالح المجتمع ككل، وعلى الفرد، لكي يكون صالحًا في مجتمعه، أن يلتزم بها.
2-العلاقة بين الأخلاق والواقع الاجتماعي:
تقول ويكيبيديا (نقلًا عن موسوعة ستانفورد الفلسفية)([4])، إن المنظومة الأخلاقية يمكنها أن تكون ذات مرجعية دينية أو فلسفية أو ثقافية أو شخصية، وهذه أمور يمكن أن نلمسها بشكل دائم وحيّ ومباشر، في تجربتنا الحياتية المعتادة، ففي سورية وسواها من المجتمعات العربية المتدينة، يلعب الدين دورًا محوريًا في تحديد المعايير والقيم الأخلاقية، مع ذلك فهذه المعايير وحدها لا تصنع سلوكًا أخلاقيًا عمليًا، فالسلوك هو دومًا محصلة للمعايير الأخلاقية العامة والعوامل الشخصية الخاصة والظروف الاجتماعية القائمة، وفي الوقت الذي يعمل فيه تأثير العوامل الشخصية على إنتاج سلوكيات حسنة أو سيئة ذات طابع شخصي أو فردي، فالظروف الاجتماعية العامة في تفاعلها مع المنظومة الأخلاقية السائدة هي ما ينتج حالة أخلاقية مجتمعية عامة، وبالتالي فمهما كانت المنظومة الأخلاقية المعيارية السائدة رفيعة.. فهي عمليًّا لا تستطيع أن تحمي الأخلاق في جانبها العملي من التدهور في الظروف الاجتماعية المأزومة، ولا تستطيع أن تمنع السلوكيات التي يمكن تصنيفها كسلوكيات غير أخلاقية أو منحطة أخلاقيًا، وفضلًا عن ذلك، فالمعايير الأخلاقية نفسها يمكن أن تتغير في الأزمات والظروف المعيشية الحرجة، وتتغير بالتالي مفاهيم كل من الخير والشر في أنظار الناس أو تتغير المواقف منهما، وهكذا يصبح التدهور الأخلاقي أمرًا محتمًا في حالة التدهور المعيشي، وهذه حالة عامة تنطبق على كل الشعوب والمجتمعات، وسورية قطعًا ليست استثناءً من ذلك.
3-العلاقة الجدلية بين الاستبداد والفساد:
العلاقة بين الاستبداد والفساد هي علاقة تلازم وتكامل، فكل استبداد هو بطبيعته حكم لا أخلاقي، يقوم على الاستحواذ على السلطة بالقوة وإخضاع الناس بالعنف والترهيب، ويهدف إلى تحقيق المصلحة الخاصة المتضخمة للمستبد وحاشيته وأعوانه، على حساب المصلحة العامة للشعب والوطن، ولذا لا يمكن بالطبع لأي مستبد أن يجد أنصارًا له بين شرفاء الناس الذي يرفضون حكمًا التسلط والبطش والترهيب والمصالح الخبيثة، ولا يمكن أن يناصر المستبد إلا فاسدو الأخلاق من الوصوليين والانتهازيين والمنافقين والباحثين عن المكاسب مهما كان السبيل إلى ذلك، وإضافة إلى ذاك، المستبد يرى في الشرفاء دومًا خصومًا خطرين، وفي الشرف نفسه عدوًا لدودًا، وليتفادى خطرهم لا يكتفي بمحاربتهم بشكل شخصي، بل يعمل على نشر الرذيلة في المجتمع، فهي البيئة المناسبة لاستبداده، وهكذا يهيمن الفاسدون في النتيجة على المجتمع، ويصبح الفساد هو القاعدة، ويصبح الصلاح هو الاستثناء، وتصبح الدولة، التي يفترض أن تكون قاطرة مسيرة تقدّم ورُقيّ شعبها على كل الصعد، بؤرةً للفساد وحصنًا للتخلف والانحطاط، وتتحول إلى ما يشبه المزرعة المملوكة الخاصة التي تستغلها شبكة المستبدين والفاسدين أبشع استغلال لخدمة مآربها، ولكن هذه الشبكة لا تتعامل معها بعقلية وأخلاقية المالك الرشيد الذي يحافظ على ملكيته ويصونها ويحميها من الأذى والخراب، بل تتعامل معها مثل اللصّ الذي يسرق شيئًا ليستخدمه في غرض ما، ولا يهمه إلا تحقيق غرضه، وإن أتلف ذلك هذا الشيء المستخدم، وعن العلاقة المتلازمة والوثيقة بين الاستبداد والفساد، يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”: إن «الاستبداد أصل لكل فساد»([5])، ويقول أيضًا بهذا الشأن: «الحكومة المستبدة تكون طبعًا مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا، لأن الأسافل لا يهمهم طبعًا الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كانت ولو بشرًا أم خنازير، آبائهم أم أعدائهم، وبهذا يأمنهم المستبد ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه، وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقلّ، حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصًا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقة في اتخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدين أو ذمة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعًا وخصالًا أعلاهم وظيفةً وقربًا، ولهذا لا بد أن يكون الوزير الأعظم للمستبد هو اللئيم الأعظم في الأمة»([6]).
4- الوضع الأخلاقي في سورية قبل عام 2011:
ما لا شك فيه أن عقدًا من الصراع العنيف والتدهور المعيشي في سورية تسبب في كثير من الانعكاسات السيئة على الأخلاق فيها، ولكن هذا لا يعني قطعًا أن الوضع الأخلاقي في سورية كان في وضع حسن قبل عام 2011، فالانتفاضة السورية التي انطلقت في ذاك العام هي نفسها كانت ردة فعل واقعية ونتيجة محتمة لعقود سيطر فيها الاستبداد وتفشى فيها الفساد، وهذا ما أدى إلى انتشار العديد من الظواهر السلبية في المجتمع السوري، ومن أهمها سلبية المواطن وانتشار الواسطة والمحسوبية، وشيوع الرشوة واختلاس المال العام والوصولية والنفاق السياسي وتملق السلطة وهلم جرًّا.. وهذه كلّها غدت أمورًا دارجة في الحياة اليومية، يفعلها من يفعلها طوعًا أو اضطرارًا، بلا حرج، بل صارت بأنظار كثيرين أشكالًا من أشكال “الشطارة” المستحسنة، وصار من لا يقوم بها هو الذي يعاب، ويعدّ متزمتًا أو فاقدًا للواقعية أو ساذجًا أو “عبيطًا”، كما يقول المصريون.
وتلك الصورة التي رسمها الكواكبي للاستبداد عام 1931 هي صورة عامة دائمة، وتنطبق على كل نظام دكتاتوري أينما كان، ولذا نجد أن الفساد كان مستشريًا بقوة في سورية حتى قبل عام 2011، وهذا ما يحاول مستخدمو السلطة المستبدة الفاسدون نفيه وتمويهه، وتصوير الفساد في (الدولة) في سورية وكأنه حالات استثنائية فردية، وليس ظاهرة متفشية ومتجذرة ومرتبطة جوهريًا بطبيعة النظام المستبد نفسه، وهم عادة يحملون مسؤولية هذا الفساد للشعب، ويرجعونه إلى سوء التربية والموروث، وحال هذه الأبواق المأجورة في ذلك حال من يحاول تغطية الشمس بغربال.
وتجدر الإشارة إلى أن سورية حلّت عام 2010 في المرتبة 127 عالميًا، و15 عربيًا، بين 178 دولة في العالم في مؤشر مدركات الفساد (CPI) الذي تصدره منظمة الشفافية العالمية، والذي يركز على العمل في مؤسسات الحكومة والقطاع العام، وقد حصلت فيه على 2.5 نقطة من أصل عشرة، حيث يدلّ الرقم المنخفض على معدلات فساد عالية([7]).
5-الانعكاسات الأخلاقية الخطيرة للنزاع في سورية:
تسببت سنوات النزاع في سورية بأضرار فادحة على مختلف الصعد، وما زال حجم هذه الأضرار يتزايد، وبالطبع أصاب الأخلاق، على مستواها العام، ما أصاب غيرها من الأذى والتدهور الكبيرين، فازدادت الظواهر الأخلاقية التي كانت موجودة قبل الأزمة سوءًا، وظهرت ونمت ظواهر جديدة، لم تكن سابقًا موجودة أو منتشرة، ومن خلال هذه الظواهر التي حدثت أو ما تزال تحدث في ساحات القتال أو في المناطق التي لم يحدث فيها مواجهات مسلحة، يمكن أن نتبين المدى الذي وصل إليه التدهور الأخلاقي في سورية.
5. 1- لاأخلاقيات السلطة:
الفساد الذي كان مستشريًا ومتجذرًا في منظومة السلطة السورية قبل عام 2011، تزايد كثيرًا هو الآخر، كمًّا وكيفًا، خلال سنوات الصراع، ولم تتغير الأسس الفاسدة التي تعمل عليها أجهزة ومؤسسات هذه السلطة، فقد بقي الولاء هو المعيار في تولي مواقع المسؤولية، إن جاز تسميتها بالمسؤولية، وبقيت المحسوبيات والواسطات أسلوبًا سائدًا في الاختيار والتوظيف، وبقي استغلال موقع المسؤولية من أجل المصلحة الخاصة هو القاعدة، واستمرت الرشوة، وسرقة المال العام، وتجاهل وتجاوز القوانين، والفلتان الوظيفي، كما استمرت حالة هيمنة الأجهزة الأمنية والحزب الحاكم على المؤسسات الرسمية والأهلية، وواصل الإعلام دوره الدعائي التضليلي، أو كما يسمى عاميًا “دوره التطبيلي التزميري”، وتابع المسؤولون والأصح “ممثلو السلطة” أسلوب عملهم الشائع المتمثل باستغلال مواقعهم الحكومية لخدمة مصالحهم ومصالح من ولّاهم ووضعهم في هذه المواقع، كما تابعوا خطابهم المزاود وأساليبهم المزمنة في تمويه وتزوير الحقائق والالتفاف عليها لخداع الناس، وكما سلف القول، فقد اشتدّ كل هذا خلال سنوات الحرب.. ولعب في ذلك دورًا رئيسًا كلٌّ من غياب الدولة والفلتان الأمني وتدهور الوضع المعيشي، وفي المحصلة، صار الوضع أسوأ، وعلى سبيل المثال، صنفت منظمة الشفافية العالمية سوريةَ كثالث أسوأ دولة في العالم، من ناحية الفساد، فحصلت في “مؤشر مدركات الفساد” على المرتبة 178، من 180 في العالم، لعام 2020، وقبل الأخيرة عربيًا، حيث تلاها فقط الصومال([8])، وإذا ما قارنّا هذه النتيجة مع ما كانت الحال عليه عام 2010، الذي لم يكن بدوره جيدًا قطعًا، حيث كان ترتيب سورية هو 127 عالميًا و15 عربيًا بين 178دولة في المؤشر نفسه؛ تبيّن لنا مدى التراجع الكبير الذي حصل في مجال الفساد، ومدى نمو هذا الفساد خلال سنوات الصراع.
5. 2- لاأخلاقيات القتال:
شهدت مناطق الصراعات المسلحة كلّ أشكال العنف المفرط وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وقد تضمّن هذا المجازر وقصف المناطق المأهولة وقتل المدنيين، أطفالًا والنساء ومسنّين، والعنف الجنسي والتعذيب والتجويع والتهجير والتعفيش والسلب والابتزاز المادي وسواها، وهذا ما أكده العديد من التقارير الدولية التي أعدّها مختصون حياديون، وقد أثتبتت هذه التقارير تورط جميع أطراف النزاع بالقيام بمثل هذه الأعمال الإجرامية، وبهذا الخصوص، تقول قناة (الحرّة) على موقعها الإلكتروني، في 9 شباط/ فبراير 2021: «خلص تقرير للأمم المتحدة إلى أن ما يقرب من 10 سنوات من الحرب في سورية قد وسمت الصراع بأبشع الانتهاكات للأعراف الدولية وقوانين حقوق الإنسان، بما في ذلك حدوث أنواع من الإبادة الجماعية»، وتضيف القناة أن لجنة التحقيق “اتهمت جميع القوى المتحاربة بارتكاب جرائم مروعة، لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل أو بذريعة محاربة الإرهاب”([9])، وقد شجع الصمت الدولي وعدم السعي لمعاقبة مرتكبي هذه الجرائم هؤلاء المرتكبين على ارتكاب مزيد منها، وهم في ذلك مطمئنون إلى أنهم لن يحاسبوا على ما يقترفون.
وليس الخطير في هذه الجرائم وحشيتها وتجردها فحسب.. بل تناقضها الحاد مع القيم الإنسانية، فنتيجة لحدة الصراع والتجييش الفـِرقي، الطائفي أو العرقي، ولاستفحال السمسرة والاتجار بالشؤون الوطنية والثورية، تنامى بشكل كبير التعصب والتطرف، بين أوساط واسعة في صفوف المؤيدين والمعارضين، وصارت كل تلك الفظائع تُبرر، بسبب الولاء الأعمى؛ أو -وهذا هو الأسوأ من سابقه- تـُقبَل وتـُؤيد بدافع التعصب والنقمة والحقد والشماتة بالخصم.
5. 3- نمو التعصب الفرقي والمذهبي:
مع أن الانتفاضة السورية بدأت كحراك وطني مدني سياسي سلمي مستحق، فإنها، نتيجة عوامل عديدة يتحمل مسؤوليتها النظام المتسلط وبعض الفئات المعارضة الانتهازية أو المتطرفة إضافة إلى التدخلات الخارجية (الإقليمية أو الدولية) المغرضة، دفعت بشدة باتجاه العنف والتطرف والتعصب، وفرضت عليها مسارات لا تخدم قطعًا المصلحة الوطنية، بل على العكس من ذلك تلحق بها أفدح الأضرار، وفي المحصلة، تنامى التعصب الفرقي، واشتدت واتسعت حدة الهوية والتطرف المعتقدي، وظهرت الجماعات المتطرفة ذات الطابع الطائفي أو الديني أو العرقي، وتعمقت الاصطفافات الفئوية القائمة على مثل هذه الأسس، وفي مثل هذه الأوضاع التي تصبح فيها الطائفة أو الملّة أو العرق وما شابه أعلى من الوطن، تفقد الأخلاق -ببعديها الوطني والإنساني- قيمتها، وتتخذ بدلًا من ذلك أبعادًا فرقية، وتصبح محكومة بمعايير وغايات ومصالح الفِرقة أو العقيدة الخاصة، وبالتالي فالجريمة هنا يمكن أن تصبح فضيلة، في مثل هذه الحالة، إن كانت تخدم مصلحة الفرقة أو الجماعة أو تتناسب مع معايير العقيدة المتطرفة. والعنف التكفيري -مثلًا- هو أحد الأشكال التي ينتجها مثل هذا التعصب، فالتكفيري بحد ذاته لا يتعمد ولا يبتغي ارتكاب الشر، ولكنه يتوهم أنه يفعل الخير، وأنه يحارب الكفر الذي يعدّه أسوأ الرذائل، فيرتكب في سبيل ذلك أسوأ الفظائع، ومثل هذا يمكن أن يفعله أي متعصّب قومي أو طائفي أو أيديولوجي، حيث تنمسخ في أذهان هؤلاء المتعصبين صورة الخير أو المثل الأعلى، ويتحول كل منهما إلى صنم يقدم على محرقته الآخرين ضحايا، بل يقدّم الذات نفسها في كثير من الأحيان أيضًا.
وعن خطر التعصب، يقول الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونوفيل: «بوسعنا فعل الشر أيضًا، في سبيل الخير، وحتى أن نسمح، عن طيب خاطر، بأسوأ السيناريوهات، في سبيل خير، المفترض أنه مطلق…، الأنانية، رغم أنها الأكثر انتشار، فهي لا تشكل مصدر خوف، إذا ما قورنت بالتعصّب. قليلون هم من يُقدمون على القتل بدافع مصالح شخصية. في نهاية المطاف، ما الذي سيجنيه المرء من ارتكاب المجازر؟ لكن ارتكابها في سبيل الإله، أو الثورة، أو الأمة، يعني الشيء الكثير»([10]).
هذا النوع من الجريمة كان نموذجه الأجلى في المنطقة هو “الصهيونية” التي اعتادت على ارتكاب أكثر الجرائم وحشية، باسم إلهها العنصري الدموي المزعوم، ولكن في النزاع السوري حوّل التعصبُ والعنفُ المرتبط به الكثيرين إلى “صهاينة طائفيين أو دينيين أو عرقيين أو أيديولوجيين وهلمّ جرّا…”.
لكن هذا ليس الشكل الوحيد من الجريمة المرتبطة بالتعصب، فهذه الجريمة قد تكون مدفوعة أيضًا برهاب الآخر أو بالحقد عليه، وقد نما هذا النوع من الجريمة أيضًا أثناء النزاع السوري، نتيجة الشحن والتجييش الفرقي وشيطنة الآخر، والجرائم العنصرية التي كان يقوم بها بعض الموتورين المتطرفين أو المأجورين، من هذه الجهة أو تلك.
وكلّ ذلك بالطبع ما كان يحدث كأمور عفوية، بقدر ما يتم كسياسات مبرمجة وممنهجة، ومصممة ومدبرة لخدمة المغرضين المختلفين، الذين، على اختلاف أو تناقض مصالحهم، يجدون جميعهم أنه من المجدي لهم استغلال سلاح التعصب والنفخ في ناره.
5. 4- تفاقم الاستلاب:
الاستلاب هو شعور الإنسان بالعجز عن تغيير واقعه، وبعدم القدرة على فعل أي شيء فاعل من أجل هذا التغيير أو عدم الجدوى من فعله.
هذه الحالة كانت سائدة بشدة على الساحة السورية، قبل انطلاقة الانتفاضة، وذلك ليس بسبب الخوف وحده الذي ينتج عن سطوة القمع والبطش الممارسين، بل يأتي كذلك أيضًا من فراغ الساحة الوطنية من أي قوى فاعلة قادرة على إحداث التغيير، أو على الأقل العمل بشكل مؤثر في سبيل ذلك، فقد أفرغت الدكتاتورية -بالعنف والقمع المفرطين- هذه الساحة من كل القوى السياسية والمدنية والثقافية القادرة على استيعاب وتنظيم المواطنين وتفعيل وتنمية قدرتهم على العمل الاجتماعي والسياسي البنّاء، ومقابل ذلك، فقد مُلئت هذه الساحة بالأجهزة الأمنية واستطالاتها، وبمؤسسات الضبط السلطوي كالحزب الحاكم وما يسمى بالمنظمات الرديفة له، وعززت فيه القوى التقليدية من زعامات عشائرية وطائفية ودينية وما شابه واستتبعتها أيضًا للسلطة، وهكذا أصبحت السلطة هي القوة الوحيدة التي “تصول وتجول على الساحة”.
وبالرغم من كل ذلك، فقد حدثت انتفاضة الربيع السوري، وتمكنت في البداية من إثبات قوة حضورها ووطنية توجهها، ولكنها لم تستطع أن تستمر وتتطور وتنمو في مثل هذا السياق، وبسبب موازين القوى الجائرة، تمت عسكرة هذه الانتفاضة ودفعت غالبًا باتجاه الإسلام السياسي والتطرف التكفيري، ثم تركت بعد صراع عبثي عنيف مع النظام أو بين الجماعات المسلحة نفسها أوقع البلاد في كارثةٍ، ليجهز في محصلته النظام الحاكم وحلفاؤه على القسم الأكبر منها.
وفي المحصلة، خـُذلت الانتفاضة واختـُطفت، وبدلًا من تحريرها للبلاد من الاستبداد، كانت النتيجة هي تقسيم البلاد وتشريد حوالي نصف شعبها، وإلحاق الدمار الجسيم ببناها التحتية، إضافة إلى مئات ألوف القتلى ومصابي الحرب والمفقودين، وإلى الشروخات الاجتماعية الخطيرة في نسيج المجتمع السوري.
واليوم، لسان حال كثير من السوريين، الذين يعانون ساكتين بشدة من أشكال التدهور المعيشي والعسف والنفاق السلطويين، يقول ببساطة: “إذا قمنا فسيحلّ بنا ما حلّ بالذين قاموا”، أي سيصيبهم من الويلات ما أصاب الذين سبق أن انتفضوا للدفاع عن حقوقهم المهدورة عام 2011.
ومن مخاطر الاستلاب الكبيرة، إضافة إلى تكريسه للوضع الفاسد والبائس القائم، أنه عندما يطول يحوّل الإنسان إلى شخص غريب في وطنه، وفاقد للإحساس بأيّ اهتمام تجاهه، ويكون هنا قد وصل إلى حالة من اللامبالاة التي يحس فيها بأن “ما يسمّى وطنًا” لا يعنيه ولا يعني له شيئًا، وبالأخص عندما تصبح “الوطنية”، وفقًا لممارسة السلطة المستبدة وخطابها، “وطنجية” لتمرير سياسات القمع والفساد والاستغلال وغطاء للإذلال والحرمان والابتزاز، وعند هذه الحالة، يكون المواطن قد وصل إلى وضع ينطبق عليه فيه كلام الكواكبي الذي يقول: «الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها… أسير الاستبداد لا يملك شيئًا ليحرص على حفظه، لأنه لا يملك مالًا غير معرّض للسلب، ولا شرفًا غير معرض للإهانة. ولا يملك الجاهل منه آمالًا مستقبلة ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في سبيلها»([11]).
5. 5- انتشار النفاق السياسي:
يقول الشاعر سبط بن التعاويذي، من القرن 12م: «إذا كان رَبُّ البيتِ بالدفّ ضاربًا.. فشيمة أهل البيت كلهم الرقص»([12]).
ورَبُّ البيت في الدولة الاستبدادية هو هذه الدولة هي نفسها، وعندما تكون سياساتها قائمة على الكذب ومستهدفة تضليل وخداع الناس والتهرّب من مواجهة الحقائق والمسؤوليات والالتفاف عليها، فالناس -معظمهم على الأقل- لن ينخدعوا بهذه السياسات، وسيكتشفون حقيقتها سريعًا، وبما أنهم لا يستطيعون إلزام هذه الدولة المستبدة القائمة على العنف والبطش بتغيير سياستها، فسيكون عليهم عندها إما مقاطعتها وإما مجاراتها، وسيرجح حكمًا خيار المجاراة، لأنه لا يمكن مقاطعة من يهيمن على البلاد كلها ويتحكم فيها، كما هو ديدن الدولة المستبدة، وهكذا ردًا على كذب الدولة المستبدة الذي يبتغي التغطية على فسادها وخداع الشعب وتضليله لتسهيل قياده، سيرد أكثر الناس بالمقابل على هذه الدولة بالتظاهر بتصديقها وولائها ومناصرتها، وسيكذب كثيرون منهم عليها بدورهم، إما اتقاء لشرها وإما طمعًا ببعض عطاياها، فمثل هذه الدولة المتحكمة المتسلطة ليست لا تعطي إلا لمن يواليها وحسب، بل هي لا تترك حتى من لا يريد شيئا من عطاياها يتدبّر أمره بنفسه، إلا إذا قدّم لها فروض الطاعة والولاء، وفي المحصلة، سينتشر الكذب والرياء في العلاقة بين الناس والدولة، وسيكذب البعض بسبب الخوف، ويكذب سواه بسبب الطمع، وسيكذب غيرهما لأنه مرغم على الكذب، ويكذب آخرون بسبب كثرة مَن حولهم مِن الكذابين، وهلم جرًّا… وهكذا يتفشى الكذب السياسي في العلاقة بين الدولة المستبدة، ومن يفترض بهم أن يكونوا مواطنيها، ويتزايد الكذابون والانتهازيون ويتقاطرون على مؤسسات ومرافق هذه الدولة، فتصبح مركزًا مترهلًا للفساد، ولا يتوقف الأمر هنا بل يمتد مثل هذا الكذب عندها إلى المجتمع أيضًا، ليكثر في علاقات الناس بين بعضهم البعض، لأن الكذابين يكثرون، ومن يعتاد الكذب ويستمرئه لا يمكنه أن يكون كاذبًا في حين أو موقع وصادقًا في سواهما، وهكذا تصبح هذه الدولة دولة كذابين، يكذب فيها المسؤولون ويكذب فيها الموالون من الخائفين والانتهازيين والمنجرفين في تيار الكذب وسواهم، ومع تزايد هؤلاء يصبح في المحصلة الكذب أمرًا شائعًا، إن لم يصر سائدًا.
وهذا هو واقع الحال اليوم في السلطة في سورية، التي من النادر أن يوجد فيها (مسؤول) لا يكذب، لأن الكذب فيها قد تحول إلى معيار للكفاءة وطريق للنجاح، وحول هذه السلطة، تجد جموعًا من الكذابين الذي يدّعون الولاء، وخلف ولائهم المدّعى يكمن كل ما سبق ذكره من أسباب الكذب، والأنكى من ذلك أن كل من يكذب يعرف أنه يكذب، وأن سواه يكذب، ويعرف أن غيره من الكذابين وغير الكذابين يعرفون أنه يكذب، وهكذا يتواصل الكذب المفضوح، وكأن جميع الكذابين متواطئون ضمنيًا على هذا الكذب المفضوح، الذي يصبح في ناموس الاستبداد شرطًا ومعيارًا للطاعة وفرضًا رئيسًا من فروضها، وبهذا الصدد، تقول الدكتورة سماح هدايا: «النفاق داء خطير ابتـُليت به سورية بابتلائِها بنظام الاستبداد والتبعيّة، نخر في مجتمعها وبدّد كثيرًا من المعاني الإنسانية… النفاق لمّا ينتقل من الخاص إلى العام، ومن الفرديّة إلى المجتمع؛ يصبح دعامة الاستبداد السياسيّ والاستغلال الإنسانيّ وسند القهر»([13]).
وإضافة إلى ما تقدّم، من المهم جدّا في هذا السياق أن نذكر أنّ النفاق السياسي الذي استشرى في المجتمع السوري تحت وطأة الاستبداد، وأنتج فيضًا من المرائين والانتهازيين، كان لا بد له من أن ينعكس بشدة أيضًا على الانتفاضة الوطنية، لتُبتلى بدورها بكثير من المتسلقين الثورجيين الذين لا يختلفون عن متسلقي النظام الوطنجيين إلا في الموقع الذي اختاروه للقيام بتسلقهم الانتهازي الدنيء.
5. 6- لاأخلاقيات الأزمة:
ما سبق الحديث عنه من ظواهر الفساد التي نمت وانتشرت، بسبب الاستبداد قبل عام 2011، تفاقم حجمها كثيرًا خلال سنوات الصراع العنيف التي خلفته، وهذا يرتبط بالطبع بمفاعيل ونتائج هذا الصراع، المتمثلة بالفلتان الأمني وتدهور المعيشة والانهيار الاقتصادي وتنامي العصبيات والأحقاد وسواها، وفي مثل هذه الظروف الشديدة القسوة والوطء، تنمو وتتفشى أشكال مختلفة ومتعددة من السلوكيات اللاأخلاقية والإجرامية، منها ما يرتبط بتأزم ظروف المعيشة والبحث عن سبل لتأمين ضرورات الحياة، وإن كانت غير شريفة، ومنها ما يرتبط باستغلال الفلتان الأمني وانتشار الفوضى، كحال من يبحث عن الثراء الجشع أو السلطة والنفوذ الخبيثين، أو يرتبط بعامل الثأر والانتقام، كحال من تعرض لأذى كبير كفقد أحد أعزائه أو تعرضه أو تعرضهم لعنف مفرط أو إهانة جسيمة أو خسارة باهظة، ومنها ما يأتي كنتيجة للإحساس بفقدان الأمان أو الغاية في الحياة، والبحث عن بدائل لسدّ مثل هذه الثغرات الخطيرة، وهلمّ جرًّا..
وفي المحصلة، تسببت كل تلك الأسباب بانعكاسات خطيرة على أخلاقيات الناس وترجماتها السلوكية على أرض الواقع، وهكذا تفاقمت كثيرًا ظواهر لاأخلاقية متعددة، كانت موجودة سابقًا، مثل القتل والبغاء ومشاكل الجنس والسطو والسرقة والتلاعب بالأسعار والجشع والغش والاحتكار والرشوة واختلاس المال العام والتسيب الوظيفي والنفاق السياسي، وعادت ظواهر كان يبدو أنها في طور الانقراض، مثل الثأر، ونشأت ظواهر جديدة لم تكن معروفة سابقًا، مثل الخطف والارتزاق والزواج التجاري (أو احتراف الزواج)، والنفاق السياسي، وسواها…
مؤشرات كثيرة يمكن أن نجدها حول كل تلك السلوكيات الخطيرة والمنحطة، وفي أحيان كثيرة يصعب الحصول على معلومات موثقة حول بعضها، وذلك غالبًا بسبب حساسيتها الاجتماعية أو التعتيم والحظر الرسميين عليها أو المخاطر أو العقبات الميدانية المختلفة التي تحول دون إجرائها.
ومع ذلك، بناء على المعطيات المتوفرة، فقد جاءت سورية في مؤشر الجريمة لمنتصف عام 2021، الصادر عن موسوعة قاعدة البيانات العالمية “نامبيو”(Numbeo)، في المرتبة 11 عالميًا من بين 137 دولة، شملها التقييم، وحصلت على مؤشر جريمة 67.18، ومؤشر أمان 32.82، وبذلك تكون قد حلّت في المرتبة 127 عالميًّا في مستوى الأمان فيها([14])؛ وقد جاءت مدينة دمشق في المرتبة 29 عالميًا، بين 427 مدينة، في قائمة أقلّ المدن أمانًا، بمعدّل جريمة 67.41 لنفس الفترة([15])، وكلا المرتبتين هي الأسوأ عربيًا؛ وللعلم فقد حلّت دولة قطر في المرتبة الأولى عالميًا في مؤشر الأمان، وتلتها الإمارات.
5. 7- نمو العشائرية والعائلية:
يلاحظ تنامي هذه الحالة بشكل واضح، في القرى والمناطق الريفية، في معظم أنحاء سورية، وفي بعض المدن في بعض المناطق، حيث عادت التكتلات ذات الطابع العشائري أو العائلي للنمو والنشاط، بعد أن كانت قليلة أو محدودة، فالنزعتان العشائرية أو العائلية كانتا قبل عام 2011 في حال يشبه النزعتين الطائفية والعرقية، حيث كانت كل هذه النزعات موجودة في شكل محدود الفاعلية، وذلك بسبب قدرة مؤسسة السلطة حينذاك على تقليصها، حفاظًا على مصلحة هذه السلطة بشكل رئيس، بالرغم من أن التطور الاجتماعي هو الآخر لعب دورًا في ذلك أيضًا، ولكن كمون هذه النزعات كان حينذاك فعليًّا أكبر من فاعليتها بكثير، وسبب ذلك هو سوء معالجة هذه المسألة من الأساس، وتأثير حالة الاستبداد والفساد عليها، والإحباط العام بسبب فشل كلّ المشاريع التقدمية المطروحة والهزائم المتلاحقة، على الصعيدين الوطني والقومي، وفي حصيلة كل ذلك، يجعل إحساس الشخص بعدم الأمان أو الحرمان أو الغبن أو الخذلان، وما شابه في كثيرٍ من الأحيان، ينطوي على “عزوته الخاصة”، ويلجأ إليها ويتشبث بها، وفي الوقت نفسه، ينمّي لديه المشاعر السلبية تجاه الآخرين.. وكثيرًا ما يقترن ذلك بتحميلهم المسؤولية عن سوء الأوضاع القائم، هذا إضافة إلى ما يتسبب به الاستبداد وقرينه الفساد من جسيم الضرر على الثقافة وتطور الوعي عند الإنسان، ما يعزز بدوره الحالة النقيضة المتمثلة بالجهل وتدني مستويات الوعي، وكلاهما شرط مناسب لاستمرار واستفحال العصبيات المختلفة.
بعد انتكاسة الانتفاضة السورية، وتحولها إلى نزاع عنيف مدمّر، وتدهور الأوضاع في حياة الناس، نمت، وبشدة أحيانًا، في الأرياف والقرى وبعض المدن، الظواهرُ العشائرية والعائلية التي كانت قد تراجعت فيها نسبيًا، وإن اختلفت درجة تراجعها، وبالطبع لعب الكمون الذي تمتلكه هذه الأمور دورًا مهمًّا، وقد تم ذلك بأساليب عدة: أولها استمرار الذهنية والنزعة العشائريتين، ودافع التكتل الجماعوي العفوي المرتبط بهما بالتواجد، وتمكنها من الانتقال من حالة الكمون إلى حالة الفعل، بسبب حالة غياب الدولة والفوضى؛ وثانيها هو الحاجة النفعية، حتى عند أولئك الذين ليس لديهم مثل هذه النزعات أو أنها ليست قوية بحد ذاتها، ولكنهم يحتاجون إلى مثل هذه البنى الجماعية لتؤمن لهم في الظروف المتردية بعضًا من الحماية والسند والعون؛ وثالثها هو الدور الذي تمكن من لعبه المتعصبون والانتهازيون في حشد الأتباع حولهم من ذويهم وأقاربهم، من أجل الحصول على هيبة أو سلطة أو نفوذ في مناطقهم؛ ورابعها هو ردات الفعل التي تنشأ عند تكتل عائلة أو عشيرة في العائلات أو العشائر الأخرى التي يشجعها هذا التكتل إلى فعل المثل، أو يدفعها للرد عليه نتيجة خشيتها من ازياد قوة هذه الجماعة المتكتلة.
بشكل عام، هذه الظاهرة، بالرغم من أنّ لها بعض الحسنات التكافلية أحيانًا، فإن مساوئها أكثر وأكبر من حسناتها بكثير، فهي تنمي الحساسيات والعصبيات العائلية والعشائرية، وكثيرًا ما تتسبب في مشكلات بين العائلات أو العشائر يكون سببَها انتهازيون أو متعصبون أو حتى زعران، وليس من النادر أن يستغل أشخاص فاسدو الأخلاق “عزواتهم” في العائلة أو العشيرة، للقيام بأعمال ضارة ومسيئة ضد الآخرين والتطاول عليهم وإيذائهم. وفي المحصلة، ترفع كل من العشائرية والعوائلية درجة التفكك في المجتمع ونسبة التوترات والنزاعات فيه.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة أيضًا إلى أن التلاعب بالورقتين العائلية والعشائرية واستغلالهما من قبل الحكام كان دومًا أسلوبًا متبعًا، وإن اختلفت أساليبه، على الساحة السورية، منذ أيام السلطنة العثمانية حتى انتفاضة الربيع السوري، التي حاول فيها كل من السلطة الراهنة وبعض الجهات المعارضة وحتى الجماعات المتطرفة استغلال العاملين العشائري والعائلي لتعزيز قوته([16])([17]).
5. 8- الزعرنة تنمو وتنتشر:
في حديثه عن “الأزعر”، يقول “مختار الصحاح”: “الزَّعَارَّةُ بتشديد الراء شراسة الخلق؛ الزُّعْرُورُ … السيء الخلق، والعامة تقول رجل زَعِرٌ وفيه زَعَارَّةٌ”، ويقول تاج العروس: “تبزعر علينا… إذا ساءَ خُلُقُه؛ والزَّعَارَّة بتَشْدِيد الرَّاءِ… وتُخَفَّف الرَّاءُ: الشَّرَاسَةُ وسُوءُ الخُلُق”([18])، وفي حديثه عن الموضوع، يقول الناشط السياسي الأردني د. فلاح العريني: في «مصر يسمّونه بلطجيًا، وفي سورية يسمى شبيحًا، وهنا حيث الأردن نسميه بإجماع الجمهور أزعر…»([19]).
في واقع الأمر، إن مصطلح “أزعر” ليس حديثًا في سورية، وهو شائع الاستخدام، وهو أقدم بكثير من مصطلح “شبيح” الحديث نسبيًا، الذي يتقاطع معه في العديد من الدلالات، وفي المفهوم العامي، يستخدم هذا مصطلح الأزعر، فعليًا، للدلالة على الشخص السيئ الخلق والسلوك، ويمكن أن يشمل بعض العينات التي قد يقتصر أذاها على مجرد بعض الإزعاجات والتحرشات والتطاولات المحدودة على عامة الناس، والتي يمكن أن يتصرف فاعلوها غالبًا بشكل فردي، ويكونون عادة من الجهلاء أو صغار السن، ويمكن لهذا المصطلح أن يمتد ليشمل الجماعات التي تتكتل من هذه العينات بشكل غوغائي غالبا، ليصل إلى أخطر الأنواع المتمثلة بالزعران المنظمين في عصابات تنتمي إلى ميدان الجريمة المنظمة، أما مصلح “شبيح” الذي كان هو الآخر متداولًا، على نطاق أضيق، قبل انطلاقة الانتفاضة، فقد اتسع استخدامه بعدها، واتخذ مدلولًا سياسيًا، يدل فيه على الزعران المتوجهين أو الموجَّهين في سياق سياسي محدد، وهو غالبًا المولاة.
ظاهرتا الزعرنة والتشبيح، بأشكالهما المختلفة، نمتا بشكل كبير خلال سنوات النزاع، ويمكن إرجاع ذلك إلى حالة الفلتان الأمني والفوضى والتدهور المعيشي، ونمو العصبيات الفرقية، والولاءات السياسية العمياء، وهبوط مستوى التربية بشكل عام بسبب التردي الشامل في مختلف جوانب المجتمع. ولهذه الظاهرة مخاطرها المختلفة، الصغيرة والكبيرة، التي تبدأ من المضايقات والإزعاجات التي يمكن تجاوزها ولا تقتضي الوقوف عندها مطولًا، وصولًا إلى الأعمال الإجرامية التي يمكن أن تتضمن أسوأ الجرائم، وخصوصًا عندما يتم توظيفها لأغراض سياسية، كما في حالة “التشبيح”. وفي الخلاصة، يمكن القول إن هذه الظاهرة اللاأخلاقية هي إحدى الظواهر الخطيرة التي نمت بشدة في سنوات النزاع في سورية، وأصبحت من المشكلات التي تلعب دورًا كبيرًا في زيادة معاناة السوريين.
5. 9- وماذا عن التطرف؟
على الرغم من أن الأزمات الاجتماعية تعزز وتنمي عادة نزعات وأخلاقيات التطرف المختلفة، لأسباب هي الأخرى مختلفة ومتعددة، فإن الانتماء إلى الجماعات المتطرفة والاشتراك في أعمالها التكفيرية العنيفة، في كثير من الأحيان، لا يكون سببه التطرف الإيماني والقناعات المعتقدية المتشددة، بل يعود إلى عوامل اجتماعية أخرى مختلفة عن التطرف والتعصب والتشدد، كأن يكون ذلك من أجل الحصول على دخل مادي، أو حماية وسند، أو بدافع الانتقام، أو الرغبة في النفوذ والسلطة، أو العثور عن هدف في الحياة، وهلم جرًا، وبهذا الشأن أفادت دراسة قامت بها منظمة إنترناشونال أليرت (International Alert)، كما يقول موقعها الخاص على الإنترنيت، في 4 أيار/ مايو 2016، وتم فيها إجراء مقابلات مع 311 شخصًا من الشباب السوريين وأفراد عائلاتهم وغيرهم من المعنيين في كل من سورية ولبنان وتركيا، بأن “الحاجة إلى كسب مصدر العيش الأساسي، واستعادة الإحساس بالرغبة في حياة ذات معنى والإحساس بالكرامة، والإيمان بالواجب الأخلاقي في ما يتعلق بحماية الوطن، والثأر له، والدفاع عنه، هي العوامل الرئيسة التي تدفع الشباب السوري للانضمام إلى الجماعات المتطرفة”، أما الإيمان بالأيديولوجيات المتطرفة فهو غالبًا دافع ثانوي للقيام بذلك، بالنسبة إلى كثيرين من هؤلاء الشبان([20]).
6- تدهور الأخلاق ومخاطره المستقبلية:
ما لا شك فيه أنّ تدهور الأخلاق هو أمرٌ له مخاطره الكبيرة والمتعددة الصعد، على الحياة الاجتماعية في حاضرها الراهن، ولكن خطره لا يقتصر على هذا الحاضر، بل يمتد بقدر مماثل إلى المستقبل أيضًا، لأن المستقبل بحد ذاته يشكل بدرجة كبيرة استمرارية لهذا الحاضر، ويتطور بقدر ما يؤسس ويجهز له الحاضر من عوامل للتطور، والعكس بالعكس.
ويأتي خطر التدهور الأخلاقي على المستقبل، من بوابتين، عامة وخاصة، العامة منهما هي أن تدهور الأخلاق يكون له مفاعيله الضارة الخطيرة على مختلف جوانب الحياة الأخرى، وبقدر ما تتدهور الأخلاق ويتفاقم الفساد، تتدنى إمكانية تطور الثقافة والعلم والاقتصاد والإدارة وسواها من ميادين الحياة التي تتضافر وتتكامل لتصنع نموذجًا مكتملًا من الحياة الراقية، أما البوابة الخاصة، فهي بوابة الأخلاق نفسها، فتدهور الأخلاق ينتج بيئة أخلاقية فاسدة، وبقدر ما يكون هذا التدهور أكبر، تصبح هذه البيئة أقدر على الاستمرار والتوسع المستقبليين والتأثير بقوة على المستقبل.
في سورية، مرّت أكثر من عشرة أعوام من الصراع العنيف والتأزم الشامل، ومن كان طفلًا في بدايتها أصبح اليوم شابًا، بعد أن نشأ في ظروف مأساوية من العنف والشدة والمعاناة، التي تركت عليه أسوأ الآثار النفسية والمعنوية والاجتماعية، وفي كثير من الأحيان تركت آثارًا جسدية، وبما أنه لا يبدو على المدى المنظور أي حلّ يضع الأزمة الكارثية على سكة الانتهاء، وكلّ المؤشرات تشير إلى أن الأزمة الخانقة مستمرة ومتنامية إلى أجل غير مسمى، فهذا يعني أن التدهور المختلف الصعد سيستمر ويتفاقم أكثر، وأن التدهور الأخلاقي نفسه سيزداد سعة وعمقا، وأن المزيد والمزيد من الأطفال السوريين سينشؤون ويكبرون في هذه الظروف المتردية معاشيًا وأخلاقيًا، وينطبعون بطابعها البالغ السوء، الذي من المحتم أن يجعل كثيرًا منهم أشخاصًا غير أسوياء وغير صالحين.
7- خلاصة:
يقول الرسول الكريم: «إنما بُعثتُ لأتممَ مكارم الأخلاق». ويقول الشاعر الكبير أحمد شوقي: «إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ.. فإن همُ ذهبتْ أخلاقهم ذهبُوا»، ويقول أيضًا: «وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقهم.. فأقمْ عليهم مأتمًا وعويلا».
في قول الرسول، نرى الأهمية الكبرى التي تحظى بها الأخلاق، وتصبح فيها غايةً للبعثة النبوية، وفي كلام شوقي، نجد التحذير الكبير من تدهور الأخلاق على مصاير الأمم.
مع ذلك، فنحن لم نذهب بعد، وبالرغم مما أصاب حياتنا وأخلاقنا من كبائر المصائب، فليس المأتم والعويل هما الرد، والمشكلة الأخلاقية، أيًّا كان حجمها وأسبابها واحتمالات صيرورتها، تبقى جزءًا من المشكلة الكلية التي تحتاج إلى حلّ كليّ متكامل، والحلّ هو استمرار العمل على تحرير البلاد من الاستبداد وجرائره، والسعي لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية.
كثيرون اليوم يلعنون أخلاقنا عن حسن أو سوء قصد، ويُحمّلونها وزر الكارثة التي وقعنا فيها، وكثيرًا ما يذهب البعض إلى وصم أخلاقنا بالسوء بطبيعتها، وهذا جهلٌ أو افتراء، فالثابتُ اليوم علميًا أنه ليس هناك “جينات أخلاقية”، وليس هناك بالتالي “صفات أخلاقية موروثة” يتميز بها شعبٌ أو حتى فرد عن سواه، فأخلاق الناس تنشأ في مجتمع الناس، وتتخذ الأشكال التي تتناسب مع ظروف هذا المجتمع، والإنسان يولد على الفطرة، كما يقول الحديث الشريف، وليس هناك فطرة صالحة وأخرى طالحة أخلاقيًا بطبيعتيهما، بل هناك ظروف جيدة وظروف سيئة، في الواقع الاجتماعي الذي يحيا فيه الناس، وهي مرتبطة بنموذج الحكم القائم، فحين يكون نموذجًا صالحًا، تتقدّم حياة الناس وأخلاقهم معها، والعكس بالعكس تمامًا، وهذه الحقيقة وعاها العقلاء، منذ قديم الأزمنة، وعلى سبيل المثال، قال الحكيم الصيني كونفوشيوس الذي عاش بين القرنين 6 و5 قبل الميلاد: «لم يحدث قطّ أن وجد حاكم يحب الخير وتعجز رعيته عن حبّ الاستقامة. ولا حدث قط أن أحبّ شعب الاستقامة إلا ودبّرت أمور الدولة بنجاح»([21]).
[1] – المعجم الفلسفي المختصر، ترجمة توفيق سلوم، دار التقدم، موسكو- الاتحاد السوفييتي، 1986، ص15.
[2] – غالب الركابي، الأخلاق الليبرالية، الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي، 31 آذار/ مارس 2009
[4] –Stanford Encyclopedia of Philosophy, The Definition of Morality, Apr 17, 2002
[5] –عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد/ فصل “الاستبداد والمجد”، مؤسسة هنداوي، 2010.
[7] – تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2010: ترتيب سورية 127 عالميًا و15 عربيًا، لجــان الدفــاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنســان فـي ســوريـا، 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2010.
[8] – منظمة الشفافية العالمية، مؤشر مدركات الفساد لعام 2020
[9]– تقرير أممي: استمرار جرائم الحرب في سوريا وسط صمت دولي، قناة الحرة، 19 شباط/ فبراير 2021.
[10] –أندريه كونت سبونوفيل، منطق الإرهاب، ترجمة يوسف اسحيردة، بوابة علم الاجتماع، 17 كانون الثاني/ يناير 2019 .
[11] –عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد/ فصل “الاستبداد والأخلاق”، مؤسسة هنداوي.
[12] – ديوان سبط ابن التعاويذي – الديوان – موسوعة الشعر العربي.
[13] – سماح هدايا، المنافقون هم الأسوأ، بوابة “سوريا الأمل”، 13 حزيران/ يونيو 2021
[14] –Crime Index by Country 2021 Mid-Year
[15] Crime Index by City 2021 Mid-Year
[16] – عمار مصارع، دور العشائر السورية رهانات على أحصنة خاسرة، Washington Institute، ٢٦ آذار/ مارس 2019.
[17] – سلطان الكنج، كيف يستخدم كل طرف من أطراف النزاع السوري النفوذ العشائري، Syria From Within Chatham House، تموز/ يوليو 2019.
[18] – قاموس معاجم، معنى و شرح “الأزعر“.
[19] – فلاح العريني، من هو الأزعر؟ موقع “سواليف”، 15 شباط/ فبراير 2021.
[20] – جوليا كارليشوفا، “الفقر، واليأس، والرغبة في الانتقام، هي الأسباب التي دفعت الشباب السوري للانضمام إلى الجماعات المتطرفة”، إنترناشونال أليرت، 4 أيار/ مايو 2016.