العدالة أبرز ضحايا الحرب السورية

نوفمبر 17, 2022

حسام جزماتي

مقالات

لا يؤسس مشهد البلاد الحالي لأفق تسوده مطالب الثورة البكر. وبين ثلاثي الحرية والكرامة والعدالة تبدو الأخيرة هي الأبعد، حتى دون الاستجابة لمزاج قانط بات يرى أنه يستحيل تحقيق أي من هذه «الشعارات» مع التقدم العسكري المطّرد للنظام الذي ازداد وحشية. فيما يؤكد آخرون أن السيطرة على الأرض لن تحمي الأسد من الخضوع لاستحقاق الانتقال السياسي، بضغط دولي، في نهاية المطاف.

غير أن العدالة تبدو أضعف معالم المرحلة المقبلة أياً كانت.

العدالة الصافية

ما كان يبدو واضحاً في صيف 2011 بات الآن شديد التعقيد. كان المطلوب محاسبة من سفكوا الدماء من رجال النظام خلال عمره القمعي المديد، وبالأخص في الأشهر الأولى للثورة. كان عدد هؤلاء محدوداً نسبياً، وكان تعيينهم ممكناً مع وفرة الشهود وتوالي المنشقين. لا سيما مع النظر، وقتها، إلى عموم المنفذين على أنهم من «إخوتنا» المغلوبين على أمرهم في الخدمة العسكرية الإجبارية، وحتى في أجهزة الأمن بنظر البعض، الذين يتحينون الفرصة للانشقاق وتغيير اتجاه البندقية، أو العيش بسلام.

أطاحت السنوات بهذا السيناريو البسيط. اجتذبت رائحة الدم عشرات ألوف المتطوعين الشرسين في القوات النظامية والرديفة ومجموعات الشبّيحة. لبس كثير من الإلزاميين دورهم طوعاً وتورطوا فيه حد الحماسة. بعد أن جف تقاطر المنشقين أخذت اتفاقات «المصالحات» تقلب البوصلة فيتوجه ثوار سابقون للقتال في إدلب وحماة واللاذقية وحلب وسواها. أسهمت ميليشيات أجنبية بالقسط الأكبر من العمليات التي أوقفت تهاوي النظام، وبات تخيّل مشهد محاسبة هؤلاء سوريالياً، عبر محكمة دولية في لبنان والعراق وإيران وروسيا وأفغانستان وباكستان! ناهيك عن «تلطخ» جهات عسكرية ثورية وإسلامية بالدم الحرام؛ سواء بالقمع في مناطق سيطرتها، أو بإطلاق قذائف بدائية سيئة التسديد على مناطق سيطرة النظام التي يقطنها مدنيون، أو بالاحتراب الداخلي.

العدالة الانتقالية

لم يوجد هذا المفهوم للسخرية من كثرة دوراته في عنتاب. لقد نشأ بالضبط استجابة لأوضاع مشابهة آل إليها الصراع في بلدان أخرى. وهو يتأسس على تقديم بعض القرابين الكبرى من القادة والمسؤولين على مذبح الطريق إلى المصالحة الوطنية، لبثّ الشعور بأن قدراً رمزياً مهماً من العدالة قد توافر بعدما تعذر تحقيقها كلياً، بالتزامن مع انتقال سياسي يُفترض أن تشهده البلاد نحو صفحة جديدة عادلة من مستقبلها.

لكن السخرية تبدو قدَر هذا المصطلح في السياق السوري. منذ البداية لأنه طُرح مبكراً على ناشطين من الثورة والمعارضة في زمن أملهم بالعدالة الصافية، وثانياً لأنه بدا حُسن نيةٍ من طرف واحد، ما دام النظام لم يأبه له نهائياً، لا أوقات انحسار سيطرته على الأرض، وبالتأكيد ليس في هذه الأيام التي تنبش فيه قواته قبور الشهداء من خصومها في المناطق «المطهرة» حديثاً.

خارج الاشتراطات الأكاديمية، ولكن ربما في عمقها، لا يمكن للعدالة الانتقالية أن تتحقق إلا استجابة لتوازن قوى متكافئ وترجمة لميزان من الدم! وهو ما سنعود للحديث عنه.

العدالة «الانتقائية»

يوافق الكثيرون على هذا الوصف الذي اختاره الشيخ معاذ الخطيب لعملية توقيف إسلام علوش (مجدي نعمة) في فرنسا أواخر الشهر الماضي. تفيض العلاقة بين الرئيس الأسبق للائتلاف الوطني وبين الناطق السابق باسم جيش الإسلام على مجرّد كونهما «إسلاميَّين» بطريقتين مختلفتين. في الحقيقة لم يعد الإسلاميون يتمتعون بسمعة ناصعة في أوساط الثورة هذه السنوات، لا فقط بين علمانييها وناشطيها المدنيين. وبين الفصائل الإسلامية قد يبدو جيش الإسلام الأشد عرضة للانتقاد. لا ينسجم هذا مع قدر لا يمكن تجاهله من التعاطف الذي حظي به إسلام علوش في حواضن الثورة التي تنحو، من جهة أخرى، إلى إدانة التهمة الأولى المتواردة في الذهن تجاهه، وهي قضية مخطوفي دوما الأربعة، رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي، التي شكلت إهانة للثورة تراجع عدد الذين يمارون فيها بالتدريج، وتشير الأدلة إلى مسؤولية جيش الإسلام عنها.

وفي حين لاقى احتجاز علوش ارتياحاً ملحوظاً في الأوساط الحقوقية والمدنية والإعلامية، وهي الأظهر صوتاً، فإن قطاعاً عريضاً من المتذمرين بهمهمة خافتة، غالباً، انطلقوا من خلطة من القناعات والدوافع التي تبدأ من تآزر الأخوّة الدينية، وتسأل، دون دراية كافية، عن سبب الاستقواء على علوش و«تجاهل» محاسبة نموذج صارخ كرفعت الأسد، وتصل إلى استحضار الماضي الاستعماري و«الصليبي» لفرنسا والغرب، دون أن تغفل عن الغمز من مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، والذي بنى القضية، بأنه «علوي»، استئناساً بالأصل «المسيحي» لأنور البني، رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، والذي بنى قضية مشابهة طالت منشقَّين في ألمانيا منذ عام.

هل يبدو هذا خطلاً؟ نعم، لكنه شائع.

تبقى، في قضية علوش، نقطة مهمة ربما لم تأخذ حقها من الإضاءة، هي أن وحدة جرائم الحرب التابعة لمحكمة باريس اتهمته بارتكاب «جرائم التعذيب والإخفاء القسري». في ذمة جيش الإسلام قضية مخطوفي دوما الأربعة، وقضايا عدد كبير من الأهالي هناك ذاقوا طعم سجن التوبة وسواه. لكن ما قد يثبت عليه بشكل أسهل هو احتجاز سكان من عدرا العمالية لسنوات، وفيهم رجال ونساء وأطفال كما بث إعلام «الجيش» نفسه. وفي ذمته مئات المخطوفين على خلفية طائفية من أنحاء مختلفة من الغوطة قبل المفاصلة الجغرافية المذهبية، وقد رأينا خيبة أمل ذويهم عندما خرجت الباصات الأخيرة من دوما دون الكشف عن مصيرهم.

ما العمل لو شارك هؤلاء في القضية ضد علوش؟ لا شك أن العدالة المحضة تقتضي الترحيب بهم كمدّعين إضافيين طالما أنهم يمثلون مدنيين. غير أن هذا سيزيد المشهد حوَلاً إذ يضاف إليه مؤيدو النظام هؤلاء، القادمون من ضواحي دمشق وجبلة وطرطوس، جنان الإفلات من العقاب.

«العدالة الانتقامية»

لا ينسجم الانتقام مع المعطيات الحقوقية للعدالة، بالتأكيد. لكنه وسيلة الجماعات لتحصيل حقها «العام» حين يتعذر الوصول إلى الجناة بأعيانهم في العدالة الصافية، أو إلى رموزهم في العدالة الانتقالية، التي تتطلب، كما سبق التوقع، إحساس أطراف النزاع بأنها أَثخَنت وأُثخِنت بما يكفي. هذا ليس عدلاً ولكنه واقع. لنقرأ التاريخ قبل أن نتهم أحداً بالإساءة إلى المحكمة الموقرة. القانون فوقي وثقيل على النفس، والغرائز أصيلة ومستمرة.

وفي ظل صراعٍ بات التعريف الطائفي أبرز وجوهه، فإن الجماعات لن تشفي غليلها إلا حين تتقارب كمية براميلها من دماء العدو. وبما أن هذا يبدو بعيداً الآن، بالنظر إلى التفاوت النوعي في السلاح، فلن تستقر الكفة إلا بشكل عارض، وبالبوط. هذا ما يعرفه النظام جيداً ويمارسه غريزياً بوصفه سبيل خلاصه الوحيد. لكنه لن ينجو، ولن تفلح البلاد في تجنب دورة دموية ثأرية جديدة بمجرد أن تسنح الفرصة.

ليست هذه رغبة كاتب هذه السطور. لو استطاع المرء أن يرسم مستقبلاً لبلده فسيرجو لها خياراً أفضل. لكن أحكام التاريخ تلقننا دروساً قاسية، فلنأمل أن تخيب…

المصـــدر

المزيد
من المقالات