- – فضل عبد الغني: محدودية مبدأ الولاية القضائية العالمية في خدمة مسار المحاسبة
- – يوسف وهبه: الحق في الانتصاف الفعال كمسار “للعدالة” بمفهومها المتداول
- – إبراهيم القاسم: العدالة حق لكل الضحايا وليست انتقامًا
- – سيما نصار: فشل المعارضة في توظيف الإنجازات الحقوقية سياسيا
- – وائل السواح: هدف العدالة الانتقالية الأخير هو إطلاق مصالحة مجتمعية شاملة
- – ياسمين مشعان: الأولوية لمعرفة مصير المعتقلين والمفقودين
- – حسان الأسود: محدودية الجهود السورية بطبيعتها ونطاقها وتأثيراتها المحتملة على مجمل مسار العدالة
- – غزوان قرنفل: الحاجة لبرنامج وطني للعدالة الانتقالية يأخذ على عاتقه إعادة بناء المؤسسات..
- – إدوار حشوة: التفاوض يحمل معه منطق التنازلات
- – إبراهيم ملكي: العدالة والمساءلة من أوليات الانتقال السياسي في سورية
في الذكرى العاشرة للثورة السورية، يفتح مركز حرمون للدراسات المعاصرة ملفًا خاصًا لمناقشة مسار العدالة الانتقالية ودلالاته لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في سورية، مع عدد من الخبراء والمختصين الحقوقيين، تطلعًا لفتح آفاق جديدة تخدم مسار العدالة في سورية، وتنير دروب الساعين إلى صناعة غدٍ سوريٍ مشرق نحو دولة القانون والمواطنة والديمقراطية والعدالة، بعد عقدٍ دامٍ مارس فيه نظام بشار الأسد سادية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، في الإذلال وأشكال التعذيب الجسدي والنفسي والإعدامات والقتل قصفًا بالمدفعية والصواريخ الغبية والذكية، ورميًا بالبراميل المتفجرة والأسلحة المحرمة دوليًا تجاه أبناء وبنات شعبه من كل الأديان والطوائف والمكونات السورية.
جرائم وحشية سقط ضحيتها عشرات الآلاف من السوريين والسوريات على مدار نحو خمسة عقود من تاريخ الهمجية في (سوريا الأسد)، وهي جرائم لن تسقط بالتقادم، وموثقة بالتفصيل من قبل منظمات وهيئات ومؤسسات ومراكز حقوقية وإنسانية محلية ووطنية ودولية، ليس أكثرها خطورة تقرير منظمة العفو الدولية “أمنستي” في شباط/ فبراير 2017، الذي كشف أن ثلاثة عشر ألف سوري لقوا حتفهم في سجن صيدنايا (المسلخ البشري) فقط، بين عامي 2011 و2015.
ولم تكن الصور التي سرّبها قيصر (سيزر)، العسكري السابق الذي انشق عن نظام الأسد بعد 13 عامًا من الخدمة، واستطاع أن يهرّب عشرات آلاف الصور لضحايا التعذيب المدنيين السوريين -بعد نشرها للعيان في عام 2015- إلا إبادة منهجية للسوريين الذين تجرؤوا على التفكير في معارضة النظام الاستبدادي الوحشي الطائفي الفاسد الذي جعل كل سورية “غرفة تعذيب، ومكانًا للرعب الوحشي والظلم المطلق”. وهو ما أكدته قناة (سي بي أس) نيوز الأميركية بعد الكشف، في شباط/ فبراير الماضي، عن تسريب آلاف الوثائق الحكومية إلى خارج سورية، تحتوي على “أدلة قوية تؤكد تورط النظام السوري، وعلى رأسه بشار الأسد، بارتكاب جرائم حرب ضد الشعب السوري”، وتولت أرشفتها “لجنة العدل والمساءلة الدولية” الممولة جزئيًا من قبل الولايات المتحدة وسوريين. ومنذ آذار/ مارس 2011 حتى يومنا هذا، ذاق السوريون الويلات تعذيبًا واغتصابًا وتنكيلًا وذبحًا وتهجيرًا وحصارًا وتجويعًا وتفقيرًا وقهرًا وخذلانًا.
وللوقوف على ما آلت إليه الجهود السورية والدولية المبذولة لتحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سورية، توجّه مركز حرمون للمساهمين في هذا الملف بالأسئلة التالية: بعد البدء في مسار المطالبة بتحقيق العدالة الانتقالية، برأيكم ما السبيل إلى تفعيل وسائل دولية أكثر للمساءلة والمحاسبة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت في سورية، خاصة في ظل ما توفره الولاية القضائية العالمية كوسيلة للعدالة في الجرائم الدولية المرتكبة من قبل نظام الأسد وعصابته المجرمة ممن ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية؟ وكيف يمكن وضع أصوات الناجين السوريين في مركز الحوار حول سورية، وفتح مسارات جديدة للناجين أكبر للمشاركة والوصول إلى عمليات صنع القرار السياسي والعدالة بشأن المستقبل السوري؟
ونسأل إلى أين وصلت جهود العدالة القضائية الأوروبية، بعد كل ما بُذل من جهود من قِبل مراكز وهيئات ومنظمات حقوقية سورية لمحاسبة الجناة حتى لا يفلتوا من العقاب؟ ومن ثم، ما هي دلالات صدور أحكام قضائية ضد مرتكبي الجرائم من ضباط النظام؟
وفي هذا السياق؛ هناك تساؤلات تُطرح حاليًا حول الفرق بين الانتقام والعدالة، وهل يمكن النظر إلى الحكم الصادر ضد (إياد غريب) صّف الضابط في جهاز المخابرات السورية المنشق، في مدينة كوبلنز الألمانية، كخطوة أولى نحو العدالة؟
أسئلةٌ تُشرع الباب لأسئلة أخرى في قضية وطنية لن تُغلق أو تُعلق إلا بسقوط نظام بشار الأسد ومحاكمته مع كل الجناة من أركان حكمه، وكل من يثبت ارتكابه لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين والسوريات.
هنا نصّ الملف:
فضل عبد الغني (مؤسس ورئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان):
- محدودية مبدأ الولاية القضائية العالمية في خدمة مسار المحاسبة وعدم مقدرته غالبًا على محاكمة الصفوف الأولى أو الثانية.
نصّت كل من اتفاقيات جنيف لعام 1949 [1]، واتفاقية مناهضة التعذيب لعام 1984 [2]، والاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 [3]، على مبدأ الولاية القضائية العالمية [4]، ويمكّن هذا المبدأ هيئات الادعاء المحلية من ملاحقة المتورطين في الجرائم الفظيعة مثل جرائم الحرب [5] والجرائم ضد الإنسانية[6]، الإرهاب، التعذيب، وإن لم تُرتكب على أراضي الدولة، وإن لم يكن مرتكبها أو الضحايا من مواطني الدولة، وقد جرى في السنوات الثلاث الأخيرة عمليات تهويل ومبالغة ضخمة جدًا للدور المحصور الذي بإمكان الولاية القضائية العالمية أن تؤديه. إن تطبيق هذا المبدأ يعني أن القضاء الوطني في الدولة التي ارتكب فيها الانتهاك قد فشل، والقضاء الجنائي الدولي ممثلًا بالمحكمة الجنائية الدولية، أو تأسيس محكمة دولية خاصة قد فشل أيضًا.
إن المهمة التي بإمكان الولاية القضائية العالمية أن تؤديها ضيقة ومحاطة بالعديد من التعقيدات والصعوبات [7] النابعة من طبيعة هذا المبدأ نفسه، ومن رغبة دول العالم في التفاعل معه ثانيًا. نعم، بكل تأكيد، إنه أحد أدوات تحقيق المحاسبة، لكنها أداة بسيطة في ماهيتها، لأسباب عدة، لعل أبرزها أن قوانين أغلب الدول تشترط وجود مرتكب الجريمة ضمن إقليم الدولة، ولا أعتقد أن أحدًا من الصف الأول أو الثاني من مرتكبي الانتهاكات في النظام السوري سوف يسافر إلى إحدى الدول التي يمارس قضاؤها مبدأ الولاية القضائية، لهذا نجد أن جميع القضايا التي رُفعت كانت ضد أشخاص منخفضي الرتبة، وغالبيتهم ليسوا من صناع القرار، وقد يكون ترتيبهم في الصف التاسع أو العاشر، إذا افترضنا أن هناك عشرة صفوف، ومن ناحية أخرى، هناك إشكاليات قانونية عديدة في إجراء محاكمات غيابية. وأخيرًا، لن تقوم الدول الحليفة للنظام السوري، مثل روسيا، إيران، الصين، فنزويلا، ولبنان، بتسليم المجرمين إلى الادعاء العام الألماني أو الفرنسي أو السويدي حتى في حال صدور مذكرات حكم بحقهم ومطالبة الادعاء العام بتسليمهم، وهذا لا يعني مطلقًا ألا يتم العمل على إصدار مذكرات اعتقال بحق كبار المتورطين في صفوف النظام السوري وفي صفوف بقية الجهات، لكن مذكرات الحكم لن تؤدي غالبًا إلى اعتقالهم ومحاكمتهم.
وكنت قد تحدثت في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، في حزيران/ يونيو 2016، بحضور ثلاثة من سفراء أبرز الدول الفاعلة في مجال الاختصاص العالمي، السويد، ألمانيا، فرنسا، في مداخلة منشورة على قناتنا في “يوتيوب”، عن محدودية الاختصاص القضائي العالمي.
الغالبية العظمى من الشكاوى أو القضايا التي رُفعت وحُكم بها، أو ما زالت قيد التحقيق، ليست ضد النظام السوري:
إن النظام السوري هو المرتكب الأساسي لمختلف أنماط الانتهاكات التي يبلغ بعضها مستوى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، بنسبة تصل وفق بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى ما بين 85 إلى 90 % من إجمالي الانتهاكات، فيما ارتكبت بقية أطراف النزاع كلها ما بين 10 إلى 15 %، وهذا واضح في جميع تقارير لجنة التحقيق الدولية المستقلة [8] التي وصفت العديد من انتهاكات النظام السوري بأنها جرائم ضد الإنسانية، بمعنى أنها منهجية وواسعة النطاق، فيما وصفت انتهاكات بقية أطراف النزاع بأنها جرائم حرب (فضلًا عن جرائم التعذيب لدى تنظيم داعش)، ولدى حديثنا مع أغلب اللاجئين، تبيّن أنهم متضررون بالمقام الأول من انتهاكات النظام السوري، لكن الغالبية العظمى من الشكاوى أو القضايا التي رُفعت وحُكم بها، أو ما زالت قيد التحقيق، ليست ضد النظام السوري بل ضد كلّ من تنظيم داعش، وجبهة النصرة، وأحرار الشام، وعناصر الجيش الحر (فصائل في المعارضة المسلحة)، وهذا ما أكده الزملاء في “هيومن رايتس ووتش”، في تقريريهم الموسع عن هذا الموضوع، في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، تحت عنوان “هذه هي الجرائم التي نفرُ منها”، حيث جاء في التقرير: “حتى كتابة هذه السطور، كانت المحاكمات الوحيدة المتصلة بسورية والخاصة بالجرائم الدولية الخطيرة في البلدين كلها تقريبًا ضد عناصر ذوي رتب متدنية من داعش وجبهة النصرة والجيش السوري الحر ومجموعات أخرى غير تابعة للدولة، مُعارضة للحكومة السورية، وتمت الملاحقة في قضية واحدة بحق عنصر ذي رتبة متدنية في الجيش السوري” [9].
والسبب الرئيس وراء ذلك محاكمة المنتسبين إلى التنظيمات المتطرفة، وفقًا لقانون الإرهاب، وإن كانت في الأغلب جرائم حرب، وإطار قانون الإرهاب في بعض الدول واسع (أشار تقرير “هيومن رايتس ووتش” السابق إلى القانون الألماني على سبيل المثال [10])، ويحاسب على الانضمام إلى تنظيم مصنّف “إرهابيًا”، بتقديم دعم أو مساعدة، وبكل تأكيد لا يعكس هذا طبيعة الوضع في سورية، وقد فسّر كثير من السوريين محاكمة الأطراف الأخرى بشكلٍ أوسع من النظام السوري على أنه سياسة دول.
بكل تأكيد، هناك العديد من النقاط الأخرى، لكنها برأيي ثانوية مقارنة مع ما سبق، مثل استمرار النزاع في سورية، وبالتالي عدم قدرة المحققين على زيارة موقع الجريمة، ومحدودية الحصول على الأدلة، والنظام السوري لن يتعاون مع أي من القضايا، سواء كانت ضده أم ضد مجموعات معارضة أو تنظيمات إسلامية متطرفة، وصحيح أن هناك مئات الآلاف من اللاجئين في أوروبا، وهم مصدر أساسي للمعلومات، لكن كثيرًا منهم يرفضون التعاون خشية من انتقام النظام السوري، لأن لديهم أقرباء وأصدقاء في سورية.
محاكمة كوبلنز [11]:
لا تخرج محاكمة كوبلنز عن السقف الذي رُسم سابقًا، وقد سمع كثير من السوريين عن مبدأ الاختصاص القضائي العالمي، وأن هناك محاكمات تجري في أوروبا بسبب هذه المحاكمة تحديدًا، على الرغم من أنها قد بدأت في النزاع السوري فعليًا منذ عام 2015 [12]، وصدر أول حكم لأول قضية بحق (مهند د.) من عناصر المعارضة المسلحة، بالسجن 8 سنوات أمام محكمة الاستئناف في السويد، في آب/ أغسطس 2016 [13].
تنبع أهمية محاكمة كوبلنز واستثنائيتها من أنها محاكمة لأشخاص كانوا يعملون مع النظام السوري، وصحيح أنهم قد انشقوا عنه، لكن محاسبتهم تتم على الانتهاكات التي مارسوها خلال حقبة عملهم معه، وقياسًا على ما أشرنا إليه سابقًا، فإن كًلا من (إياد غريب) و(أنور رسلان) من الصفوف المنخفضة جدًا في هيكلية النظام السوري، ولن تؤدي هذه المحاكمة إلى خلق حالة من الذعر لدى النظام السوري أو إيقاف التعذيب، وقد فقدَ النظام السوري العشرات من ضباطه وعناصره من الصف الأول والثاني، لكن ذلك لم يمنعه عن الاستمرار في عمليات القتل والقصف، ولو افترضنا جدلًا أنه قد تم تسليم أحد أعضاء النظام من الصف الأول إلى إحدى المحاكم الأوروبية، فإن ذلك أيضًا لن يردع النظام، وسوف يستمر في ممارسة التعذيب والقتل تحت التعذيب، ولن يتأثر كثيرًا بفقد بضعة أشخاص، وسوف يقوم بتوظيف من يتولى مهامهم من بعدهم، وهذا ما حصل على مدى السنوات العشر الماضية.
يجب علينا دائمًا أن نضبط سقف التوقعات، فالخيار الوحيد المتاح أمامنا حاليًا لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات جنائيًا هو عبر الاختصاص القضائي العالمي (لعلنا نتحدث في مادة أخرى عن خطوة المحاسبة الجارية عبر محكمة العدل الدولية) وهو غالبًا لن يتمكن من محاكمة الصفوف الأولى، لكن هذا لا يعني ألا نمضي في هذا الخيار، فهو يشتمل على كثير من الإيجابيات في حال الابتعاد عن التهويل والمبالغة، فهي وإن كانت تحاكم أفرادًا مثل (إياد)، و(أنور)، فإن هؤلاء الأفراد هم جزء صغير من منظومة أمنية متوحشة لدى النظام السوري، وقد كشفت محاكمتهما عن ممارسات تعذيب بربرية مارسها النظام السوري، وحظيت على تغطية إعلامية واسعة، وهذا أسهم في مزيد من تعرية وفضح جرائم النظام السوري أمام الرأي العام الألماني والأوروبي والعالمي، وهذا إنجاز جبّار على صعيد مناصرة قضية المعتقلين وما يتعرضون له من تعذيب، ومناصرة قضية السوريين ككل، وحقهم في المطالبة بالتخلص من هكذا نظام يمارس أبشع الأساليب بحق معارضيه السياسيين، وأدرك كثير من الأوروبيين أن السوريين لم يهربوا فقط من القتل والقصف، بل خوفًا من الاعتقال وما سوف يتعرضون له من تعذيب وحشي، وهذا كان له أثرٌ على صعيد تغيير الرأي العام تجاه اللاجئين السوريين وإعادتهم.
أخيرًا، هذه المحاكمات كلها تؤكد توجّه السوريين المؤمنين بالتغيير الديمقراطي نحو كل محاولة، مهما كانت ضئيلة، من أجل إنهاء ثقافة الإفلات من العقاب، وتُظهر توقهم لإحقاق العدالة للجميع حتى خصومهم، وتطلعهم نحو ممارسة كل ما اكتسبوه من خبرات في مسار العدالة الانتقالية الذي يتضمن محاسبة أكبر قدر ممكن من مرتكبي الانتهاكات.
يوسف وهبه (مدير وحدة الدعم بالقانون الدولي – البرنامج السوري للتطوير القانوني):
- الحق في الانتصاف الفعال كمسار “للعدالة” بمفهومها المتداول
شهد الربع الأول من هذا العام ثلاثة أحداث حقوقية بالغة الأهمية، بالإضافة إلى قرار محكمة كوبلنز الألمانية. وقبل التطرق إلى هذه الأحداث الثلاثة، من الضروري الإشارة إلى أن هذه الأحداث لم يتم تناولها بالاهتمام والتحليل والتقييم الكافي والمطلوب، من وجهة نظري، وذلك لسبب جوهري -بالإضافة إلى أسباب أخرى- وهو الفرض المتعمد أو غير المتعمد لمفهوم العدالة الجنائية كمسار وحيد للعدالة، وهو المفهوم الذي سيتم تناوله في السياق أدناه.
نُشِرت، في كانون الثاني/ يناير 2021، على موقع الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان، المراسلة الأولى من نوعها عبر سنوات الثورة السورية موجهة من المقرر الخاص المعني بالحقيقة والعدالة والجبر وضمانات عدم التكرار (العدالة الانتقالية اختصارًا) -ومجموعة من الإجراءات الخاصة الأخرى- “للحكومة السورية”.[14] فما المميز بمثل هذه المراسلة؟ ولماذا أعتبرها حدثًا حقوقيًا مهمًا، بالرغم من كونها غير ملزمة وفق القانون الدولي؟
في اجتماع في أيلول/ سبتمبر 2019، أكد المقرر الخاص المعني بالعدالة الانتقالية لعددٍ من المنظمات الحقوقية السورية أنه كان يجابَه باعتراضات شديدة من ممثل “الحكومة السورية وحلفائها” في مجلس حقوق الإنسان، كلّما أراد تناول الوضع في سورية، حيث كانوا دومًا ينكرون انطباق اختصاصه. وأضاف أنه مقتنع تمامًا أن المرحلة تتطلب تدخلًا جوهريًا منه لضمان أن مستقبل سورية لا يتم تشكيله حصرًا على أساس المساومات العسكرية والسياسية. كان المقرر الخاص يبحث عن مبادرة من المنظمات الحقوقية السورية ليوظفها في فرض اختصاصه.
أخذ البرنامج السوري للتطوير القانوني، وبعض شركائه من المنظمات الحقوقية، وروابط الضحايا والعائلات المبادرة، وتمت مراسلة المقرر الخاص بخصوص تغييب أي مكون للنقاش والتخطيط للعدالة الانتقالية في المسارات التفاوضية القائمة، عدا عن التغييب الكامل لدور الضحايا والعائلات. وعلى هذا الأساس، اتخذ المقرر الخاص مدعومًا من آخرين من الإجراءات الخاصة القرار بطرح هذا الموضوع على الطاولة، وبالتالي، تأكيد محورية دور الضحايا والعائلات، وخطورة تغييب أو تأجيل مناقشة مكونات العدالة الانتقالية لوقت غير معلوم.
يمكننا الخروج بمجموعة من الاستنتاجات من هذا الحدث:
أولًا، إن الموقف الرافض للنظام وحلفائه لتفعيل اختصاص يتعلق بمكونات العدالة الانتقالية يتناسب طردًا، مع ضرورة دعم هذا الاختصاص وإيلائه أهمية استثنائية. المنتهكون والمجرمون يدركون جيدًا أثر تجريدهم من أدواتهم المفضلة لاستمراريتهم وهي العسكرة والسياسة، ويعلمون تمامًا خطورة المفاهيم والمسارات الحقوقية، وأهمها على الإطلاق التحضير للعدالة الانتقالية، من خلال مكونات الانتصاف الفعال، على مركزهم ومصيرهم.
ثانيًا، كرّس المقرر الخاص أن الحلّ في سورية ليس قائمًا حصرًا على تسويات سياسية و/أو عسكرية، فقد عنوَن مراسلته بالتركيز على غياب مكونات العدالة الانتقالية، لتناول انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي حقوق الإنسان في المفاوضات السياسية، وكذلك التغييب الكلي للضحايا والنساء والنازحين داخليًا.
ثالثًا، وحده النهج المرتكز على الضحايا هو الكفيل بضمان مستقبل مستقر لسورية، لا تتكرر فيه الجرائم والانتهاكات الجسيمة.
رابعًا وأخيرًا، لم تُوجِد الأمم المتحدة إجراءً خاصًا بالعدالة الجنائية منعزلةً على سبيل المثال، ولكنها أنشأت اختصاصًا يتناول حزمة من الإجراءات والمكونات، ومن ضمنها العدالة الجنائية، وهي مجتمعة تشكل أساس العدالة الانتقالية، وتعتبر أساس الحق في الانتصاف الفعال المكفول في القانون الدولي [15] كما ورد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ٦٠/١٤٧ لعام 2005 [16].
قبل الخوض في بعض تفاصيل مفهومي العدالة والانتصاف الفعال، لا بدّ من التوقف عند ميثاق الحقيقة والعدالة [17] الذي أطلقته خمس مجموعات للضحايا/ الناجين والعائلات، في شباط/ فبراير الماضي.
تسعى المجموعات من خلال هذا الميثاق إلى تثبيت “خارطة طريق” شاملة لمسار العدالة، ولمستقبل سورية، وهي قائمة على النهج المرتكز على الضحايا، فبدلًا من أن يتصدى كل طرف منخرط بالشأن السوري لمفاهيم ومطالب “المحاسبة” و”العدالة” من وجهة نظره، وربما بحسب تصوراته وأحيانًا مصالحه، قدمت المجموعات الخمسة توجهًا عمليًا وشاملًا، يمكن لجميع المعنيين تبنيه وتضمينه في إستراتيجياتهم وجهودهم.
هذا النهج ينطلق من المفهوم الأشمل للحق في الانتصاف الفعال، الذي يتعامل مع الانتهاكات الجسيمة والجرائم الدولية من منظور ينطلق من ويرتكز على الضحايا وليس الجناة فقط.
يؤكد هذا الحق أن العدالة الجنائية يجب أن تكون أحد مكونات حق الضحايا والعائلات في الانتصاف الفعال، ويجب أن تكون -حُكمًا- مراعية لحاجاتهم ومطالبهم، والأهم من ذلك ألا تنفصل أبدًا عن إجراءات جبر ضررهم وفقًا لمعايير القانون الدولي أولًا [18]، وحسب ما يقررونه بأنفسهم، أو على أقل تقدير، يشاركون بشكلٍ محوري في تصميمه.
عادة ما يُنظر إلى مفاهيم مثل جبر الضرر وضمانات عدم التكرار كمحتوى أكاديمي مرتبط بنقاشات العدالة الانتقالية فقط، وبالتالي نرى كثيرًا من الأطراف لا تولي الأمر أهمية -بقصد أو من دون قصد- وتُبقي التركيز على العدالة الجنائية بشكلها المتمثل في إجراءات المحاكم وما ينتج عنها من أحكام بحق من تثبت إدانته. ولكنّ الحقيقة أن حق الضحايا وعائلاتهم بالانتصاف الفعال (العدالة وجبر الضرر بمكوناته، والحق في معرفة الحقيقة) ليس قضية تقبل التأجيل، وليس مرتبطًا حصرًا وشرطًا بمفهوم العدالة الانتقالية، بل هو جوهر “العدالة” بمفهومها العام الذي يطالب به السوريون، وبدونه يُوضَع الضحايا والعائلات ومستقبل سورية كاملًا أمام سؤال مصيري: هل يتلخص مطلب “العدالة” للسوريين في وضع المجرمين وراء القضبان فحسب، وهو النتيجة الحتمية الوحيدة لإجراءات العدالة الجنائية؟ لا يمكن لإجراءات العدالة الجنائية، بحكم طبيعتها التقنية قبل أي شيء، أن تنظر إلى الانتهاك من زاوية الضحايا، ولكنها ترتكز على الجاني باعتباره قد انتهك حقًا أو قيمة مجتمعية. إضافة إلى أن مسار جبر الضرر بمكوناته مرتبط بتحميل “الدولة” مسؤوليتها الفورية تجاه الانتهاكات الواقعة على الأفراد [19].
استدركت محكمة الجنايات الدولية الفجوة التي انتُقِدت لأجلها محكمتا يوغوسلافيا ورواندا في ما يتعلق بتغييب الضحايا من إجراءاتهما ونتائجهما، واقتصار دورهم على التعامل معهم كشهود بأفضل الأحوال. ولذلك، تتعامل محكمة الجنايات الدولية مع أي جريمة قيد النظر من منظور ثلاثي: الادعاء؛ المشتبه به؛ الضحايا كطرف أساسي في القضايا. تركز المحكمة على مبدأ العدالة التصحيحية، الذي يهتم بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل حدوث الانتهاك، وهذا يعني التعامل مع الجرائم من منظور الضحية وليس الجاني ومجرد عقابه [20]. وما دامت محكمة الجنايات الدولية لا تمارس اختصاصها بعد على سورية، فضلًا عن أنها لن تكون قادرة في حال تفعيلها على محاكمة كل الذين يدانون بارتكاب جرائم، يجب ألا يسقط من حساباتنا جميعًا أن مساعي المحاسبة و”العدالة”، بالمفهوم العام المتداول، يجب أن ترتكز على حق الضحايا بالانتصاف الفعال.
مع مرور الزمن وإهمال هذا الحق الأصيل، فإن الضحايا وعائلاتهم مهددون بفقدان حقوقهم للأبد. والمطلوب تكثيف كل الجهود ذات الصلة بالاستناد إلى والانطلاق من ميثاق الحقيقة والعدالة، باعتباره تصورًا يمكن أن يعمم أولًا لتناول شؤون المحاسبة والعدالة من وجهة نظر الضحايا، وثانيًا لأنها وجهة نظر تترجم الحق في الانتصاف الفعال، وليست مجرد عدالة جنائية ذات طابع تقني في نهاية الأمر، على الرغم من أهميتها ودورها وكونها أحد مكونات الانتصاف الفعال.
كان قرار مجلس حقوق الإنسان في آذار/ مارس الماضي [21] سابقة قانونية وحقوقية بالغة الأهمية، لأنه يشير بصراحة -للمرة الأولى- إلى الدور المحوري للضحايا والعائلات في أي عملية محاسبة وعدالة. هذا الحدث الثالث في قائمتنا، حتى الآن، لم يشكل محور اهتمامٍ كافٍ عند كثير من الجهات الحقوقية المعنية بالشأن السوري. تترجم هذه السابقة جهدًا حثيثًا قامت به مجموعات الميثاق الخمسة، وبعض شركائها، لدفع أعضاء المجلس لتبني هذا النص، وتعكس التفسير العملي للحق في الانتصاف الفعال، وأظن أن على الجهات الحقوقية الفاعلة الاستثمار في هذا القرار لفرض رؤية الضحايا وعائلاتهم في كل المسارات القائمة حاليًا والممكنة مستقبلًا.
ختامًا، يحتاج السوريون إلى حوار منهجي ومعمق بخصوص مفاهيم المحاسبة والعدالة والانتصاف الفعال والعدالة الانتقالية. هذا الحوار يجب أن ينطلق من رؤى الضحايا والعائلات، وإلا فسنبقى في دائرة الفردانية ووجهات النظر الشخصية أو “المنظماتية” بأحسن الأحوال. إن الاستمرار في جهود “المحاسبة” و”العدالة” حصرًا، وفق المسارات القائمة حاليًا، يكرّس مفاهيم محدودة لهذه المصطلحات ومكوناتها، وهي على الأغلب مفاهيم ترتكز على إجراءات العدالة الجنائية (المحاكم التي، لأسباب قانونية وتقنية، تنظر إلى القضايا بالارتكاز على الجناة لا على الضحايا) إن هذا التكريس، مصحوبًا بخطابات تعميمية تتحدث بأن المدخل الوحيد “للعدالة” في سورية هو المحاكم الجنائية حصرًا، وتتحدث عن حقوق الضحايا من منطلق ما يصدر من أحكام على المجرمين، بناءً على اقتصار دور هؤلاء الضحايا على ما يدلون به من شهادات، يجرّد كلّ الضحايا والعائلات من حقهم في الانتصاف الفعال الذي يجب أن يتضمن قبل أي شيء مشاركتهم الفعالة والحقيقية في تقرير وتخطيط مسارات المحاسبة والعدالة، بالإضافة إلى شمولية هذه المسارات -كمكونات ليست اختيارية- مطالب ومكونات الحقيقة وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار.
المحامي إبراهيم القاسم (مدير مجموعة ملفات قيصر) [22]
العدالة حقّ لكل الضحايا وليست انتقامًا
تمركز السلطات في سورية بيد النظام السوري، وسيطرته التامة عليها، ومنها السلطتان التشريعية والتنفيذية، أدى إلى حمايته لنفسه بتشريعات تضمن إفلاته من العقاب، بالإضافة إلى القصور التشريعي والقضائي عن ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية في سورية طوال عقود. بعد الثورة السورية استمر النظام في النهج نفسه، مستغلًا عدم وجود رغبة دولية -في ظل الفيتو الروسي والصيني[23]– في التوجه للمحكمة الجنائية الدولية، أو تشكيل محكمة دولية خاصة في سورية لملاحقة مرتكبي هذه الجرائم.
كل هذا جعل من الخيارات المتاحة أمام الضحايا محدودة جدًا في الوصول إلى حقوقها، وكانت النافذة الوحيدة هي اللجوء إلى المحاكم الوطنية الأوروبية ذات الولاية القضائية العالمية الشاملة [24]، التي تنص على أن القضاء في هذه الدول له صلاحية النظر في الجرائم الدولية التي تُرتكب خارج اختصاصها الإقليمي والموضوعي والشخصي، أي إذا تم ارتكاب الجريمة خارج أراضيها على أشخاص من قِبل آخرين (الجاني والضحية) لا يحملون جنسيتها.
يمكن النظر إلى هذه الولاية القضائية من نواحي إيجابية وسلبية أيضًا، فالتقاضي الإستراتيجي الذي يتمثل في هذه الولاية من غير المتوقع أن يكون الحل الأمثل لملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية في سورية، لأن الأصل في الاختصاص هو للمحاكم المحلية، أمّا القضاء الدولي فهو تكميلي وتبعي [25]، لذلك يجب العمل على توفير كل الشروط اللازمة للقيام بهذه الإجراءات أمام القضاء السوري مستقبلًا، مثل تعديل التشريعات، وتدريب الأطر والكوادر، وتوفير البيئة الأمنة لمثل هذه الإجراءات [26].
من جهة أخرى، ما تزال الإجراءات التي تتم أمام المحاكم الأوروبية بموجب الاختصاص العالمي لا ترقى إلى طموح الضحايا وحجم الانتهاكات وجسامتها، والأهمّ من ذلك كله عدم توفر الحماية الكافية للضحايا والشهود وذويهم من عمليات انتقامية قد تتم ضدهم بسبب اتخاذهم سبيل المحاسبة.
كل هذه النواحي ظهرت منذ بداية عام 2016، عندما بدأت عملية الإجراءات القضائية ضد أجهزة النظام السوري، كونها اقتصرت سابقًا على التحقيقات الهيكلية، وملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم دولية من أطراف النزاع المسلح الأخرى، كمقاتلي تنظيم داعش أو مقاتلي المعارضة المسلحة باختلاف أطيافها، فتمت إقامة بضعة شكاوى جنائية في ألمانيا [27] ودول مثل السويد والنرويج والنمسا وفرنسا. هذه الإجراءات استمرت سنوات عدة حتى شهر شباط/ فبراير عام 2019 عندما ألقت السلطات المختصة الألمانية القبض على ضابط وصف ضابط عملا سابقًا في “فرع الخطيب” (251) التابع لإدارة المخابرات العامة، وتم إلقاء القبض على آخر في فرنسا في الوقت نفسه[28]، لكن أُخلي سبيله بعد عام كامل لعدم توفر الأدلة الكافية ضده. واستمرت إجراءات هذه القضية أمام المحكمة الإقليمية في مدينة كوبلنز الألمانية، وفي 24 شباط/ فبراير الماضي، صدر حكم بحق صف الضابط (إياد غريب) بسجنه أربع سنوات ونصف، بتهمة التدخل في التعذيب وحجز الحرية. أما الضابط (أنور رسلان) فتستمر الإجراءات بحقه بشكلٍ منفصل، ومن المتوقع أن يتم إصدار الحكم بحقه في الخريف القادم [29].
هذه المحاكمة خلفت العديد من الآراء والمواقف المتباينة بين السوريين، فمقابل الصمت من جهة النظام السوري، تعالت الأصوات الأخرى، خاصة بعد الحكم على (إياد)، التي تشجب محاكمة (إياد) و(أنور) بحجة انشقاقهما عن النظام السوري تواليًا في بداية ونهاية عام 2012، ونادى البعض الآخر بتشديد العقوبة، بينما رآى آخرون أنها بالمحصلة لا تعني شيئًا، ما دامت لا تستهدف رأس النظام السوري والصف الأول منه.
باعتقادي، يمكن تقسيم هذه الأصوات بين أربع فئات: الأولى هي عائلة المحكوم (إياد) التي تُوقع منها التعاطف بشكلٍ طبيعي معه؛ والفئة الثانية من المنشقين الذين يخشون أن يلقوا المصير نفسه، والفئة الثالثة من السوريين الذين قاموا بحمل السلاح في سبيل الدفاع عن أنفسهم والحصول على حريتهم، والفئة الأخيرة (وكان موقفها مستغربًا) هي فئة بعض منظمات المجتمع المدني وبعض الناشطين والساسة الذين كان موقفهم أن المنشقين لا يجب محاكمتهم، إنما نكتفي بانشقاقهم وإعطاء المعلومات فقط، وأرى أن ذلك مستهجن، لأن هذا الموقف يُبنى على حساب الضحايا وذويهم فقط. لذلك يبدو الحل الأمثل، من وجهة نظري، دعم حقوق الضحايا دومًا وبشكلٍ مطلق، من دون إهمال حق المتهمين بارتكاب الجرائم في ضمان معايير المحاكمة العادلة والظروف المخففة في حال توفرها لصالحهم وفق القوانين الدولية، كما الحال في حالة (إياد غريب) الذي تم تخفيف عقوبته بسبب تقديمه معلومات. وبذلك لا يمكن لأحد وصف حق الضحايا في الوصول إلى العدالة على أنه إجراء انتقامي.
في النهاية، لا يمكن اختصار العدالة في سورية بالعدالة القضائية فقط، فالعدالة الانتقالية يجب أن تتضمن بقية أشكال وأنواع العدالة، كالعدالة الاجتماعية التي تشتمل على العدالة الاقتصادية أيضًا.
أما مفهوم العدالة التصالحية الذي يتم الترويج لها -بشكلٍ خاطئ- على أنها مسامحة الضحايا للجناة، فالمقصود فيه المصالحة بين مؤسسات الدولة والمواطنين/ات في سورية، لأن هذه المؤسسات لم تقصّر في الإقرار بحقوق المواطنين وضمان التمتع بها، بل كانت المسببة أو على الأقل، أداة لانتهاك حقوق جميع السوريين، وأدى ذلك إلى افتقاد الثقة بينهم وبين مؤسسات الدولة. أما التسامح بين الضحايا والجناة، فلا يجب أن يكون شرطًا لتحقيق العدالة، بل يجب التعامل معه على أنه حق للضحية يتمتع به وقتما شاء، في ظل عقد اجتماعي جديد يضمن الحقوق ويحميها ويمنع مزيدًا من الانتهاكات.
سيما نصار (مؤسسة مشاركة لمنظمة “أورنامو” وشبكة “WE” للمدافعات عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا):
- – في توظيف الإنجازات الحقوقية سياسيًا
عرّف المركز الدولي للعدالة الانتقالية، وكذلك مفوضية الأمم المتحدة، العدالة الانتقالية بأنها مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة، من أجل معالجة إرث كبير من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتشمل هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وغيرها من الآليات التي تضمن إصلاح المؤسسات وتعيد الثقة بين مختلف فئات المجتمع.
العدالة الانتقالية عملية متكاملة: سياسية؛ اجتماعية؛ اقتصادية. وفي الحالة السورية، لا يمكن تحقيق عدالة تنصف جميع الأطراف من دون انتقال سياسي؛ إذ يستحيل الانخراط بتدابير العدالة الانتقالية من دون إشراك كل من الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني بالذات، تلك المؤسسات التي استجابت لاحتياجات الضحايا، وعملت على رصد وتوثيق الانتهاكات الجسيمة المرتكبة بحق الأفراد والجماعات منذ البداية، والآثار المجحفة للانتهاكات، وكذلك الأضرار والخسائر التي لحقت بمختلف فئات الشعب، ويناط بها توظيف هذه التوثيقات لدعم إجراءات العدالة الانتقالية. فإذا كانت الحكومة السورية هي المسؤول الرئيسي عن ارتكاب الانتهاكات وتتنصل من مسؤوليتها، وتمنع منظمات المجتمع المدني من العمل على أراضيها، إضافة إلى أن القضاء السوري غير نزيه وغير مستقل، ويخضع مباشرة للسلطة التنفيذية، فكيف يمكن أن تنخرط بمسار العدالة الانتقالية؟
شهدت المناطق التي استعادت الحكومة السيطرة عليها ممارسات مسيئة بحق السكان المدنيين، واستمرارًا لارتكاب انتهاكات غايتها امتهان كرامة الضحايا وسحق إنسانيتهم بدلًا من السعي للتكفير عن الأخطاء وتعويضهم، وبناء على ذلك، لا يمكن أن تكون الحكومة القائمة الآن شريكًا في إنفاذ آليات العدالة الانتقالية، إذ لا يمكن الثقة بهذه الحكومة. إن جوهر العدالة الانتقالية هو إعادة الثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع عبر محاسبة المجرمين، والاعتراف بهذه الجرائم والاعتذار عنها، وضمان عدم تكرارها، وتعويض المتضررين، والاعتراف بكرامة المواطنين، وإلغاء الحسابات السياسية، لصالح تأسيس دولة القانون.
أما عن طرق تحقيق العدالة المنشودة، خاصة في ظل ما توفره الولاية القضائية العالمية كوسيلة للعدالة في الجرائم الدولية المرتكبة في سورية من قبل نظام الأسد وعصابته المجرمة ممن ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فأشير إلى أن مبدأ الولاية القضائية ينصّ على أن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب يمكن التحقيق فيها ومقاضاة مرتكبيها من قبل كل الدول، لكونها جرائم ضد الإنسانية، وهذا يعني أن الإنسانية جمعاء معنية بالتصدي لها. ولأن سبل العدالة غير متاحة في سورية، تعاملت الجهات الدولية والمنظمات الحقوقية السورية مع هذه الحقيقة، وتعاونت فيما بينها لجمع المعلومات والأدلة، بحيث تمكنهم من دعم المساعي لتحقيق العدالة.
تتضح هذه الجهود في ما تقدّمه هيئات الأمم المتحدة من أدواتٍ للتحقيق وتقصي الحقائق، منحتها تفويضًا علنيًا لجمع الأدلة الملائمة للاستخدام في الملاحقات الجنائية، گ [(IIIM) الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة، وفق تصنيف القانون الدولي، والمرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار/ مارس 2011، و(COI) لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، و(FFM) منظمة حظر الأسلحة الكيميائية لتقصي الحقائق، وفي ما تقوم به مجموعة من الدول من استحداث وحدات وطنية متخصصة لممارسة الولاية القضائية العالمية على الجرائم المروعة، وأخيرًا النشاط الحثيث للمنظمات غير الحكومية في جلب الشهود وجمع الأدلة لاستخدامها في الملاحقات الجنائية في أوروبا على أساس الولاية القضائية العالمية.
ويطمح العاملون في ميدان حقوق الإنسان إلى الوصول إلى محكمة دولية خاصة بسورية، على غرار ما حصل في رواندا أو يوغسلافيا السابقة، سعيًا لتوقيف المتهمين وجلبهم للعدالة، أو لإحالة ملف سورية إلى محكمة الجنايات الدولية، وهذا الأمر لا تتوفر مقوماته في الوقت الحالي، وهنا نعود إلى الحسابات السياسية، فلو تم تجاوز الفيتو الروسي والصيني، فمن الصعوبة بمكان أن يتوافق القادة السياسيون للدول التي من الممكن أن يوجد على أرضها مجرمون، على التعاون لإنفاذ آليات العدالة وتسليم المتهمين، والمثل الصارخ هو رئيس السودان عمر البشير، الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف من قبل محكمة الجنايات الدولية، ومع ذلك لم تتعاون الدول لتوقيفه ليصار لمحاسبته، فالأمر منوط دائمًا وأبدًا بالإرادة السياسية للدول.
وإذ تعتبر الولاية القضائية العالمية وسيلة مهمة جدًا، لا يخفى انسجامها مع مصالح الدول الإستراتيجية كمكافحة الإرهاب، والتعامل مع أسرى الجماعات المتطرفة، لذا نجد العديد من أعضاء هذه الجماعات مُضمنًا في حالات الولاية القضائية العالمية في الاتحاد الأوروبي، ومع أشد التقدير للجهد الكبير المبذول من قبل الأفراد والمنظمات السورية والدولية والمراكز التي قدمت وتقدم كل الدعم للوصول إلى ما تم الوصول إليه.
جوابًا على سؤالكم: هل هذه هي العدالة المنشودة التي تنصف الضحايا؟ وأين هي من مسار العدالة الانتقالية؟ وما انعكاسها على واقع السوريين في الداخل؟، أتساءل بدوري: السوريون في الداخل وكذلك في الخارج، ومنهم الأشخاص المنخرطون بمسار العدالة، والمشاركون برفع هذه الدعاوى القضائية، هل ينصفهم إصدار مذكرة توقيف بحق جميل الحسن أو بشار الأسد؟ هل سيكفيهم هذا، في الوقت الذي ما يزال المجرمون موغلين في انتهاكاتهم بحق وطن هم مبعدون عنه؟ قد يكون الأمر مختلفًا مع ضحايا المجرمين الموجودين في أوروبا، وستتم محاسبتهم عمليًا، وهنا يظهر بعض القصور في الولاية العالمية -على أهميتها- وهو ما أشرت إليه في البحث الذي قمت به مع خبير من بلاد البلقان في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية حول توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية في سورية: الثغرات وسبل معالجتها، وقد أظهر أن عدد الذين سيشعرون بالانتصاف هو عدد محدد وقليل جدًا في الغالب.
إن ما تحقق حتى الآن هو خطوة صغيرة جدًا على الطريق الطويل، وبالرغم من كونها تأتي في إطار محاسبة الجناة، أعتقد أنها تخدم سردية الضحايا، وتمنحهم الاعتراف بروايتهم، من قبل قضاء مستقل محايد ونزيه، عن حصول هذا الانتهاك وعدم التشكيك بما حصل، أكثر من أي شيء آخر. وكان، لمجرد تسمية المحاكمة في كوبلنز بـ “المحاكمة عن جرائم التعذيب في سورية”، أثر إيجابي كبير لدى الناجين من هذا الانتهاك في سورية.
وعن وضع أصوات الناجين السوريين في مركز الحوار حول سورية، وفتح مسارات جديدة وأكبر للناجين من أجل المشاركة والوصول إلى عمليات صنع القرار السياسي والعدالة بشأن المستقبل السوري، أرى أن هناك خطوات عملاقة تمت في هذا الإطار خلال السنوات الأخيرة؛ إذ بادر عدد من الناجين وأسر الضحايا لتأسيس روابط وحركات للدفاع عن قضاياهم وطرح رؤيتهم، ولم تعد أصوات الناجين وأسرهم مغيبة عن أي حدث يتعلق بالعدالة، فهي ممثلة دائمًا عبر هذه الروابط والحركات كـ (حركة عائلات من أجل الحرية)، و(مبادرة تعافي)، و(رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا)، و(تحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم داعش)، و(رابطة عائلات قيصر)، وغيرها، ويجدر بالذكر الإشارة إلى الدور الكبير الذي أدته المنظمات النسوية في دعم هذه الحركات والروابط والمبادرات، التي توجت جهودها بداية العام الحالي بإصدار “ميثاق الحقيقة والعدالة”، الذي يسعى لتقديم رؤية شاملة لموقف ضحايا الاعتقال التعسفي، والاختفاء القسري، والتعذيب، من القضايا السورية المرتبطة بقضيتهم ورؤيتهم لمستقبلها، ومواقفهم في العمل عليها، وتحديد مطالب الضحايا في هذا الإطار.
وفي دورة مجلس حقوق الإنسان التي عقدت في آذار/ مارس الماضي، أصدرت الأمم المتحدة أول قرار على الإطلاق منذ 2011 ينصّ على مشاركة هادفة للضحايا في عمليات المحاسبة والعدالة الانتقالية، وهو ما يؤكد أهمية مشاركة الضحايا/ الناجين في عمليات المساءلة، وهذا حصل لكون هذه الروابط والحركات والمبادرات قد أخذت مكانها المحوري في هذا العمل.
ويشمل القرار بنودًا عدة: أهمية إدراج وجهات نظر الضحايا ومطالبهم المتعلقة بالحقيقة والعدالة في جهود المجتمع الدولي في سورية (الديباجة فقرة 9)؛ المشاركة الهادفة من جانب الضحايا في عمليات المحاسبة والعدالة الانتقالية (فقرة 7)؛ الترحيب بالمبادرات التي تقودها الضحايا عن الحقيقة والعدالة ومساهمتهم المهمة في ضمان العدالة بسورية (فقرة 7). وهو ما يجب أن يكون البوصلة التي توجه كل الجهات والمنظمات والائتلافات وهيئات التفاوض واللجان الدستورية.. إلخ.
ووصلت جهود العدالة القضائية الأوروبية بعد محاولات المحاسبة والمساءلة الدولية حتى الآن إلى ما يلي:
- – تقديم شكوى جنائية أمام قضاة التحقيق في فرنسا بشأن الهجمات بالأسلحة الكيميائية على مدينة دوما والغوطة الشرقية في آب/ أغسطس لعام 2013.
- – تقديم شكوى جنائية في موسكو ضد مقاتلي مجموعة “فاغنر” شبه العسكرية، نيابة عن ضحية سوري.
- – حملت كل من حكومة كندا وهولندا الحكومة السورية المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان، وتحديدًا مسؤولية التعذيب بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب. وأرسلت هولندا مذكرة دبلوماسية للمضي قدمًا باتخاذ إجراء قانوني بموجب اتفاقية مناهضة التعذيب، وإحالة سورية إلى محكمة العدل الدولية.
- – إصدار أول حكم على متهم بارتكاب جرائم تعذيب في سورية.
- – قبل المدعي العام الألماني القضية المقدمة لاعتبار العنف الجنسي والعنف المبني على النوع الاجتماعي كجريمة ضد الإنسانية.
وهذا ما يعني أن لائحة الانتهاكات سنة 2021 قد اتسعت بشكلٍ أكبر لتتجاوز التعذيب. وتجدر الإشارة هنا إلى الفشل في توظيف هذه الإنجازات بالمسار السياسي والاستثمار فيه، وعدم انعكاسها على واقع السوريين على الأرض، فلم تغيّر منظومة العنف، ولم تُسهم في عدم إفلات المجرمين من العقاب. ولم نرَ أيضًا أنها قد دفعت حكومة دولة (حتى ألمانيا) إلى العمل لاتخاذ خطوات أكثر فاعلية بما يتعلق بالقضية السورية، بل أسهمت حقيقة في كمّ أفواه المدافعين عن حقوق الإنسان، واعتبار هذه المحاكمات هي أقصى ما يمكن فعله بالملف السوري.
وعن دلالات صدور أحكام قضائية على ضد مرتكبي الجرائم من ضباط النظام، أكرر ما ذكرته سابقًا، هو مجرد انتصار صغير لضحايا التعذيب في سورية، وحفظ سرديتهم، وأكبر بقليل للمتضررين المباشرين للجاني. لكن، ومع كل الأسف، لا يمكنني اعتبار هذا الحكم مؤشرًا حقيقيًا لنجاح الجهود في دعم عدم إفلات المجرمين من العقاب. وأنا شخصيًا، لا أرى رابطًا بين صدور الحكم ضد (إياد غريب) والخلط بين الانتقام والعدالة.
إن هدف العدالة تصحيح الخطأ، فهي تعني اتخاذ إجراءات عقابية تتناسب مع الجرم مستندة على إجراءات قانونية، وهي أمر منطقي وقانوني وأخلاقي، ترتبط بمعايير الإنصاف والمساواة الثقافية أو المجتمعية، وتفضي إلى الشعور بالراحة والسلام. أما الانتقام فهو إلحاق الأذى بشخص ما لإشفاء الغليل، ولا يمكن أن يكون الانتقام هدفًا لهذه المحكمة، والمتهمون في هذه المحاكمات لا يتلقون معاملة بمثل ما عاملوا بهم ضحاياهم سابقًا، ولا حتى تقترب منها. التعذيب أمرٌ مروع، وجريمة لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن التساهل مع مرتكبيها لمجرد إعلانهم الانشقاق من دون وضع المعلومات التي لديهم، والتي قد تفيد مسار العدالة في خدمة القانون والضحايا، ومن دون إبدائهم استعدادهم الكامل للاعتذار والاعتراف وخدمة العدالة. ودائمًا للضحية/الناجي الحقّ باتخاذ الإجراءات المتاحة وفق القانون، التي يعتقد أنها قد تنصفه.
وائل السواح (معتقل سياسي سابق، والمدير التنفيذي لمنظمة “مع العدالة”):
من المهم أن نميّز الفرق الكبير بين العدالة الانتقالية والعدالة التقليدية، فالأولى تتجاوز الثانية وتمضي بعيدًا وراءها. العدالة التقليدية غالبًا ما تكون عمياء أو معصوبة العينين، كما يصورها التمثال الإغريقي الشهير. العدالة الانتقالية هي العدالة الممكنة في بلدٍ أنهكته الحروب أو الدكتاتورية، ويريد أن يطوي مرحلة ليبدأ مرحلة جديدة. ولا يمكن لمسار حقيقي للعدالة الانتقالية أن يتم إلا بعد انتقال سياسي حقيقي، فأي عدالة تتم في ظل الطغيان أو الحرب الأهلية أو الثورة هي عدالة منقوصة. وتختلف العدالة الانتقالية عما تم التعارف عليه في الماضي بالعدالة الثورية في أنها عدالة لا تبحث عن الثأر، إنما عن إحقاق الحقيقة، فهي إذًا ليست انتقامًا في أي حال، لكنها أيضًا لا تدير خدها الأيسر حين تلطم على الأيمن.
تسعى العدالة الانتقالية إذن إلى طيّ صفحة وبدء صفحة، وهي العدالة الوحيدة الممكنة في بعض الحالات. لنأخذ سورية على سبيل المثال: إذا أردنا محاسبة جميع منتهكي حقوق الإنسان، فإننا نحتاج إلى جيش من القضاة، وجيش من المحامين، وملايين الشهود، وآلاف القاعات.. إلخ، وهذا مستحيل. العدالة الانتقالية تحلّ الأمر، من خلال محاسبة كبار المنتهكين -أولئك الذين أمروا بارتكاب الجرائم أو كان بإمكانهم وقفها ولم يفعلوا- وتحميلهم مسؤولية أعمالهم كاملة، ثم تأتي لجان الحقيقة والإنصاف، لتبحث عن الانتهاكات وتوثق الضحايا وتقوم بجبر الضرر، بينما تلعب آليات الاعتذار والغفران دورًا مكملًا للمساءلة.
العدالة الانتقالية في سورية ستكون بديلًا لعدالة المنتصر، فقد علّمنا التاريخ أن محاكم ما بعد الحرب هي مجرد تمثيليات يعاقب فيها الفائزون الخاسرين على الأضرار والمعاناة التي سببتها الحرب. والعدالة الانتقالية تقوم بدلًا عن ذلك بإحقاق الحق لكل الضحايا الذين قُتلوا واعتقلوا وجُرحوا في سياق أحداث الثورة، ومعهم أيضًا الجنود وضباط الأمن الذين أُجبروا على المشاركة في قمع الشعب.
لذلك ما يجري في أوروبا من محاكمات لبعض مجرمي الحرب -على أهميتها الرمزية البالغة- ليست عدالة انتقالية. إنها عدالة تقليدية تحاكم مجرمًا على جريمته. ولو تمكنا من استصدار قرار من مجلس الأمن بتفعيل محكمة الجنايات الدولية، فإن مهمتها تظل مقتصرة على محاكمة حفنة صغيرة من مجرمي الحرب، ولن يحقق ذلك العدالة الحقيقية. العدالة الانتقالية تقوم على إيجاد وسائل خلاقة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان، لتجاوز تلك الفترة من طريق محاسبة المسؤولين الفعليين، والبحث عن الحقيقة، والإقرار بالذنب، وجبر الضرر المادي والمعنوي، والمصالحة الشاملة. وهي تستند في تحقيق ذلك إلى آليات باتت معروفة ومختبرة في كثير من البلدان والمناطق، منها المحاكمات، سواء كانت محلية أم دولية؛ والبحث عن الحقيقة من جانب الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا والمجتمع المدني والمنظمات الدولية؛ والإقرار بالجريمة من جانب المنفذين في الدرجات الدنيا، بخاصة الذين أُجبِروا على تنفيذ ما ارتكبوه؛ وجبر الضرر عن طريق التعويض المادي أو المعنوي؛ والإصلاح المؤسسي، ومن ذلك إصلاح المؤسسة الأمنية؛ وتأسيس ذاكرة جماعية من خلال افتتاح المتاحف وإقامة المناسبات والنصب التذكارية لضحايا تلك الفترة. ولا ننسى أن الهدف الأخير للعدالة الانتقالية هو إطلاق مصالحة مجتمعية شاملة، لكي تتمتع الأجيال المقبلة ببيئة اجتماعية وأخلاقية سليمة وغير مشوهة بأحقاد أو مساعٍ للثأر، وأنها المدخل اللازم لتعزيز النظام الديمقراطي السليم والاعتراف بضحايا الفترة السابقة، ولمنع تكرار ما حدث.
في سورية، نجادل بأن مسار العدالة والمساءلة ليس في مصلحة الضحايا المفترضين في جانب الثورة والمعارضة والمدنيين الذين قتلتهم آلة النظام ودمّرت بيوتهم، وألقت بهم إلى البطالة والتشرد فحسب، بل إنها أيضًا في مصلحة الشريحة الكبرى من آلة القمع ذاتها، بخاصة تلك التي لم تكن مقتنعة بكل ما ارتكبته من جرائم وأفعال منكرة.
إن العدالة الانتقالية هي في مصلحة الذين كانوا جزءًا من النظام، كما هي في مصلحة الضحايا المدنيين والمجتمع بأسره، فتحقيق هذه العدالة قمين بإعادة دمج هؤلاء الأفراد بمجتمعهم، واعترافهم بأفعالهم يساعدهم في إعادة احترامهم لنفسهم، وقبولهم بالعقوبة في حال وقوعها سيمكنهم من التحرر من العبء الهائل الذي سيحملونه إلى آخر العمر. وأخيرًا، فإن مصالحة حقيقية مع المجتمع ستنهي عقودًا من القمع والاضطهاد والخوف.
باختصار: إن بناء مجتمع سليم ومنتج ومعافى يحتاج إلى العدالة أولًا، ولا بدّ من مساءلة من أمر بالحرب وأراق الدماء وأمر بالسجن والتعذيب والاختطاف ولم يمارس سلطته في وقف ذلك حين كان قادرًا عليها. ولكن هذا يعني الاكتفاء بالأفراد الذين يتربعون على رأس الأجهزة والمؤسسات العسكرية والأمنية وقادة الميليشيات والساديين من السجانين والجلادين. مثلًا، أنا أؤيد محاكمة (أنور رسلان)، لأنه ارتكب وأمر بارتكاب فظائع بسبب منصبه، ولكنني أرى في محاكمة (إياد غريب) أمرًا نافلًا، لأن هنالك آلافًا مثله لن نستطيع محاكمتهم أبدًا، ولذلك تبدو محاكمة (إياد) وكأنها استفراد بشخص وقع في أيدينا مصادفة.
الناشطة ياسمين مشعان (مسؤولة التواصل والتنسيق الداخلي في رابطة عائلات قيصر):
الأولوية لمعرفة مصير المعتقلين والمفقودين
تبدأ مسيرة السلام وإعادة الإعمار في سورية، من أجل كل السوريين، بمعرفة الحقيقة وتحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات الجسيمة، فلا يمكن أن تنجح محادثات السلام وسبل التفاوض في ظل حرمان عائلات الضحايا من معرفة مصير المعتقلين والمفقودين منهم، وفي ظل غياب إجراءات بناء الثقة التي نص عليها القرار 2254، ومن دون التطرق إلى قضية الاعتقال والإخفاء القسري باعتبارها مسائل ذات أولوية قصوى. إن الوصول إلى عدالة شاملة تلبّي احتياجات وتطلعات الناجين والناجيات والضحايا وأفراد أسرهم هي عملية طويلة الأمد ستشمل مراحل تراكمية. كل هذه المراحل ضرورية، لكننا، بصفتنا ضحايا، نرى أن بعض العناصر ملحّة جدًا، في حين أن البعض الآخر قد يستغرق وقتًا أطول لتحقيقه. لذلك نفرق بين عدالة قصيرة الأمد، وعدالة طويلة الأمد. على المدى القصير، هناك إجراءات فورية لا بدّ من اتخاذها لوقف الانتهاكات المستمرة، والتخفيف من معاناة الناجين والناجيات والضحايا وعائلاتهم. أما على المدى المتوسط إلى الطويل، فلدينا مطالب إضافية لضمان العدالة الشاملة ومنع تكرار الجرائم التي عانينا وما زلنا نعاني منها.
ولتحقيق العدالة يجب أن تتحقق المطالب التالية:
- الإفراج الفوري عن المعتقلات والمعتقلين، وكشف مصير المغيبين والمخفيين قسرًا.
- الوقف الفوري للتعذيب والمعاملة اللاإنسانية والجرائم الجنسية في المعتقلات والسجون.
- تسليم رفات المتوفين لإعادة دفنهم بطريقة لائقة حسب الشعائر المتبعة لدى ذويهم، واعتبارهم شهداء لا مجرمين كما يروّج النظام ومثلما فعل في ثمانينيات القرن الماضي.
- يجب ألا يكون الإفراج عن المعتقلين والمعتقلات، والكشف عن مصير المختفين قسرًا، مرهونًا بالمفاوضات أو باتفاقيات تبادل الأسرى، فهذه القضية تحديدًا ليست موضع تفاوض، وهي تسمو فوق كل المفاوضات برأينا.
- إلغاء المحاكم الميدانية والاستثنائية.
- توفير محاكم عادلة مدنية مستقلة تراعي المعايير الدولية.
- ضمان التعويض المناسب وجبر الضرر.
- الاعتراف بحقيقة ما حدث بشكلٍ رسمي.
- إجراء إصلاحات كبيرة على صعيد المؤسسات الأمنية والقضائية، مع مراجعة كاملة للمؤسسات التابعة لها.
- التأكد أن مرتكبي الجرائم لن يكونوا جزءًا من أي مؤسسة مكلفة بإقامة العدالة والمحاسبة.
ولضمان عدم الإفلات من العقاب، يجب اتخاذ الخطوات التالية:
- تشكيل آلية محاسبة عادلة بضمانات دولية من دون حصانة للجناة.
- على جميع الدول تحمّل مسؤولياتها القانونية والإنسانية في إحالة الملف إلى محكمة الجنايات الدولية.
- التعاون الكامل مع الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، وتعزيز قدراتها ومواردها.
وبالنسبة إلى موضوع الولاية القضائية وما تحققه، هناك أمور عديدة:
أولًا: يجب الاستمرار في عمليات التقاضي على مبدأ الولاية القضائية وملاحقة جميع المنتهكين في الخارج، إضافة إلى استمرار رفع الشكاوى في الدول التي تسمح بذلك، وذلك لسببين أساسيين: الأول أن استمرار إبراز القضية السورية على الساحة الدولية، وإبقاء الضوء عليها، يساعد في تشكيل أداة ضغط على جميع هذه الدول للتحرك لإيجاد حل للوضع السوري، وإنهاء الحالة التي نعيشها بما يتوافق مع رؤيتنا بصفتنا سوريين، وتحقيقًا لأهداف الثورة، وليس حلًا يخدم مصالح النظام؛ والثاني أننا نعرف جميعًا أن هناك كثيرًا من مرتكبي الجرائم وصلوا إلى بلدان اللجوء، وتتم حاليًا ملاحقتهم بشكلٍ أكبر، أو على الأقل خفت حدة تشبيحهم وترويعهم للاجئين الذين هربوا من بطش النظام.
نعم، قد يجد البعض أن العملية طويلة وغير مجدية، لكننا نرى أنها تراكمية، ولا بد أن يأتي اليوم الذي يتحقق فيه ولو جزء مما نصبو إليه.
ثانيًا: اتخذت بعض الدول قرارات بمساءلة سورية (النظام) لارتكابها جرائم التعذيب والقتل في مراكز الاحتجاز لديها، مثل (هولندا وكندا، وهناك احتمال بأن تتبعهما سويسرا)، وذلك أمام محكمة العدل الدولية. وفي الآونة الأخيرة، وافق النظام على الجلوس إلى طاولة المساءلة، ويجب أن يقدم أدلة تنفي ضلوعه بهذه الجرائم. وهنا يأتي دور الضحايا وذويهم بتثبيت ضلوعه بارتكاب هذه الجرائم، وبالتحديد، نجد أن أهالي الضحايا في صور (قيصر) سيكون لهم دور بارز هنا.
هذه المبادرات من هذه الدول جاءت نتيجة جهود كبيرة بذلتها المنظمات الحقوقية والروابط والحركات والمبادرات، ونتيجة استمراريتهم في العمل المتواصل من أجل قضية العدالة والمساءلة.
وعن محاكمة كوبلنز والحكم على (إياد غريب)، نرى أن الحكم على شخص (إياد) لم يكن يستهدفه وحده، إنما كان يستهدف منظومة كاملة تم تجريمها، وهذا الحكم سوف يؤخذ بعين الاعتبار بكل قضية تُرفع ضد النظام، وسوف يُبنى عليها بإدانة كثير من المنتهكين. وبالنسبة لـ (إياد)، كشخص انشق مبكرًا، أتعاطف معه وأشكره أيضًا لانشقاقه، وأتمنى أن تكون هذه السنوات هي كفّارة ذنبه (تخيّل أن أحد الذين اعتقلهم مات تحت التعذيب!!) في الحقيقة، لا يمكن أن ننكر جرائمه.
أخيرًا: إن الجهود التي تبذلها روابط الضحايا والحركات والمبادرات والمراكز والهيئات والمنظمات الحقوقية السورية في الساحة الأوروبية، والتي أدت إلى إطلاق “ميثاق الحقيقة والعدالة”، أثمرت أولًا إيصال صوتنا إلى جميع صناع القرار، وهو ما أدى في الآونة الأخيرة إلى إصدار قرار من مجلس حقوق الإنسان، حول “مركزية دور الضحايا في صنع السلام بمستقبل سورية”؛ سلامٌ يُبنى على تحقيق العدالة، ومنع الإفلات من العقاب، وليس على الانتقام، وأدى إلى إصدارهم تصريحات توافق رؤيتنا حول “إنشاء آلية للكشف عن مصير المختفين والمغيبين قسرًا”.
المحامي حسان الأسود (المؤسس والمدير السابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة المسجلة في لاهاي):
- محدودية الجهود السورية بطبيعتها ونطاقها وتأثيراتها المحتملة على مجمل مسار العدالة
ليست العدالة الانتقالية مجموعة من التوصيات التي يمكن الأخذ بها لمعالجة أزمة عابرة، إنها مسار متكامل ذو أبعاد متشعبة، سياسية واجتماعية وفكرية، يظهر بأشكال قانونية وقضائية وإدارية متعددة. ولكل بلد مرّ بأطوار من النزاعات خلفت جراحًا وتمزقات في بنية المجتمع وفي نفسيات المواطنين، مسارٌ خاص يتناسب مع واقعه. صحيح أن الخطوط العريضة تتشابه، لكن الجزئيات هي التي تخلق الفروق الواضحة في مقاييس النجاح والفشل، وهي التي تعطي كل تجربة علاماتها الفارقة.
الحالة السورية
غالبًا ما كان التحضير لمسارات العدالة الانتقالية يبدأ بعد انتهاء الأزمات أو الثورات أو الحروب الأهلية، وبعد أو بالتزامن مع عمليات الانتقال السياسي. لكن في الحالة السورية، ولاعتبارات كثيرة لا مجال لمناقشتها الآن، بدأت عمليات التحضير لهذا المسار باكرًا منذ الأشهر الأولى للثورة، على الأقل من خلال عمليات توثيق الانتهاكات. ولا يمكن بكل الأحوال تجاهل الجهود المبذولة نظريًا من قبل العديد من الأشخاص والجهات المهتمة بهذا الشأن.
الخيارات المحلية
لا شك في أن الخيارات المحلية أو الوطنية السورية ليست متاحة الآن، فمع انعدام وجود دولة مستقرة ذات أجهزة قادرة على التعامل مع هذا الحجم الهائل من الانتهاكات، ومع غياب وجود نظام حكم ديمقراطي شامل الجميع، لا يمكن تصور البدء بأكثر مفردات العدالة الانتقالية أهمية، أي الملاحقات الجنائية، وتعويض الضحايا، ولجان الحقيقة والمصالحة، وإجراءات إصلاح مؤسسات الدولة.
الخيارات الخارجية أو الدولية
مع غياب احتمالات العمل الداخلية التقليدية، كان لا بد من اللجوء إلى البدائل المتاحة دوليًا. تبنت المنظمات الدولية الرسمية سياسة واضحة في ملف العدالة الجنائية، كإحدى مفردات التعامل مع الأزمة السورية، وبنت لذلك إستراتيجية واضحة من خلال بناء مؤسسات لجمع الأدلة وإدارتها، مثل لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، والآلية الدولية المحايدة والمستقلة (IIIM). وباعتبار أن الملاحقات الجنائية ليست سوى جزءٍ بسيط من أي مسار للعدالة الانتقالية، فإن هذه المقاربات ستبقى قاصرة وغير كافية للإحاطة بهذا الملف الشائك، مهما كانت الجهود المبذولة فيها كبيرة واحترافية.
الولاية القضائية العالمية
كانت الملاحقات الجارية وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية منفذًا جيدًا ضمن حالة الإغلاق والتعطيل التي واجهت إمكانية إحالة الملف السوري للمحكمة الجنائية الدولية، أو من خلال إنشاء محكمة جنائية خاصة بسورية. لكن هذه الأداة ستبقى قاصرة عن أداء أي دور في مسار العدالة الانتقالية السورية لأسباب كثيرة جدًا، سنورد أهمها فيما يلي:
- لأنه لم يسبق للمنظمات العاملة في الشأن السوري أن أجرت مشاورات حقيقية مسبقة قبل فتح هذا الملف، ولم تتوصل إلى بناء إستراتيجية واضحة للتعامل مع هذه الملاحقات.
- لأن هذا الطريق محدود بحكم طبيعته، فأغلب الدول التي تجري أو يمكن أن تجري فيها الملاحقات المذكورة، لا تأخذ بمبدأ الولاية القضائية العالمية الشاملة، فباستثناء ألمانيا، لا نجد أي دولة أخرى يمكن أن تتم فيها ملاحقة المتهمين بهذه السهولة النسبية، وكذلك لا يمكن، على سبيل المثال، ملاحقة كبار المسؤولين السياسيين مثل رأس النظام، بسبب تمتعهم بالحصانة بحكم وظائفهم أو مناصبهم الرسمية.
- لأن الأثر المترتب على هذه الملاحقات لا يمكن قياسه بشكلٍ دقيق على مجمل الحالة السورية، ولا يمكن بكل الأحوال تحديد طبيعة تأثيره في القوى المتصارعة على الأرض من جهة، ولا في القوى المجتمعية الخاضعة للضغوطات، والواقعة تحت هذه الانتهاكات من جهة أخرى.
إن الملاحقات الجنائية الجارية، وفقًا لمبدأ الولاية القضائية العالمية، لا يمكن أن تعتبر جزءًا من مسار العدالة الانتقالية في سورية، ولا حتى ضمن الحيز الخاص بالجانب الجنائي من هذا المسار. وإن حجم الانتهاكات الجارية في سورية كبير وهائل لدرجة يعجز عن القيام بها أي قضاء أجنبي، ولا بدّ من التحلي بالواقعية عند الحديث عن المساهمات الأجنبية في هذا الخصوص. سيكون على الدولة السورية الجديدة بذل كثير من الجهود لتطوير البنى والمؤسسات القانونية والإدارية لخوض هذا الاستحقاق الكبير، كما سيكون على الشعب السوري تحمّل كلف عالية جدًا، إذ أراد أن يبدأ بشكلٍ صحيح يوصله إلى سلام أهلي ومواطنة متساوية واستقرار اجتماعي ونهوض اقتصادي أكيد.
الضحايا والإمكانات البديلة
يمكن لهذا الملفّ أن يعمل بشكلٍ فعال في مجال آخر قريب من مجال الملاحقات القضائية، ومستقلّ عنه نسبيًا، هذا المجال هو المتعلق بضحايا الانتهاكات. والإمكانات المتاحة كثيرة من الناحية النظرية، فيمكن على سبيل المثال البدء بعمليات إنشاء قاعدة بيانات موحدة لإحصاء الضحايا، ومن ثم فرزهم وتصنيفهم حسب نوع الانتهاك الواقع بحقهم إلى آخر ما هناك من متعلقات بهذا الشأن، ثم يمكن العمل على بناء روابط قوية بين الناجيات والناجين منهم، وبين أسرهم أيضًا، لاستكمال حلقات التعارف واللقاء والنقاش، ويمكن القيام بدورات تدريبية للضحايا، عن كيفية تجاوز آثار الانتهاكات، وكذلك عن آليات التأقلم مع المجتمعات الجديدة التي انتقلوا إليها، كذلك، يمكن العمل على الترويج لفكرة إنشاء حافظة أو صندوق مالي وطني لدعم الضحايا وتعويضهم.
إن مشاركة الناجيات والناجين في النقاشات العلنية حول مستقبل سورية، وتمكين الفئات المؤهلة منهم من المساهمة في عمليات التغيير السياسي وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، سيؤدي بكل تأكيد إلى توسيع دائرة المشاركة الشعبية من جهة، وتحصين المجتمع والدولة في وجه إمكانيات إعادة تكرار تجارب الماضي وإعادة ارتكاب الانتهاكات أو السماح بها.
جهود العدالة القضائية الأوروبية
حتى نكون منصفين، يجب التأكيد على أن جهود إحقاق العدالة الجنائية أو الانتقالية في سورية ليست من مهمات عمل الجهات القضائية الأوروبية، ولا هي معدّة أساسًا للقيام بمثل هذه المهمات. لكن، يجب أخذها على محمل الجد والاحترام، مع عدم توقع إحداث أي فارق نوعي نتيجة لهذا الجهود، سواءٌ على الواقع في سورية أم على الضحايا، أو حتى المرتكبين المحتملين للانتهاكات.
إن احتمال ملاحقة جميع مرتكبي الانتهاكات الموجودين في أوروبا أمرٌ ضعيف جدًا، وهو بحاجة إلى عمليات مركزة ومنهجية تخرج عن قدرات وطاقات المراكز السورية العاملة بهذا الشأن. ليس لدى المراكز السورية -حتى الآن على الأقل- محاميات ومحامون متخصصون بهذه القضايا وفق القوانين الوطنية الأوروبية، وبالتالي؛ فإن جل اعتمادهم ينصبّ على الشراكات مع المنظمات الأوروبية للقيام بهذه المهمة. إضافة إلى عدم وجود إستراتيجية واضحة للمقاضاة، ولا تخطيط واضح لأولويات الملاحقة الجنائية. كذلك، هناك ضعف واضح بعمليات التنسيق والتعاون بين المنظمات السورية العاملة في هذا المجال، وهو بكل الأحوال مرض السوريين المزمن.
محاكمة كوبلنز
على أهميتها، لا يمكن أن تكون محاكمة (إياد غريب) ولا (أنور رسلان) خطوة كبيرة في مجال تحقيق العدالة، فهي، وإن كانت قد أجرت استعراضًا شاملًا للوضع السوري، وإن كانت قد استقرأت واقع انتهاكات حقوق الإنسان ضمن فترة الحكم الديكتاتوري الطويلة، لم تضع سوى حجر واحد ضمن مداميك العدالة الجنائية، والعدالة الانتقالية في سورية، ويمكن تشبيه هذا الجهد بحجر واحد من بين ملايين الأحجار في سور الصين العظيم. وفي كل الأحوال، هناك كثير مما يمكن قوله بخصوص هذا المحاكمات، ويمكن سوق كثير من الحجج حول أهميتها أو عكس ذلك. لكن، يبقى من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه الجهود تبقى محدودة بطبيعتها وبنطاقها وبتأثيراتها المحتملة على مجمل مسار العدالة في سورية.
المحامي غزوان قرنفل (مدير تجمع المحامين السوريين/ منظمة حقوقية مرخصة في تركيا)
نحتاج إلى برنامج وطني للعدالة الانتقالية يأخذ على عاتقه إعادة بناء المؤسسات
في الحاجة إلى العدالة الانتقالية:
ليست العدالة الانتقالية مطلبًا مُلِحًّا لضحايا الانتهاكات والفظاعات المرتكبة في سورية وذويهم فحسب، بل حاجة مجتمعية سورية لنقل المجتمع السوري من ضفة الاحتراب والصراع إلى ضفة السلامة الوطنية. ذلك لأن حجم وهول الجرائم والانتهاكات المرتكبة بحقّ سوريين آمنوا أن الحق بالحرية هو حق أصيل للإنسان، وأن عليهم أن يحصلوا عليه وينعموا به، خلّف تصدعًا مجتمعيًا كبيرًا، خاصة بعد أن تم إلباس الصراع لبوسًا طائفية ودينية، وهذا يزيد حاجة السوريين أكثر إلى برنامج وطني للعدالة الانتقالية، يأخذ على عاتقه إعادة بناء المؤسسات التي ضلعت في ارتكاب الجرائم والانتهاكات، أو سكتت عنها، لتتمكن من إدارة الحريات بدلًا من قمعها، وحماية الحقوق بدلًا من استلابها، كما يأخذ على عاتقه أيضًا، وقبل تعويض الضحايا، محاسبة كبار المسؤولين عن ارتكاب الفظاعات والانتهاكات والقتل المنهجي للسوريين، ذلك لأن ترميم المجتمع لا يكون برضوخ الضحايا لجلاديهم، وكأن شيئًا لم يكن ولم يحصل، ولا يكون بكنس القمامة ووضعها تحت السجاد، بل بتنظيف البيت السوري ووضع القمامة حيث يجب أن توضع. من هنا تأتي مسألة المحاسبة والمساءلة في مقدمة احتياجات المجتمع حتى يستطيع أن يعالج جراحه، ويرمم آدميته، ويطوي تلك المرحلة من حياته، ليؤسس لمرحلة مغايرة، أساسها القطع مع الماضي الاستبدادي، وتعزيز قيم حقوق الإنسان.
لكن المشكلة التي سيواجهها السوريون أن صناع الحل السياسي -وهم بطبيعة الحال أطراف الصراع أو ممثلون عنهم- لن يكون لهم مصلحة بإقرار قضية المساءلة كجزء من برنامج العدالة الانتقالية ضمن أي اتفاق سياسي يبرمونه، لكونها، غالبًا، ستشمل شخصيات ورموزًا منهم، وسيستغلون الامتداد الزمني الطويل لهذا الصراع مع ما يحمله ذلك من مزيد تداعيات مجتمعية كارثية للمقايضة بين (السلام وإعادة الإعمار) على العدالة والمحاسبة، وسيكون على القوى المجتمعية المدنية المختلفة، ومنظمات المجتمع المدني، ومنها منظمات الضحايا والمنظمات الحقوقية، العمل معًا بدأب لمواجهة ذلك، ورفض تلك المقايضة، ذلك لأن سلامًا بلا عدالة يبقى سلامًا هشًا وعرضة للاهتزاز والفشل، ما لم يتأسس على أرض صلبة قوام صلابتها العدل وإنصاف الضحايا.
هل من مسار دولي للمحاسبة؟
حتى الآن، لا يلوح في الأفق أي أمل بإحالة ملف الجرائم والانتهاكات المرتكبة في سورية إلى محكمة الجنايات الدولية، عبر قرار من مجلس الأمن الدولي (وهو السبيل الوحيد باعتبار سورية ليست من الدول الموقعة على ميثاق روما المنشئ لتلك المحكمة)، بسبب إجهاض هذا المسعى من قبل روسيا عبر استخدامها حق النقض (الفيتو) 15 مرة للحؤول دون ذلك، بل للحؤول أحيانًا دون إصدار قرارات تتضمن إدانة واضحة للنظام السوري على جرائمه، وهي حالة غير طبيعية لم تحصل من قبل قط، وهو ما يعكس فشل الأسرة الدولية في التعاطي مع هذا الملف بما هو متوجب قيميًا وقانونيًا، وهو أيضًا يعكس حجم الإصرار الروسي على دعم طغمة عسكرية وأمنية أقلوية لاستمرار حكم سورية، خلافًا لإرادة السوريين في العمل على بناء دولة مدنية قوامها المواطنة المتساوية، وسيادة القانون، وتكريس مفهوم التداول السلمي للسلطة، إذ عبّرت روسيا عن ذلك بتصريح وزير خارجيتها سيرجي لافروف، في 27 آذار/ مارس 2012، أي بعد سنة من اندلاع الثورة، وقبل ظهور قوى إسلاموية متطرفة، بأنه “لن يسمح للسنّة بحكم سورية”، وأعقبه، في 29 كانون الثاني/ يناير 2013، تصريح لرئيس الوزراء الروسي آنذاك، ديمتري ميدفيدف، بأنه “يجب منع أهل السنّة في سورية من الوصول إلى الحكم”.
ما البدائل إذًا عن محكمة الجنايات الدولية؟ وهل يمكن اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لاجتراح خيار آخر؟ باعتقادي، إن توفرت الرغبة والإرادة حقًا لدى الدول الكبرى، فإن اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لاتخاذ قرار أممي بإنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سورية، يبدو خيارًا ممكنًا بالرغم من صعوبته، فحشد الأصوات لصالح مثل هذا القرار ليس مستحيلًا، وإمكانية تأمين الدعم المالي لكلفة المحكمة ونفقاتها ممكنة، وقد سبق للجمعية العمومية أن اتخذت قرارًا مهما في هذا السياق برقم 248/71، تاريخ 21/ 12/ 2016، وأنشأت بموجبه (الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن الجرائم الأشد خطورة وفق تصنيف القانون الدولي والمرتكبة في سورية منذ آذار/ مارس 2011) وهي مؤسسة مهمة لخدمة قضية العدالة والمساءلة في سورية، ويمكن القول إنها مرحلة قضائية إجرائية وتمهيدية تسبق المحاكمات، وبالتالي، فإن إنشاء محكمة دولية خاصة للنظر إلى الجرائم المرتكبة في سورية، عبر قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، يبدو خيارًا ممكنًا ومغريًا. لكن، في ظل المشهد الحالي والسلوك الدولي إزاء هذا الصراع، لا شيء يشي بتوفر الرغبة ولا الإرادة لفعل ذلك، دون إغفال وجوب العمل على هذا المسار من قبل قوى المعارضة بدأب وبلا كلل، فكمّ الجرائم وفظاعتها يوجب ذلك. ويبقى التعويل المتاح هو على برنامج وطني سوري للعدالة الانتقالية يأخذ في الحسبان قضية المساءلة والمحاسبة ضمن حيز متشعب أوسع منها، يشتمل على معرفة الحقيقة، وإصلاح المؤسسات، وتعويض الضحايا، فذلك وحده من شأنه أن يرمم بنية المجتمع وينقله إلى ضفة السلامة الوطنية.
محاكمة الجناة وفق مبدأ الولاية العالمية
مع انسداد أفق المحاسبة، ومحاولة كثير من الدول الفاعلة بالملف السوري الوصول إلى حلّ سياسي، ظهر هناك اتجاه لتنحية مسألة المحاسبة والمساءلة جانبًا، حتى لا تكون معوقًا لهذا الحل وفق رؤية المبعوث الدولي السابق ستيفان ديمستورا، التي عبّر عنها في أكثر من لقاء مع ممثلي منظمات المجتمع المدني السوري خلال اجتماعات (غرفة المجتمع المدني)، ومن باب الأمانة، فإن معظم المنظمات، وخاصة الحقوقية منها، كانت ترفض هذا الأمر، وترى أن سلامًا مستدامًا في سورية يقتضي بالضرورة عدالة ومحاسبة. ومع تطور أداء المنظمات الحقوقية السورية، واكتسابها خبرات مهمة، وتوسع نطاق علاقاتها مع مؤسسات حقوقية دولية، وتوفر سبل محاسبة الجناة أمام محاكم وطنية أوروبية تنص قوانينها على مبدأ الولاية القضائية العالمية في ما يتعلق بجرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وبالنظر لضخامة التوثيقات والأدلة المتوفرة على ارتكاب تلك الجرائم، وتوفر الضحايا (الناجين والشهود الذين وصلوا إلى البر الأوروبي عقب التدفق الهائل للاجئين السوريين عام 2015)، فإن اللجوء إلى القضاء الأوروبي صار خيارًا أخلاقيًا وقانونيًا ممكنًا وضروريًا، ليس لإنصاف الضحايا فحسب، بل لرفض تكريس ثقافة الإفلات من العقاب، والإبقاء على قضية المحاسبة والمساءلة ماثلة للعيان أمام المجتمع الدولي، بوصفها ضرورة قيمية وقانونية لوأد فكرة وفرص الانتقام، والتأسيس لثقافة سيادة القانون. وهذا ما حصل فعلًا، حيث أُقيمت العديد من الدعاوى (التي اكتملت ملفاتها وتوفرت عناصر نجاحها) في ألمانيا والنمسا والسويد وسويسرا وفرنسا، وما تزال هذه الدعاوى قيد النظر.
في هذا السياق، إن التعريج على قضية المدعو (إياد غريب) الذي انشق عن أجهزة النظام مبكرًا، يبدو ضروريًا، بسبب ما أُثير حولها من لغط ربما أسهمت فيه بعض التصريحات الإعلامية المتسرعة والغوغائية، التي جعلته ضحية أكثر مما أظهرته متهمًا، والحقيقة أنه لا يوجد ادعاء شخصي بحق (إياد)، لكن النائب العام الألماني، في معرض تحقيقه بقضية (أنور رسلان)، تبين له أن (إياد) أيضًا ارتكب جرائم قبل انشقاقه، والنائب العام ملزم -بموجب القانون الألماني- أن يحرك الدعوى العامة على (إياد)، وهذا ما كان، وتمت محاكمته على هذا الأساس، وصدر بحقه حكمٌ مخففٌ لأجل ذلك. إن المسألة برمتها ليست انتقامًا، وليست محاكمات تستهدف منشقين، إنما محاكمات تستهدف متهمين بجرائم ارتكبوها بحق السوريين، من دون النظر إلى أي ضفة من ضفاف هذا الصراع ينتمون، ولو صحت نظرية الانتقام المزعومة لما كانت هناك دعوى أسبق أقيمت بحق قادة أمنيين كبار كـ (علي مملوك وجميل حسن وعبد السلام محمود) بجرائم التعذيب والقتل تحت التعذيب، وصدرت مذكرات توقيف دولية بحقهم، كما هو معلوم. وما يجدر التنبيه إليه في هذا السياق أن تلك المحاكمات لا علاقة لها بالعدالة الانتقالية التي يريدها السوريون، لأن ما يحتاج إليه السوريون ليتمكنوا من طي صفحة الماضي والتوجه لبناء مستقبل مختلف هو أوسع وأشمل من قضية المحاكمات.
الناجون.. دورهم وأصواتهم
إنتجربة المنظمات الحقوقية السورية في مجال توثيق الجرائم والانتهاكات أكثر تطورًا ونضجًا ومردودية على مستوى التجارب العالمية قاطبة، في الدول التي عانت صراعات مسلحة، ويمكننا القول أيضًا -بلا ادعاء- إن تجربتها متميزة في مجال أصوات الضحايا، ومبادراتها الفعالة لتشكيل مؤسسات معبرة عن هؤلاء الضحايا ومظلوميتهم وحقوقهم ومطالبهم. ولعل مراجعة متأنية لكل التجارب السابقة لدى الشعوب التي مرت بهذا الامتحان العصيب تثبت ذلك.
مبكرًا أيضًا، بادر معتقلات ومعتقلون سابقون -بدعم من مؤسسات ومجموعات حقوقية مختلفة- للتعبير عن أنفسهم بمنظمات كانت صوتًا عاليا لهم، وتمكنوا من مخاطبة المجتمع الدولي ومؤسساته كما المنظمات والمؤسسات الحقوقية الدولية، وحضروا وانخرطوا في أنشطة ومؤتمرات دولية، وقدّموا لهم مطالبهم، وكانوا الصوت العالي المجسد لضحايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون والتعذيب والعنف الجنسي، منها على سبيل المثال لا الحصر (رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، ورابطة عائلات قيصر، وحركة عائلات من أجل الحرية، وصوت المعتقلين، والهيئة الوطنية للدفاع عن المعتقلين والمفقودين، ومبادرة تعافي، وتحالف أسر الأشخاص المختفين لدى داعش).
وقد أطلقت بعض تلك المنظمات حديثًا (ميثاق الحقيقة والعدالة) وهو يُعدّ خطوة مهمة بالاتجاه الصحيح في ما يتعلق بعمل تلك المنظمات على ملفات المعتقلين والمختفين قسريًا والمخطوفين، ويسعى الميثاق، كما عبّر عنه مطلقوه، (إلى رؤية شاملة لموقف ضحايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب، من القضايا السورية المرتبطة بقضيتهم، ورؤيتهم لمستقبلها، ومواقفهم من العمل عليها، وتحديد مطالب الضحايا).وهذا يعني أنمشاركة أو إشراك الضحايا في ملفّ العدالة الانتقالية ليس أمرًا حيويًا ومهمًا فحسب، بوصفهم من دفع الثمن الأكبر والأكثر إيلامًا في مواجهة الانتهاكات والجرائم واسعة الطيف لحقوق الإنسان، بل يضمن أيضًا حقّهم في التعبير عن معاناتهم، فضلًا عن حقهم بالإنصاف وبالعدالة وبالتعويض الملائم.
الكاتب والسياسي المحامي إدوار حشوة (عضو اللجنة الدستورية وكبير المستشارين فيها):
- التفاوض يحمل معه منطق التنازلات
العدالة الانتقالية هي أسلوب قانوني لمعاقبة مجرمي الحرب. في الحرب التي يحسمها طرف لصالحه، تصبح العدالة موجهة ضد الخصم المهزوم، وتعلنه مسؤولًا عن الوحشية والخراب، وتستخدم منصة القضاء الداخلي الموجه لإعدام كثيرين، وسجنهم، وفرض العزل السياسي عليهم. وفي الحرب التي لا ينتصر فيها طرف على آخر، ويذهب الطرفان للتفاوض، لا بدّ أن تكون العدالة بندًا من بنود التفاوض. هذه العدالة إما أن تكون موزعة مناصفة، وإما موزعة بنسبة ما لهما من سيادة على أرض الحرب. وهذه العدالة الانتقالية على أنواع، حين يتفق الطرفان على نقل السلطة إلى أمراء الحرب، فإن الصيغة ستكون لا غالب ولا مغلوب، ويحكمها عفو عام عن جرائم الحرب (حرب 1975 في لبنان مثلًا).
وفي حال الاتفاق على نقل السلطة إلى طرف ثالث محايد عبر حل سياسي، فإن العدالة الانتقالية ستكون على الشكل التالي (العقوبات على قيادات وحشية في الطرفين تعتبر مسؤولة، ومساحة واسعة للعفو عن كل أدوات التنفيذ). هذه العدالة كلما كانت محدودة بأصحاب القرار وقليلة العدد كانت أفضل، وكلما كانت واسعة وتشمل كل أدوات التنفيذ كانت أحسن، (وهذا هو اقتراحنا في مفاوضات جنيف).
في حرب لبنان 1958، كان الحل سياسيًّا في شتورا، بين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب، وانتهى إلى تعهد لبنان بعدم الانضمام إلى حلف بغداد، وإلى عفو شامل للجميع. العدالة الانتقالية الدولية تختلف، لأنها تصدر عن مجلس الأمن لمعاقبة مسببي الفتن والجرائم ضد الإنسانية، وتُحال العقوبة فيها إلى محكمة الجنايات الدولية (اغتيال رفيق الحريري في لبنان، وجرائم الصرب في البوسنة)، وكل منهما تمت إحالتهما للجنائية بقرار جماعي.
وما يعطل العدالة ويمنع الإحالة للجنائية الدولية هو ممارسة أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن للفيتو (حصل هذا مرارًا بعد استعمال السلاح الكيمياوي وغيره من قبل بشار الأسد وشبكته بالفيتو الروسي المتكرر). هذا الاستعصاء جعل الدول تجنح إلى قوانينها الخاصة لمعاقبة المجرمين، بدلًا من الجنائية الدولية، فالأميركيون استعملوا قانون (قيصر) لفرض عقوبات اقتصادية اعتبروها عادلة وضرورية لردع الوحشية بعقوبات اقتصادية، بدلًا من الحسم العسكري. في حين محاكم أوروبية حاكمت أشخاصًا مقيمين فيها على جرائم التعذيب، بناء على ادعاءات شخصية (محاكمة إياد غريب وأنور رسلان في ألمانيا)، ويمثل ذلك بديلًا عن التدخل العسكري. من كل هذا، نعتقد أن المسألة السورية، إذا نجح الحل السياسي الدولي لها عبر القرار 2254، فإن العدالة الانتقالية فيها ستكون محدودة بأصحاب القرار من طرفي الحرب، وستكون واسعة جدًا فيما عدا ذلك، مع بقاء الحقوق الشخصية للناس، التي تنصرف إلى طلب التعويض المالي فقط. ولا بدّ أيضًا من تفعيل العقوبات على أعمال الثأر خارج القانون والقضاء، لكيلا تتجدد الحرب. مثل هذه العدالة المحدودة قد تغضب كثيرين، من الذين، بسبب فظاعة المجازر، يريدونها واسعة جدًا وتقترب من الاجتثاث والثأر الجماعي، لكن ذلك غير واقعي، لأن التفاوض يحمل معه منطق التنازلات، ولا معنى لأي تفاوض من دون الموافقة على بند التنازلات المتقابلة، ولا يمكن لأي طرف أن يحصل بالتفاوض على كل ما لم يتمكن من الحصول عليه بالحرب، وإذا لم يقبل بمبدأ التنازل، فعليه ألا يذهب للتفاوض، والمفاوض الذكي هو الذي يحصل على تنازلات أقلّ من الطرف الآخر.
أهم شيء أمام المفاوضين أن الشعب السوري -وأكثريته ضحية مدنية من الحرب- فقد صبره، ويريد استئناف دورة الحياة ويضع الماضي خلفه ويستفيد من دروسه، وهو لا يرغب في أن يعيش على أحقاده، وهذا يساعد في إعادة التعايش، ويقلل من حجم العدالة الانتقالية وامتداداتها، ويحبط بعض الرغبات الثأرية.
المحامي والناشط الحقوقي إبراهيم ملكي:
- العدالة والمساءلة من أوليات الانتقال السياسي في سورية
لسان حال ضحايا القمع والعنف السلطوي من السوريين يقول: “نحن لا نريد الثأر ولا الانتقام، نحن نطلب العدالة والمساءلة، ولو كانت ناقصة فهي خير من اللاعدالة”.
أعتقد أن تداخل عناصر القوة وتنوع تأثيراتها السلبية عقدا إمكانية تحقيق العدالة، بشكلها الانتقالي الذي يعني جبر الضرر والمساءلة والمصالحة، ثم المسامحة بعد الاعتراف بالذنب تجاه الضحايا بشفافية من قبل الجاني، وإحالة الأكثر إجرامًا وخطورة كفعل جرمي إلى محاكم جنايات دولية أو محاكم وطنية تبعًا للانتهاك وجسامته، فاللاعقلانية التي سادت في القضية السورية صعّبت إمكانية تحقيق العدالة بالشروط المقبولة والمرضية، وهي ليست العدالة المنتظرة من قبل الضحايا. وقد ننتظر إلى ما بعد سقوط الطاغية بشار الأسد.
إن الانتهاكات في سورية جاءت من أطراف متعددة متدخلة في الملف السوري، ويتحمّل أغلبها النظام وأجهزته القمعية، وهي ترتقي إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وإبادة، وهي جرائم تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وقانون روما الأساسي، أي انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. وكذلك روسيا وإيران مارسوا انتهاكات فظيعة، كقصف المشافي والمدارس والمدن والمدنيين والتجمعات والأسواق، وأيضًا، هناك مجموعات مسلحة وميليشيات طائفية متورطة، كـ (حزب الله) اللبناني، وغير ذلك من الفصائل الإسلامية المتطرفة كتنظيم (داعش)، وأيضًا، هناك مجموعات أخرى لا مرجعية قانونية لها لمحاسبتها لاحقًا، وقد تحاسب كأفراد عندما يلقى القبض عليها بموجب الولاية القضائية الدولية، كما حدث للناطق الرسمي لجيش الإسلام في الغوطة (مجدي نعمة الملقب بـ “إسلام علوش”)، الموقوف حاليًا على خلفية ممارسة العنف والقتل والتعذيب في منطقة دوما في الغوطة الشرقية. لذلك سنناقش الأدوات المتاحة للمساءلة وعدم الإفلات من العقاب:
مبدأ الولاية القضائية الدولية:
هي أداة دولية قضائية تُستعمل للحدّ ولمنع الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني، ولتجريم مرتكبيها ومعاقبة الأفراد مرتكبي هذه الجرائم الخطيرة، وهو مبدأ أخذت به الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتأخذ به أغلب دول العالم التي يدخل القانون الدولي الإنساني في تشريعاتها وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان، وهو ما طبقته فعليًّا خمس دول حيث قامت بتفعيل هذا المبدأ، وهي (فرنسا؛ ألمانيا؛ إسبانيا؛ النروج؛ السويد)، تبعًا للعائدية والاختصاص. وقد تم تحريك ملفات عدة بحق متهمين سوريين لارتكابهم انتهاكات في سورية (ما سمي بمحاكمة كوبلنز الألمانية التي أقامها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية بحق العقيد أنور رسلان وإياد غريب)، وصدر حكمٌ بحق الأخير بسجنه أربع سنوات عن المحكمة الألمانية، لكونه متهمًا على خلفية الاعتقال والتوقيف التعسفي لأشخاص متظاهرين سلميين في دوما، لصالح الفرع الأمني (251)، ونُسب إلى العقيد رسلان جرائم ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية وقد تكون عقوبته أشد قسوة.
وسبق لمحكمة فرنسية أن أصدرت حكمًا غيابيًا بحق ثلاثة ضباط (علي مملوك، جميل حسن، عبد السلام محمود)، بعد أن قام مواطن سوري من أهالي الضحايا -تم توقيف شقيقه وابنه في سورية على خلفية الأحداث لدى المخابرات الجوية وتُوفيا تحت التعذيب- برفع دعوى قضائية ضدهم في فرنسا، لكونه يحمل الجنسية الفرنسية، وهذا ما يجعل اختصاص المحاكم الجنائية الفرنسية تبعًا للتبعية والاختصاص. وحُرّكت أيضًا ملفات جنائية بحق رفعت الأسد بكل من إسبانيا؛ سويسرا؛ فرنسا، على خلفية ارتكابه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ثمانينيات القرن الماضي، كجريمة سجن تدمر وقتل سجناء يقدر عددهم بـ 1200 سجين أعزل، وكذلك مجزرة مدينة حماة، وتدمير المدينة عام 1982، إضافة إلى اختلاس أموال وفساد، وهي جرائم تدخل ضمن اختصاص المحاكم الجنائية الدولية، ولن تسقط بالتقادم، وتُعَد من الجرائم الدولية، وهي جنائية الوصف، وتدخل ضمن الولاية القضائية الدولية.
وكما ذكرت آنفًا، اعتقل العام الماضي في فرنسا الناطق الرسمي باسم جيش الإسلام (مجدي نعمة الملقب بـ “إسلام علوش”)، وجيش الإسلام فصيل إسلامي متطرف كان مسيطرًا على منطقة دوما، ومارس فيها انتهاكات خطيرة بحق السكان المدنيين في الغوطة، من قتل واعتقال وتعذيب وخطف وإخفاء قسري، وكل هذه التهم تدخل في اختصاص القضاء الجزائي الدولي، وفق قانون روما الأساسي لعام 1998، وقد تابع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير السوري هذا الملف قضائيًا. وهناك ملفات عديدة تُحضر في أوروبا من قِبل هيئات حقوقية سورية، بالتعاون مع مراكز قانونية أوروبية، في ملاحقة المجرمين بحق الشعب السوري من أي جهة كانت، فالعدالة هي العدالة، والمحاسبة والمساءلة تشمل كل من ارتكب جرمًا في حق أشخاص سوريين منذ عام 2011. ومن مبادئ الولاية القضائية الدولية توفّر شرطين أساسيين للملاحقة: الأول أن تعلم الدولة أن الشخص مرتكب الانتهاكات لحقوق الإنسان موجودٌ على أراضيها أو على إقليمها، وخاضع لولايتها القضائية؛ والثاني وجود الضحية أو ذويه على أراضيها، أو أن يحمل جنسية الدولة (حالة رفعت الأسد في فرنسا).
وتستطيع تقارير وتوثيقات مراكز حقوقية وقانونية ومنظمات دولية إحالة ملف انتهاكات حقوق الإنسان في سورية للمساءلة والمحاسبة إلى الجنائية الدولية، كمنظمة حظر الأسلحة الكيمياوية، عبر الأمين العام للأمم المتحدة (جرائم إلقاء الغازات السامة على خان شيخون نيسان/ أبريل 2017، وجريمة غاز الكلور)، من دون العودة إلى مجلس الأمن، لكون النظام السوري عضوًا في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية من جهة، ولكونها أحد منظمات الأمم المتحدة، وبالتالي؛ يستطيع النائب العام وضع يده على الملفّ بعيدًا عن مجلس الأمن، خاصة تقريرها المؤرخ في 12 نيسان/ أبريل عام 2021. وأيضًا، هناك مؤسسة غرينيكا للعدالة الدولية، وهي منظمة دولية قدمت ملفًا قانونيًا كاملًا إلى المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية، بخصوص انتهاكات النظام السوري لحقوق الإنسان بقضية المهجرين قسريًّا إلى الأردن، وهي جريمة ضد الإنسانية، وتدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائية، لكون الأردن دولة عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية، مستندة إلى حالة مماثلة لمهجري قبائل الروهينغا في بنغلادش، وهذا كان مدخلًا لمؤسسة غرينيكا لإحالة ملف السوريين المهجرين قسريًّا إلى الأردن، وفقًا لهذه الحجة إلى النائب العام لدى المحكمة.
نحن نرى أن موضوع المحاسبة والمساءلة وعدم الإفلات من العقاب قادم، وقد وُضع على صفيح ساخن في الأمم المتحدة ودوليًّا، بعد صدور اتهام صريح وواضح للنظام السوري ولرأس النظام شخصيًّا، لأنه هو من أصدر الأوامر بإلقاء الغازات السامة على بلدة سراقب عام 2018، التي راح ضحيتها تسعة أشخاص. وتعدّ العدالة والمساءلة من أوليات الانتقال السياسي في سورية، وتبدأ أولًا بمساءلة بشار الأسد شخصيًّا (من الأعلى الى الأسفل)، ثم دائرته ومحيطه وعائلته وكبار معاونيه. وتعدّ المساءلة من أولويات العدالة، وهي ضرورة ملحة لوضع حد للانتهاكات التي ارتُكبت في سورية، وإحساس الضحايا بأن العدالة والمساءلة قادمة قد يردّ الاعتبار للضحية. ونعتقد أن محاكمة المجرمين في سورية ستتم عبر ثلاثة أنواع من المحاكم:
- تقديم الأسد وشقيقه ماهر وضباط الحلقة الأولى إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بهولندا، لأن أفعالهم هي الأخطر، كما في جرائم إلقاء المواد السامة على المدن السورية (تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية الصادر في 12 نيسان/ أبريل 2021، وفيه حقائق تُظهر من هو الفاعل ومن أصدر الأوامر، وأدلة يقينية بتحديد المسؤولية، وفيه إدانة صريحة للنظام السوري ولبشار الأسد).
- محاكم مختلطة سورية – أممية، تكون تحت إشراف الأمم المتحدة، وتحاكم كبار الضباط والمجرمين الذين مارسوا انتهاكات خطيرة بحق السوريين.
- محاكم وطنية بمعايير دولية، تراعي وتأخذ بالقوانين الدولية والتشريعات المعنية بحقوق الإنسان، مثل إلغاء عقوبة الإعدام من تشريعات كثير من الدول، وفق نص المادة 49 من معاهدات جنيف الأربعة وبروتوكولاتها لعام 1977، مع وجود إرادة دولية ودعم مالي ومعنوي وحقوقي وبخبراء.
السؤال: هل القضاء الجنائي الدولي يمكن أن يؤدي إلى تحقيق العدالة القضائية ومحاسبة المجرمين وفقًا لمبدأ الولاية القضائية الدولية، بدلًا من المحكمة الجنائية الدولية التي عطّل عملها الفيتو الروسي لأكثر من 15 مرة؟ الجواب: نعم، ولكن بعد توفر الإرادة الدولية، ولو تأخرت قليلًا. مع العلم أن جرائم كهذه لا تسقط بالتقادم، ولا يشملها عفو، ولا تحميها أي حصانة (محاكمة بينوشيه في تشيلي، ومحاكمات قيادات النازية في نورم بيرغ عام 1945)، فالعدالة تقدّم اعترافًا بحقوق الضحايا، كما حدث في جنوب أفريقيا في عهد نيلسون مانديلا عام 1992، وتعيد الثقة لذوي الضحايا، وتدعم دولة القانون والديمقراطية، وتعطي دفعًا قويًّا لمبدأ العدالة بالسير نحو المصالحة واستقرار المجتمع بعد الحرب. ونعتقد أن الملف الحقوقي هو أقوى الملفات بيد القوى السورية المعارضة، لأن ملفّ العدالة والمساءلة أسقط النظام أخلاقيًّا ودوليًّا وعرّاه تمامًا، وأظهر للعالم الانتهاكات الخطيرة التي مورست على شعب أعزل.
نقترح وضع إستراتيجية لمشاريع قانونية لتطبيق العدالة، وهذا يحتاج إلى تشبيك وتنسيق وتعاون مع كل الأطراف الدولية، إلى جانب الأمم المتحدة، لتطبيق مبدأ المحاسبة والمساءلة وملاحقة المجرمين وتقديمهم للمحاكم الجنائية الدولية، ولاحقًا إلى المحاكم الوطنية، وتحضير وتجهيز الملفات بحق الأفراد والأشخاص، لكون الجانب القانوني والقضائي في العدالة الانتقالية هو من يشرف على مسار العدالة في سورية، إلى جانب لجان تحقيق محلية وطنية بمختلف مستوياتها ومراحلها، عبر تفكيك منظومة الاستبداد، وتأمين الأمن والاستقرار للإنسان السوري، وجبر الضرر، ورد الاعتبار للضحايا، والاعتذار منهم، وإنصافهم وضمان عدم تكرار ما حدث من انتهاكات، بشكلٍ علني وبكل شفافية.
[1] اللجنة الدولية للصليب الأحمر، اتفاقيات جنيف 1949 وبروتوكولاتها الإضافية، https://bit.ly/3vxrkc5
[2] مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، https://bit.ly/334MH8l
[3] مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، https://bit.ly/3vBe3PV
[4] اللجنة الدولية للصليب الأحمر، نطاق مبدأ الولاية القضائية العالمية وتطبيقه: بيان اللجنة الدولية للصليب الأحمر للأمم المتحدة، 2015، https://cutt.ly/ovxMQA3
[5] المحكمة الجنائية الدولية، نظام روما الأساسي، المادة (8)، https://bit.ly/333Kmuo
[6] المحكمة الجنائية الدولية، نظام روما الأساسي، المادة (7)، https://bit.ly/333Kmuo
[7] هيومن رايتس ووتش، أولى الخطوات نحو المساءلة في سوريا والعراق، 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2016، https://bit.ly/2Sgwfjn
[8] مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، قائمة التقارير والتحديثات والبيانات والقرارات الصادرة عن أو المتعلقة بلجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، https://bit.ly/3e3W5Q4
[9] هيومن رايتس ووتش، “هذه هي الجرائم التي نفرُ منها”، ص33، 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، https://bit.ly/2SbGiGn
[10] المصدر السابق، ص22.
[11] رويترز، أول محاكمة بشأن عمليات التعذيب في سوريا تبدأ في ألمانيا الخميس، 22 نيسان/ أبريل 2020، https://reut.rs/3tblpYt
[12] البي بي سي، حبس مواطن سوري في السويد بسبب فيديو يعرض مشاهد ضرب، 11 أيار/ مايو 2016، https://bbc.in/3uaZQJ1
[13] هيومن رايتس ووتش، “هذه هي الجرائم التي نفرُ منها”، ص31، مصدر سبق ذكره.
[14] مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان للأمم المتحدة، مراسلات الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان، سوريا، متوفر باللغة الإنكليزية هنا: https://bit.ly/3nzYRzy
[15] انظر على سبيل المثال، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادتين ٨ و١٠)، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة ٢(٣))، الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري بكافة أشكاله (المادة ٦)، وغيرها.
[16] الجمعية العامة للأمم المتحدة، القرار ٦٠/١٤٧، المبـادئ الأساسـية والمبـادئ التوجيهيـة بشـأن الحـق في الانتصـاف والجــبر لضــحايا الانتــهاكات الجســيمة للقــانون الــدولي لحقــوق الإنسان والانتهاكات الخطيرة للقانون الإنساني الدولي، ١٦ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠٠٥: https://bit.ly/3eOZKAy
[17] رابطة عائلات قيصر، تحالف أسر المختطفين لدى داعش (مسار)، مبادرة تعافي، عائلات من أجل الحرية، ورابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، ميثاق الحقيقة والعدالة: https://bit.ly/3gSrkzs
[18] من المتعارف عليه أن القانون الدولي يشترط العناصر التالية مجتمعة لأي عملية جبر ضرر في سياق الانتصاف الفعال: رد الحقوق، التعويض، إعادة التأهيل، الرضا، وضمانات عدم التكرار.
[19] انظر على سبيل المثال، لجنة القانون الدولي، مسؤولية الدول عن الأفعال الخاطئة دوليا ٢٠٠١، المواد ٣٠، ٣٣، ٣٤، ٣٦، و٣٧: https://bit.ly/3vv3qxL ، وانظر أيضًا، محكمة العدل الدولية، رأي استشاري بخصوص التبعات القانونية لتشييد الجدار في الأراضي الفلسطينية ٢٠٠٤، الفقرات ١٤٥، ١٥٢، و١٥٣: https://bit.ly/3aNwp8c
[20] ميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية ١٩٩٨، المادتان ٦٨ و٧٥ على سبيل المثال: https://bit.ly/3eHs0VE
كما يمكن مراجعة قواعد الإجراءات والأدلة هنا: https://bit.ly/3xAMGXY ومزيد من المعلومات حول الضحايا ودورهم هنا: https://bit.ly/3vA3n3J
[21] مجلس حقوق الإنسان، الدورة ٤٦، القرار A/HRC/46/L.24، ١٧ آذار/ مارس ٢٠٢١: https://bit.ly/3vzUXt8
[23] – https://bit.ly/3vsHpQn & https://undocs.org/ar/S/2014/348
[26]– سلسلة دراسات “المدرسة الصيفية في القانون والنزاعات المسلحة” – المجلد الرابع عام 2014-2015- عدم الإفلات من العقاب في سوريا- المحامي إبراهيم القاسم -جامعة الحكمة اللبنانية – مؤسسة عامل الدولية.