المحتويات
ثانيًا: الهوية في المرحلة الأولى، البوصلة الفلسطينية
ثالثًا: الهوية التائهة، آخر الهزائم
رابعًا: الهوية الفلسطينية السورية في زمن الثورة
خامسًا: الشتات الجديد والبحث عن الهوية
ربما لم يمر شعب بتجربة شائكة ومربكة، متجددة في كل مرحلة جيلية، كتلك التي مرَّ بها الفلسطينيون في الدول المحيطة بفلسطين: “دول الطوق”، على اختلاف تجاربهم في المجتمعات الحاضنة، في سورية ولبنان، والأردن.
فبعد سلسلة من التجارب المخيبة للآمال، على الصعيد السياسي؛ تم استبعادهم، بوصفهم فلسطينيي شتات، عن القرار الفلسطيني الداخلي، وكذلك من الحلول النهائية، بما أطلق عليها، وقتئذٍ، عملية السلام في تسعينيات القرن العشرين. أفرزت نتائج تلك المرحلة، وإرهاصات تشكل “السلطة الوطنية الفلسطينية”، سلسلة من الجدل، وإعادة النظر في الوجود المتعين، في المكان الجغرافي والسياسي، للفلسطيني في الدول العربية، وبخاصة في دول الطوق. وإن كان فلسطينيو لبنان، قد زاد انغلاقهم أكثر من ذي قبل، تبعًا لسياسة الإبعاد والعزل، الممارسة معهم منذ أوائل النكبة 1948؛ فإن فلسطينيي الأردن استقروا على الازدواجية القديمة في الهوية، كون أغلبية السكان “أكثر من 70 في المئة” في المملكة، هم فلسطينيون، يحملون جواز السفر الأردني.
وعلى خلافهما، وجد الفلسطينيون السوريون أنفسهم، يدخلون، في كل مرة، مرحلة جديدة من إعادة تعريف الذات، وحدود الهوية، في جدل لمّا ينتهِ بعد، حول “ماهيّة الهويّة، وازدواجية الانتماء، وأحقيّة الانحياز، إلى القضايا الأكثر أهمية، وأولوية في وجودهم الاجتماعي”.
ضمن هذا التصور، كانت حالة الفلسطينيين السوريين هي التجسيد الأبرز، الذي تجلّى فيه هذا الإرباك والتشتت.
أولًا: الفلسطينيون في سورية[1]
سمحت القوانين التي أُقرت في عهد الرئيس “شكري القوتلي”، في خمسينيات القرن العشرين، بوجود حامل قانونيّ واجتماعيّ، يدمج الفلسطيني ضمن البيئة الاجتماعية السورية، لِما تضمنته تلك القوانين، من مساواة في الحقوق الاجتماعية، والاقتصادية والمدنية، مع نظرائهم المواطنين السوريين، بخلاف الحقوق السياسية ذات الصلة، بتسلّم مناصب سياسية عليا ومنح الجنسية، نظراً لثوابت سياسية، ذات صلة بالصراع مع “إسرائيل” وحق العودة، وما يرتبط بذلك من شأن سياسي محلي وعربي ودولي.[2]
استند الإطار القانوني التشريعي، إلى حامل اجتماعي مهمّ، وهو تموضع فكرة فلسطين، وتحريرها، في الضمير والوجدان السوري، وساهم الحاضن القانوني، في وجود علاقات اجتماعية، فرضتها شروط التعليم، وعلاقات العمل، ثم المصاهرة ومشاريع العمل المشتركة، والعيش المشترك في مناطق تداخلت فيها بنية السكان بين سوري وفلسطيني.
لا بدّ من التنويه إلى تفصيل مهمّ هنا، وهو تغاير الوجود الفلسطيني-السوري بحسب المدينة والتجمع، وهو ما يمكن تفهمه على المستوى المكاني الاجتماعي. فعلى سبيل المثال؛ وحتى منتصف الثمانينيات، تشابهت إلى حد كبير البنى الاجتماعية للأسرة الفلسطينية في المدن السورية، مع أفضلية الانفتاح لفلسطينيي دمشق، وبشكل خاص مخيم اليرموك، وبعض التجمعات داخل المدينة، كركن الدين وبرزة والمزّة، لما لطبيعة العاصمة، من حضور كمدينة هاضمة لجميع التجمعات المختلفة، من الدمشقيين وأبناء الأرياف من المدن القريبة والبعيدة، وهو ما ينسحب على الفلسطينيين فيها كمجموعة بشرية، كانت لها خصوصيتها، في تلك المرحلة.
ولابدّ من تنويه آخر، أيضًا؛ فقد شكّلت حالة المخيمات الفلسطينية تجاذبات بين الفصائل الفلسطينية المختلفة، حتى بات كل مخيم يُحسب في أغلبيته لفصيل ثوري ضمن سياسة “الحشد” المتبعة آنذاك، فالمناخ السياسي في مخيم اليرموك “ذو الأغلبية من اللاجئين من المدن والأرياف الفلسطينية” يختلف عن المناخ السياسي، لمخيمات مثل “خان الشيح” أو “سبينة” أو “جرمانا” وغيرها ممن يشكل سكان “البدو” و”الغور” أغلبيتهم، من دون الدخول في تعميم سياسي، أو فرز اجتماعي وطبقي بالطبع. هذا في دمشق، أما في المدن الأخرى؛ فقد لعبت جغرافيا التجمع الفلسطيني دورها، في تحقيق درجات متفاوتة، من الاندماج الاجتماعي؛ ففلسطينيو مدينتي حمص وحماة، كانوا الأكثر تحقيقًا لدرجة الانسجام، مع المحيط الاجتماعي السوري في المدن الأخرى؛ لقرب تواجدهم من مركز المدينة، أو للعلاقة المتداخلة مع البنية الاجتماعية، التي تشابهت في الاغتراب، والإقصاء، والتهميش الممارس على مقدرات الحياة، لدى أهالي المدينتين. وكانت أحداث مدينة حماة، ومجزرتها المعروفة في عام 1982، قد أدخلت أهالي مدينة حماة في سياسة الاستبعاد الاجتماعي، من النسق السوري الكلي “من خطاب النظام السياسي والاجتماعي” حين اتهم الأهالي جميعًا بالأسلمة، ودعم دولة إسلامية تطيح بنظام حافظ الأسد آنذاك.
لهذا مثلًا، يُعرف عن فلسطينيي مدينة حماة بأنهم الأكثر تدينا بين فلسطينيي سورية، حتى في الوقت الذي كان المناخ الديني اليومي للفلسطيني غير مرتبط بالمشاريع السياسية، والكفاح المسلح، في نسخة الثورة الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير، وفي هذا مؤشرات إلى أيديولوجية الانحياز، نحو القضايا الشعبية للمجتمع المحيط -في علاقته- مع نظامه الديكتاتوري، وتأثر بمنظومة القيم في النسق الاجتماعي-الديني السائد وقتها.
في حمص أيضًا، الأمر تشابه في المشهد العام. فعلى الرغم من أن المدينة لم تشهد أحداثا دامية، على غرار جارتها حمص؛ إلّا أن الفرز الطائفي كان واضحًا، من خلال انقسام المدينة إلى مناطق محسوبة على الطائفة، وأخرى محسوبة على المعارضة. كان الوجود الفلسطيني متداخلًا مع الأحياء الشعبية السّنية، وملامسًا درجات القهر والإقصاء، المكرسة من النظام.
هذا الأمر ينطبق أيضًا على مدينة درعا، بل إنه يتجلى هناك بوضوح أكبر، فقد تشابهت البنية الاجتماعية الحورانية مع البنية الاجتماعية الفلسطينية، سواء في المدينة “الصغيرة” أو الأرياف على امتدادها، في تداخل كرس حالة الاندماج الاجتماعي، بشكل كبير.
أما في حلب؛ فقد اختلف الحال، وكان الاندماج الاجتماعي للفلسطينيين هناك، أقل بدرجات، عنه في المدن الأخرى، وربما كان ذلك بسبب بعد التجمع الفلسطيني -جغرافيًّا- عن المدينة، والأحياء السكنية المختلفة “النيرب وحندرات”، ما أسّس لنوع من الانغلاق النسبي، مع المحيط بشكل عام.
ثانيًا: الهوية في المرحلة الأولى، البوصلة الفلسطينية[3]
ارتبطت الهوية الفلسطينية في سورية بداية اللجوء عام 1948، بثقافة العودة و”الوجود الموقّت”، لذلك حرصت التجمعات الفلسطينية، على التجمع وفقا للفرز الاجتماعي، الذي كان سائدًا في فلسطين. وهكذا تشكلت التجمعات الفلسطينية المتعددة، على اختلافها، قبل أن تتوسع الدائرة، ويضيق أفق العودة، مع وضوح واقع الاحتلال الإسرائيلي المستمر.
في الوقت ذاته، وحتى مرحلة ما قبل نكسة حزيران/ يونيو 1967، حين كانت الهوية الفلسطينية الوطنية موحدة، باتجاه بوصلة الخارطة الفلسطينية؛ كان الفلسطينيون في سورية ينفتحون على المجتمع الحاضن، من خلال التعليم، والجانب الثقافي والسياسي كذلك، إضافةً إلى علاقات الزواج والنسب، التي كانت قليلة بداية الأمر.
عرّف الفلسطيني وقتها نفسه بأنه: فلسطيني لاجئ في سورية، وكان الأمل لا يزال يحدوه بالعودة، ونهاية احتلال، صُوِّر على أنه شرذمة عصابات فحسب، وطارئ سيزول قريبًا، وكانت أجيال النكبة لا تزال على قيد الحياة، تعيد إنتاج الذاكرة والمخيال الشعبي، وتورّثه الجيل الجديد، وأي هوية إذًا ستكون أكثر إجماعًا، أكثر من التمسك بالفلسطينية كهوية، ومتعين وجودي محض.
لم تشغل “الذات” الفلسطينية في سورية بالها، في البحث عن تعريف الأنا، خارج سياق نص العلاقة مع المحتل الإسرائيلي، فالمجتمع الحاضن ساهم حينها في تكريس هذا الجانب، طالما أن العودة والنصر قريبان “في الضمير الشعبي العربي”.
على مستوى حدود الهوية؛ يمكن الحديث عن مجتمع فلسطيني داخل سورية، ارتبط بعلاقات بنيوية، لأن القضية والهموم كانت واحدة، “فلسطين التي هناك، والفلسطينيون الذين هنا.
تعيّن الوجود الفلسطيني، متسقًا مع مبادئ الثورة الفلسطينية، ومرحلة الكفاح المسلح، وبدا طريق “العودة” أكثر وضوحًا من ذي قبل؛ فلقد تسلم الفلسطينيون مفاتيح قضيتهم، وانكشفت سياسة الأنظمة العربية الفاسدة، والديكتاتورية، وعلاقتها المباشرة، وغير المباشرة، في تكريس حال الشتات الفلسطيني.
وعى الضمير الفلسطيني ثنائية المزاوجة بين الأنظمة العربية الحاكمة وإسرائيل، وجاءت حرب 1967 لتكرس هزيمة جديدة، احتِيل عليها لغويًا في خطاب الإعلام العربي، وسُميت وقتئذٍ بـ “النكسة”. احتُل كامل فلسطين، وأجزاء من الدول العربية في سورية ومصر.
هنا، بدأت تتقارب بعض الهويات الداخلية السورية، مع الهوية الفلسطينية، فالجولان والقنيطرة باتا محتلين، وبالتالي؛ فمن تم تشريدهم صوب الداخل السوري، باتوا لاجئين، أيضًا، أو نازحين، وهو أمر ليس بذي بال، عند تعيين معنى الهوية، وعلاقتها بالهوية الجمعية.
على المستوى الفلسطيني-السوري البحت، كانت فلسفة الكفاح المسلح، هي الموضوع الحسم في هذا الميدان؛ فلا تحرير إلا بقرار فلسطيني؛ فقد جاهدت قيادة منظمة التحرير، طويلًا، للانفراد به، بعيدًا عن مصالح الأنظمة العربية الحاكمة، ما خلق توترًا واضحًا، وعداء كبيرًا بين الهوية الفلسطينية، وكل ما يمثل السلطة في الدول العربية، من دون استثناء.
جيل جديد من النكبة، جيل هزيمة حزيران، ورث حدود الهوية السابقة وقت اللجوء، وزاد عليها وعيًا سياسيًّا، فرضه الواقع السياسي العربي المحيط.
في تلك المرحلة، كان الواقع السياسي في سورية، يحمل معه إرهاصات انقلاب “حافظ الأسد” وتسلمه السلطة، وبداية عهد الديكتاتورية، الذي لا يزال يحارب للبقاء عليه. وكانت سورية تدخل في مرحلة تشكيل اجتماعي جديد، ارتسمت ملامحه بعد وقت قصير، في قمع الحريات، والمعارضين، وسيطرة الجيش والأمن على الحياة العامة.
بدت ركائز الهوية الفلسطينية في تلك المرحلة أكثر حضورًا، في الاشتغال على مستويين لا ينفصلان؛ تأهيل جيل فلسطيني، ينتمي إلى الفصائل الفلسطينية المقاومة على اختلافها، وانفتاح على المحيط والمجتمع السوري الحاضن، وساهم في ذلك -بشكل خاص- “مخيم اليرموك” الموجود جغرافيًا في مدينة دمشق، ولقربه من مركز العاصمة، مع دخول الطلاب الفلسطينيين في سلك التعليم الجامعي، والوظائف في دوائر الدولة، وتزايد الانسجام الاجتماعي بعلاقات الزواج، والاختلاط المتزايد في المناطق المحيطة باليرموك، على تنوعها السكّاني في “التضامن والحجر الأسود وغيرها”.
وبات مخيم اليرموك، حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي- يمثل الفلسطيني السوري، بطريقة أو أخرى، وكان قد بدأ يستقبل بعض العائلات، من أرياف المدن الأخرى وشبابها، ما جعله مؤهّلًا، ليكون واحدًا من أكبر التجمعات الخليطة، في مرحلة لاحقة.
كان المناخ العربي والسوري، في تلك المرحلة، تسيطر عليه قضية الصراع الوجودي مع إسرائيل، ولم يكن من المستهجن وجود هوية فلسطينية-سورية تتأرجح بين هذا الصراع، والانفتاح على العلاقة مع المحيط السوري. وقتذاك، كانت التسمية المطروحة، من جانب الفلسطيني، على أنه “فلسطيني في سورية”.
ثالثًا: الهوية التائهة، آخر الهزائم
عام 1982، كان الفلسطينيون والسوريون أمام هزيمة، هزت المسلمات والطموحات، التي بنوا عليها “وجودهم” إن صح التعبير؛ فقد اجتاحت إسرائيل بيروت، لطرد منظمة التحرير منها، وكف العمليات الفدائية ضدّها من جنوب لبنان، واجتاح النظام السوري مدينة حماة، ونفّذ فيها أكبر مجزرة بحق المدنيين، في تاريخ سورية.
ثبّتت إسرائيل أركانها كدولة قوية، هزمت -في ثالث اختبار لها- الجيوش العربية، وثبّت النظام السوري وجوده، كسلطة ديكتاتورية قمعية طائفية حتى اللحظة، مع ما تبعه حينئذٍ من اعتقالات، وقضاء على الحياة السياسية بجميع أشكالها.
تشابه المصيران، الفلسطيني والسوري، وانفتحت أسئلة الهوية من جديد أمامهما، ووجدت الهوية الفلسطينية -في جيلها الجديد- نفسها أمام خيارات ضبابية، ولاسيما مع تشرذم الحالة الفلسطينية، وتشتت قياداتها، وضياع الأهداف، والاقتتال الداخلي، وقتذاك، حتى مرحلة التسعينيات، والدخول في “عملية السلام”.
وبمجيء مرحلة “أوسلو” وما تبعها، من إرباك، وتشظٍّ في الحلول السياسية؛ وجد فلسطينيو سورية أنفسهم -ربما كغيرهم من فلسطينيي الشتات- خارج حسابات المساومات والمفاوضات.
كان الجيل الفلسطيني الجديد في سورية، يخرج تدريجيًّا من “هوية الكفاح المسلح” وهو يرى انسداد الأفق، على المستوى العسكري والسياسي كذلك؛ فلا هوية جامعة بعد ذلك، على أرض واحدة، هي فلسطين.
على المستوى الجيلي، كان جيل الثمانينيات الفلسطيني في سورية، قد بدأ يدخل مرحلة الشباب، مكرسًا تعريفًا جديدًا لهويته المزدوجة كفلسطيني-سوري، بقيت فلسطين متعيّنًا ثابتًا في وجوده، ومنطلقًا -أكثر فأكثر- نحو “سوريته” ثقافيًّا، وسياسيًّا، واجتماعيًّا، قبل ذلك.
منذ تلك الفترة، وحتى قيام الثورة السورية، تشكّلت في جنوب العاصمة “مدينة” جديدة تمامًا، وأحياء على هوامشها، ما يطلق عليها بالعشوائيات، استقبلت فقراء المدن وأريافها، وتداخل مخيم اليرموك مع المناطق المحيطة به، وبات هو مركزًا للجنوب الدمشقي، حيث استقبل العائلات -التي ضغط عليها الواقع الاقتصادي- نتيجة سياسة الانفتاح في أوائل التسعينيات، وبات الفلسطينيون في مخيم اليرموك، يشكّلون ما نسبته نحو 20 في من مجموع السكان فيه.
على الصعيد السياسي الفلسطيني، كانت فترة التسعينيات هي الإعلان الرسمي، لإفلاس الفصائل الفلسطينية، وغياب دورها في سورية، فتقلصت إلى مكاتب تمثيل للفصيل، وبعض النشاطات الاجتماعية، واتجه الجيل الشاب نحو مؤسسات أهلية، أو دولية، في علاقة ابتعدت عن الهم السياسي، وارتبطت أكثر بشؤون المجتمع الأهلي والمدني والمشاريع التنموية.
تم تداول مفهوم “الفلسطيني-السوري” بعد عهود كان يتم فيها التأكيد على أولوية الفلسطيني-السوري. هوية جديدة، وانتماء مزدوج، أغنى الحياة الفلسطينية، وجعلها أكثر انفتاحًا، وخصوصًا في مدينة دمشق، حيث الحضور الأكبر للفلسطينيين.
رابعًا: الهوية الفلسطينية السورية في زمن الثورة
مع انطلاقة الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، انقسمت الأجيال الفلسطينية، وكذلك المناطق التي يقطنون فيها، بين مَنْ يرى ضرورة النأي بالنفس عمّا يجري، تبعًا لتجارب ليست بعيدة، ومنها نال الفلسطينيون كثيرًا من اللوم والقتل أيضًا، كما في لبنان والعراق والكويت، ومَنْ يرى وجوب المشاركة في الثورة؛ ما دام الانتماء بات فلسطينيا-سوريًّا، وأن هموم الحرية والقمع، هي هاجس من يعيشون على الأرض السورية.
جدل لم يدم طويلًا بين جيل جديد، كان ابن الثورة السورية بامتياز؛ لأن الثورة الفلسطينية لم تنجبه بنيويًّا، و جيل كان يرى التجارب السابقة من ناحية، ولا تزال هويته متعينة فلسطينيًّا قبل كل شيء.
سمح تعريف “الأنا الفلسطينية السورية” للجيل الجديد، بالدخول في الثورة ضد نظام الأسد القمعي، فالهوية الجامعة مع السوري، هي أكثر التقاء مع هوية فلسطينية في مكان آخر.
ذاق الجيل الفلسطيني-السوري كما نظيره السوري، تمامًا، من الغبن، وغياب العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، واندمجا معًا تحت سياط القمع والعنف والإقصاء. ولم تعد تجدي نداءات الفصائل الفلسطينية “فاقدة الشرعية” للشباب بتحييد أنفسهم، ولاسيما أنّ الموقف الواضح من بعضها بالانحياز إلى صف النظام، أو التأرجح على وتر “الحياد”.[4]
وبين هؤلاء وأولئك، انسحبت مواقف السوريين، حيال الثورة على مواقف الفلسطينيين السوريين؛ بين مؤيد ومعارض ومحايد.
انتظر الجيل الشاب، وجود حدث مباشر يمسّ الفلسطينيين السوريين، ليسبغ موقفه الداعم للثورة، لتكون مبررًا له، للدخول فيها أمام محيطه الفلسطيني، وبما أن عنف النظام لم يستثن أحدا؛ فقد جاءت تلك الفرصة، وشكّل يوم الجمعة في 11 تموز/ يوليو 2012، حادثة مفصلية في المزاج الفلسطيني العام؛ فبعد مقتل أحد عشر شاباً فلسطينياً وسوريًّا برصاص قوات النظام، في تظاهرةٍ صغيرةٍ في المخيم؛ شهد اليوم التالي واحدةً من أكبر تظاهرات الثورة السورية في مخيم اليرموك، وقُدِّرَ حجمها بربع مليون متظاهر، من فلسطينيين وسوريين، ونازحين من أحياء حمص، وأعلن التقويم الفلسطيني العام نفسه منحازاً إلى نهج الثورة ومطالبها، وهو ما أدى بسرعة متلاحقة، إلى الانخراط بالتظاهرات المتتالية، وتدخل ميليشيا القيادة العامة “أحمد جبريل” وجيش النظام، والقصف المدفعي، وقصف الطيران الذي كان المتسبب في خروج السكان من مخيم اليرموك، ووصوله إلى حال من المأساة الإنسانية في الوقت الحالي.
حسم الجيل الفلسطيني الشاب في سورية حدود هويته، بالانتماء إلى سورية الثورة، فالبلد التي ولد فيه، وانتمى إلى ثقافته، فرض الانحياز له، مفارقًا المواقف الفلسطينية في الدول الأخرى.[5]
وقد يرى بعض المتابعين، مُحِقِّين أم لا، أن الجيل الفلسطيني الشاب هو من أقحم نفسه، وأدخل الفلسطينيين السوريين في الثورة، ما أدى إلى المأساة التي عاشوها مع الشعب السوري، متمثلة بالأعداد الكبيرة من الشهداء، والمختفين، والمعتقلين، وتدمير العديد من المخيمات، وحصارها، ولاسيما مخيم اليرموك. لكن ما حسم مسألة الدخول الفلسطيني في الثورة السورية، في جزء كبير منه، كانت “الهوية الفلسطينية السورية” الجديدة الناشئة، التي أرادت البحث لها عن مكان، في الهوية السورية الثورية الجامعة، في محاولة لتجاوز ثنائية الانتماء، والجدل حول الانحياز للفعل الاجتماعي، في تجسيده الثوري، بما يمكن القول عنه بلغة سوسيولوجية: مساحة الدور المكانة في الحدث السوري، وإحراز موقع جديد لها، “أي الهويّة” في المستقبل السوري بعد سقوط النظام.
في جميع الأحوال، عُومل كل من هو معارض للنظام، على أنه ينطلق من الخلفيّة المذهبيّة السنيّة، ضد نظام طائفي في بنيتِه. وبهذا كان الفلسطينيون السوريون ضمن هذه الحسابات.
خامسًا: الشتات الجديد والبحث عن الهوية
وكما موجة النزوح الداخلي واللجوء الخارجي، أعادت المرحلة ذاكرة تاريخ، لم يُنس بعد، من مرارة اللجوء، وعاش الفلسطينيون-السوريون في أجيالهم الجديدة الشابة، ما عاشه آباؤهم وأجدادهم، فتوزعوا بين لبنان والأردن وتركيا ثم في دول أوروبا، بعد أن عانوا أيضا من مشكلة استقبالهم -كلاجئين- في دول الجوار.
لم ينته سؤال “الهوية” عند حدود الاستقرار، في بلدان اللجوء المختلفة؛ فالفلسطيني-السوري الذي هاجر إلى أوروبا أو لجأ إلى لبنان أو تركيا، عانى من إشكاليات “هويته القانونية” قبل الاجتماعية، وإذا كان المهاجر إلى أوروبا قد حسم موضوع الانتماء الجديد، بعيدًا من إشكاليات العلاقة مع المكان، حيث بات ألمانيًّا أو سويديًّا؛ فإن الفلسطيني-السوري الموجود في لبنان، يعاني كما اللاجئ السوري، من الأحكام المسبقة، وعدم القبول “تبعا لبنية التركيب الاجتماعي والسياسي اللبناني”. كما أن الفلسطيني السوري الموجود في تركيا؛ بات أقرب إلى تعريف نفسِه كسوريٍّ لاجئ، لسبب قانوني أولا، يتمثل في حصوله على بطاقة لجوء، في ظل عدم منحه تأشيرة دخول من السلطات التركية وعدم اعترافها به، كفلسطيني شتات، ولسبب اجتماعيـ-وربما سياسي- أيضًا يتجلى في الانتماء إلى الثورة، والشعب السوري، الذي تشرد معه، وعانى وإياه تقلبات الوضع الدولي وآثاره.
أما من بقي في سورية، فقد اختار انتظار ما ستؤول إليه الأحوال السياسية والعسكرية، فالبقاء في سورية يعني التشبث بمعنى “الهوية”، التي اشتغل عليها طويلًا، في تعيين وجوده كسوري من أصول فلسطينية.
سلسلة من الإشكاليات “المعضلة” أمام سؤال الأنا الفلسطينية-السورية يطرح من جديد، في كل مرحلة، يرسم مصائر جديدة، في ظل أوضاع هي دائمًا استثنائية “جديدة ومتكررة”.
ما سؤال الهوية الحقيقي للفلسطيني-السوري؟
[1] ُقدِّر عدد الفلسطينيين في سورية في أوائل عام 2015 بنحو (545) ألفًا، وفق كشوف الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين في سورية، وسجلات وكالة الأونروا. ومعظم الفلسطينيين في سورية، هم من مناطق شمال فلسطين (عكا وحيفا وصفد وطبريا والناصرة وبيسان).
[2] صدر القانون رقم 260 في 10 تموز/ يوليو من عام 1956 بإجماع المجلس النيابي السوري، ووقعه الرئيس السوري الراحل (شكري القوتلي) وأصبح الفلسطيني بموجب هذا القانون يتمتع بحق المساواة مع المواطن السوري، باستثناء المواقع السياسية العليا، وما يتعلق بكل ما من شأنه تذويب الهوية الفلسطينية، في صراعها مع إسرائيل.
[3] ما نقصده بـ “الهوية” هنا ليس المتعين الوجودي الفلسفي لها بقدر ما هو المنحى السوسيولوجي للهوية، كنسق من الخصائص المميزة لمجموعة اجتماعية بعينها تسبغ على الفرد تمثلها بحيث تصبح الأنا ليست مفارقة عن النحن.
[4] على المستوى الرسمي؛ فيما يخص الفصائل المختلفة؛ كان تنظيم الجبهة الشعبية-القيادة العامة داعماً بالطرق الإعلامية والعسكرية والتشبيحية للنظام كافّة، وكذلك الأمر في تنظيم فتح الانتفاضة في مرحلة لاحقة. وتقلقل موقف حماس من الثورة في دعمها، والمشاركة العسكرية بها، على انسحابها مؤخرًا، وكذلك فعلت حركة الجهاد الإسلامي المحايدة إلى حد ما، وهي القريبة من إيران وحزب الله. وأما موقف السلطة الفلسطينية فكان مخزيًا بطريقة مفاجئةٍ في اتخاذ الحياد السلبي تجاه الثورة من جهةٍ، وتجاه الضحايا الفلسطينيين السوريين من جهة أخرى. وبقيت الفصائل الأخرى على هامشيتها وغيابها الطويل حتى على الساحة السياسية كالجبهة الشعبية “جورج حبش” والجبهة الديمقراطية.
[5] وجد الموقف الفلسطيني- السوري، المؤيد للثورة، نفسه في موقف لا يحسد عليه؛ فقد تم توجيه اللوم له من بعض فلسطيني الشتات مثل لبنان، الذين رأوا أن موقفهم سيجر عليهم عواقب وخيمة، بناء على تجربتهم القديمة في لبنان في الحرب الأهلية واجتياح بيروت 82.