منذ اكتشافنا الأول أن هناك محاولات جادة لسرقة الثورة ونحن نفكّر ونحاول خلق سبل للمقاومة، ومتابعة الطريق مهما كانت العوائق ضخمة.
ومنذ أن لاحت بوادر الثورة من دمشق ودرعا، ونزلنا إلى الساحات والشوارع في حمص وباقي المدن، كنا نتوجس حذراً من نظام مجرم له تاريخه الدموي المعروف، وكان هذا التوجّس يحركنا أكثر لنتحدى، وكأنه يقدم لنا الأدرينالين الذي يعطينا القوة على المتابعة في أخطر الأماكن في العالم، ومع أكثر الحكام وحشية وطغياناً، ونحن وإن لم نشهد مجازر حماة، ولم نرها رأي العين، إلا أن الخوف قد صُدِّر إلينا عبر كل من شهد وعاصر تلك الأحداث، ليكون الصوت الذي يحاول أن يثنينا عن المواجهة بدافع الشفقة والخوف، ومع ذلك تابعنا ولم نلتفت للوراء، ففي الالتفاتة فكرة تعني التوقف أثناء ومض الشرارة الكبرى، وقد كان إغراء حلم الحرية لنا أكبر من أيّ خوف.
عشنا في سوريا دهراً ونحن نتلقى سياسة اللابديل وكأنها هي الدستور والقَدَر الذي لا يتغيّر، كبرنا ولم تتغير صور حافظ الأسد من الشوارع، لقد كان الوجه الوحيد المفروض علينا أينما دارت أنظارنا والتفتنا إلى حد الملل والسّأم، وإلى حد التضرع إلى الله أن يهبنا معجزة تزيح هذا الوجه المقيت عنا، وحين مات أخيراً، لم يصدق كثيرون خبر موته، لقد ظنوا أنه فعلاً باق إلى الأبد، لقد اقتنعوا فعلاً أن لا بديل، وحين تسلم بشار السلطة، تعززت قناعتهم أكثر بغياب البديل عن سلالة الأسد، وحين قامت الثورة لم يشارك بها الجميع لقناعاتهم أن لا مفرّ من سلسلة الوجوه المقيتة في سوريا إلى الأبد، ورغم تشاؤم كثيرين فإن الثوار كانوا مؤمنين أن الكرسي لابد سينهار، وبأن المحاولة ضرورة لا مفرّ منها، وإن رآها سواهم عبثاً، وبأن التغيير لن يأتي بالانتظار والترقب أو بالاكتفاء بالدعاء والتضرّع، فالشّعب أسيرٌ من عقود، واستمرارية الظلم في سوريا أمر غير محتمل، ولذلك فقد واجهت تيار التشاؤم واليأس ثورة الغاضبين الذين صدحت حناجرهم بهتاف الحرية، وحملت عباراتهم كل أنواع التحدّي التي ظهرت بصوتٍ مزلزل ” بدنا نشيلو لبشار بهمتنا القوية، سوريا بدا حرية”.
لم يكن تحدياً بالكلمات فقط، ولا عبر مواقع التواصل من وراء الشاشات، بل كانت أقوالاً وأفعالاً، وشهداء ارتقوا تحت الرصاص الحي، وهم ينادون للحرية، في تلك
اللحظات كان بالإمكان مشاهدة شجاعة المتظاهرين وهم يخلقون المشافي الميدانية ببراعة واحترافية وسرّيّة عالية، لينقذوا الأرواح، وإن كانت حياتهم هي الثمن، لم يكن هنالك شيء يمكن أن يحركهم سوى الأمل، سوى التفاؤل أن تلك الدماء لن تضيع سدى، بل ستكون جسراً يعبر عليه الآخرون لينالوا الكرامة والحرية.
وحين اضطر الثوار لحمل السلاح وبدأ الجيش الحر انتصاراته وانتشاره في أرجاء سوريا، كان الأخضر الجميل يمتد بتفاؤل، كربيع أخاذ لا يشبهه ربيع أبداً، وفي تلك المرحلة آمن الثوار أن البديل ممكن ومتاح، حينها كانت القوة للثورة، وكانت الثورة في أفضل حالاتها، حتى عاد قانون اللابديل يفرض نفسه، وبدأت القوة العالمية تهيمن وتنتشر، تدخل ميليشيا حزب الله وإيران، ومن ثم التدخل الروسي إلى جانب النظام كان يقول بصوت قوي، لا بديل عن سيادة المصالح، لكل جزء من الكعكة يحارب ليأخذه، كانت حرباً لاقتلاع الثورة من جذورها، دخلت داعش أيضاً لتدمّر بسرعة وسهولة أكبر ما لا ترغب تلك القوى بتدميره بشكل مباشر، وبدأت الانهيارات تتوالى، ومحاولات الاستحواذ على المناطق والبشر تتم بأشكال متعددة، بدأ فشل المعارك، وانهيار الإرادة الذاتية للثوار، وشق الصف، وحالة التمترس بالمدن والحصارات الخانقة، تلتها أحداث التهجير القسري، لتكون رسالة العالم لكل إنسانٍ مازال يرفض الظلم، ويحارب الذل والقهر، ويسعى
لكرامة الناس، أن لا بديل عن الاستعباد، لا بديل عن عالم يسير وفق قوانين القوة الظالمة، لا بديل عن استنزاف البشر من أجل اقتصاد أكبر للدول العظمى، ولا بديل عن إحراق الأرض من أجل أن يبقى الحاكم المرضي عنه حاكماً.
ثماني سنوات مضت عملوا جاهدين من خلالها على إقناع الإنسانية بلا جدوى الإنسان، وبحتمية الانسلاخ عن بشريّته، وبأنه سلعة لا محالة، لم تذهب محاولاتهم سُدى، فقد استسلم كثيرون للعجز واليأس والإحباط ممن كانوا يوماً شعلة في الحياة، ولكن، ورغم كل ما فعلوه، مازال هناك من يحاربون بكل ما يملكون ليظلوا بشراً، متمسكين بكرامتهم وكرامة الآخرين، يحملون الصوت الحر، والسّعي الحر رسالة ومنهاج حياة، متفائلين أن صوت الحق أعظم من الدول، ومن المصالح القاتلة، ومن الأنانية المدمرة، يصنعون البديل في حيّز ضئيل، ويحرصون عليه بأرواحهم، وهم يؤمنون بأنه سيكبر يوماُ وينتشر، موقنين أن لا بديل لهم عن شيء واحد، هو إنسانيتهم النقية مهما حاربها العالم فهي باقية لن تزول.