المحتويات:
خضر عبد الكريم: في داخل كلّ فنّان حقيقيّ ثورة مشتعلة
ريم يسوف: مواجهة العنف اليومي بصريًّا وفكريًّا
فهد الحلبي: الانتماء عن بعد
عدي الأتاسي: الثورة أنهت زمن مقصّ الرقيب
دارين أحمد: لسوريا حضور أعمق في التاريخ والمستقبل من هذه العقود المظلمة
أسعد فرزات: وجوهنا الشاهدة الشهيدة
ولاء دكاك: لا يهمّني أن ينجو الفنّ وتدمّر سورية
محمود شيخاني: خطاب بصريّ ثوريّ يقطع مع الماضي
عتاب حريب: بالألوان نحمي أرواحنا من الدم والدمار
خالد ضوا: الفنّ السوريّ أحد الناجين من المحرقة الأسديّة
يخصص مركز حرمون للدراسات المعاصرة ملف هذا الشهر للفنّ التشكيليّ السوريّ في سنوات الثورة التي اندلعت في منتصف آذار/ مارس 2011، ليستبدل بعدها كثير من الفنّانات والفنّانين السوريّين موضوعات تحاكي قصص البشر مع ويلات الحرب، وتطلّعات الناس المشروعة إلى الحرّيّة والكرامة والخلاص، بموضوعات أعمالهم التي كانت تحاكي الطبيعة والإنسان وذاكرته وتفاصيله الحميمة.
ومنذ 2014 لم يعد التشكيل السوريّ معمدًا باللون بل بالدم، بعد أن تحوّل الفنّان التشكيليّ فادي مراد، (نجل التشكيليّ البارز عبد الله مراد)، وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، إلى لوحة أخرى في معرض (الشهداء تحت التعذيب) في زنزانات الأسد الوحشيّة، بعد اعتقاله في الأوّل من آب/ أغسطس 2013 من عناصر الأمن في أثناء عودته من عمله، على أوتوستراد المزة، وسط العاصمة دمشق، من دون أن يتمكن أهله من معرفة مكانه، إلى أن تلقوا خبر مقتله من أجهزة الأمن التي طلبت منهم الحضور لاستلام جثته، بعد خمسة عشر شهرًا قضاها في أقبية المخابرات.
ولا شكّ في أنّ المنجز البصريّ السوريّ الحديث لامس المأساة الإنسانية التي يعيشها أحرار سورية وحرائرها في وطنهم النازف، وفي بلدان الشتات والمنافي البعيدة التي لجؤوا إليها بعد أن دمّرت الطائرات ودبابات الجيش والقذائف مدنهم وقراهم وبيوتهم، وطغى اللون الأسود، وتدرّجات من الرمادي، في لوحات كثيرة على المساحة البيضاء، وبتنا نرى تمثيل الجسد غير المكتمل، أو أجزاء منه، في أعمال التشكيليّين السوريّين المنتجة في زمن الثورة مع تصاعد العنف، وبخاصّة مع انتشار الصور ومقاطع الفيديو التي تحوي مشاهد قطع الرؤوس. ورأينا كيف جرى توظيف عدد من الفنّانات والفنّانين من الجيل السوريّ الحالي للفن، لإعادة تجسيد أماكن معروفة في مدن دُمّرت بفعل الحرب. ويزخر موقع (الذاكرة الإبداعية للثورة السورية) بعدد من الأعمال النحتية لفنانين مجهولين، تُعيد عبر مادة الماكيت تجسيد أماكن تعرّضت للدمار مثل جسر دير الزور.
وفي النحت، قدّم الفنّان النحّات خالد ضوا منذ 2014، أعمالًا طينيّة تجسّد الخراب بوصفه حضورًا للموت الممتدّ على مساحة العمل الفنّيّ. ولا يفوتنا هنا أن نذكر عمل منظمة (ناجون) مع النحّات السوريّ العالميّ عاصم الباشا (المقيم في غرناطة – إسبانيا) على إعادة نحت رأس تمثال أبي العلاء المعري الذي تعرّض للتدمير على يد جماعات دينيّة متشدّدة في مدينة معرة النعمان في إدلب 2013.
ومع اشتداد قبضة النظام الأمنية والعسكريّة، ضاقت سورية بالمشغل التشكيليّ المؤيد للثورة، وأغلقت المعارض وباتت متابعة أعمال الفنّانين السوريّين من مختلف الأجيال تتطلب جولة في مدن وعواصم عربيّة وغربيّة، مع خروج أغلب الفاعلين في ميدان الفنون البصريّة من البلاد. لكن على الرغم من ذلك، يمكنّنا القول إنّ ملامح الثورة والحرب (وويلاتها وصدماتها، والقتل والتعذيب والعنف والدماء والاختفاء والتهجير والنزوح) باتت مطبوعة في المنجز التشكيليّ السوريّ الراهن. ينعكس ذلك في المواد التي يختارها الفنّان لعمله، وفي أسلوبه ووسائطه، وكذلك في موضوعاته.
ولمعرفة الجديد في المحترف التشكيليّ السوريّ في زمن الثورة، والوقوف على تفاصيل اشتغال عدد من فنّانات سورية وفنانيها من مختلف الأجيال والمشارب والمدارس الفنّيّة، على منجزهم البصريّ الذي سيبقى سجلًا بصريًّا لمأساة شعب ثار ضدّ نظام الفساد والظلم والاستبداد، توجهنا إلى كلٍّ من الفنّانين والفنّانات: خضر عبد الكريم (معتقل سياسيّ سابق، مقيم في ألمانيا)، ريم يسوف (فرنسا)، فهد الحلبي (ألمانيا)، عدي الأتاسي (قبرص)، دارين أحمد (ألمانيا)، أسعد فرزات (سويسرا)، ولاء دكاك (فرنسا)، محمود شيخاني (ألمانيا)، عتاب حريب (الولايات المتّحدة الأمريكية)، والنحّات خالد ضوا (فرنسا). وسألناهم: بداية، هل ما يزال الفنّان التشكيليّ السوريّ مؤمنًا بهذه الثورة النبيلة التي يدفع ثمنها المظلومون، وهل ما جرى ويجري في سورية من دمار وخراب ومذابح كان دافعًا قويًّا لرسم لوحة ما والدم طازج؟ وتاليًا؛ هل تمكّنوا من مجاراة المحرقة التي يعيشها أبناء شعبهم منذ عقد من الزمن وحتّى يومنا هذا؟ ومن قبل هل يستطيع الفنّ أن ينجو من كل هذا الدمار والموت؟ ومن ثمّ، ما هي القضيّة التي يؤمنون بها ويحاولون إيصالها من خلال منجزهم البصريّ الفنّيّ؟
وسألناهم: كيف أثّرت الثورة/ الحرب السوريّة في أعمالهم الفنّيّة؟ وبخاصّة أننا لاحظنا أعمالًا كثيرة حول اللجوء والحرب تميزها سوداويّة لم نكن نألفها في المحترف التشكيليّ السوريّ قبل انتفاضة السوريّين في وجه الظلم والاستبداد الأسديّ في آذار/ مارس 2011.
إلى ذلك، وبعد كل ما عايشناه من هجرات قسريّة وشتات في سنوات الجمر السوريّة، سألناهم: كيف انعكس اللجوء والمنفى على إنتاجهم الفّنّي؟ وهل أضافت إليهم الهجرة من بلدهم الذي مزقته الحرب، إلى حيث يقيمون حاليًا والاستقرار هناك، شيئًا مختلفًا إلى تجربتهم الفنّيّة؟
وكان سؤالنا الأخير لهم؛ إلى أيّ مدى كانت اللوحة، هي الأقدر، فنيًّا، على رصد المأساة السوريّة والتقاط إرهاصات الأمل بغدٍ سوريّ أفضل؟ فكان هذا الملف..
خضر عبد الكريم: في داخل كلّ فنّان حقيقيّ ثورة مشتعلة
كنت أظنُّ أنّ لوحاتي ستبقى اللوحات الوحيدة التي تحمل على سطحها القهر والاستبداد، إلى أن أصبحنا جميعًا -السوريين- في مهبّ عنف النظام ومافيويته.
يتأثّر الفنّان بأيّ حدث يجري من حوله، مهما كان ذاك الحدث، صغيرًا أو كبيرًا، فكيف إذا كان حربًا ممنهجة، أو ربّما محرقة، تحرق البشر والحجر والشجر…
يقينًا من الضروري والطبيعي، أن يؤثّر عنف كهذا في الفنّان ولوحته، وطريقة اشتغاله على سطح اللوحة، وإن لم يتقصد ذلك، لأنّ حدثًا بهذا الحجم سوف يسبّب بالضرورة صدمة للفنّان.
ومفهوم الثورة عند الفنّان يختلف عن مفهوم الحرب، إذ يشعر منذ الولادة بثورة دائمة في داخله، وينظر إلى مفهوم الثورة برومانسية، بوصفه جزءًا منها، أو وصفها جزءًا منه.
وما دمت مطالبًا برأيي بوصفي فنّانًا، كي أكتب سأكتب وكأنّني أرسم لوحتي، وليس كما يكتب المحترفون في فنّ الكتابة، من صحافيّين وروائيّين وشعراء، وأنا على دراية تامّة، أنّ لكلّ فنّ من فنون الكتابة، قواعد وضوابط ونظم تحكمه، وأنا من المؤمنين أنّه عند انطلاق أيّ ثورة أو حرب، لن تنتهي قبل أن تنجز تغييرات كثيرة -في جميع المستويات- في بنية المجتمع، ومنها المستوى الثقافيّ.
لذلك قبلت أن أكتب، بدلًا من أن أرسم لأنّني سأتحدّث عن الثورة التي أؤمن بها، ولأنّ الثورة عندي بدأت مع ولادتي. وبحسب اعتقادي الثورة عند الفنّان لا تنتهي ولا ترتبط بتاريخ وبداية إذ تولد معه، ولا نهاية لها إذ يعيشها يوميًّا في داخله، خصوصًا عندما تبدأ روحه بالتمرّد رويدًا رويدًا على واقعه، طبعًا تبعًا للبيئة التي يعيش فيها والعوامل والمتغيرات المحيطة به.
أيّ بمختصر القول، في داخل كلّ فنّان حقيقيّ ثورة مشتعلة لا تنطفئ ولا تنتهي، وثورته تنتصر للحب والحقّ والجمال والمظلومين.
هذا بغض النظر، عن الثورة السوريّة التي انطلقت بوصفها ثورة حقيقيّة، لكلّ السوريّين في 2011 فتسلّقها اللصوص وقطاع الطرق وشذاذ الآفاق، وخطفوها من أهلها أصحاب الحقّ والثورة، ومع ذلك كلّه أرى أنّ بداية الثورة السوريّة كانت مع بداية استلام العسكر الانقلابيّ البعثيّ الحكم في سورية، وهاجت نيرانها في 2011 مع بداية الربيع العربيّ، ولذلك تكالبت عليها أنظمة الشر وقوى الظلام من كلّ حدب وصوب، ولن تنتهي هذه الثورة في وعي السوريّين وضميرهم، ولا حتّى في الواقع إلّا بزوال الاستبداد والدكتاتوريّة، وانزياح الظلم والقهر عن كاهل هذا الشعب الجبار المظلوم.
أمّا بالنسبة إلي وإلى غيري من الفنّانين فإنّ معركتنا ضدّ الظلم والاستبداد تبدأ على سطح لوحتنا البيضاء، لكونها سلاحنا الوحيد الذي نقاوم به، ولن تنتهي بانتهاء اللوحة، وإنّما بانتهاء الظلم والطغيان.
أمّا ما جرى ويجري في الوطن السوريّ من دمار وخراب ومذابح فقد جعل ألم الفنّان مضاعفًا، مرّة في الواقع المَعيش مع العنف الممنهج، ومرّة على سطح لوحته، أي إنّ الفنّان يكتوي بالنيران أكثر من مرّة.
وقد استشعر بعض الفنّانين هذا العنف المقبل قبل وقوعه، ما أدى إلى ممارسة العنف بحقّهم مباشرة، مثلما حصل مع رسّام الكاريكاتير المعروف علي فرزات الذي ضُرب حتّى حدود الموت، وكاد ذلك أن يودي بحياته وكُسرت أصابعه، حتّى يكون عبرة لمن تسول له نفسه من الفنّانين والكتّاب وأيّ صوت نشاز بالنسبة إليهم.
لذلك أجزم أنّ الفنّان السوريّ يحترق في المحرقة السوريّة التي بدأت منذ 1970 والمستمرّة إلى يومنا هذا، ما دامت نار هذه المحرقة مشتعلة، وبغض النظر إذا كان الفنّان يعيش داخل الوطن السوريّ أو خارجه، فمثلًا الفنّان التشكيليّ خليل عبد القادر يعيش خارج سورية منذ أكثر من ربع قرن، لكنّه ما يزال يرسم معاناة السوريّات ومأساتهن في جميع حالاتهنّ.
وهذا لا يعني أنّ جميع الفنّانين يعيشون الحالة أو المأساة نفسها، لأنّ هناك قسمًا من الفنّانين نأوا بأنفسهم عن هذه المحرقة، منهم بسبب رعبهم من بطش النظام وهمجيته، ومنهم بسبب اصطفاف طائفيّ، ومنهم من هرب لينجو بنفسه، وهناك آخرون ما زالوا داخل المحرقة يرسمون لوحتهم ويحترقون معها، وغالبًا من دون أن يعلنوا مواقفهم تاركين لوحاتهم تجيب عن جميع التساؤلات.
وهنا لا بدّ من التنبيه إلى أنّ النسبة العظمى من الفنّانين السوريّين انحازت إلى ثورة الشعب السوريّ ووقفت معها وليس العكس.
ولذلك أقول، لا أنا ولا أيّ فنّان سوريّ، سواء كان معارضًا أم مواليًا، لم ننجُ من هذا الدمار والقتل، ولهذا السبب شاهدنا وسنشاهد كثيرًا من آثار هذه الحرب والدمار في لوحات الفنّانين.
طبعًا لكلّ فنّان طريقته في إيصال رسالته من خلال أسلوبه في إنتاج عمله الفنّيّ الذي يعتمده في بناء لوحته، وربّما قد سبقت بالمعنى الشخصيّ زميلاتي وزملائي من الفنّانات والفنّانين بوضوح وحتّى قبل 2011 عندما أقمت أكثر من ثلاثة معارض وكانت الأقدام (الأرجل) العنصرَ الذي استحوذ سطح اللوحة، للدلالة على معاناة أصحابها ومأساتهم، وذلك بعناوين واضحة مثل معرض بعنوان (أقدام تجوب العالم) في غاليري (فري هاند) في دمشق 2009، ومعرض (أقدام تفاحة) في غاليري (نايا آرت) في اللاذقية 2010، ومعرض (أقدام مجنونة) في قصر الثقافة في كوالالمبور في ماليزيا 2010.
ولا يعود هذا السبق لكوني متميزًا، بل لأنّني كنت معتقلًا ما يقارب سبع سنوات في سجون الأسد الأب، عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، ومن خلال الاعتقال والسجن عرفت أكثر معنى الحرّيّة والحقّ، ولا سيما أنّني ابن الشعب الكرديّ الذي نُكّل به قرابة قرن من الأنظمة الشموليّة وأنظمة البعث في سورية والعراق.
لقد كانت رسالتي وقضيّتي دومًا الدفاع عن الحقّ والحرّيّة وكرامة الإنسان في مواجهة الظلم والقهر والاستبداد، سواء من خلال لوحتي أم من خلال عملي في الميدان الحقوقيّ مدة تقارب عقدين من الزمن.
ولذلك لم تكن الحرب أو (الثورة) السوريّة حالة طارئة في عوالم لوحاتي لأنّ التجربة الشخصيّة التي مرّرت بها كادت تكون نموذجًا مصغرًا لما عاشه ويعيشه كلّ إنسان سوريّ على الجغرافيا السوريّة، بغض النظر عن لغته أو دينه أو طائفته أو عِرقه، “فالكلّ متّهم بالخيانة للنظام حتّى يثبت خيانته أي يثبت معارضته للنظام”.
وبسبب الثورة التي تحوّلت إلى حرب شعواء ضدّ أبناء الثورة أنفسهم قبل الآخرين، فقد تجذّر الألم والتعب والشقاء في عناصر لوحاتي درجة أنّها في بعض الأحيان تشاهد وكأنّ العنصر أو الشخص الذي داخل اللوحة يريد أن يهجرها ذاتها ويخرج من إطارها وحدودها، كما هجرنا بلدنا ووطننا إلى الشتات وإلى دول اللجوء هربًا من الحرب وبحثًا عن الحياة.
أمّا بخصوص الهجرة واللجوء فإنّ عزائي الوحيد في هذه الغربة أنّني أرسم لوحتي بحرّيّة من دون أن أضعها تحت رقابة ذاتيّة، لحمايتها من رقابة السلطة وأذرعها، وهذا ما يخفف مصاعب اللجوء والهجرة قليلًا عندي.
ماذا يعني أن تكون لاجئًا، لم يخطر في بالي قط أن أطرح على نفسي سؤالًا كهذا إلّا حين تقدّمت بأوراق لجوئي، فلم تكن لديّ أيّ وسيلة للشرح لهم من أنا؟ ماذا أريد؟ ولماذا أنا هنا؟
عندما تقدّمت باللجوء شعرت أوّل وهلة بالطمأنينة لأنّني وصلت إلى برّ الأمان، ولكن عندما بدأت أمضي في عالمي الجديد اكتشفت قسوة الهجرة، وكأنّني في عمر الخمسين، وقد ولدت للتو، عليّ أن أتعلم المشي والكلام وأن أبني بيتًا أي أن أتعلم كلّ شيء في الحياة من جديد، كأنّني طفل في العقد الخامس من العمر.
ولحسن حظي أنّني فنّان لأنّ اللوحة لا تحتاج إلى لغة وهذا ما كان يواسيني، لذلك كانت اللوحة ملاذي الدائم، رسمت كلّ ما أردت رسمه بحرّيّة، ومن دون رقابة من أحد، ولهذا كان لديّ غزارة في الإنتاج وكثير من المعارض في ألمانيا ودول الاتّحاد الأوروبي.
ريم يسوف: مواجهة العنف اليومي بصريًّا وفكريًّا
سأبدأ بتعبير آمنت به منذ انطلاقه وتداوله، وهو أنّ “الثورة هي فكر والفكر لا يموت”.
إنّ ما نتج من أحداث معقّدة في درب ثورة تسعى إلى مطالبها الأساسيّة من كرامة وحرّيّة وعدالة ومساواة بين أبناء الشعب السوريّ بمختلف أطيافه، فاختطفت إلى مكان مظلم، كرّس في ذاكرتنا الألم والعنف والظلم لسنوات وربّما أجيال، لذلك نحتاج إلى زمن وعمل شاق لإعادة ترميم ما شوَّه الذاكرة وشتّتها.
ولكن ما أنتجته الثورة -في رأيي الشخصيّ – مهمّ على المدى البعيد والعامّ على الرغم من ألمه، فهو انتصار مجموعة ثورات شخصيّة صغيرة اجتماعيّة وسياسيّة ومفهومات فكريّة، وكسْر كثير من الحواجز الوهميّة التي كانت قائمة، وهذه أحد أهداف الثورة كسر خطوط تابو كثيرة على جميع الصعد وكشف ما كان مستورًا ومشوَّهًا، إنّ هذا مؤلم في معظم الأحيان، ولكن من قال إنّ الحقيقة تنتهي دائمًا بنهايات لطيفة وسعيدة، بعد تراكمات من إخفاء الحقائق وعدم مواجهتها، فكان للفنّ والفنّانين جزءٌ من هذا أيضًا.
كان التأثير الأوّل في أغلب الفنّانين الارتباك أمام أعمالهم الفنّيّة ومواجهة السؤال الأكبر لكلّ منّا: “أين أنا من ما يحدث في الشارع السوريّ”؟ وهذا ما كرّس عند أغلب الفنّانين أنّهم جزءٌ لا يتجزأ من أدوات تعبيرهم أو توثيقهم ومواجهة حقيقة العنف اليومي، بصريًّا وفكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا أيضًا، فكلّ منّا عبر بأسلوبه ومن مكانه أو موقفه.
عند أوّل نقطة دم -وبخاصّة دم الضحايا الأطفال- كان بالنسبة إلي الصفعة التي قلبت كلّ مفهوماتي وخياراتي إلى مفرق لم تعد العودة بعده ممكنة إلّا عبر منجزي الفنّيّ، لمقاومة ذاكرة بدأت بتهجير كلّ الصور القديمة لتصنع ذاكرة صراخ للموت من دم وغبار، فطريق العودة من ذاكرة امرأة إلى ذاكرة طفل، فعل مقاومة لكلّ هذا الدمار والموت والعنف والتهجير، وخلق ثورة من خلال عالم الطفولة التي لا يستطيع أحد الاقتراب منها، لأنّ الأحلام والأفكار حرّة من كلّ قيد ومن أيّ خوف.
ما عشته مع أعمالي ما بعد ثورة الحرّيّة والكرامة، كان ردّات فعل شخصيّة وتوثيقيّة تأثرًا بفعل الحدث اليومي وتطوره، إلى أن نضجت ثورة هذا الطفل مع مرور عشر سنوات، وعادت المرأة في داخلي لتستمرّ في بحثها الفنّيّ والفكريّ بإعادة ترميم ذاكرة وإعادة تشكيلها، وخلق أسئلة بحثًا عن إجابات محتملة، فبعد استقراري الذي كان مجبرًا ومؤلمًا في مرحلته الأولى، حتى تحوّل مع الوقت وجعلني أقف أمام أبسط التفاصيل اليوميّة وأختزلها لتتحوّل إلى أهميّة مختلفة بمعنى المفهوم، وانعكاسها على عملي الفنّيّ وحياتي اليوميّة بصفتي فنّانة؛ فتح أبوابًا لحاجتنا إلى عالم حرّيّة التعبير والتجربة واختلاطها بعوالم لا نهاية لها ولا حدود، فالألم واحد في كلّ بقعة على هذه الأرض، ولكنّي معنية بقضيّتي السوريّة، وبعد استقراري في فرنسا بوصفها بعدًا جغرافيًّا، كان للشهادات المكتوبة عن أشخاص عاشوا تفاصيل حصار أو نجاتهم من الموت بعد عذابات لا يمكن تحملها؛ التأثير الأكبر في وقع تكوين عملي وموضوعاته حتّى 2019، تأثّرت بها لما ترويه من تفاصيل إنسانيّة تجتمع معي تحت سقف واحد داخل نصّ، كان أغلبها مقاومة للموت… مهما اختلفت الطريقة فهو موتٌ واحد، إن كان قصفًا أو تعذيبًا أو غرقًا، حتّى وحدة الغربة وعزلتها أفقدتنا أصدقاء مقربين، فلكلّ منّا تجربته وتحوّلاته، لكنها لا تقارن بكارثتنا الإنسانيّة التي وثقتها أرواح غيبت وأرض دمّرت وزمن لم ينتهِ في ذاكرتنا، وكشاهد يخلط صور ذاكرة ورائحة وملمس بين هنا وهناك حتّى الآن كان للعمل الفنّيّ وظيفته الفرديّة من خلال كلّ فنّان ضمن إطار تجربته وموقفه وأين هو من القضيّة السوريّة في مشروعه الفنّيّ.
وفي الحصيلة محاولة الفنّانين -باختلافاتهم السياسيّة والفكريّة تجاه قضيّتهم- هي نوع من توثيق مرحلة مرّ بها الشعب السوريّ فكريًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا منذ بداية الثورة حتّى لحظة تحويلها إلى حرب مدمّرة آلت إلى كارثة إنسانيّة.
لكن علينا ألّا ننسى أنّ هذه الثورة المختطفة اليوم، كانت منذ اللحظة الأولى لانطلاقتها في آذار/ مارس 2011، سببًا خلاقًا للتعبير والأفكار الكثيرة في شتّى مجالات الإبداع، ولابتكار أدوات جديدة والتعبير عن الأفكار بأبواب مفتوحة لا يمكن إعادة إغلاقها بعد ذلك، وبخاصّة بالنسبة إلى الفنّان.
فهد الحلبي: الانتماء عن بعد
لأنني من مواليد قرية مجدل شمس في الجولان السوريّ المحتلّ، أود الإشارة إلى أنّ علاقتي بسوريّتي بوصفها أحد مركّبات هويّتي ليست مفهومة ضمنًا، فهي تختلف إلى حدٍّ معين عن علاقة السوريّ الذي ولد وترعرع في قلب الوطن السوريّ المحتلّ أيضًا، لأنّني للأسف لم تسنح لي الفرصة يومًا لأزور سورية إنّما تعرفت إليها من خلال عائلتي أوّلًا، وعن بعد من خلال صيحات الأهل على جانبي خط وقف إطلاق النار الفاصل بين الجولان المحتلّ والوطن الأم، وأخبار الأقارب الّذين نزحوا إبان حرب حزيران/ يونيو المشؤومة التي ولدت بعدها ثانيًا.
سورية، وطنًا ودولة، كانت بالنسبة إلي صورة نوستالجيّة لوطن متخيّل ومفقود، يعيش فيه أبناء شعبيّ الّذين لا أعرف أحدًا منهم شخصيًّا، باستثناء عدد من أقربائي الّذين أُجبروا على النزوح أفي ثناء الاحتلال الإسرائيليّ للجولان في ١٩٦٧ وما يزالون يعيشون هناك، وعلى هذا الأساس فإنّ علاقتي بالثورة السوريّة ربّما تختلف عن علاقة السوريّ المولود في داخل الوطن، فمن الطبيعيّ أنّ الشعور بالانتماء إلى سوريّتي موجود لكنّه يختلف عن شعور ابن الشام بسوريّته، وهذا ينسحب بالتأكيد على إنتاجي الفنّيّ، سواء قبل الثورة أم بعدها، ولكن من المهمّ القول إنّ الثورة السوريّة جدّدت لديّ سؤال الانتماء، وبدأتُ كباقي أهل الجولان المحتلّ أتعرف أكثر فأكثر إلى مدن وطني وبلداته وقراه، من خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ حيث يجري نقل أحداث الثورة، وطبعًا اختلفت سورية ما قبل الثورة عمّا بعدها.
قوّت الثورة السوريّة لديّ الشعور بانتمائي إلى الوطن فعليًا، وتعرفت من خلالها إلى سورية الحقيقيّة التي قرّر شعبها الانتفاض في وجه الذل والهوان.
العامل الثاني الذي عزز شعوري بالانتماء إلى سوريّتي هو الغربة التي أتاحت المجال لي للالتقاء بأبناء وطنيّ السوريّين بلحمهم ودمهم، فمن خلالهم عرفت سورية عن قرب، وبخاصّة أنّني لم أتمكّن من الالتحاق بالجامعات السوريّة كما فعل مئات من أبناء الجولان المحتلّ عندما أتيحت لهم الفرصة للدراسة في جامعات بلدنا الأمّ في سنوات التسعينيات وما بعد سنوات الألفيّة بقليل، بسبب تعرّضي للاعتقال السياسيّ في سجون الاحتلال الإسرائيليّ مباشرة بعد نهاية دراستي الثانويّة.
مهما كانت طبيعة علاقتي بوطني وأبنائه، فإنّني أؤمن بالناس المظلومين التوّاقين إلى الحرّيّة والعيش الكريم أينما كانوا، الناس الّذين قدّموا الغالي والنفيس في سبيل حرّيّتهم وكرامتهم، فما دام ظلّ الظلم موجودًا سيستمرّ الناس في الدفاع عن وجودهم وحقّهم في الحياة الكريمة حتّى لو مالت موازين القوى لمصلحة نظام الطاغية الأسديّ.
نعم، لقد قُمعت ثورة الشعب السوريّ بأقسى الأساليب والطرائق وأبشعها، وتآمر عليها كلّ العالم، فلم تعرف أيّ ثورة في التاريخ حجم القتل والتآمر والتدمير الذي عرفته الثورة السوريّة التي واجهت أقذر وأعتى نظام عرفته البشريّة الذي استعان بحلفائه الطائفيّين والدوليّين في سبيل بقائه.
بالمنظور القريب، للأسف، فإنّني لست متفائلًا بأن يتغيّر الواقع وتنقلب الموازين لمصلحة الشعب السوريّ وثورته، فحجم الدمار البشريّ والإنسانيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي حلَّ بسورية وأهلها من المستحيل تعويضه في المدى المنظور، وبداية الحلّ تتجسد في رحيل الطاغية وتحرير سورية من حلفائه وأذنابه، وتغيير المعادلة الدوليّة لمصلحة الشعب السوريّ وهذا ما أستبعده أيضًا في المستقبل القريب.
إنّ ما جرى ويجري في سورية شكّل بالتأكيد دافعًا مهمًّا لإنتاج أعمال فنّيّة جديدة، على الرغم من أنّ الإنتاج الفنّيّ بالنسبة إلي لا يكون ردّة فعل ميكانيكية على حدث أو مأساة ما، بل يأتي ردّة فعل مركّبة من الدرجة الثانية، إن صح التعبير، فالعمل الفنّيّ كنصٍّ بصريّ يعكس هموم الواقع ولكن بشكلٍ غير مباشر وتقريريّ أو توثيقيّ، لأنّ هذه وظيفة الصورة الفوتوغرافيّة والفيديو أو التقرير الصحافيّ وليست وظيفة العمل الفنّيّ.
العمل الفنّيّ بحاجة إلى خطوة إضافية للتفكير من أجل إعادة إنتاج واقع جديد وظيفته طرح أسئلة وطرائق رؤية جديدة عن الواقع وتجاهه. فهو يدمج -إلى حدٍّ معين- بين توثيقيّة الصورة وما تراه العين وقصصيّة الحكاية وما يحيكه الخيال، إضافة طبعًا إلى المواد والتقنيّات بوصفها وسائط بصريّة تحتاج إلى معالجة خاصّة في كلّ مرحلة من مراحل الإبداع.
على الرغم من كثافة الإنتاج الفنّيّ منذ بداية الثورة، لا يستطيع الفن مجاراة حجم المأساة وهولها، لأنّ المأساة السوريّة بعمقها وسوداويتها وكثافة أحداثها فاجأت حتّى أبناءها، والعمل الفنّيّ الجيد بوصفه وثيقة تاريخيّة تنظر إلى المستقبل؛ يحتاج إلى وقت أكثر كي يختمر، وما حدث في سورية سيبقى يشغل المبدعين سنوات طويلة مقبلة، وهذا لا ينفي وجود كثير من الفنّانين الّذين استطاعوا أن ينتجوا أعمالًا فنّيّة تواكب الأحداث، وكثير من الفنّانين أيضًا لم يتفاعلوا مع الأحداث بشكلٍ مكثف ومباشر، لكنّنا -ربّما- سنرى ذلك أكثر في نتاجاتهم في المستقبل، لأنّ توقيت عمليّة الإنتاج الفنّيّ مسألة شخصيّة تتفاوت بين فنّان وآخر.
في ظلّ هذا الحجم من الدمار والموت فإنّ كلّ عمليّة إبداعيّة تتجاهل هذه المأساة لا تعد إبداعًا ولا فنًّا، لأنّ القيمة الأساسيّة والأولى للفنّ أن يكون إنسانيًّا. ومن الصحيح طبعًا أنّ الفنّ التشكيليّ، وكافة مجالات الإبداع الأخرى، لا تستطيع تغيير مجرى الأحداث على أرض الواقع، إذ من المستحيل أن تقاوم الريشة البندقية، إلّا أنّها تستطيع لاحقًا أن ترسم ما فعلته البندقية وتبقيه شهادة للأجيال القادمة.
ما دام الهدف الأساسيّ للفنّ أيّ فنّ إنسانيّ -بمعنى خدمة القيم الإنسانيّة العليا كالعدل والحقّ- فإنّ ما أحاول أن أقدّمه من خلال أعمالي الفنّيّة يتماشى مع هذه القيم من منظور شخصيّ، وهو نابع بالتأكيد من تجارب شخصيّة تتقاطع مع الهمّ العامّ، فبالنسبة إلي بصفتي فنّانًا من أبناء الجولان السوريّ المحتلّ أكملت دراستي الأكاديميّة في جامعات الاحتلال الإسرائيليّ، وكان سؤال الهويّة هو السؤال الأوّل الذي شغلني وما يزال يشغلني، وبخاصّة لأنّي ابتعدت جغرافيًّا عن مسقط رأسي، وفكريًّا ونفسيًّا عن مكوّنات هويّتي الأوّليّة.
سؤال الهويّة لدي يتغيّر دائمًا، لأنّ مفهوم الهويّة متحوّل ومتحرك دائمًا أيضًا، ففي أثناء مدة دراستي كنت أعيش بين عالمين متناقضين، بل متصارعين على كلّ الصعد، وكنت أشعر أحيانًا بالاغتراب على الرغم من وجودي الفيزيائيّ في بلدي.
تشغلني مسألة العدل والمساواة في ما يتعلق بالمرأة ومكانتها في مجتمعاتنا التي ما تزال محافظة وبطريركيّة المبنى، وهذا الانشغال يقودني بالطبع إلى التعامل مع الدين بوصفه مركّبًا أساسيًّا لهويّتنا وعاملًا مهمًّا في تركيب ثقافتنا، وانعكاسات هذه الثقافة على مكانة المرأة والرجل على حدٍّ سواء.
على صعيد آخر، كلّ فنّ -في رأيي الشخصيّ- هو سياسيّ يعكس النمط الفكريّ والمستوى الاجتماعيّ والثقافيّ لمنتجه.
لا أؤمن بالفنّ من أجل الجمال والفنّ فقط، لأنّ الطبيعة منحتنا الجمال المطلق. لذلك ليس من الضروري أن تكون الغاية العليا للفنّ هي الجمال إنّما يمكن أن يكون الجمال من مزايا العمل الفنّيّ الذي يهدف أحيانًا إلى التعبير عن واقع صعب سوداويّ وملحميّ كما هو حال الثورة السوريّة التي أثّرت بالطبع في أعمالي وأعمال عدد من الفنّانين السوريّين وغيرهم، حتى أمكننا إدراك نقطة التحوّل للفنّ السوريّ المعاصر ما قبل بدء الثورة وما بعدها، فقبل الثورة كان كثير من الفنّانين السوريّين يعالجون قضايا الفنّ بالفنّ، ولأجل الفنّ، وينشغلون بقضايا التشكيل بهدف التشكيل. إذ كانت لغة الفنّ في أغلبها منطوية على ذاتها تعيش حالة مأزومة من الحداثويّة المستوردة.
أمّا الموضوعات الاجتماعيّة والسياسيّة كان يجري تناولها رمزيًا وبخجل، وهذا بسبب الظروف الأمنيّة التي فرضها وما يزال يفرضها نظام الأسد.
أمّا فنّ ما بعد الثورة فقد كسر حواجز الخوف أيضًا، لا بالمفهوم السياسيّ وحسب، بل على صعيد الوسائط الفنّيّة واللغة التشكيليّة المستخدمة أيضًا. وكما يعرف الجميع، إنّ الشرط الأساسيّ للعمليّة الإبداعيّة هو الحرّيّة، والحرّيّة هدف الثورة الصميم، لذلك ارتبطت العمليّة الإبداعيّة -تصاعديًا- بالحالة الثوريّة، خصوصًا لدى الفنّانين الّذين استطاعوا الخروج من سورية إلى أوروبا وغيرها من بلدان العالم، حيث وجدوا مساحة الحرّيّة الكافية للاستمرار في إبداعهم.
على الصعيد الشخصيّ، كانت أعمالي ما قبل الثورة تتمحور حول مسألة الصراع العربيّ الإسرائيليّ داخل فلسطين المحتلّة، وكلّ مركّبات هذا الصراع كالهويّة والحالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة التي يعيشها العربيّ الفلسطينيّ أو السوريّ في داخل دولة الاحتلال.
أمّا بعد انتقالي إلى العيش في الغربة فالموضوعات التي تشغلني بدأت بالطبع تتغيّر، ونظرتي إلى الموضوعات ذاتها التي تشغلني بدأت تتغيّر أيضًا، لأنّ الواقع تغيّر وبتُّ أرى العالم والأشياء بمنظار آخر، وتزامن اندلاع الثورة السوريّة مع بداية انتقالي إلى العيش في المهجر ولقائي الأوّل مع السوريّين اللاجئين الّذين ما تزال جروحهم مفتوحة وساخنة، فشعرتُ من خلالهم ومعهم بمعنى الانتماء والوطن والخسارة والشتات، ولسخرية الأقدار كان لقائي الأوّل بأخي السوريّ الثائر الحقيقيّ الذي أراد استعادة كرامته بصفته إنسانًا ومواطنًا في المنفى وليس على أرض الوطن.
مع كلّ قساوة المنفى وصعوبة البدايات، إلّا أنني أعتقد أنّ الغربة أعطتني حيزًا من الحرّيّة لإعادة التفكير بذاتي، بهويّتي وإنتاجي الفنّيّ، وبدأت أتطرّق في أعمالي إلى موضوعات جديدة ومغايرة كموضوعات الشتات واللجوء، الحياة والموت، الاقتلاع والدمار. وموضوعات إنسانيّة تتعلق بالعنصريّة اليوميّة الناعمة وغيرها من موضوعات، كموضوع اللغة الذي هو أحد تجلّيات الهويّة الشخصيّة والجمعيّة.
أعتقد أنّ كلّ وسيط فنّيّ قدّم ويُقدّم للثورة بطريقته الخاصّة، فكانت الصورة والفيديو الأسرع والأكثر كثافة وكفاءة في مجاراة أحداث الثورة، توثيقها ونشرها يوميًا. أمّا اللوحة كان عليها أوّلًا أن تجمع المواد الخام وتدخل إلى المحترف مع كلّ ما يحمله منتجها الفنّان من أفكار وهواجس، لكي تحدث عمليّة طبخها وإخراجها إلى العالم بصورة لائقة. كذلك الأمر مع القصّة والرواية والمسرحيّة والفيلم.
في خلال العقد الأوّل من عمر الثورة السوريّة رأينا كثيرًا من الأعمال الفنّيّة الرائعة، الأفلام القصص والروايات، لكنّنا بالتأكيد سنشهد كثيرًا أيضًا من الإنتاجات الفنّيّة السوريّة الرائعة مستقبلًا، ففي النهاية الثورة عمل من أجل المستقبل.
عدي الأتاسي: الثورة أنهت زمن مقصّ الرقيب
كنت وما زلت مؤمنًا بالثورة السوريّة المباركة، حتّى بعد المحاولات الكثيرة لإجهاضها والانقضاض عليها، لا لشيء سوى إيماني بعظمة الشعب السوريّ وقوته الكامنة التي تفجّرت عند أوّل فرصة سانحة لها، ومنذ أوّل شعار رائع لها (الشعب السوريّ ما بنذل، واحد واحد واحد الشعب السوريّ واحد). وسأبقى وفيًا لها على الرغم من هزائمها ومحاولات متسلّقيها الانقضاض عليها أو ركوب موجتها كي ينالوا نصيبهم من عوائدها إن انتصرت. وعبر سيرورتها أسقطت كثيرًا من الأقنعة المزيفة عن وجوه من أرادوا لها أن تكون إسلامويّة مثلًا، وأنّهم حرّاس الإله على مصائر السوريّين.
ما زال الدم طريًّا على جدران ذاكرتي، كلّما أغمضت عيني أراه يسيل بغزارة ليذكرني بأنّي ابن هذا البلد، وبأنّ من واجبي أن أقدّم له ولثورته جلّ ما أملك من وقت وجهد وإبداع ومال. ولأنّ الخراب والدمار والموت العبثيّ الذي خلفه نظام الأسد الفاجر استثاروا براكين الغضب لديّ لتخرج روح الإبداع عبر منافذ شتّى كالرسم والتلوين والشعر والقصّة القصيرة أو الزجل الشعبي، كي أوصل رسالتي أو أؤدي أمانتي تجاه الثورة والبلد.
حقيقة لا أدري إن تمكّن أو لم يتمكّن الفنّ السوريّ من مجاراة المحرقة، لكن هناك كثير من الإبداعات للمحترف السوريّ في هذا المجال، على الرغم من أنني أميل إلى إبداعات أهالي كفرنبل البسيطة والمعبرة بشكلٍ حميمي وعفوي وصادق عن ما كان يختلج في ضميري وضمير كثيرين أمثالي.
قضيّتي بصفتي إنسانًا وفنّانًا هي الإنسان بكلّ أحواله وتقلباته، نجاحاته وإخفاقاته، خوفه وهجسه وقلقه، أسئلته الكونيّة الكبرى، متى وكيف وإلى أين؟ ثوراته وانتصاراته وهزائمه الداخليّة. إضافة إلى وظيفتي حارسًا وفيًّا للجمال والحقّ والحرّيّة والعدالة الإنسانيّة.
ثورتنا السوريّة المباركة أثّرت كثيرًا في إبداعيّ، الأدبيّ منه والتشكيليّ وإن بشكلٍ أقل، لكنّ مأساة السوريّين هي التي أثّرت فيّ بعمق فرأيتني أهبُّ مع بعض الناشطين إلى العمل الميدانيّ في مخيّمات اللجوء السوريّ داخل سورية مثل (أطمة وقاح والكرامة)، لإيصال المساعدات الإنسانيّة والدوائيّة إلى هؤلاء الّذين انقطعت بهم سبل الحياة. ومحاولاتي الكثيرة لإيجاد جوٍ من المرح لدى الأطفال عبر إقامة ورشات عمل فنّيّة، لكنها باءت بالفشل للأسف بسبب سيطرة المتشدّدين الإسلامويّين على تلك المخيّمات ومنعهم لنا من القيام بذلك النشاط. وما السوداويّة إلّا انعكاس لحساسيّة الفنّانين تجاه واقعهم، وكغيري من التشكيليّين السوريّين لم نعد نستطيع رؤية جمال الوردة على قبر الشهيد، بل انعكس ألم الفقد وعذابات المغيّبين في سجون الأسد، والخوف والرعب من آلة القمع الأسديّة المتجسّد على وجوه من عانوها أو الّذين فروا منها للنجاة بأرواحهم حاملين معهم كلّ ذلك القهر والذل والغضب.
أمّا عن منفاي الإرادي في قبرص، فقد خرجت من سورية باكرًا في 1987 بعد تخرجي من كلّيّة الفنون الجميلة، حاملًا معي غضبي وذلي وقهري من الواقع المذل والمقرف آنذاك بعد معايشتي لأحداث الثمانينيات التي تركت في ضميري ندوبًا لم أستطع التخلّص منها إلى الآن، لذلك كنت أوّل من وقف على أبواب سفارة الذل الأسديّة في قبرص حاملًا بيدي لافتة تقول في حينها (قبل أن تتطوّر الأمور إلى المطالبة بإسقاط النظام) “بيضوا السجون”، “ألغوا المادّة الثامنة”، “أفرجوا عن معتقلي الرأي”، “ألغوا فروع الأمن والاستخبارات”.. إلخ.
أستطيع القول إنّ هذا البلد قد أمّنَ لي الاستقرار الماديّ والنفسيّ فأتاح لي الحرّيّة في التعبير عمّا يجول في خاطري من دون الرجوع إلى مقصّ الرقيب أو رجل المخابرات الذي كان حارسًا على أفكاري حين كنت في سورية، وتمكّنت من السفر إلى بلدان كثيرة مثل رومانيا وألمانيا وإسبانيا والمجر وتركيا، لإقامة المعارض وبيع اللوحات وتحويل أثمانها لدعم العمل الإغاثيّ في داخل سورية وخارجها.
ربّما قدّمت مثل أيّ فنّان تشكيليّ غير مرتبط بمافيات السوق والشللية والمرجعيّات المادّيّة التي تفرض على الفنّان ما يقول أو ما لا يقول، أقول ربّما قدّمت لكنّي لم أقدّم ما يكفي وما زال الطريق أمامي طويلًا ومعبدًا بأشواك وألغام كثيرة عليّ أن أتفاداها كي لا أقع في محظور ما يطلبه السوق أو المباشرة الفجّة التي تقتل روح العمل الفنّيّ وتنقله إلى مرحلة أدنى إبداعيًّا.
دارين أحمد: لسورية حضور أعمق في التاريخ والمستقبل من هذه العقود المظلمة
الثورة فعلٌ مستمرٌّ يبدأ من العقل والفكر الذي ينتجه، ويجب أن يرافق كلّ تبدلٍ لها على أرض الواقع ليحميه من السقوط في فخ التحوّل إلى أداة للوصول إلى السلطة. فحالَ تحوّل الفعل الثوريّ على الأرض إلى أداة للوصول إلى السلطة فقط يسقط عنه معنى الثورة في رأيي، ليصبح شريك الأنظمة التي يثور عليها في قهر المظلومين والفقراء، وخلق مظلومين وفقراء جدد.
ولأنّ للثورة تفرعات وتشعبات عدّة، ولأنّ كلّ نظام استبداديّ سمّى وصوله إلى السلطة (ثورة)، لا بدّ أن يكون الفكر الذي تدور الثورة المعنيّة في فلكه واضحًا أشدّ الوضوح في تسمياته وأهدافه وبياناته، وهذا ما أراه غائبًا عن ثورات الربيع العربيّ، ومنها الثورة السوريّة، ولذلك فإنّ علاقتي بهذه الموجة من الثورة منقطعة منذ سنوات، من دون أن يقود ذلك إلى إغفال العلاقة بين الاستبداد العسكريّ في هذه الدول وكيف سيَّر الأحداث، في الماضي البعيد والقريب وفي الحاضر، والمآل الذي آلت إليها الثورة.
ومن دون إغفال دور دول العالم الأوّل ومصالحها وصراعاتها. يضاف إلى كلّ ما سبق أنّ العالم يتغيّر بشكلٍ دراماتيكيّ، وكأنّنا على حافة نقلة نوعيّة عالميّة لا يمكن أن تصلح معها مفردات مطاطة ومفهومات مواربة تنتمي إلى ماضٍ لم يكن يصلح في العقد الماضي فما بالك الآن.
كلّ ذلك لا يقود إلى نفي الثورة بل تأصيلها في الواقع، والعمل على تحقيق كلّ ما يمكن أن يفضي إلى نجاح المظلومين في تحصيل جزء من حقوقهم وحرّيّاتهم عبر تأصيل واجباتهم تجاه هذه الحقوق. وهذه نقطة جوهريّة في كلّ فعل مجتمعيّ وسياسيّ، إذ لا يمكن أن تحصل على حقّ ما لم تقم بواجبك.
على الثقافة العمل على إعادة الاعتبار إلى مفهوم الواجب ونقله من حيّز التكرار والتلقين والآليّة، أي الاستعباد، الذي اعتادت أنظمتنا وأدياننا ومجتمعاتنا حصرنا فيه، إلى رحاب الإبداع والحب. مثلًا من واجب المرء الذي يسعى إلى الحصول على حقّه في الحرّيّة، أن يصون حرّيّة الآخر المختلف عنه. أي إنّنا يجب أن نعمل معًا ضمن نطاق اختلافاتنا لإيجاد ما يبقي هذه الاختلافات حيّة وفاعلة ومتدفّقة من دون أذيّة أحد، وهذا ما يحقّقه -إلى حدٍّ ما- نظام الحكم العلمانيّ الذي نُفي نفيًا تامًّا من خطاب ثورات الربيع العربيّ.
ما حدث في سورية، في العقد الذي انقضى للتو، من دمار روحيّ ونفسيّ وماديّ وفكريّ هائل إلى درجة لا يمكن معها إلّا كبته حتّى يتمكّن المرء (الناجي) من العيش، ومن ثمّ العمل على تحرير هذا الكبت بالتدريج عن طريق الفنّ بالنسبة إلى الفنّان. وعلى الرغم من احتفالي بالانفعال وأهمّيّته في بناء العمل الفنّيّ أو الأدبيّ إلّا أنني لا أغفل عن الهوة الواسعة بين الحدث ذاته ونقله إلى حيّز الفنّ. اللوحة أو الكتابة تحتاج إلى التأني والتفكير، وهو ما سيصفي الانفعال الأوّليّ من واقعيّته المادّيّة ناقلًا إياه إلى واقعيّة أخرى، وعادةً تأتي الأعمال الفنّيّة المهمّة المكافئة لصدقية الواقع الماديّ الذي تتناوله في زمنٍ لاحقٍ، بعد تمكّن الفنّان من أدواته الفنّيّة والأدبيّة والانفعاليّة الملائمة لنقل الحدث المعنيّ.
لقد رسمت أوّل لوحة لي عن غرق مراكب السوريّين في رحلتهم إلى الأرض الآمنة، وبعدها كان لا بدّ لي من مسافة من الواقع لاتزاني النفسيّ من جهة، ولرغبتي في المساهمة الواعية في طرح وجهة نظري بعيدًا من سجن الضحية الذي سُجن فيه كثير من الفنّانين والكتّاب السوريّين، وهو السجن ذاته الذي ميَّع فجائعيّة الحدث السوريّ وحوّلها إلى سلعة في السوق الفنّيّ، وإلى إطار لصورة الفرد السوريّ أيًّا كان الحقل الذي يعمل فيه، لذلك صرنا نشاهد عددًا من المقابلات والبرامج التي توصِّف الفرد السوريّ بـ(اللاجئ السوريّ) قبل توصيفه بالفنّان أو الكاتب.. إلخ.
لقد كانت الفجائعيّة موجودة في أعمال فنّانين سوريّين ملهمين مثل لؤي كيالي، فهي أحد أعمدة الفنّ عندما يتناول الإنسان وحضوره في العالم، لكنّها بالتأكيد تضخّمت في العقد الأخير وتحوّلت إلى فيضان سيطبع الفنّ السوريّ بطابعه عقودًا مقبلة من دون أن يتمكّن فنّان بعينه من استيعابها.
أثّرت تجربة اللجوء فيّ بالتأكيد، ولكن من موقع نفي، فأنا لست لاجئة ولم أعاني ما عاناه كثير من السوريّين، وقد خرجت من سورية مع زوجي وابنتي اللتين تحملان الجنسية الألمانية فقط –إذ لا تمنح المرأة السوريّة جنسيّتها لأطفالها– بسبب الحرب وإغلاق السفارات الأجنبيّة في البلاد.
موقع النفي الذي أقصده نابع أساسًا من ذاتي لأنّني لا أستطيع الحديث عن معاناة اللجوء وكأنّني داخلها ففي هذا اعتداء على آلام لم أعشها، يضاف إلى ذلك ما ذكرته سابقًا عن حصر السوريّ في خانة اللاجئ وكأنّها مكانه الوحيد، وأذكر هنا أنّه في أحد المعارض التي شاركت فيها لم أقبل بإلحاح المتحدّثة في المعرض للحديث عن إحدى لوحاتي على أنّها تمثّل اللجوء السوريّ على الرغم من أنني أوضحت أنّها ليست كذلك.
مشروعي الفنّيّ هو في جانب منه مشروع فكريّ شواشيّ، شواش أساليب وموضوعات، إلا أنّه محكوم بقوانين وعلاقات واضحة في مخيّلتي، وهي علاقات متراكبة يصعب شرحها منفصلة، إلّا أنّ هذا لا يمنع المتلقّي من تشكيل فهمه الخاصّ لكلّ مجموعة محدّدة من اللوحات على حدة. من هذه القوانين الجامعة لمشروعي الفنّيّ الثورة ذاتها، فهذا زمن يحتاج منّا إلى عقل مختلف، خلاق، متعدّد، ومعقّد، لا يركن إلى السهل الآلي (الكليشيه) الذي يقبض على حياتنا في كلّ المجالات: الفكر، الدين، السياسة، الأدب، الحياة.. إلخ، ومنها أيضًا التعقيد الذي يرتبط بالجهل السقراطيّ ويقود إلى التواضع في فكرة الإنسان عن موقعه في الكون، ومن ثم كسر العقائديّة في مختلف المجالات. وعلى الرغم من أنّ تلك القوانين تعارضت مع الجانب الفنّيّ الجماليّ من اللوحة إلّا أنني رأيت في هذا التعارض مكسبًا إضافيًّا لتجربتي ذاتها.
لقد أتيت إلى عالم الفنّ التشكيليّ من عالم الشعر والفكر الذي يقوم على اللغة، اللغة التي تجمعني معها علاقة شدّ وجذب، فبقدر عشقي للكلمة وما تنطوي عليه من إمكانات عبقريّة في خلق طبقات متعدّدة من الفهم، كان كرهي للـسجن الذي يمكن أن تحبس العقلَ والخيالَ فيه، وتأسر مجموعة بشريّة بعيدًا عن مجموعة أخرى.
اللغة البصريّة أقدر على تجاوز هذا الأسر -على الرغم من أنّها أقلّ قدرة من عبقريّة الكلمة- ولذلك فهي أقدر على نقل المأساة السوريّة إلى العالم إن جرى التعامل معها بذكاء وصدق، وأقدر على نقل الإبداع السوريّ في الماضي والحاضر أيضًا، فسورية -وإن كانت تعيش واقعًا مأساويًّا الآن- لها حضور أعمق في التاريخ والمستقبل من هذه العقود المظلمة.
أسعد فرزات: وجوهنا الشاهدة الشهيدة
يفترض أنّ يكون كلّ من يحمل تفكيرًا سليمًا تجاه مفهومي الحرّيّة والكرامة مؤمنًا بالثورة التي نادت بأهمّ مقوّمات الحياة والشعور بالإنسانيّة.
ثورة نادت بإزاحة أسوأ نظام مجرم وجدَ في التاريخ، نظامٌ عمل على مدى خمسين عامًا على التنكيل بشعبه وسلبه حرّيّته وكرامته، وبخاصّة من عايش حقبة الأب وكان شاهدًا على الجرائم التي ارتكبها في حقّ أهالي حماة وحلب وجسر الشغور، وتبعها الابن بجرائمه في بقية المدن من قتل وتدمير وتهجير كما حصل في بداية 2011 وحتّى الآن.
نحن جيل عايشنا وحشيّة المجرمين درجة أنّنا كنّا نقرأ الكتب الممنوعة، وبخاصّة أدب السجون بما فيها رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف وغيره بسريّة تامّة، لأنّ قراءتها كانت جريمة لا تغتفر وقد تودي بصاحبها إلى المجهول. كنّا جيلًا محاطًا بمخبرين تقاريرهم لا مجال لمناقشة المحقق فيها.
كنّا شهود عيان لأصدقاء لنا اختطفتهم خفافيش الظلام وزجّت بهم في معتقلات النظام التي تجاوزت 55 معتقلًا، وتلت ذلك مرحلة الابن التي واصل الخفافيش فيها الاعتقالات والاعتداء بالضرب المميت لرسّامين ومثقّفين نادوا بالحرّيّة.
كلّ هذا الخراب والقتل المجّانيّ أمام عيون العالم المتفرّج للأسف، يُولّد أدبًا وفنًّا ممزوجًا بقهرٍ ودمٍ طازج لا يجف أبدًا قد يكون أحيانًا فنًّا يتّسم بصفة المباشرة، وأنا أعذر أصحابه في حالتنا الخاصّة في المحرقة السوريّة التي لم يحصل مثيل لها على مدى تاريخ البشريّة، أعذرهم حتّى لو كان العمل غير مكتمل الشروط لدى بعضهم لأنّ العاطفة تكون ممتلئة تجاه الحدث. سأكون صريحًا وأنا أتحدّث عمّا جرى من مآسٍ متتالية، ربّما في كلّ دقيقة في المحرقة كانت العدسة هي الأصدق في نقل الواقع المر، كانت هي الأصدق في تصوير البرميل الآتي من السماء باتجاه رؤوس الأحياء. أمّا مسألة أن تلخص كلّ ما جرى في لوحة فهذا يحتاج إلى زمنٍ وإلى تفكير ذهني خاصّ.
الأعمال التي صفعتنا وأدهشتنا لفنّانين رسموا عن الحرب وعن محارق حصلت احتاجت إلى وقت، كأعمال الفنّان السوريّ الراحل لؤي كيالي عن نكسة حزيران/ يونيو 1967. وكذلك أعمال الفرنسيّ (غويا ديلاكروا)، والنرويجيّ (إدفارد مونك) صاحب (الصرخة)، والإسبانيّ (بابلو بيكاسو)، ولو عدنا إلى ما فعله الأخير في لوحته (الغورنيكا) مثلًا، لوجدنا عددًا كبيرًا من المخطوطات قبل أن تتحوّل وتصبح بهذا الشكل المعروف لها.
الفنّ والحرّيّة فعلان متلازمان لأنّ الفنّ مرتبط بالحرّيّة، وكثير من الفنّانين السوريّين -بمن فيهم أنا- بدت في نتاجهم تحوّلات كبيرة بسبب ما رصدناه من إفرازات هذه المأساة سواء في مستوى الطرح التقنيّ أم الفكريّ.
في بداية 2010 بدأت بتجربة اخترت في وقتها الألوان الداكنة، وكان إحساسي يترقب شيئًا ما أدركته لاحقًا.. ألوان داكنة صبغت بها وجوه شخوصي، لكن تلك الوجوه التي بدأت بها تحوّلت في ما بعد 2011 إلى منحى آخر حيث أصبحت الوجوه أكثر غربة وقسوة، وجوه قد نتلمس قليلًا من ملامحها بسبب الصقيع الذي مرّ عليها، وجوه نالت نصيبها من التعذيب، وجوه مرّت عليها شظية بسرعة البرق ونهشت جزءًا منها، وجوه ابتلعها البحر ثمّ طافت على السطح لتكون شاهدةً على المأساة وهكذا.
إنّ ما حملته معي في غربتي، وهو قسم من أعمال تلك المرحلة في بدايتها قبل أن تتحوّل، أرسلته إلى صالة في عمّان وأخفيت بعد ذلك بسبب خلاف مع صاحبة صالة العرض، والقسم الآخر حملته معي إلى أوروبا وتابعت العمل عليه في بلد لا يعرف سوى أنّني لاجئ نجوت من المحرقة السوريّة، لكنّ تصميمي وإصراري ومتابعتي العمل على موضوعة (الوجوه) التي لم أخنها أو أتركها جانبًا لاقت صدىً لدى المهتمّين والمثقّفين الغربيّين، ما يعني أنّي استطعت أن أقدّم رسالتي عن ما جرى ويجري في سورية. وكان أن قمتُ بمعرضين مهمّين أحدهما تبنّته مؤسسة (إي إف للتعليم (EF Education المهتمّة بحوار الحضارات، والثاني احتضنته صالة (Art 333) التي تعد من الصالات المهمّة أيضًا، باعتبار التجربة تحمل مضمونًا فنّيًّا مختلفًا إضافة إلى الموضوع الإنسانيّ.
ولاء دكاك: لا يهمّني أن ينجو الفنّ وتدمّر سورية
لا أستطيع أن أعطي إجابة منتهية لسؤالكم: (أما زلت تؤمن بوصفك فنّانًا بهذه الثورة النبيلة التي يدفع ثمنها المظلومون؟)، ولكن يمكن أن أُجزّئ الجواب إلى أقسام. أوّلًا، بصفتي إنسان أنا معني ببناء مجتمع أفضل، وأؤمن بضرورة مقاومة كلّ فعل سياسيّ أو اجتماعيّ أو ثقافيّ يُستغل فيه الإنسان وينتقص من كرامته. وبقائي في هذا المنهج مرتبط باستمرار اهتمامي بالشأن العامّ. ومن هنا فإنّي أسعى إلى ملاقاة أشخاص لهم الاهتمام نفسه، والمشاركة في أيّ فعل يُحسن ظروف حرّيّة الإنسان وكرامته.
من جهة ثانية، أنا أؤمن بمشروعيّة الثورة السوريّة، للتخلّص من نظام دكتاتوريّ بدائيّ، والأهمّ لبناء مجتمع ديمقراطيّ متعدّد سياسيًا، بكون النظام الديمقراطيّ هو حتى الآن النظام الأقلّ استغلالًا مباشرًا للإنسان.
ثالثًا، شابَ مسار الثورة كثير من التعقيدات الداخليّة والخارجيّة، وذلك لأنّ أهداف المنتفضين ليست واحدة، وهو ما لم يُنتج رؤية جامعة لمستقبل البلد. قاد ذلك إلى استغلال داخليّ وخارجيّ بحسب المصالح والتوجّهات، وأدى في النهاية إلى نشوب حرب أهليّة. لقد توحد الجميع على شعار (إسقاط النظام)، واختلفوا على بناء مستقبل سورية، حتّى أنّ بعضهم لم يفكر أصلًا بهذا المستقبل.
رابعًا، برأيي لم يظهر أيّ مشروع جدّيّ للتغيير يتحمل المسؤوليّة وذي استقلاليّة، لذلك أصبح الخارج يطرح إستراتيجيّاته ويموّل ويقرّر.
خامسًا، أرى أنّ الثورة هي عمل جماعيّ، إذا نظرنا الآن على صعيد النتائج فهي كارثيّة بكلّ معنى الكلمة.
أمّا على صعيدي الشخصيّ فالثورة ضدّ الظلم مستمرّة أينما وجدت، فقدرنا أن نستمرّ في الرفض حتّى نصل إلى مجتمع أفضل.
بالنسبة إلي مشروع الفنّان هو مشروع شخصيّ طويل الأمد، يدخل في أهوائه وآلامه وغرائزه. بالتأكيد الفنّان بوصفه إنسانًا يتأثّر بالحدث الخارجيّ، ولكن يبقى الهمّ الذاتيّ الداخليّ ذا تأثير أكبر. وكلّما طغى تأثير الخارج على مشروعه الفنّيّ كان تأثير الخصوصيّة الذاتيّة أقل. يقودنا هذا برأيي إلى أنّ دور الفنّان في الثورة غير مرتبط بالضرورة بفنّه، فتعبيره عن الرفض يشبه تعبير أيّ إنسان آخر.
وتأتي قيمة التأثير للفنّ من الرسالة غير المباشرة للفنّان وأمكنة طرحها.
يبقى الدمار أكثر قسوةً وألمًا من أيّ عمل فني، ولكن يبقى للفن أيضًا تأثير كبير عند كثيرين لأنّه يجعل المتلقّي يتعاطى بموضوعيّة مع رسالة الفنّان، ويلامس الناس بحساسيّته وجماليّته أكثر من الخطاب السياسيّ.
جوابًا عن سؤالكم: “هل يستطيع الفنّ أن ينجو من كلّ هذا الدمار والموت؟”أقول:إنّالفنّ بوصفه مفهومًا وإنتاجًا ينجو بالتأكيد، والتاريخ أثبت لنا ذلك. لكن بالنسبة إلي لا يهمّني أن ينجو الفنّ وتدمّر سورية.
إنّ قضيّتي ورسالتي مرتبطة بإنسانيّتي لا بمهنتي. يمكن لهذه القضيّة أن تتقاطع مع جزءٍ من أعمالي، ولكن ليس بالضرورة أن يكون لكلّ فنّان قضيّة، وليس بالضرورة أن يكون الفنّ مرتبطًا بقضايا عامّة. الفنّ مشروع ذاتي قبل كلّ شيء.
لم تؤثّر الثورة في أعمالي من حيث الموضوع أو التجارب الفنّيّة التي أنجزها، فالألم موجود قبل الثورة. والموضوعات الفنّيّة التي أعمل عليها (الانتظار، والاستقرار الهش، والبارانويا، والمراقبة) بدأتها قبل الثورة وما زلت. ولكنّ الثورة أثّرت في مسألة انتشار الأعمال الفنّيّة. في الواقع، أصبحت القضيّة السوريّة وما يتعلق بها من فنون وثقافة موضوع اهتمام كثير من الهيئات الثقافيّة والدوليّة العالميّة. وأصبح هناك تعاطف عام مع الفنّانين السوريّين وقضيّتهم، فأقيمت كثير من المعارض والمزادات لـ (فنّاني الثورة) إضافة إلى المنح والإقامات الفنّيّة.
لقد وصلت إلى فرنسا في 2004، وأتمّمت دراستي للماجستير في 2010 أي قبل بدء الثورة. تعلمت هنا في فرنسا كثيرًا عن طريقة التفكير في العمل الفنّيّ وإمكانيّة تجسيده في أعمال فنّيّة، إضافة إلى متابعتي المعارض والمتاحف التي طوّرت ذائقتي ونوّعتها، وجعلتني أتعرف إلى أشكال متنوّعة من الإنتاج الفني.
ضمن المفهوم الثوري، أعتقد أنّ الفنّ عمومًا -والسوريّ خصوصًا- ليس له التأثير الكبير في بناء غدٍ أفضل. لكن بالمفهوم العامّ، الفنّ هو ضرورة وانشغال إيجابي بحياة الإنسان. وبالنسبة إلي أنا شخصيًا الفنّ هو أساس لاستمرار وجودي.
محمود شيخاني: خطاب بصريّ ثوريّ يقطع مع الماضي
بصفتي إنسانًا وفنّانًا منسجمًا مع نفسه، أستطيع القول: إنّني وقفت بدهيًا مع الثورة، فهي فكرة تطمح إلى التغيير نحو الأحسن على الرغم مما أصبحت عليه الآن، بعد سرقتها وتغيير وجهتها من داخلها، ومحاربتها من مدّعي (صداقتها)، ومن أعدائها.
أمّا التعبير عنها بالفنّ فذلك (يتأخر) زمنيًّا، ويختلف في شكله وأدوات طرحه، ويعبّر عن الحدث (الثورة) بوصفها فكرة، لا وصفًا أو طرحًا إنشائيًا أو مباشرًا .
نضجت لديّ فكرة التعبير، عن ذلك بعد مدة زمنيّة، ليست قليلة، وبوسيلة مختلفة عن (اللوحة الزيتيّة) وهي (الديجيتال)، وذلك لأسباب عدة، منها تعفيش (سرقة) مرسمي وأدواتي، وإن كانت بالطريقة نفسها؛ التجسيد في صورة أو رسم.
أستطيع التكلم هنا عن عملين، الأوّل اسميته: (صورة ذاتيّة) (سيلڤي)، وهو حذاء يرتدي ثيابًا أنيقة، واللوحة تعبّر عن الإنسان السوريّ عمومًا، وعن ذاتي في بلدي ووطني في ظلّ احتقار إنسانيّة الإنسان لعشرات السنين.
أمّا العمل الثاني، ففيه رؤيتي لبلدي بشكلٍ رمزي – سريالي، فيه الفنّ والجمال والإنسان البريء، وبداية الدمار والخراب واستمرارهما، بوساطة الآلة العسكرية المتوحّشة (الفيل)، وتدمير الحاضر والتاريخ (الأبنية المهدمة وتمثال زنوبيا)، أي: البشر والحجر، تحت أنظار العالم، وبشكلٍ مستمرّ على مدار الساعة، وكأن ما يحصل سيرك مجنون.
بعد خروجي من سورية ولجوئي إلى ألمانيا، نفذت عملًا بالطريقة نفسها (الديجيتال)، وفيه مقارنة بين بلدي المدمّر، وبلد اللجوء الذي يحترم الإنسان والفنّ والجمال (صور غوته، وبيتهوفن، واللوحات في المتاحف).
أمّا الأعمال الزيتيّة، فكلّ أعمالي في سورية سُرقت من مرسمي الذي أحرقوه بعد السرقة، وكان في مركز مدينة حمص.
بعد اللجوء، أقمت معرضين لأعمالي الجديدة في برلين، والآن أجهز لمعرض جديد.
لقد استطعت العودة إلى الرسم في برلين، بخبرة وحياة جديدة وبدأت بتطوير تجربتي الفنّيّة بشكل منطقيّ وحديث.
التفكير بالتطوير، هو بحدِّ ذاته ثورة على الأسلوب وطريقة الحياة والتفكير القديمة التي تعودناها قسريًّا. وأعتقد أنّ الثورة، والتجديد والتطوير، لا يتعارضان، إن لم نقل إنّهما يسيران مع بعضهما، ويمكن تعميم ذلك على كلّ مناحي الحياة.
عتاب حريب: بالألوان نحمي أرواحنا من الدم والدمار
بعد عشر سنوات على انطلاق الثورة السوريّة ما زلت مؤمنة أكثر بأهدافها، وهي في المقدّمة منها: التغيير والمساواة والعدالة الاجتماعيّة والحرّيّات والعيش الكريم.
الذي جرى في سورية دفعني إلى البكاء المرّ وملأني بالحزن الشديد، ولا وقت حين يكون الدم حارًا ومسفوحًا على الأرض لأن يحمل الفنّان الريشة ويرسم، لأنّه -في وقتها- يكون من شدّة الصدمة ساعيًا إلى لملمة جسده وعواطفه ليقوم بالمساعدة والعمل على الإغاثة، فالأولوية حينها للعمل والكتابة.
أمّا الآن، بعد مضي عشر سنوات على ثورتنا، أستطيع أن أحكي عن الحدث باللون والتعبير، كما فعلت بعد مجزرة الكيمياوي في الغوطة، حيث انتظرت حتّى مرور زمن كافٍ للملمة الجراح ومسح الدمع، فعملت هنا -في أميركا- من خلال معرض للتبرع لمصلحة القضيّة السوريّة وأطفال بلدي.
الفنّ يأتي بعد المعركة، بعد هدوء صوت الرصاص وشفاء الجرح وانكفاء الدخان من البراميل المتفجرة، في حينها تنبت نباتات وأزهار بريّة تبشّر بأنّ الحياة مستمرّة على الرغم من الدمار.
لست مصورة معارك أو مشاهد أو متفرّجة لم أستطع أن أعبّر وأنا في داخل المشهد كالذي يأخذ لقطة سيلڤي والمعركة خلفي.
كثيرٌ من الفنّانين يعتمدون على الصور الآنيّة ومن مشاهدات الميديا أو صور فوتوغرافيّة، ولكنّها ليست إضافة ذات قيمة في رأيي. حتى الآن أرسم أحيانًا أزهارًا ملوّنة وبيوتًا وشبابيك في مدن هجرها أهلها، ووجوه نساء في ساعات الصفاء لأحمي روحي من الدم والدمار، ولكنّها تخرج مدماة في كثير من الأحيان، وموجعة وحزينة أكثر من ألف كلمة أو مشهد واقعيّ فيه محاكاة للدم والجرح والدمار.
لقد اعتمدت في مشواري الطويل مع الرسم على عواطفي المتدفّقة حيال المكان، والمشهد الذي أراه من خلال الضوء الذي يتغيّر مع السفر وتغيير الأمكنة والترحال والفقدان بات أحيانًا شاحبًا وأحيانًا أخرى صادمًا. أغرف دومًا من خيالي ووجداني الذي هو مخزون بصريّ كبير من حكايات جدتي وطفولتي ومراتع أحلامي، وقصص الحزن والفرح والدمع المحبوس في عيون نساء بلادي وأطفالها.
الطريق طويل والحياة قصيرة لنشهد المقطع الأخير بحلةٍ جديدةٍ من أجيال وفنّانين رسموا المشهد السوريّ بجدارة وصدق وحب. أتمنى أن أعيش لأرى تلك اللحظة.
خالد ضوا: الفنّ السوريّ أحد الناجين من المحرقة الأسديّة
من المؤكّد أنني ما زلت أؤمن بهذه الثورة، وأؤمن بأنّنا من عشر سنوات خرجنا حاملين أحلامنا وأرواحنا في وجه أشرس نظام على وجه الأرض.
وأؤمن بأنّ هناك آلاف الشابّات والشباب الّذين ضحوا بأرواحهم ومستقبلهم أملًا بسورية أفضل. وأؤمن بأنّ هناك مئات آلاف من المعتقلين والمعتقلات والمغيّبين والمغيّبات في أقبية المخابرات.
الثورةُ فعلٌ تراكمي يتطلب كثيرًا من العمل والنضال والأمل، قد أكون ساذجًا بعض الشيء، ولكنّي أؤمن بأنّ الزمن والمستقبل سيكون لمصلحة الثورة السوريّة، ومصلحة الأجيال القادمة. وهناك مقولة للشهيد رائد الفارس -أحد مبتكري لافتات كفرنبل- تقول: إنّ “الثورة فكرة والفكرة ما بيقتلها سلاح”.
لقد خسرنا كثيرًا ووصلنا اليوم إلى وضع محزن جدًا: شهداء، مهجّرين، مشرّدين.. إلخ. ولكن لم يكن كلّ هذا خيارنا، لقد بدأناها ثورة سلميّة غير أنّ النظام اختار الحرب.
أؤمن بأنّ الثورة حقّ والتغيير حقّ. عندما بدأت الثورة شاركت فيها بصفتي مواطنًا سوريًّا، شخص يحلم بالتغيير مثلي مثل أيّ شخص آخر، لم أنظر إلى الثورة من موقعي بصفتي فنّانًا، كنت أفكر ماذا أستطيع أن أقدّم وأضيف كفنّان، وللتوضيح أنا منذ مشروع تخرجي كنت أعمل على موضوع (الانتظار)، ولكن اليوم الذي بدأت به الثورة وخصوصًا بعد مشاركتي في التظاهرات الشعبيّة السلميّة انعكس على عملي الفنّيّ، إذ أصبحت الأعمال متحرّرة وغير منتظرة، وكان عمل (أحرار المرسم) إعلانًا بأن حتّى التماثيل قرّرت المشاركة في التظاهر.
بالنسبة إلي لم تكن الثورة منفصلة عن عملي. حاولت بقدر الإمكان المشاركة بشيء إضافي ومختلف.
أنا متأكد بأنّ المحرقة الأسديّة انعكست على أدق تفاصيل حياتنا، ومن المؤكّد بأنّ هذا انعكس أيضًا على الفنّانين ونتاجهم الفنّيّ وهو أمر طبيعي، الفنّان يتأثّر ويعبّر عن المحيط الذي يعيش فيه. لكنّ الفنّ السوريّ هو أحد الناجين من هذه المحرقة لأنّه استطاع أن يطوّر نفسه ويكسر القيود وينطلق في أنحاء العالم محاولًا سرد ما حدث، ولا ننسى الصعوبات التي ترافق الفنّان وهنا أتكلم عن الفنّانين الّذين غادروا البلاد، كلّ فنّان لسببه الشخصيّ، فهناك صعوبات مرتبطة في البدء من الصفر، اللغة، المرسم، صالات العرض.. إلخ.
ولكن مع كلّ هذا أرى أنّ الفنّ السوريّ هو أحد الرهانات التي أؤمن بها.
قضيّتي هي مثل حلم كلّ السوريّين اليوم (العدالة)، ومحاكمة مجرمي الحرب، وفي مقدّمتهم رأس النظام السوريّ وأركانه.
أعمالي هي انعكاس لكيفية رؤيتي الواقع، إسقاط الضوء على بعض المشكلات، ومحاولة مشاركة بعض الأفكار التي أعتقد أنّها تهمّ عددًا لا بأس به من الناس.
من وقت إلى آخر أحاول أن أجد موضوعًا وأعمل عليه كمشروع (مضغوط) الذي كان يحاكي حالة السجن بسبب الأعداد الهائلة للمعتقلين وتجمع مئات في مساحات صغيرة في سجون النظام. وهناك المضغوطين من تأثيرات الحياة، وهنا حاولت الجمع بين المضغوطين.
والمشروع الثاني هو (انهض)، وهو فعل أمر أطلب به بالتحرك وعدم الاكتفاء بالنظر والمراقبة.
سترى بعض السوداويّة في الأعمال أو في أغلب الأعمال ولكن هذا هو الواقع، لا أستطيع أن أكون مخادعًا وافترض شيئًا غير موجود، الصورة الآن حزينة ويجب التكلم والتعبير عنها. وسنرى بعد مرحلة من الزمن أنّ الفنّ السوريّ سيتحّرر من هذا المشهد السوداويّ، ولكن الآن أرى الأمر عاديًا، هناك كارثة في مستوى بلد بأكمله، لا نستطيع إلّا التأثّر، ومن واجبنا التأثّر ونقل الحقيقة بصدق وأمانة.
أمّا من ناحية كيف انعكس اللجوء على العمل الفنّيّ؟ أستطيع القول: إنّ له انعكاسًا كبير. إنّ تجربة اللجوء وفكرة أنّك تكبر بعيدًا عن أهلك ووطنك، هي تجربة من الصعب التكلم عنها في بضع كلمات. في مشروع (مضغوط) الذي بدأت العمل عليه بعد وصولي إلى فرنسا، نجد بعض الأعمال مثل (أنا الغريب) أو (يكسرني الغياب)، ولكن من ناحية أخرى هناك موضوعات عامّة منها سياسيّ، ومنها اجتماعيّ، أحاول العمل عليها وتطويرها. وهنا لا بدّ من بيان أنّ تجربة وجودي في فرنسا كان لها انعكاس على عملي، فمن الناحية الإيجابيّة استطعت أن اُطوّر تقنيّاتي الفنّيّة التي ساهمت في مساعدتي على فهم المادّة أكثر، وخلقت لي مساحة أوسع للتفكير. ولا ننسى مساحة الحرّيّة التي هي النقطة الأهمّ بالنسبة إلى أيّ حالة إبداعيّة.
لا أستطيع القول إنّ وجودي في فرنسا لم يضف شيئًا إلى علاقتي بالنحت، ولكنّ المحرّك الأوّل لكلّ مشاعري تجاه العمل هو الثورة السوريّة.
أرى أنّ اللوحة أو العمل الفنّيّ كان إلى جانب الثورة. وهناك كثير من الجهد لأرشفة هذا النتاج الفنّيّ، موقع (الذاكرة الإبداعيّة للثورة السوريّة) مثلًا.
قد يكون المشهد ضبابيًّا الآن، ولكن هناك كثير من الشباب والشابّات الّذين يعملون بصدق وأمانة، وعليه قد ننجح في مكان ما وقد نفشل في مكان آخر، ولكن نحن نحاول على الأقلّ. وأرى أنّ الثقافة في جميع تفرعاتها، ومنها الفنّيّة هي أحد دعامات بناء المجتمعات القويّة والمتحرّرة.
في النهاية، المسؤوليّة على الفنّانين السوريّين، وهي مسؤولية كبيرة من جهة حفظ الذاكرة السوريّة، ومن جهة أخرى الدور التوعوي للفنّ، وعلينا أن نرى الأمل مع كلّ قصّة نجاح نسمع بها.