أولًا- مقدمة
شهدت لوحة الصراع على سورية تغييرات كبرى، استنادًا إلى ما آلت إليه الأوضاع العسكرية والسياسية والاقتصادية والمعيشية… الخ، فقد انتصرت القوى المساندة للنظام عسكريًا، ولكن حاضنته خسرت عشرات آلاف الشباب في معارك عبثية لا لزوم لها، وتدهورت أوضاعهم المعيشية، وضوعفت معاناتهم اليومية، وهم يجاهدون في سبيل تأمين أبسط متطلبات الحياة اليومية، ليس بسبب ندرة توفرها فحسب، بل لارتفاع أسعارها مع انهيار قيمة العملة المحلية، في وقتٍ تشتد فيه عمليات النهب والفساد وتزدهر عمليات الخطف والسلب. وفي المقابل، خسرت الحاضنة الشعبية المؤيدة للثورة مئات الآلاف من أبنائها، قتلًا في السجون، أو في المعارك الحربية، أو نتيجة القصف الحربي، وانتهى بهم الأمر إمّا إلى مخيّمات أقاموها تحت أشجار الزيتون أو في العراء المطلق في شمال غرب سورية، أو إلى مخيّمات بائسة تفتقر إلى أدنى متطلبات الحياة الإنسانية، في بعض البلدان (الشقيقة)، وسط مناخات سياسية-نفسية مشحونة بالتعصّب والعنصرية والعزل والتضييق عليهم. فيما توزع الآخرون على بلدان القارات الخمس، يكابدون آلام الغربة وصعوبات التكيف، على الرغم من نجاح بعضهم في ميدان العمل أو الدراسة. وزيادة على تلك المصائب، وجد السوريون في نهاية المطاف عددًا من القوى الأجنبية تمسك بزمام الأمور وتتحكم في المفاصل الحيوية لبلدهم سورية، لقد خسر السوريون كلّ شيء.
من بين المشاغل والقضايا التي تشغل بال السوريين في الوقت الراهن، عددٌ من المشكلات التي باتت تسبب لهم قلقًا حقيقيًا يحيط بهم أو قريب منهم يهدد حياتهم، أو حياة أشخاص أعزاء عليهم. تلك المخاوف تبرز في مستويين: الشخصي والعام- المجتمعي.
هذه الورقة تعرض أبرز مخاوف السوريين (العينة) من المستوى الشخصي، وذلك من خلال الوقوف على اتجاهاتهم بخصوص عدد من تلك المخاوف، فضلًا عن الوقوف على تباينات تلك الاتجاهات المرتبطة بعدد من المتغيرات.
اختيرت أداة قياس الاتجاهات (مقياس ليكرت الخماسي) وطُبقت على عيّنة ممثلة لأطياف السوريين جميعهم، بغض النظر عن اتجاهاتهم السياسية وأماكن وجودهم.
ثانيًا – نتائج الدراسة:
1- في مستوى العينة الإجمالي: جاءت اتجاهات أفراد العينة بخصوص بنود محور الأخطار الشخصية على النحو الآتي:
* يرعبني تدهور الوضع المعيشي ونقص الخدمات بسرعة: أغلبية ساحقة (86.8%) من أفراد العيّنة عبّروا عن موافقتهم على بند الوضع المعيشي ونقص الخدمات: الماء والكهرباء والوقود والنقل، فيما لم يوافق على وجود هذا الخطر نسبة قليلة (7.2%) وامتنع، أو لم يتمكن (5.3%) من أفراد العينة من تحديد اتجاهاتهم بخصوص مضمون البند.
قلق وخوف معمم تقريبًا بين السوريين الموجودين في الداخل، سواء كانوا في مناطق النظام أم تحت سلطة قوى الأمر الواقع.
* أخاف من تفشي أعمال الثأر بين السوريين في المستقبل: لدى (76.6%) من أفراد العينة خوف من خطر تفشي الثأر، بينما رفض (15.2%) من إجمالي العينة إمكانية وجود أو حصول حوادث ثأر بين السوريين. فيما لم يعلن اتجاهه (8.9%) من العينة.
* يقلقني انعدام الأمن وانتشار أعمال الخطف: حدثت وقائع خطف عدة في سورية وتزداد مع مرور الوقت وتأخر معالجة الأزمة بصورة صحيحة وعادلة. وقد أيد (87.5%) من العينة وجود قلق من وقوع هذا الخطر الذي يُعدُّ من أعلى الأخطار الشخصية. فيما نسبة منخفضة (9.2%) لم يقلقها هاجس الخطف.
* لا شيء يقلقني شخصيًا، كل شيء سيصبح أفضل مع الوقت: بلغت نسبة المتفائلين السوريين بالمستقبل (29.4%) وهي نسبة غير مرتفعة. فيما بلغت نسبة غير المتفائلين (54.5%). إذًا تسود حالة التشاؤم من المستقبل لدى أكثر من نصف السوريين/ العينة. في مقابل تكتم (16.2%) عن اتجاهاتهم بخصوص آفاق المستقبل.
* أخشى أن مزيدًا من السوريين سوف يضطرون إلى الخروج من بلدهم في المستقبل: الخوف من الرحيل…المغادرة.. الغربة (79.2%) عبروا عن خشيتهم من استمرار النزوج والاغتراب، فيما لا يتوقع هذا الخطر (11.2%) وبلغت نسبة غير المصرحين (9.6%) نحو الخوف من وقوع المغادرة.
2- اتجاهات أفراد العينة بخصوص الأخطار الشخصية تبعًا لبعض الخصائص[1]:
2/1- الأخطار الشخصية كما يراها السوريون بحسب فئاتهم العمرية:
ما يلفت الانتباه في علاقة الاتجاهات بخصوص الأخطار الشخصية ومتغير العمر ما يأتي:
– أقل الفئات العمرية خوفًا من تدهور الوضع المعيشي والخدمات كانت فئة (35- أقل من 50 سنة) حيث عبّر (79%) منهم عن موافقة قوية وموافقة، مقابل 87% في المستوى الإجمالي للعينة بفارق 8 نقاط مئوية.
وكذلك عبّرت الفئة العمرية ذاتها (35- وأقل 50 سنة) عن أخفض نسب الموافقة تجاه الخشية من انتشار أعمال الثأر بين السوريين (65.7%)
فيما عبرت الفئة العمرية الأصغر (20- وأقل من 35) عن أعلى نسب الخوف (91%) نحو أعمال الخطف، فيما عبرت الفئة العمرية الأعلى (50-أقل 65 سنة) عن أخفض نسب الاطمئنان على المستقبل “أي التفاؤل بقادم الأيام بنسبة (15%) في مقابل (29%) في المستوى الإجمالي للعينة بفارق 14 نقطة مئوية.
وتعود الفئة العمرية الثانية (35- أقل من 50 سنة) لتسجل أقل الفئات الأخرى خشية من فكرة حدوث اللجوء: الخروج من سورية. بنسبة (65.7%) مقابل (79%) في المستوى الإجمالي.
2/2- الأخطار الشخصية كما يراها السوريون بحسب الجنس:
وبحسب الجنس تصدرت الإناث أعلى نسب في بنود: الأحوال المعيشية والخدمات- تفشي الثأر – وأعمال الخطف وفق النسب (“91.7%- 90%- 96%) على التوالي، وهي نسب لافتة.
2/3- الأخطار الشخصية بحسب المستويات التعليمية:
يبدو أن أصحاب الشهادات العليا (ماجستير ودكتوراه) هم أقل الفئات التعليمية الأخرى خشية، أو قلقًا حيال سوء الأوضاع المعيشية والخدمات (75%) وكذلك تفشي أعمال الثأر (61.5%) وأعمال الخطف (67%) وأقل الفئات التعليمية قلقًا من احتمالات حدوث مزيد من تدهور الأحوال في المستقبل، فقد عبر (40%) منهم عن موافقته على بند (لا شيء يقلقني، كل شي سيصبح أفضل مع الوقت).
2/4- الأخطار الشخصية بحسب مكان الإقامة الحالي
هل مكان إقامة الإنسان السوري الحالية، نازحًا أو مستقرًا (داخل سورية) أو في خارجها لاجئًا أو مهاجرًا يؤثر في اتجاهاته بخصوص الأخطار الشخصية؟ فرضية الدراسة تقول نعم لا بد من وجود فروق بتأثير مكان الإقامة لأن هذا المكان له دلالات سياسية أو اقتصادية… أو دينية.
لكن النتائج لم تتوافق مع الفرضية أعلاه، فكان الأكثر قلقًا تجاه سوء الأوضاع المعيشية وتدهور الخدمات هم المهاجرون (91.5%) وهذه نتيجة غير متوقعة، مقابل 86% في مستوى العينة الإجمالي.
وأكثر الفئات خوفًا من انتشار أعمال الثأر هم المقيمون داخل سورية من غير النازحين (أي الموجودون في المناطق المستقرة) (85.5%) مقابل (76%) في مستوى العينة الكلية، وهم أكثر الفئات قلقًا من انتشار أعمال الخطف (96%) مقابل (87%) للإجمالي.
وأعلى نسبة من المتفائلين نجاه المستقبل هم سكان الداخل غير النازحين (48%) مقابل (29%) للعينة الكلية، وهم أكثر الفئات قلقًا من احتمال وقوعهم تحت خطر اللجوء أي مغادرة بلدهم (85.5%) مقابل (79%) للعينة الكلية.
2/5- الأخطار الشخصية بحسب خبرة التعرض لفَقد (خسارة) أحد أفراد العائلة:
بلغت نسبة الأفراد الذين صرحوا بأنهم فقدوا أحدًا- على الأقل- من أقربائهم نتيجة الحرب وأعمال القتل والخطف والاعتقال (55%) من إجمالي العينة. فيما لم يصرح 8% عن خبرة الفقد. و37% لم يعانوا هذه الخبرة.
هل تركت خبرة الفَقد في نفوسهم أثرًا في اتجاهاتهم المتصلة بالأخطار الشخصية؟
لا توجد فروق واضحة بين اتجاهات عينتي من خبروا فقدًا والذين لم يخبروا الفقد سوى في بند الخوف من استمرار خروج مزيد من السوريين من بلدهم في المستقبل (77.7%) لمن فقدوا مقابل (82%) لصالح غير الفاقدين.
إذًا، بصورة عامة لم تؤثر خبرة الفقد في اتجاهات السوريين (العينة) في ما يخص مخاوفهم الشخصية.
ثالثًا- الخلاصة:
الخوف بدرجاته المختلفة حالة عاطفية إنسانية عبر عنها المشاركون في الدراسة، كما دلت النسب المئوية المرتفعة بخصوص البنود كلها التي سُئلوا عنها، وجاءت اتجاهاتهم بخصوص بند (لا شيء يقلقني…) لتؤكد ذلك، فقط 29% متفائلون حيال المستقبل، وهؤلاء لا شيء يخيفهم اليوم. في مقابل ذلك سجَّل أكثر من نصف العينة (54%) رفضهم لفكرة الاطمئنان على المستقبل، ولفت النظر ارتفاع نسبة المترددين (لا رأي لهم) إلى (16%)
فيما عبَّرت نسبة عالية (87%) عن قلقها من حالة انعدام الأمن وانتشار أعمال الخطف.
واللافت أن الشباب/ الشابات (20-35) سنة هم من عبر عن أعلى نسبة خوف تجاه أعمال الخطف (91%) (قلق وقلق جدا) بخلاف الفئة العمرية (35-50) سنة الذين سجلوا أدنى مستويات الخوف والقلق والخشية تجاه مجمل بنود المخاوف.
وبحسب الجنس تصدرت الإناث أعلى نسب الخوف والقلق عن بنود: تدهور الأحوال المعيشية والخدمات وتفشي الثأر وكذلك أعمال الخطف وفق النسب “91.7%- 90%- 96% على التوالي.
وفي مستوى التحصيل التعليمي سجَّل أصحاب الشهادات العليا (ماجستير ودكتوراه) تماسكًا نسبيًا على الصعيد النفسي-العاطفي مقارنة بباقي أصحاب المستويات التعليمية فكانوا أقل خشية وقلقًا تجاه بنود: الأوضاع المعيشية والخدمات (75%) وأعمال الثأر (61.5%) وأعمال الخطف (67%) وأقل قلقًا على المستقبل فقد عبر (40%) منهم عن موافقته على بند (لا شيء يقلقني كل شي سيصبح أفضل مع الوقت).
وسجل المهاجرون أعلى مستوى من القلق تجاه سوء الأوضاع المعيشية وتدهور الخدمات (91.5%)، وهذه نتيجة غير متوقعة، فيما سجلت الفئات المقيمة داخل سورية من غير النازحين أعلى درجات الخوف من انتشار أعمال الثأر، وهم أكثر الفئات قلقًا من انتشار أ عمال الخطف (96%)، مقابل (87%) في المستوى الإجمالي للعينة.
هذه بعض المخاوف في المستوى الشخصي، ولا شكّ في أن هناك مخاوف من مستوى الأخطار على المجتمع موجودة، ولا بد من قياس اتجاهات السوريين بخصوصها.
[1] في الجداول التي تناولت الاتجاهات وعلاقتها بالمتغيرات جُمعت مستويات الاتجاهات الخمس في مستويين (موافق بشدة، وموافق) (أرفض بشدة، أرفض) وجرى تجاهل مستوى (لا رأي).