المظاهرات النسائية في حمص

نوفمبر 29, 2022

إيمان محمد

مقالات

أول مظاهرة نسائية خرجت في مدينتي حمص كان تأثيرها قوياً، حين تجمعت طالبات جامعيات، وقررن القيام بما يسمى “المظاهرة الطيارة”، مدتها دقائق معدودة، تظهر فيها فتيات قويّات، بأصوات هادرة، ينتقلن بخفة في شارع رئيسي، وعند انطلاق صافرة التحذير، يختفين فجأة وكأنهن أشباح.

لم تستطع الثائرات أن يخرجن في المظاهرات الأولى بالمدينة، خوفاً عليهن من الاعتقال، وكانت بدايات التظاهر مجموعة فتيات، قادتهن الرغبة بالمشاركة فتجمعن قرب جامع عمر بن الخطاب في حي الملعب للانضمام للمظاهرة الشبابية، لكنهن وجدن بعض الشباب الخارجين للتظاهر يطالبوهن بالعودة قائلين “لا تلبكونا”، ولم يصغ أحدهم لسؤال: “كيف سنسبب لكم هذا الارتباك؟ بوسعنا الهرب”. والمغزى كان أن تعرض إحداهن لأذى سيكون وقعه على الشباب أشد بكثير من تعرض أي شخص منهم للأذى، فكان التريث بحثاً عن آلية تظاهر أكثر تنظيماً، وأقل من ناحية المخاطر المحتملة.

كان البحث عن فئة تتخذ قراراً خطيراً بالتظاهر ومواجهة رصاص قوات الأمن أمراً صعباً، لكن رغم ذلك فكثيرات كان همهن إيجاد مُساندة ومشاركة مخلصة. الحضور حذر ربما، ومهمة تؤدى سريعاً، أصوات الفتيات في مواقف كهذه تجلب الرهبة واهتمام الشارع بشكل كبير، فالجرأة أمام المدرعات والرصاص والقدرة على إيصال الصوت لم تكن سهلة أبداً.

الملعب البلدي، الدبلان، الغوطة، الإنشاءات، الخالدية، باب السباع، بابا عمرو، وغيرها كثر، تختلف الأحياء التي سجلت خروج مظاهرات نسائية فيها، لكن الحس الثوري العميق كان واحداً، وكذلك التنظيم مختلفاً، فالحماية ركن أساسي من أركان المظاهرات الحمصية، بضعة شباب ينتشرون على أطراف الشوارع، يتخفون في حضور عادي، ويطلقون إشارات التحذير عند وصول أول سيارة أمن، ومع الإشارة الأولى تنطلق صيحة نذير من إحداهن: “اهربن ولا تصرخن”، “لتذهب كل واحدة منكن في اتجاه مختلف”، “احذرن من التجمع”.

تتوالى التحذيرات ويسود الهدوء فجأة في الشوارع الخالية، ويعود ازدحام الأسواق مجدداً لوضعه المعتاد، تحظى بعض الفتيات بجولة استثنائية في السوق، فرصة لشراء بعض الحاجيات، أو “تناول البوظة”! هكذا كانت كل واحدة تدعو صديقتها للتظاهر، تحت مسمى هذه العبارة الرمزية، وبالتأكيد فهي تعود إلى منزلها بعد عناء، بقلب يرتجف بعد التنقل من مبنى إلى مبنى، وصوت مبحوح من الصراخ وليس من برودة البوظة.

“ياللعار، ياللعار، عالشب القاعد بالدار” كانت الفتيات يهتفن بها متجهات بأصواتهن إلى النوافذ والشرفات ومقاهي الشوارع، ولا يتورعن عن المخاطبة المباشرة لكل من تمر مظاهراتهن في شارعه من أصحاب المحالّ التجارية، فالحضور كان جالباً للدهشة والإعجاب، والأصوات أعلى من مكبر الصوت الذي كُنَّ يستخدمنه، والهتافات مدروسة وموافقة للمستجدات على الساحة، وكذلك اللافتات.

المظاهرات النسائية في حمص كانت تحمل طابع أهلها، فالأعلام مرتبة ومكوية بعناية، والمفاجآت الطريفة حاضرة، فالمرأة البخاخة لا تغادر شارعاً حتى تترك عبارة على حائط، أو تلصق صورة السفاح على الإسفلت لتعبرها السيارات القادمة بعد مغادرتهن، والمسابقة بعد انتهاء المظاهرة والنجاة من الاعتقال هي في أن تعرف كل واحدة وجه صديقتها المقنَّع في المظاهرة على قناة الجزيرة.

“دم الشهيد، ما نسيانينو”

يتبدى في المظاهرة النسائية وفاء لا يخفى، وعاطفة تتدفق وتتجلى في صور الشهداء والهتاف بأسمائهم، وأول صورة رُفعت لشهيد هي صورة الطفل الشهيد حمزة الخطيب، وهناك التزام كامل باتباع التعليمات، مع تفاوت أعمار المشاركات، ولا مجال للفضول ولا للتعارف أو الثرثرة، لا شيء سوى إيصال الرسالة بدقة، وقد كان من بين أهم الرسائل بعد المطالبة بالحرية وإسقاط النظام هي تحفيز الشباب الذي لم يخرج في مظاهرة بعد أن يتحرك.

لاحقاً أصبحت المظاهرات مشتركة، العائلة كلها تخرج معاُ للتظاهر، بل المدينة بأسرها، كما استمرت المظاهرات النسائية وكانت حمص تستقبل الثائرات من بقية المدن، ممن كان يحدوهن الشوق لتلمس روح الثورة في عاصمتها، وكانت التجارب تتناقل، فتحكي كل واحدة عن اختلاف الحياة بعد الثورة، عن لذة كلمة حرية، والأمل بزوال الظلام عن سوريا.

ولم يختفِ دور المرأة عن التنظيم وكتابة اللافتات وصُنع الأعلام وتحفيز الجميع على طلب الحرية والكرامة وإسقاط النظام، كانت المظاهرة وحدها هدفاً يستحق المغامرة بالنفس لتحقيقه، يوم كان الصوت سوطاً يخيف المجرمين، غير أن مقابلة السلمية بالبطش والقتل جعل التظاهر جزءاً من الجهود النسائية في الثورة، التفتت كثيرات لتضميد الجراح، وإطعام الجائع وإكساء المشرد الذي هدم بيته، وانتقل العمل النسائي الثوري إلى مرحلة أخرى جديدة يحفظ للمظاهرة أهميتها، لكن يحاول مع ذلك أن يحفظ استمرارية الثورة عبر جهود لا تقل أهمية المظاهرات.

المصـــدر

المزيد
من المقالات