خيّم الانهزام على عدد كبير من الثوار السوريين بعد الخسائر المتتالية التي تعرضت لها الثورة السورية، تحديداً، منذ بداية التدخل الروسي، ميدانياً وسياسياً، وسط تخاذل آخذ بالازدياد وانشغال الدول التي أولت بقضية السوريين اهتماماً خاصاً في البداية، بأزمات داخلية وخارجية، استهلكت جهد هذه الدول التي قدّمت نفسها للسوريين كـ “أصدقاء” لهم، بوجه نظام اخترق خطوط الأصدقاء الحمر كلها، وحقَن مواده الكيماوية في أنفاس الأطفال المحاصرين ذوي الوجوه البيضاء من انعدام الدم، ذبحاً وجوعاً وتمزيقاً وخوفاً وخنقاً.
وتوسّعت رقعة سيطرة حلف النظام وإيران وروسيا، على حساب عشرات آلاف المهجرين من منازلهم المدمّرة قسراً، إلى المجهول في شمال البلاد، وذلك بعد أن صمدت فصائل الثوار سنوات أمام جحافل لا تنضب من الأعداء بأكثر من عشر جنسيات.
وزاد من بلة الطين، حالة التشتت في أوساط المعارضة بشقيها السياسي والعسكري وغياب مشروع جامع يرقى لطموحات طلاب الحرية، الموزَّعين ملاييناً بين البلاد بأجزائها الثلاثة، ودول اللجوء المكتظة بهم، هرباً من آلة القتل المستمرة، بحقد نظامٍ زُلزلت أركانه بأيادي أطفال درعا على حين غرة.
الثورة السورية التي قدّمت حتى الآن أكثر من 500 ألف قتيل على عتبة الحرية المنشودة، دخلت عامها التاسع في حقل ألغام، مهما انفجر فلن يعود بالضرر سوى على السوريين أنفسهم، في ظل التوازنات الدولية والإقليمية المُتقلّبة بوتيرة متسارعة، ملقية ظلالها على ثلاثة أجزاء من سوريا المقسمة بطبيعة الحال، وفق سيطرة ثلاث دول هي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا.
وكما هو حال الثورات عبر تاريخ الشعوب، فلن يكون للمنطق حضور إذا ذهبت التضحيات سدىً، ورغم الانهزامات التي مُنيت بها الثورة ككل، ما زال بيد الثوار ما كسبوه خلال السنوات الثمان الماضية في معارك السياسة والميدان، وما زال لدى الثورة السورية جيلاً كان عمره 10 سنوات عندما أطلق أهاليهم أولى صرخات الحرية، وأصبحوا الآن شباباً منطلقاً للحياة بجرعة هائلة من الدروس المستفادة، والدوافع لإكمال الطريق، كي لا يكون على التراب السوري جلادٌ وضحية في الوقت نفسه، وجرعة أخرى من الثأر لما شاهدوه بأم أعينهم.
إلا أن كل ما تبقى بيد الثوار، من الممكن أن يضعفه أمران اثنان، تشتت الأجسام السياسية والعسكرية في ظل انعدام أي مبادرة أو رؤية سورية، وفقدان استقلال القرار عبر رمي البيض كله في سلة الحلفاء المتصارعين أساساً بنعومةٍ كارثية.
أيادي روسية عابثة.. ولجنة دستورية لم ترَ النور
رغم انطلاق مسار أستانا كمسار عسكري تقني للتوصل لوقف اطلاق شامل للنار في سوريا، إلا أنه بات الآن المتحكم بسير عمليات الحل السياسي المُختزلة بلجنة دستورية لم يتم التوصل لاتفاق نهائي حولها بين الضامنين الثلاثة حتى الآن.
ورغم انخراط المعارضة السورية بدفع تركي واضح في مسار أستانا، بعد ما عانته من هزائم ميدانية كان أبرزها سقوط مدينة حلب بيد حلف النظام وروسيا وإيران، وانكفاء الولايات المتحدة التي أوقفت بعد ستة أشهر دعمها الكامل الذي كانت تقدمه للفصائل عبر غرفة عمليات الموم في أنقرة وتركيزها على محاربة تنظيم الدولة فقط، إلا أنها وبمساعدة -غير كافية- من تركيا، لم تخضع المعارضة حتى الآن لجزئية اللجنة الدستورية التي عكفت موسكو على رسم أدق تفاصيل مجرياتها.
استغلت روسيا الصراعات بين حلفاء المعارضة السورية، وحالة الجمود والاستعصاء التي طغت على مسار جنيف الدولي، والمكاسب العسكرية التي حصدتها بسياسة الأرض المحروقة، وطرحت فكرة أستانا في محاولة منها للالتفاف على قرارات بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254.
فرضت روسيا مسار أستانا بطريقة خبيثة لجني ثمار تدخلها، وانشاء دولة سوريا الجديدة المتناغمة مع مصالح القيصر الروسي الطامح إلى إعادة أمجاد روسيا، ولإعطاء حليفه الأسد وقتاً كافياً لتمكين سيطرته على المناطق الجديدة باتفاقات وقف اطلاق النار ومناطق خفض التصعيد القابلة بكل أريحية للاختراق عندما يكون الأخير جاهزاً للهجوم مجدداً على ما تبقى.
واختزلت موسكو الحل السياسي برمته بلجنة دستورية، يعمل الأسد بعنجهية مدفوعةٍ روسياً، لتوظيفها في إطار قانوني يمنحه شرعية ضائعة، ووقتاً ضرورياً لترتيب بيته المترهل، مستغلةً حالة الجمود في عملية جنيف التي وجدت المعارضة نفسها فيها بلا سند دولي كاف أمام ثلاث دول عدوة، وفيتو روسي نسف أي أمل للسوريين بقرار دولي مُلزم للأسد.
لا يمكن انكار أن روسيا كسبت الكثير مما كانت تطمح إليه في لعبة النفس الطويل التي لعبتها سياسياً وميدانياً، إلا أنها اعتمدت على أمر واحد في تحقيق كل ذلك، وهو التقارب مع أنقرة بعد حادثة اسقاط الطائرة، التقارب الذي تزامن لسوء حظ السوريين مع التوتر التركي الأمريكي، الذي بدأ يتضاءل حالياً مع قرار ترمب بالانسحاب من سوريا، وبطلان المُسبب لهذا التوتر المتمثل بدعم واشنطن لوحدات حماية الشعب التي تواجه الآن مصيراً سوداوياً.
انتصار 2254 السياسي.. وأوراق المعارضة وواجباتها
ورغم ابتعاد الولايات المتحدة والأوروبيين عن مجريات الحل السياسي منذ بداية 2016، إلا أن المسؤولين الأمريكان يجددون في كل وقت مناسب تهديداتهم بإنهاء مسار أستانا، والتي عبّر عن آخرها، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، جيمس جيفري في كانون الأول من العام الفائت.
ومنذ الاتفاق على تشكيل لجنة دستورية في مؤتمر سوتشي في كانون الثاني من العام الفائت، ووصولاً إلى أستانا 11 وإعلان فشلها، لم تشهد هذه المناورات التفاوضية أية جديد لخلق عملية سياسية جدّية، وترك دي مستورا منصبه محبطاً بعد أن لعب دوراً خدم موسكو طوال عام كامل ومنحها الوقت لترتيب تفاهمات معقدة مع اللاعبين الدوليين، وترتيب البيت الداخلي للأسد الذي نخرته إيران في كل مفاصله.
عند انطلاق مساري أستانا وسوتشي، كانت مخاوف الثوار والسياسيين السوريين جدية بأن تستسلم المعارضة بالكامل لرؤية موسكو حول مستقبل سوريا، خاصة وأن الأولى لم تكن قادرة عن الانسلاخ من تبعيتها للدول المعنية بالشأن السوري والتي لم تعد متفقة منذ سنوات على رؤية واحدة لمواجهة روسيا وإيران، بل حتى أنها باتت متحاربة في العديد من الملفات، وزاد مخاوف الثوار ما تبنّته المعارضة السياسية من فكرة “الواقعية السياسية، بأن الثورة “يتيمة” وروسيا انتصرت عسكرياً والدول سلّمت موسكو مقاليد إدارة العملية السياسية في سوريا.
وما زال لدى المعارضة السياسية قرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن في 18 كانون الأول 2015، والذي قدّم توضيحات أفضل لما سبقه من توافقات دولية متمثلة ببيان جنيف 1 في عام 2012، والقرار 2118 في أيلول من عام 2013.
ورغم انتقادات السياسيين السوريين للقرار 2254، لعدم خلوه من الثغرات والعبارات الدبلوماسية الفضفاضة التي يمكن تفسيرها باتجاهات عدة، – ولو بنسبة أقل من رزمة القرارات السابقة -، إلا أنه بات مرجعية أساسية للمعارضة السورية لما نص عليه من انتقال سياسي شامل تديره “هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية“، في حين بقي بيان جنيف وبيانات فيينا الخاصة بسوريا، عبارة عن أرضية أساسية لتحقيق “عملية الانتقال السياسي”.
الجدير بالذكر أن القرار 2254 كان مشروع قرار قدمته الولايات المتحدة، ما يعني أنه لا يتلقى فقط دعم واشنطن، القادرة في أي وقت وظرف على التدخل وترتيب الأوراق من جديد، وإنما يدل ذلك على أنها تبنّته وتستخدمه للضغط على ثلاثي أستانا كما فعلت مرات عدة.
وبالعودة إلى الأوراق التي تم ترتيبها مراراً حسب المتغيرات الدولية والإقليمية ومواقف الدول الداعمة للطرفين السوريين، والتي تتزايد المؤشرات حول إمكانية ترتيبها مجدداً عبر الضغط الأوروبي الأخير على الأسد بالعقوبات والملاحقات القانونية لأركان نظامه الأمني والمخابراتي، بالإضافة إلى الانسحاب الأمريكي الذي يخدم سياسات ترمب الداخلية، وبالتالي بات الضغط الأكبر الذي من الممكن أن تقوم به واشنطن يعتمد على فرض رؤية ومسار جديد للحل السياسي الذي لن يكون هنالك أي إعادة للإعمار إلا بالتوصل إليه، فضلاً عن الصراع القائم والمتزايد ضمن “حلف الشر” نفسه المتمثل بإيران وروسيا ونظام الأسد المتمزق بين الدولتين؛ فإن المعارضة السياسية الآن باتت أمام استحقاق أكبر من أي وقت سابق، وهو تقديم مبادرة وطنية سورية جامعة تستند على مبادئ ومطالب لا عدول عنها تحت أي ظرف كان، وعلى رأسها إزاحة الأسد وتفكيك قواته العسكرية والأمنية واطلاق سراح كافة المعتقلين ومحاسبة المتورطين بجرائم حرب، وغيرها من مطالب لا يختلف عليها الوسط الثوري، رغم تفاوت الرؤى والمعتقدات في التفاصيل والجزئيات.
وأن تكون مئات الدروس المستفادة بعد كل هذه التجارب التي خاضتها المعارضة الوليدة نسبياً، كافية لأن تتدارك الأخيرة هفواتها المقصودة والغير مقصودة وأبرزها عدم امتلاكها قوة ميدانية ضاربة ومتناغمة معها في ظروف التهدئة والتصعيد. قوة ميدانية قادرة على تسجيل مواقف وإرسال رسائل متفجرة على ثكنات النظام، مهما كانت تبعات ذلك في حال كان الأمر واجباً.
وعلى المعارضة بشقيها العسكري والسياسي أن تعلم أن هذه الدول المعنية بأي قضية بالغة التعقيد كالسورية، لا تخلق الظروف المناسبة لها بألوهية مثالية، بقدر ما أنها تتعامل مع أمر واقع نشأ بغير تدخل منها.
ورغم صعوبة الانسلاخ عن تبعية الدول، وما قد تواجهه المعارضة من تحديات ضخمة لتحقيق قرار وطني مستقل، إلا أن 500 ألف قتيل يستحقون التمرّد من جديد على نظام عالمي لا يكترث إلا لمصلحته، وتتشابه أمامه أرقام الضحايا بين آحاد وملايين.