في القوائم الأخيرة التي تم الحديث عنها على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تتحدث عن مئات أو آلاف الشباب السوريين الذين يتم تسليم شهاداتِ وفاتهم لذويهم، هؤلاء الشباب الذين قضوا تحت التعذيب في سجون نظام الأسد، غالبهم تم اعتقاله في السنتين الأُوَل من الثورة السورية، حيث كانت الاحتجاجات والمظاهرات والنشاطات سوريّة خالصة ووطنية بامتياز، من أجل كل السوريين. وكان هدف النشاط العسكري الصاعد (تحت مسمى الجيش السوري الحر)، من أجل حماية الشعب السوري أساسا، قبل أن يتأسلم ويتسلفن بعدها.
من شهدائنا تحت التعذيب برز إسم يحيى شربجي وإسلام الدباس ومجد خولاني وآخرون من شباب مدينة داريا. كما تأكد استشهاد عدد كبير من الشباب الذين كان لهم دور كبير في الأشهر الأولى، في التنظيم ومحاولة الحفاظ على اللاعنف أو سلمية المظاهرات والاحتجاجات، وعدد كبير منهم لم يكن مع تصعيد المواجهات وكان يريد الحفاظ على المطالب الإصلاحية وعدم الوصول إلى مطلب إسقاط النظام ولو كان الطريق إلى ذلك يمر عبر الاحتجاجات السلمية، خوفا من الدخول في حالة الفوضى وعدم وجود نظام بديل للنظام الحالي، أو عدم القدرة على بناءه.
في المقابل نعلم جميعا أن نظام الأسد أطلق بداية الثورة السورية من سجونه معظم السجناء الإسلاميين أصحاب الأجندة الجهادية المسلحة،
والذين يمتلكون منهجية تكفير راسخة في أدبياتهم، منهجية تلغي الآخر وتكفّر المشاريع الوطنية، وتسعى لمشاريع عابرة للحدود تستعدي دول العالم ومجتمعاتها. في الوقت الذي يكون فيه احتمال اختراق هذه التشكيلات كبير جدا من قبل أجهزة المخابرات الإقليمية والعالمية بشكل مباشر أو غير مباشر.
يعلم نظام الأسد أن أحد أسباب قوته هو إدارته لهذه الملفات بشكل ناجح قل نظيره بين الدول، فحسب ميشال سورا (مؤلف كتاب سوريا المتوحشة) قام نظام الأسد بتأسيس وجوده على علاقات إقليمة ودولية أساسها افتعال المشاكل في دول الجوار حتى يحقق مصالح معينة تضمن بقاءه عن طريق علاقات بينية مع تنظيمات جهادية أو أفراد يمتلكون هذه الرؤية (هنا يمكن أن تكون هذه التنظيمات إسلامية أو علمانية، أفرادها عرب أو من قوميات أخرى). وبالتالي تضطر الدول المجاورة أن تتعامل مع نظام الأسد كأمر واقع وتقبل بتطبيع علاقاتها معه وإلا فإن الحريق سيمتد إلى أراضيها.
الجهاديون الإسلاميون كانوا أحد أهم تلك الجهات التي استطاع نظام الأسد الاستفادة من وجودها بطريقة تخدم مصالحه بشكل مذهل. ولعل مثال حركة فتح الإسلام في مخيم نهر البارد في لبنان 2006-2007، والذي أعلن فيه إسلاميون كانوا مسجونين قبل أشهر في صيدنايا عن تشكيل إمارة إسلامية هناك (كانوا قد خرجوا بعفوٍ خاص)، ومثال التشكيلات الإسلامية المسلحة في سوريا التي كان الكثير من قادتها في السجون قبل الثورة، والتي شكلت (بتوجهاتها وأديولوجياتها) طوق النجاة لنظام الأسد عن طريق وصم الثورة بالإرهابية والتطرف. بغض النظر عن سياسة معظم تلك الفصائل في تصفية ومطاردة الجهود والمشاريع الوطنية، أو التضييق واستهداف النشطاء المطالبين بسوريا ديمقراطية لكل السوريين.
نعود لقضية معتقلينا الشهداء، لماذا قتل النظام هؤلاء الشباب الوطنيين وأطلق غيرهم، ما كان يمكن أن يفعله المئات أو الآلاف منهم لو بقوا يمارسون دورهم في تنظيم المظاهرات وضبط الحراك والاحتجاجات ومقاومة التطرف والحفاظ على أصالة الثورة السورية والسعي لبناء مجتمع مدني حقيقي.
ببساطة سيكون الطريق معبدا نحو سوريا العظيمة التي نحلم بها جميعا، سوريا التي يكون فيها جميع السوريينمواطنين جيدين كما يقول الشهيد يحيى شربجي في أحد تسجيلاته المصورة بداية الثورة. سوريا التي يكون فيها المواطن العلوي كالمواطن السني أو الدرزي أو المسيحي، لافرق بين الجميع إلا بما يقدمونه لخدمة دولتهم وأمتهم. دولة يكون فيها المواطن العربي كالكردي أو الآشوري أو السرياني.
دولة لايكون فيها العلوي هو المواطن العظيم صاحب الامتيازات الكبيرة، والآخرون من الدرجة الثانية أو الثالثة. سوريا التي تبني علاقاتها مع جيرانها على مبدأ الندية والتنافسية والعلاقات الإيجابية، وليس على مبدأ التشبيح وخلق المشكلات والتفجيرات والعمليات الإرهابية متعددة الأشكال والألوان.
تماما من أجل أن تبقى سوريا بحجم الأسد وليس بحجم عظمة تاريخها وموقعها وطموح أبنائها، من أجل أن تبقى منبعا للتطرف والكراهية والخوف، تم قتل كل هؤلاء الشباب والإبقاء على غيرهم.
ولكن هل انتهى كل شيء؟! هل قَدرُ الشعب السوري أن يحكمه الأسد إلى الأبد؟ هل ضحى السوريون كل تلك التضحيات من أجل أن تكون هذه هي نهايتهم؟
في ثمانينات القرن الماضي حصلت مجرزة حماة المروعة، ظنّ الأسد الأب يومها أنها ستكون مقبرة لأي تمرد عليه في المستقبل. لكن لم يحصل ذلك. ففي سنة 2011م، شهدت حماة أكبر احتجاجات سلمية ضد نظام بشار الأسد على الإطلاق. واليوم كما نعلم جميعا، أصبحت جميع المدن السورية مدن مجازر، فيها من الأوجاع والآلام مالا يمكن وصفه. وكلها ينتظر لحظة أمل قادمة لا محالة. ففي كل لحظة هناك من يُصرّ على تذكر حُلمه الكبير، في أن سوريا ستبقى عظيمة وليست سوريا الأسد، كما قالت الراحلة مي سكاف رحمها الله. والتي توفيت في باريس قهرا وكمدا، لكنها بقيت حتى نفسها الأخير تحلم بسوريا العظيمة، التي ربما كانت تود أن تشارك في انتخاب رئيسها يوما ما..