بعد أن يكونوا حفاة مجردين من كل شيء، تكسو أجسامهم بضع خرق بالية، يمشون في طابور لا يستطيعون أن يطؤوا الأرض من شدة ما في أقدامهم من جروح، لا يعرفون شيئًا عن أهلهم وذويهم، ثم ينجو البعض ليستعيدوا معالم الحياة ويقرروا أن يكتبوا عن آلامهم ومعاناتهم، ويجسدوا ما تعرضوا له من تعذيب، ومن عدد المرات التي كادت تودي بحياتهم تحت آلة سجانيهم، وينشرون شهاداتهم في محاولة لفضح الطغاة وزبانيتهم، مقابل آخرين يعترضون على نشر آلام الناس على الملأ العاجزين عن فعل أي شيء لإيقاف تلك المأساة، وليس من الإنسانية، بنظرهم، أن نتاجر بما قاسى غيرنا.
وبين هذا الرأي، والرأي الآخر نجد أن توثيق قصص المعتقلين تبقى الورقة الأكثر ترددًا لدى أصحابها وذويهم.
المعتقلون ليسوا سلعة لوسائل الإعلام
يؤكد أحمد (المعتقل سابقًا في فرع أمن المنطقة)، أن صفحة الحرية التي أنشأها رفاقه للمطالبة به، أودت بحياة زميله المعتقل قبله بأسابيع، وكادت تودي بحياته هو الآخر، فقد أكد “كنت أعمل باسم مستعار على الأرض، ولكن وبحسن نية من رفاقي الذين بدؤوا بنشر صوري الشخصية مع رفيقي أثناء قيامنا بحملات الإغاثة في الريف الدمشقي، كان ذلك دليلًا لإدانتنا”، وتعرض رفيقه للمزيد من التعذيب، إذ لم يتمكن من إنكار ما كتب عنه، وما زاد آلام أحمد أن مثل هذه المعلومات وصلت للمحقق بأقل عناء ممكن يبذله، “إذ يعتقد أصدقاؤنا أن هذه الصفحات تسلية لنا عند خروجنا، وتأكيد منهم على استمرارهم بالمطالبة بالإفراج عنا، دون أن يدركوا حجم ما تسببه”.
بينما يعتصر الألم قلب السيدة ريم، التي شاهدت صور زوجها في ملف الصور المسربة، “ملف الصور بحد ذاته كان جرحًا لن يندمل قريبًا، ولكن المؤلم أن تتاجر وسائل الإعلام بجراحنا، وتنشر هذه الصور، وتدعو الناس لرؤيتها والتباكي على جراحنا وجثث معتقلينا المشوهة”
أما خليل، فيقول بأن أحد الناشطين السياسيين العاملين في توثيق انتهاكات النظام السوري أكد له ضرورة توثيق اعتقال ابنته، ناقلًا ما قال له “بتكتمك على خبر اعتقال ابنتك، فأنت تشارك النظام في جرائمه ضد المعتقلين، يجب ألا نصمت، وأن تملأ أصواتنا قاعات المحكمة الدولية لإدانة هذا النظام الغاشم”، ويستطرد الأب “للأسف أصبح توثيق آلامنا أهم من مداواتها، المهم أن يرى الإعلام، ومن ليس بيده ما يقدمه لنا، ما يحصل بنا”.
معتقلونا ليسوا مجرد أرقام
تشهد سوريا منذ انطلاقة الثورة حملات اعتقالات واسعة، ويكون الداخل إلى الأفرع الأمنية أو سجني صيدنايا وتدمر مفقودًا والخارج مولودًا، وسبق وأن نشر عن سجون سوريا الكثير من القصص التي رواها سجناء خرجوا من السجن ولكن لم يخرج السجن منهم، وتجدهم يحاولون نقل الصورة للمجتمع الدولي ويطالبون بمحاكمة سجانيهم، ويستصدرون البيانات للمطالبة بهم، والتنديد بجرائم النظام.
نادى المعتقل نبيل، وبأكثر من مرة بضرورة توثيق حالات الاعتقال في سوريا، والدعوة للقيام بحملات واعتصامات للمطالبة بهم، دون أن يتوانى يومًا عن العمل لأجلهم، وأكد أحد رفاقه المفرج عنهم منذ عدة أشهر لعنب بلدي، بأن نبيل كان يفكر بشكل كبير وجدّي بطرق يوثق بها جرائم النظام، وما يشاهده يوميًا داخل الأقبية، وأنه يخطط كثيرًا لفضح جرائم النظام، فبنظره المعتقلون ليسوا مجرد أرقام تنسى داخل الأقبية، ووسائل الإعلام خير وسيلة لكشف مصيرهم، فقد تنقل نبيل بين عدة أفرع أمنية، وفي سجني عدرا المدني وصيدنايا العسكري، وعاين بنفسه ما كان يقرأ عنه في أدب السجون، وسبق وأن نشر مقالات ونداءات لإنقاذ المعتقلين، وشارك ورفاقه بأكثر من إضراب داخل السجن للضغط على سجانيهم لكشف مصيرهم.
وتكثر على الفيس بوك الحملات للمطالبة بالمعتقلين، وخصص مركز لتوثيق الانتهاكات في سوريا، وخصصت مجموعات وصفحات لمتابعة أخبار المعتقلين، يتم التواصل مع المفرج عنهم، وأخذ شهاداتهم، وإيصال الأخبار التي يحملونها لذوي المعتقلين، كما خصصت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وكذلك المرصد السوري لحقوق الإنسان، جزءًا من عملها للمطالبة بالمعتقلين، حتى منظمات الصليب الأحمر داخل الأراضي السورية تواصل معها العديد من أهالي المعتقلين، وقامت بتوثيق حالات الاعتقال، وكتب الأهالي رسائل طمأنة لأبنائهم، ووعدت المنظمة بالسعي لمعرفة أماكن المعتقلين، وإيصال الرسائل لهم، وطمأنة ذويهم، وأكدت سعيها الدؤوب لأخذ موافقات من النظام السوري لزيارة الأفرع الأمنية، والاهتمام بأحوال المعتقلين هناك.
حتى السجّان يقوم بالتوثيق
يتم التقاط صورة فوتوغرافية للموقوف لحظة دخوله الفرع أو السجن بشقيه المدني والعسكري، وتُنشأ إضبارة وملف باسمه، وتفاصيل عن عائلته وعمله وغيرها الكثير، حتى من لا هوية له يقومون باستصدار إخراج قيد له، وعند وصوله إلى سجن مدني، أيضًا يقومون بتصويره، وإلصاق الصورة على بطاقة شخصية تعطى للأهل لإبرازها عند كل زيارة، في عملية توثيق جديدة.
وتجد قوائم لسجناء تحولوا إلى محكمة الإرهاب، يمكن الاطلاع عليها، والسؤال عن تهمة ومدة حكم السجين، وزيارته وتوكيل محام له، وذلك عن طريق القصر العدلي، والقضاء العسكري، دون أن يتمكن أحد من الاطلاع على سجلات المحكمة الميدانية السرية.
ويقوم الأهالي بالسؤال عن المعتقلين عبر سجلات ووثائق الشرطة العسكرية في القابون، وهناك أربعة احتمالات، إما إخبارهم بأنه في سجلات فرع أمني دون ذكر اسم الفرع، أو أنه تم تحويله إلى صيدنايا أو عدرا أو أي سجن آخر مدنيًا كان أو عسكريًا، وذلك في حال السماح بزيارته، بينما الخيار الثالث أن لا بيانات عن المسؤول عنه، والاحتمال الأخير يتم من خلاله تحويل الأهل إلى سجل الوفيات، وهناك يستلمون ورقة يحولون بموجيها إلى المشفى العسكري لاستلام هوية السجين وشهادة وفاة له، فالمعتقل ليس أكثر من رقم يدخل السجلات فقط، دونما أدنى تأكيد للأهل عن مدى صدق أو كذب هذه السجلات، حيث بات الكثير من الأهل يشككون بمدى مصداقية سجل الوفيات، وأنه يعطي شهادات وفاة للأهالي لترهيبهم، وتخفيف الضغط على مؤسسات الدولة من قبل الأهالي الذين يسألون عن أولادهم، دونما أدلة تثبت شكوك الأهل أو سجلات الدولة مرة أخرى.
وثائق تؤكد ارتكاب النظام لجرائم بحق المعتقلين
“تمكن أحد العناصر الذين خدموا 13 عامًا في سلك الشرطة العسكرية التابعة لنظام الأسد، بالتعاون مع عدد من أصدقائه، من التقاط 55 ألف صورة، لـ 11 ألف حالة تعذيب ممنهج حتى الموت، قامت بها قوات النظام على مدار عامين، ضد معتقلين لديها”، وفقًا لمركز توثيق لانتهاكات في سوريا.
وأظهرت الوثائق بعد التدقيق، أن الضحايا تعرضوا للتعذيب وهم مقيدو الأيدي والأرجل، مع وجود حالات خنق متعمد، بواسطة أسلاك أو حبال، فيما أظهرت حالات أخرى أن بعض الضحايا فقدوا حياتهم بعد أن تم خنقهم بواسطة “قِشاط” مركبات، فضلًا عن استخدام الجوع كأسلوبٍ للتعذيب.
وقد أصدر فريق من المحامين في لندن المختصين في العدالة الدولية وفي التحقيق في جرائم الحرب في سيراليون ويوغوسلافيا سابقًا، تقريرًا مؤلفًا من 31 صفحة، نشرته الـ CNN، وقررت لجنة مشكلة من خبراء دوليين مشهورين عالميًا، سبق لهم أن عملوا في لجان تحقيق تابعة للأمم المتحدة في دعاوى مشابهة، أن الوثائق المذكورة تشكل “أدلة قويّة” لإدانة نظام الأسد بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” و”جرائم حرب”، ولكن بعد هذه الوثائق والإدانات هل أفرج عن أحد المعتقلين، أو عن جثثهم بأسوأ الأحوال؟
تقول ردينة، وهي زوجة ناشط معتقل، إن موقف الثورة السورية، رغم اهتمام وسائل إعلامها في إنقاذ المعتقلين والمخطوفين على مر مراحل الثورة، “مايزال حتى الآن مسكينًا أمام صمت دولي رهيب”.
في أروقة أدب السجون
“من هو أول سجين في التاريخ؟ من الذي اخترع السجن؟ … كيف كان شكل السجن الأول؟ هل هناك سجين واحد في كل العالم، في كل الأزمان، في كل السجون، قضى في السجن عامًا واحدًا أو أكثر، ثم عندما يخرج يكون هو…هو؟”
” جميع الحقوق محفوظة .. إلا حقوق السجن فهي للجميع”
“أخطر ما في السجن أن تفقد احترامك لذاتك، لأنك إن فعلت صارت رقبتك بيد جلادك، وصرت تتقبل منه الصفعة في وجه الكرامة على أنها قبلة في خدّ الرضا”
“نعم، كانت معنوياتنا قد نزلت إلى الحضيض، وكانت أغلى أمنياتنا هي أن نموت موتة فجائية تقينا أهوال الاحتضار الطويل البطيء الذي كان فيه السجين يتقلب إلى جيفة مهترئة يتكالب على نهشها البعوض والذباب وأنواع لا حصر لها من الحشرات الطائرة والزاحفة”.
كل ما سبق ليس استجداء لعواطف أحد، ولا استغاثة بإنسانية أحد، وإنما غيض من فيض ما يعانيه المعتقلون في السجون، وما وصلنا من كتاباتهم ورسائلهم، وما قرأناه في كتبهم وأدبهم، ولك أن تتذكر ما سبق وكتب في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر: آه يا وطن لفاضل السباعي، “وما أنت وحدك، رقصة جديدة، في ساحة القلب، حمامة مطلقة الجناحين، تقاسيم آسيوية، خيانات اللغة والصمت، تغريبتي في سجون المخابرات السورية، الخروج من الكهف” لفرج بيرقدار، و “نحنحات، الوعر الأزرق، ورائحة الخطو الثقيل” لإبراهيم صموئيل، وروايات “غبار الطلع، بقايا من زمن بابل، موت مشتهى” لعماد شيحة، ديوان مروان حديد، وديوان “ترانيم على أسوار تدمر” ليحيى الحاج يحيى، راويتي “الشرنقة” و “سقط سهوًا” لحسيبة عبد الرحمن، و “الرحيل إلى المجهول” لآرام كرابيت، و “ذكريات من جهنم” لعلي أبو الدهن، و “عربة الذل” لحسام الدين خضور، و ”الشهادة كي لا تتكرر الجريمة” لبدر الدين شنن، و “يسمعون حسيسها” لأيمن العتوم، ورواية “الفقد” للؤي حسين، وروايتي “الصلصال” و “طفلة من السماء” لسمر يزبك، “تدمر.. شاهد ومشهود” و “مذكرات معتقل في سجون الأسد” لسليم حماد، و “عينك على السفينة” لمي الحافظ، وكلاهما فلسطينيان قاسا أهوال السجون السورية، و “لأنهم قالوا لا” لمحمد عادل فارس، و” دوار الحرية” لمالك داغستاني، وقصة قصيرة تحت عنوان “قصة الإنسان المعتقل” لمحمود ترجمان، وكتاب “خمس دقائق وحسب، وتسع سنوات في السجون السورية” لهبة الدباغ، وكتاب “في القاع” لخالد فاضل، و “القوقعة – يوميات متلصص” لمصطفى خليفة، و “نغاتيف” لروزا ياسين حسن، و “كما ينبغي لنهر” لمنهل السراج، و “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لخالد خليفة، و “من تدمر إلى هارفارد.. رحلة سجين عديم الرأي” لبراء السراج، و “ما لا ترونه، القادمون الخضر، نقطة انتهى التحقيق” لسليم عبد القادر زنجير، و “بالخلاص يا شباب، 16 عامًا في السجون السورية” لياسين الحاج صالح، و “في القاع .. سنتان في سجن تدمر الصحراوي” لخالد فاضل، و “خطوات في الليل” لمحمد حسناوي، و “أصابع الموز” لغسان الجباعي، إضافة إلى المجموعات الشعرية والقصصية والمقالات التي تنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك الأفلام المنتجة، واللقاءات الصحفية، وغيرها الكثير الذي يروي مأساة السجون السورية، وما يجري هناك حيث الموت يأتيهم من كل جانب.