“حيُّوا حمص..” “حيّينا”
“حيُّوا بانياس..” “حيّينا”
“حيُّوا حلب..” “وووووووووو..”
ذاك كان مقطعاً من إحدى مظاهرات سوريا أواخر أيار 2011، يحيِّي فيه المتظاهرون مدن سوريا الثائرة، لكنهم عندما وصلوا إلى حلب ردَّدوا صوتاً مفاده “استنكار” عدم انتفاضة المدينة ضد نظام آل الأسد.
مع انتصاف شهر حزيران عام 2011 كانت الثورة السورية قد أنهت شهرها الثالث، لتعمّ المظاهرات سوريا كلها، مُحِيلةً بعض المدن إلى مناطق شبه محررة من قبضة الشبيحة والأمن كديرالزور وحماة، والتي كسر ثوارها حاجز المليون متظاهر بعد ذلك بشهر تقريباً، فيما أخذ نظام آل الأسد ينزع أكثر إلى القمع الوحشي، مُطلقاً يد “شبيحته” في طول البلاد وعرضها بصلاحيّات واسعة لا تستثني القتل، مرتكباً مجازر وحشية في غير مكان.
ورغم قِصَر المدّة (ثلاثة شهور) عندما تضعها بميزان التاريخ، إلّا أنها كانت فترة طويلة جداً بالنسبة لثوار حلب الذين عاشوا كل تلك الأيام متابعين أدقّ تفاصيلها في عشرات المدن والبلدات والقرى والأحياء السورية، ممجِّدين كل حراك ثوري ومفاخرين بكل شهيد ومصرِّين على الانتقال من حالة “المظاهرات الطيارة”، إلى مظاهرات كبرى كتلك التي يشاهدون بثّها المباشر من المناطق السورية الثائرة.
كانت المدينة الجامعية في حلب السباقة إلى تظاهرات كبيرة نسبياً، ثم تحوّلت أحياء صلاح الدين وسيف الدولة والشعار وبستان القصر إلى مناطق تظاهر دوريّة، حشد أبناء المدينة فيها أعدادهم لمظاهرات كبرى، لكن عناصر أمن النظام وشبيحته حالوا بينهم وبينها، ليتحول شكل المظاهرات من “الطيارة” إلى مواجهات كرٍّ وفرٍّ بين الشبيحة والمتظاهرين العزّل.
تزايد الشعور في حلب بالحاجة إلى مظاهرة كبرى يجتمع فيها ثوار المدينة من مختلف الأحياء لردّ اعتبارها، حيث كانت هتافات الثوّار في المناطق السورية الأخرى تناشدها الانضمام إليهم، فبالنسبة لأيّ متابع خارجي كانت حلب آنذاك منطقة “محايدة” بسبب غياب مشهد المظاهرات الكبرى عنها، لتبدأ الدعوات ليوم مفصلي في المدينة باسم “بركان حلب” اختير له يوم الثلاثين من حزيران 2011 كموعد، وحي الجميلية قرب “ساحة سعد الله الجابري” كموقع.
ولأَنّ موعداً معلناً لمظاهرة كبرى في منطقة مركزيّة كحيّ الجميلية ستكون دعوةً لمواجهةٍ مفتوحة مع “شبّيحة” النظام وعناصر أمنه، فقد ارتأى بعض الشباب من “تنسيقيَّتنا” تأسيس (مجموعة حماية) من نوع خاص لهذا الحدث.
في تلك الفترة كانت معظم تنسيقيات المدينة تضم “مجموعات حماية” تعتمد على الشباب الشّجعان الذين تقع على عاتقهم مهمة مواجهة الشبّيحة بالوسائل المتاحة كالحجارة وعِصِيِّ الكهرباء وقطع الشوارع بالحاويات لتأمين هروبٍ آمن للمتظاهرين، لكن تلك المجموعات لم تكن تنجح –غالباً– في أكثر من جذب انتباه الأمن إليهم ليسقطوا معتقلين بين أيديهم، أمّا في مظاهرة كبركان حلب، فإن مجموعات كهذه كانت ستؤدي بلا شكّ إلى مواجهات دامية لن يكون الاعتقال أكبر مصائبها.
لذلك اعتمدت فكرتنا لمجموعة الحماية الخاصّة على طريقة مختلفة، فبدل الشباب الأقوياء كان الكهول من أبناء مدينة حلب هم عماد المجموعة، وبدل عصي الكهرباء والحجارة كان عليهم أن يستخدموا مهاراتهم بالتواصل فقط، فإذا رؤوا أيّ دوريّة تقبض على متظاهر وَجَبَ عليهم التوجّه إليها لتخليص الشاب منهم بادّعاء أُبُوَّته أو بمبلغ مالي بسيط في “جيب” العناصر، فما زال النظام حتى ذلك الحين يأمر عناصره بالتعامل الجيد مع الأهالي خشية إثارة حفيظتهم ودفع المدينة إلى الانتفاض غضباً.
انطلقت المظاهرات يوم بركان حلب في عددٍ من مناطق وأحياء المدينة كساحة الجامعة وباب الحديد والمشارقة وغيرها في فترة الظهيرة وقبلها، مؤذِنةً بليلة لن تنساها حلب لفترة طويلة، ومع اقتراب غروب الشمس بدأت جموع الثوار تتوافد إلى حي الجميلية، الذي لم تتكبد عناصر الأمن والشبيحة فيه عناء إخفاء وجودهم أو تمويهه.
كنتُ وصديقي “أحمد مصري” (طالب عمارة من أبناء حلب) نمشي في الشارع الرئيسي لحي الجميلية قريباً من مطعم “فلافيلو” عندما صادفت مجموعة عناصر فرع الأمن العسكري نفسها التي اعتقلتني قبلها بشهر ونصف تقريباً.
غيّرتُ طريقي من الشارع الرئيسي إلى آخر فرعيٍّ، هرباً من المجموعة التي لم يبدُ على قائدها –الذي عرفَني– الاكتراث عندما شاهدني أُحوّل طريقي بوضوح هرباً من مواجهتهم، ولساعة أخرى تجولنا في الحي مبتَسِمين لكلّ وجه مألوفٍ نعرفه من مظاهرات حلب في الأشهر القليلة المنصرمة، ومرتابين من تجمّعات الشبيحة والأمن الكبيرة التي ركّزت وجودها قرب صالة معاوية وجامع أبو بكر الصديق لمنع أي مظاهرة من الاقتراب من ساحة سعدالله..
كان المكان كلّه أشبه بقنبلة على وشك الانفجار.
“تكبير…” “الله أكبر.. الله أكبر..”
انطلقت المظاهرة مساءً متأخِّرةً عن موعدها عند التقاطع قرب (عَبّارة السِّيديَّات)، وتحوّل الحي إلى ساحة “ماراثون” يجري كل من فيه باتّجاه الهتاف، تَجمّع في الدقيقة الأولى 100 متظاهر على الأقل، ثم وفي الدقائق اللاحقة لم أعد أستطيع رؤية أين تنتهي الأعداد وأين تبدأ!
سارت المظاهرة جنوباً بشكل مواز لساحة سعدالله تحاشياً للشبيحة وعناصر الأمن الذين اكتفوا بلزوم أماكنهم حولها، فيما تحركت مجموعات منهم خلف المظاهرة دون الاقتراب منها.
لا أعتقد أن أيّاً منّا كان يُصدّق أننا في حلب! فالمظاهرة كبيرة لدرجة اضطررنا فيها لتوحيد الهتافات المختلفة بين طليعتها وآخرها مردِّدين “إيد وحدة.. إيد وحدة..”! والأمن يتحاشى مهاجمتنا!
حرّرنا الحيّ بأكُفِّنا المتلاطمة، وأصواتنا التي صاحت بكل هتاف نعرفه:
“اليوم يومك يا حلب..” لنتذكّر أين نحن..
“يا أهالي الشام.. يا أهالي الشام.. عنا في حلب سقط النظام” هذا ردّ الاعتبار الذي نشدناه..
دون أن ننسى مطلب الثورة السورية الأهم “الشعب يريد إسقاط النظام..”
بعد ساعة تقريباً أدركنا تناقص الأعداد فلم يكن أيّ منا معتاداً على مظاهرة طويلة، فضلاً عن بدء الشبيحة باعتقال المتخلِّفين في الصفوف الخلفية.
في حارة فرعِيّة عند (فلافل طيبة) تركتُ من تبقّى من المتظاهرين إلى شارع الجميلية الرئيسي، الذي وَجدتُ فيه دورية أمنٍ تصطاد المتحرِّكين في الشارع نزولاً إلى حي المريديان، فغيّرتُ الطريق إلى الاتجاه المعاكس نحو ساعة سعدالله، ثم يساراً إلى مكان انطلاق المظاهرة، والذي تصوّرتُ خُلُوَّه من الشبيحة وقتها، لكن “تجري الرياح بما لاتشتهي السفن”.
كنت قد نسيت مجموعة الحماية الخاصة حتى وصلتُ أمام محل (الأفندي وصباهي)، لأشاهد أمامي رجلاً خمسينيّاً يسحب شابّاً من بين أيدي الشبيحة صارخاً بهم بلهجته الحلبيّة الثقيلة “لك ليش عبتسطعو؟؟ إِش عِملّك.. هاد ما كان معون.. دَشرُو”، وغير بَعيدٍ عنه امرأة مسنّة تحاول المساعدة، أما على الطرف المقابل فقائد دورية الأمن العسكري –الذي تجاهلني سابقاً– يقف بين عناصره منتظراً فريسة جديدة.
توجّهتُ إلى المرأة طالباً منها مساعدتي للخروج من المكان.. حيث أمسَكَتْ يدي متجاوِزةً بي صفّاً لجنود حفظ النظام إلى شارعٍ آخرَ وجدت فيه سيارة أجرة.. ومنها إلى المنزل.
في اليوم التالي أخبرني صديقٌ أنهم استمرّوا ساعة أخرى يتظاهرون في كلِّ شارع في ذلك الحيّ، حتى تفرَّقُوا أخيراً بعد هجوم للشبيحة لم تكن الغاية منه اعتقال أحدٍ بل تفريقَ المتظاهرين.
في ذلك اليوم انفجر بركان حلب حقّاً.. ورَدّت المدينة اعتبارها بأن حجزت مكانها على خارِطَةِ الثورة السورية كما يجب لعاصمة الشمال أن تكون، وكما يليق بثوارها.