“حين غادرت منزلي مهجراً من قريتي الصغيرة بريف محافظة إدلب، حرصت على حمل الدفاتر والأوراق التي حفظت فيها أحداث الثورة، أكثر من نقل أثاث منزلي المكلف والثمين.. كانت هذه الأوراق أغلى من كل شيء، ووحدها مع قليل من حوائج عائلتي حملتها إلى منفاي الجديد”.. هذه الكلمات تلخّص مسيرة الخمسيني حمود الكروم، وهو سوري يوثق أحداث الثورة منذ انطلاقتها، قبل أن يصل خيمة النزوح قرب بلدة كللي شمالي إدلب.
تحريف مفصلي في أحداث مظاهرة سوق “الحريقة” وسط العاصمة دمشق، في 15 فبراير/ شباط 2011، كان كفيلاً أن يغير مسار حياة حمود الكروم ابن بلدة معرشمشة بريف معرة النعمان الشرقي، والتي يعتبرها “أولى صرخات الكرامة من قلب دمشق التي كسرت حاجز الخوف”، إذ تحوّل حمود منذ هذا التاريخ المبكّر من انتفاضة الشعب السوري، إلى موثّق مواظب لأحداث الثورة السورية، دون أي انقطاع على مدار 11 عاماً.
يتحدث حمود، عن الفتيل الذي أشعل الرغبة لديه في التّوجه نحو توثيق أحداث الثورة، وهو تاجر عقارات في منطقة معرة النعمان، إحدى أكبر مدن محافظة إدلب، ويقول: “خرجت الرواية حينها أنّ المظاهرة أسبابها مخالفة مرورية، لكن في الحقيقة كانت الأسباب اعتداء شرطي مرور على ابن تاجر في السوق، حينها بدأت أستشعر خطر التزوير التاريخي، وأنا أحد ضحايا هذه الحالة الممنهجة في سورية، على اعتبار أنّ عدداً من أقاربي كانوا معتقلين في أحداث الثمانينيات”.
يضيف الكروم خلال حديثه لموقع “السورية.نت”، “حالة التزوير التاريخي التي مارسها نظام الأسد في سورية ما قبل انطلاق الثورة، كانت دافعاً قوياً لدي ألا أضيّع حدثاً تعيشه سورية خلال الثورة، خشيةً من تبديل الحقائق.. وكنت حريصاً ألا تعيش الأجيال القادمة ما عشناه من تضليل متعمّد من النظام وأجهزة السلطة بمختلف أشكالها”.
ويتابع: “أسعى أن أوثق تاريخاً مشرقاً وناصعاً للثورة غير منحاز، لكن في المقابل لا يمكن أن أتغاضى عن المساوئ كما أذكر المحاسن”.
من قصاصات إلى دفاتر ومفكّرات
بدأ حمود الكروم، مشواره التوثيقي لأحداث الثورة بـ”قصاصات ورقية”، يكتب على كل قصاصة الحدث الأبرز الذي ورد خلال اليوم، كانت حركةً عفويةً من “سوري حريص على ضمان حفظ المعلومة والحدث خوفاً من التزوير وتبديل الحقائق”، بحسب ما يقول، لكن لم يكن بحسبانه أن يطول أمد سنوات الثورة.
ويوضح لـ”السورية.نت”: “القصاصات لم تعد تفي بالغرض، انتقلت للكتابة على أوراق بيضاء، ومن ثمّ دفتر جيب صغير، وفي نهاية المطاف التزمت الدفاتر والمفكّرات المؤرّخة ذات الصفحات الكثيرة”.
مرّ حمود مثل أي سوري بظروف قاهرة، في ظل القصف والنزوح والأزمات المعيشية، وتحت هذا الضغط، كلما فكّر بالابتعاد عن العمل التوثيقي والتفرّغ لتأمين لقمة عيش عائلته، تتردد إليه قناعة يسردها: “أزمتي الشخصية سواء كانت مادية أو معيشية، مرتبطة بشخصي وعائلتي، بينما التوثيق مرتبط بأمة وشعب كامل.. لا أريد أن أكون عاملاً مساعداً على إضاعة تضحيات الشعب السوري، أريد أن أوصل الحقيقة ولو على حساب مصلحتي الشخصية وتعبي وإرهاقي”.
توثيق “لكل شيء” بـ 80 ألف صفحة
لم يهمل حمود محوراً معيناً أو حدثاً من تاريخ الثورة السورية منذ انطلاقتها، على حدّ وصفه، يحرص خلال عملية التوثيق على كتابة كل ما يمر به السوريون وينعقد من أجلهم، إذ خصص تبويباً من توثيقاته لكل الاجتماعات والمؤتمرات التي عقدت من أجل سورية بدءاً من مؤتمر أنطاليا في تركيا وصولاً إلى “أستانا 17” وكل ما عُقد بينهما.
ويوثق حمود “الأحداث السياسية والعسكرية والإنسانية بمختلف أشكالها، المجرّدة وغير المنحازة دون أي تعليقات أو وجهات نظر شخصية، ويركّز على مآسي الشعب السوري والانتهاكات التي يتعرّض لها، إلى جانب قصف النظام وروسيا على الأحياء المأهولة بالسكّان، وحتى التصريحات الدولية الصادرة حول الشأن السوري مهما كانت ومن أية جهة كانت”.
وحول الأحداث السياسية والمؤتمرات، يقول حمود، “كوني موثق يرصد زيادة أرقام المؤتمرات دون جدوى وزيادة مأساة الشعب السوري، كنت على ثقة أنها وجدت لإطالة أمد الأزمة التي يعيشها السوريون، وتعويم النظام، وهذه السنوات الطوال خير شاهد”.
ويوضح أن “بداية عملية التوثيق كان تعتمد بشكل رئيسي على شاشة التلفزيون بالإضافة إلى الاتصال بشكل شخصي مع ناشطين ومعارف على الأرض عبر “شبكة الموبايل”، ومع وصول الإنترنت الفضائي إلى محافظة إدلب اقتنيت واحداً على الفور وأصبح البحث والترصّد عبر شبكة الإنترنت”.
ويؤكد حمود أن “عملية التوثيق لديه لم تكن تسلم للمعلومة قبل مقاطعتها مع عدة مصادر إعلامية موثوقة ومهنية مثل كبرى وسائل الإعلام “الجزيرة، بي بي سي، فرانس 24، وغيرها من وسائل الإعلام”، حتى بات لديه أكثر من 80 ألف صفحة.
بدائل إلكترونية عن الورق.. دون تجاوب
في كل مرة ينتقل فيها حمود إلى مكان جديد خلال رحلة نزوحه، كان هاجساً بالنسبة له نقل هذا الأرشيف الورقي الضخم الذي فاق 80 ألف صفحة، إلى وجهة النزوح الجديدة، الأمر الذي يدعو لأهمية البحث عن استبدال الأرشيف الورقي للأحداث الموثقة على مدار 11 عاماً بأرشيف إلكتروني، خوفاً من الضياع أو الإتلاف، وفقاً لـ الكروم.
يقول في هذا السياق، إنّه “ناشد عدداً واسعاً من المؤسسات الثورية وحتى المنظمات لتبني توثيق العمل إلكترونياً أو حتى المساعدة فيه، لكن دون أي تجاوب حتى اللحظة”.
يوضح حمود أنّ “نقل الأرشيف الورقي إلى إلكتروني يحتاج تفرغاً كاملاً من قبله، في وقتٍ يعيل فيه أسرته، وهو ما لا يمكن الجمع بينهما في الوقت الحالي، فضلاً عن الحاجة إلى معدّات أبسطها جهاز حاسب شخصي (لاب توب)، على اعتبار أنّ حاسبي الشخصي قديم ولا يحتمل هذه العملية التوثيقية”.
ويتخوف حمود في ختام حديثه حول عملية التوثيق الإلكترونية، أن “يضطر للنزوح خارج هذه البلاد ـ لا قدّر الله ـ على اعتبار أن محطته الحالية هي الأخيرة ولن يكون هناك ملاذاً آخر للفرار من بطش النظام وقصفه، إذ لا يمكن أن ينقل الأرشيف الضخم هذا خارج البلاد”، ويردف: “في هذه الحالة سيكون مصيره الحرق والإتلاف بكل أسف”.
تحويل الأرشيف إلى كتاب
يضع حمود تصوّرين لجمع الأرشيف الورقي “المتبعثر” لأحداث الثورة ، في حال توفرت مؤسسة أو جهة ثورية تتبنى المشروع، وهو ما يطمح إليه بشدةّ في هذا التوقيت بعد انقضاء 11 عاماً على انطلاق الثورة وتضخّم الأرشيف.
يقول حمود إنّ “التصور الأول لجمع الأرشيف في كتاب يكون بناءً على التبويبات حسب الحدث مثل الانتهاكات، المجازر، المؤتمرات السياسية، الضحايا المدنيون، بينما التصور الثاني للكتاب يكون بناءً على التبويب السنوي مثل أحداث عام 2011، أحداث عام 2012… الخ”.
وبمناسبة الذكرى الـ 11 للثورة السورية، يقول حمود في ختام حديثه لـ”السورية.نت”، إنّ “هذه الذكرى تشعره بألم كما هو الحال بالنسبة لكل سوريّ، وهو النازح في خيمة تهجير ضمن مخيم عشوائي، لأنّ السوريين بالملايين، تحولوا إلى أرقام في سجلات الضحايا والمعتقلين والمشرّدين واللاجئين”، حسب تعبيره.