تمهيد
تحاول هذه الدراسة أن تجلو وجه الهوية السورية، منذ أن أخذت تلوح في أفق العديد من المفكرين والمثقفين ووعيهم واقع وطنهم السوري، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلى الثورة السورية عام 2011 وما أفرزته من تأثيرات، إذ أخذت المفاهيم تتباين حولها مبتعدةً عن شكل بناء الدولة الحديثة، وجوهر هويتها، وتُظهر الدراسة الكيفية التي يجب أن تتجلى فيها الهوية الوطنية وتفرعاتها، وما تضيفه إليها حركة الحياة وفعالياتها المختلفة لتكون عامل إغناء لا فرقة لأبناء الوطن الواحد، إذ تتفاعل تبايناتها إيجابيًا في إطار من الحرية التي تغني حياة الأفراد بتحقيقها المواطنة المتساوية فيما بينهم، والمحمية بقوانين ضامنة لحقوق أطيافها كافة.
مقدمة عامة
في تعريف الهوية الوطنية، يمكن القول إنها صورة مجتمع ما يعيش على أرض واحدة، ويقوم بأنشطة حياتية مختلفة مكونًا علاقات تعاونية يعبّر عنها بلغة واحدة أو أكثر، وثقافة عامة تتجلى في علوم وفنون وآداب وعادات وتقاليد ومعتقدات مختلفة، ورؤى مستقبلية تشكل رابطًا مشتركًا يعرف بالتاريخ الشامل الذي يرسخ أواصر الهوية ويقوي متنها. وقد تُخَلْخِل الأحداث السياسية ذلك المتن، فيعتري الهوية نوع من التبدل، إما إلى قوة وإما إلى ضعف، وربما، وبفعل التطور، دخلت على مفهوم الهوية عناصر جديدة، مؤقتة أو دائمة، مسَّت الأرضَ والسكان وطبيعة الأنظمة التي يوجدها الإنسان خلال سعيه لتحسين ظروف عيشه وحياته؛ فالهوية “ليست منجزًا نهائيًا منغلقًا على ذاته، إنها امتداد للتاريخ والحضارة، وهي قيم وخصائص قابلة للتحوير والتطوير والتحول، من زمن لآخر، بحسب المستجدات، فهي تمرُّ في تفاعل ونمو وازدهار، كما قد تعيش حالة ركود وخمول وانكماش”[1]. وإذا كان التاريخ السوري ضاربًا في القدم، فإن بنية الهوية السورية قد تعدّدت عبره، فأرضها الطبيعية، كانت موطن الإنسان منذ العصور الحجرية، وهي، بحسب القول المنسوب إلى الإله السوري الوثني “بعل”، أرض السلام والمحبة، ومركز الأرض: “حطِّم سيفك، وتناول فأسك واتبعني، لنزرع السلام، والمحبة في كبِد الأرض، أنت سوري، وسورية مركز الأرض”. ويؤكد الفكرة شارل فيرلو الذي فكَّ رموز الألواح المسمارية الأوغاريتية، وقرأ أول أبجدية في التاريخ الإنساني، إذ قال: “على كل إنسان في العالم أن يقول: لي وطنان، وطني الذي أعيش فيه، وسورية”[2]. وكان الإسكندر المقدوني قد سبقه إلى مثل هذا الكلام مشغوفًا بجمال البلاد السورية، فعندما خيَّمت جيوشُه في أطراف أنطاكية عام 333 قبل الميلاد، وشرب من ماء نبع هناك، قال: “ماء هذا النبع يذكّرني بحليب أمي.. سورية وطني الثاني”[3].
نعم، إن سورية التي ألف الإنسان أرضها منذ آلاف السنين، جرى عليها كثير من التبدلات عبر العصور، وتعاورها كثير من الأقوام أحقابًا مساهمين أحيانًا في بنائها، وأحيانا قليلة في نهبها والتنكيل بأهلها. سورية لا تزال باقية، وهي مستمرة بعونهم مهما كانت معتقداتهم أو انتماءاتهم القومية، فهم أولًا وأخيرًا سوريون، فلا أقلية ولا أكثرية، فالتجربة المريرة التي مرُّوا بها جميعًا تحتم عليهم العيش المشترك في إطار أنظمة وقوانين تكفل المساواة التامة في حياة الإنسان المادية والروحية، وحين أقول الروحية: أعني الدين والطائفة والثقافة واللغة (أداة التواصل القومي والإنساني)، وكل ما يجعل السوري معتزًّا بوطنه ومواطنيته!
إن قراءة متأنية لأحداث العقود الخمسة عشر الأخيرة تبيِّن جهود السوريين في العمل لنفض غبار السنين عن الهوية السورية، لأجل استعادة روحها ولملمة أجزائها، لكن مفاجأة غدر التاريخ كانت مرعبة، إذ ارتكب المنتصرون في الحرب العالمية الأولى جريمتَيْ “سايكس بيكو” (3 كانون الثاني/ يناير 1916)، ووعد بلفور (2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917) اللتين كان تأثيرهما عميقًا في خريطة سورية الطبيعية، وفي نموها وتطورها فيما بعد. بيد أن السوريين استطاعوا، من خلال الواقع الذي فرض عليهم، أن يعيدوا خلال سنوات قليلة بريق تلك الهوية في إطار تلك الاتفاقية المفروضة. لكن العبث بها عاد ثانية، بكل أسف، على أيدي بعض مواطنيها، فكان الاستبداد الذي طمس الهوية، إذ غيَّب الحريات العامة، وصادر السياسة التي تعدّ بحق روح الهوية الوطنية في بنية الدولة الحديثة، وهو ما يؤمل من خلال السعي إلى تحقيقه.
خلفيات اليقظة والبحث عن الهوية السورية
عانت بلاد الشام خلال القرن التاسع عشر حالة من انعدام الأمن بين المدن، بسبب هجمات قطاع الطرق في الأرياف، إضافة إلى ارتفاع نسب الضرائب الزراعية، ما ضيق سبل التجارة الداخلية وأدى إلى انهيار الزراعة وتراجع الحرف التقليدية أمام السلع الأوروبية التي اقتحمت عالم السلطنة، وأدت إلى انكماش مواردها المالية، فانتشرت البطالة بأمراضها، ما دفع كثيرًا من الناس إلى مغادرة موطنهم.
و”يتفق المؤرخون على أن الوضع البائس لم يدفع القصر السلطاني إلى ضبط نفقاته التي كانت تساوي ثلث واردات الدولة، أو تقليص مصاريف الجيش أو تفادي الحروب المتكررة، ما أدى إلى تفجّر عدد من الثورات، فاندلعت انتفاضة حلب عام 1850، وانتفاضة حوران عام 1852، وكسروان عام 1854..”[4].
كان لحملة إبراهيم باشا على بلاد الشام عام 1832 تأثيرٌ كبيرٌ في تفتح أعين النخب السورية، على قلّتها آنذاك، فقد اهتمّ بالتعليم، وجعَل اللغة العربية لغة رسمية في البلاد، كما اهتم بالزراعة وأعفى الفلاحين من الضرائب، لكنه لم يستمر أكثر من ثماني سنوات، إذ عاد إلى مصر عام 1840. لكن تأثير عهده القصير استمر، حيث “أخذت المدارس الوطنية تنتشر في بيروت وجبل لبنان والقدس ودمشق وحلب، بالإضافة إلى مدارس البعثات التبشيرية الأميركية التي بلغت في بيروت وحدها ثلاثين مدرسة، إضافة إلى الكلية الإنجيلية السورية عام 1866، كأول جامعة علمية في الأقطار العربية، وكذلك افتتحت البعثة الفرنسية جامعة القديس يوسف عام 1875[5].
“أما المدارس الوطنية، فكان أبرز مؤسسيها ناصيف اليازجي وبطرس البستاني، وعندما أصبح مدحت باشا واليًا على دمشق بين عامي 1878 و1880 أولى التعليم عناية خاصة، حتى بلغ عدد المدارس الوطنية التي أنشأها في دمشق وحدها عند نهاية حكمه 103 مدارس، 19 منها مختلطة، و16 للإناث و68 للذكور. إلى جانب كون المكتبات العامة إحدى مظاهر النهضة، فتأسست المكتبة الظاهرية في دمشق، والمكتبة الشرقية، ومكتبة نعمة يافت في بيروت”[6].
أولًا: بدايات تشكل الهوية السورية في العصر الحديث
في تلك الأجواء التي سادت النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، أخذت أصوات المنورين السوريين وأقلامهم تلهج بالوطنية السورية، مباشرة أو من خلف سطور، فمن مُطالِب بحكم ذاتي، إلى آخر يطالب بالاستقلال كليًا عن الدولة العثمانية. وكانت الصحف قد أخذت تتكاثر في الصدور بدءًا من عام 1855 ومنها: “مرآة الأحوال”، و”السلطنة”، و”حديقة الأخبار”، و”الجوائب”، و”ثمرات الفنون”، وغيرها.. ومن مؤسسي تلك الصحف: رزق الله حسون، وإسكندر شلهوب، وخليل الجابري، وأحمد فارس الشدياق وسواهم[7].
وكان لتشكيل الجمعيات، وافتتاح المدارس، تأثير بالغ، إذ تركزت مطالب المنورين على “منح سورية استقلالها متحدة مع جبل لبنان، والاعتراف باللغة العربية لغة رسمية للبلاد، وإلغاء الرقابة، وأية قيود تحول دون حرية الرأي وانتشار العلم، وبعدم تجنيد السوريين إلا ضمن حدود بلادهم”[8]. واستمرت تلك المطالب إلى أن أتت الحرب العالمية الأولى، وخلالها أي في 10 حزيران/ يونيو 1916، أعلن الشريف حسين بن علي (أمير منطقة الحجاز) الثورةَ العربية الكبرى على الدولة العثمانية، بعد خلافات سابقة مع حكومة الاتحاديين في الدولة العثمانية وجرت بعدها توافقات مع الإنكليز ووعود منهم، عُرفت حينئذ بـ “مراسلات حسين- مكماهون”، وخلال أعوام 1918– 1920 دخل الأمير فيصل بن الحسين سورية، ليتوّج ملكًا عليها في 8 آذار/ مارس 1920 تحت اسم “المملكة السورية العربية”، وقد ضمت معظم أجزاء سورية الطبيعية، لكنَّ خديعة الدولتين الكبريين، آنذاك، تكشفت عن اتفاقية “سايكس بيكو”، بين بريطانيا وفرنسا اللتين عملتا على تقاسم بلاد الشام والعراق، و”إجهاض مشروع الدستور الديمقراطي العصري في سوريا 1920 الذي وضع في عهد الملك فيصل مستندًا إلى الدستور الأميركي. (تحدثت عن ذلك المؤرخة الأميركية إليزابيت. ف. تومسون، في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب” الصادر عام 2020..)”[9]. ونص الفصل الأول من دستور “المملكة السورية العربية” على أن:
حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق الشام، ودين ملكها الإسلام. وتتألف المملكة من مقاطعات تشكل وحدة سياسية لا تقبل التجزئة. واللغة الرسمية في جميع المملكة السورية هي اللغة العربية. وأكدت لجنة إعداد الدستور “احترام حرية الأديان والمذاهب بلا تفريق بين طائفة وأخرى”، واختيار دمشق عاصمةً لها، بالنظر إلى وجودها وسطًا بين ساحلها وداخلها”. وأقرّت اللجنة ذاتها حق الرأي والانتخاب، إضافةً إلى احترام حقوق الأقليات، على أن تقسّم المملكة السورية إلى مقاطعات مستقلة. وأقر البند المتعلّق بحقوق الأفراد والجماعات: “الحرية الشخصية مصونة من كل تعدّ، ولا يجوز توقيف أحد إلا بالأسباب والأوجه التي يعيّنها القانون”، و “لا يجوز التعذيب وإيقاع الأذى على أحد بسبب ما”.
كما أكد الدستور أنّ “المطبوعات حرّة ضمن دائرة القانون، ولا يجوز تفتيشها ومعاينتها قبل الطبع”. ونص كذلك على تأسيس مدارس كلية للعلوم والفنون العالية، تقوم بإدارتها وتوفير نفقاتها الحكومة”[10]. وبذلك قضي على أول مشروع ديمقراطي حقيقي في سورية الكبرى، وكان يمكن أن يكون عامل نهوض وارتقاء.
ثانيًا: مرحلة الانتداب ورفض الهوية الطائفية
منذ بدء العمل باتفاقية “سايكس بيكو”، لم يتوقف النضال السوري ضد الانتداب الفرنسي، ولأجل الاستقلال الوطني، وهذا إن لم يؤكد وجود الهوية السورية، فإنه يحدد شرط وجود الحرية لاكتمال الهوية الوطنية، ففي تلك المرحلة نشطت عدة أحزاب سياسية، بالرغم من المضايقات الفرنسية، عرفت بطابعها الوطني العام، ومنها حزب “الاستقلال” و”الاتحاد السوري”، و”حزب الشعب”، وتجمّع “الكتلة الوطنية” الذي ضم أعضاء من حزبي الاستقلال والشعب[11]. وكذلك نشطت الصحافة أكثر من ذي قبل، وبرزت حركة التحرر السورية قوية بشقيها العسكري والسياسي، فردَّ الانتداب الفرنسي بتقسيم سورية إلى خمس دول، وإعطائها هويات طائفية لإضعاف تلك الحركة، لكن غالبية السوريين وأقلياتهم رفضوا التقسيم، وألقوا بالهويات الجديدة في وجه مصدريها. يقول أكرم الحوراني عن تلك الحالات: “إن النضال الوطني لشعب سورية قد أخذ طريقه ضد الطائفية، التي اعتمد عليها الفرنسيون لتمزيق وحدة البلاد إلى دويلات، ففيما كانت دولة جبل الدروز تعلن رفض عزل الجبل في دويلة خاصة خارج نطاق الشام والعروبة، كانت سلطات دولة العلويين تجابه الوفود من سكان منطقة اللاذقية، الذين أعلنوا أنهم يريدون تغيير هوياتهم التي تنسبهم إلى دولة العلويين، وكان مكتب الكتلة الوطنية في حماة يستقبل العديد من وفود أبناء مصياف المطالبين بالوحدة، والرافضين لأن تكون المذاهب الدينية سببًا في تمزيق وحدة سورية”[12]. وكتب المؤرخ عبد الله حنا، في هذا المجال: “بعد مؤتمر الكتلة الوطنية بشهور (عقد مؤتمرها في بيروت بتاريخ 25 تشرين الأول/ أكتوبر 1927)؛ عقد أبناء الساحل في 13 حزيران/ يونيو 1928 مؤتمرًا في دمشق، أيّد ميثاق البلاد الوطني، وطلب من الجمعية التأسيسية، (انتخبت عام 1928، ووضعت دستورًا وطنيًا علمانيًا، عطله المفوض السامي الفرنسي بالمادة 116)، تحقيقَ وحدة البلاد السورية بضمّ جبل الدروز والبلاد المسماة بلاد العلويين ومناطق بيروت وطرابلس وصيدا ومرجعيون واللاذقية والبقاع وبانياس التي ضمّها المندوب السامي الفرنسي إلى لبنان في عام 1920[13]. وما الإشارة إلى المثالين السابقين إلا للإشارة إلى حجم الدمار الذي ألحقه حزب البعث وزعيمه حافظ الأسد في الهوية السورية الجامعة، ليأتي فيما بعد ابنه الوريث ويدمّر سورية بكاملها، حجرًا وبشرًا.
وهكذا، بفضل نضال الشعب السوري بأطيافه كافة، عادت سورية موحدة الهوية بموجب معاهدة أبرمتها الكتلة الوطنية “مع حكومة الانتداب، بعد نجاح الجبهة الشعبية في فرنسا ومجيء حكومة يسارية في أيلول/ سبتمبر من عام 1936..[14]، ثم لتنال سورية استقلالها في 17 نيسان/ أبريل عام 1946.
ثالثًا: استواء الهوية السورية عبر الديمقراطية والتنمية
في تلك الفترة، جرت عدة انقلابات عسكرية بين أعوام 1949 وأواخر 1953، عكست حدة الصراع الدولي على سورية، بينما هويتها أخذت تتبلور، وتنمو مع بداية عام 1954عبر نظام ديمقراطي، أتيحت خلاله الحريات السياسية التي تجلَّت بتشكيل أحزاب سياسية استتبعت معها صحافة حرة، تجاوز عددها أكثر من ثلاثين جريدة ومجّلة في كل من دمشق وحلب، بالإضافة إلى ما صدر في بقية المحافظات، كما افتتحت النوادي الثقافية، والاجتماعية، وتأسست النقابات العمالية والمهنية.
أما الأحزاب السياسية التي قويت في تلك المرحلة، فقد كانت تتصارع في الداخل حول السلطة. وبرزت أربعة أحزاب رئيسة إلى جانب حزبي الأغلبية البرلمانية، وهما “الحزب الوطني” الذي يمثل الكتلة الوطنية، و”حزب الشعب” الذي مثل كبار الإقطاعيين. والحزبان ليبراليان وطنيان، لا ينتميان لأية إيديولوجيا، بينما ظهرت الإيديولوجيا لدى الأحزاب الأخرى، إذ حاول كل منها إعطاء الهوية السورية صبغة حزبه الأيديولوجية.. ومن تلك الأحزاب حزبان قوميان أحدهما “السوري القومي الاجتماعي” الذي يحتفي بالقومية السورية، وثانيهما حزب “البعث العربي الاشتراكي”، وشعاره: “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، وكلا الحزبين يحاول البناء على إحياء الماضي، ويشاركهما التطلع نفسه حزب “الإخوان المسلمين”، وإن كان أمميًا في مسعاه إلى استعادة الخلافة الإسلامية، ويبقى الحزب الشيوعي السوري الذي يتبنى الفلسفة الماركسية، وكان قد تشكل بمبادرة من الحركة الشيوعية العالمية التي يتزعمها الاتحاد السوفييتي السابق. واستطاع حزب البعث الذي تميَّز بوجوده بين ضباط الجيش الذين استطاعوا قطع ذلك التطور السوري، وإقامة الوحدة السورية المصرية في 22 شباط من عام 1958، وعلى الرغم من أن الوحدة العربية كانت في ذلك الزمن مطلبًا شعبيًا، فإنَّ عدم مراعاة تباين الأحوال السياسية والاقتصادية بين البلدين جاءت وكأنما هي انقلاب على حالة الصعود الشامل في سورية.
في تلك المرحلة، غابت الهوية السورية عن الوعي الشعبي السوري ليحلّ محلها نزوع نحو وحدة عربية كبرى، إلا من نخب حزبية، وقوى سياسية تمثل مصالح اقتصادية نامية، آنذاك، أخذت تستيقظ، بما فيها حزب البعث الذي لم يحقق مراده في قيادة الإقليم الشمالي. وقد استُغِلت أخطاءٌ، وحالاتٌ تمييزية أخذت تظهر في صفوف الجيش تحديدًا، وبعض أمور الاقتصاد مست شأن التاجر السوري، إضافة إلى سلطة القمع التي قادها الضابط السوري عبد الحميد السراج. وهكذا وقع انقلاب الانفصال في 28 أيلول/ سبتمبر عام 1961)، قادته مجموعة من الضباط السوريين (أكثر من ستين ضابطًا على رأسهم العقيد عبد الكريم النحلاوي مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش في سورية[15]، وكانت الهوية السورية التي عرفتها سنوات الخمسينيات قد تبدلت، فالشارع السوري كان ضد انقلاب الانفصال، وحتى صيغ بيانات الانفصال جاءت عروبية أكثر منها سورية، وقد جاء في بيان الانقلاب رقم1: “إننا نعلن أن هذه الانتفاضة لا صلة لها بشخص أو بفئة معينة، وانما هي حركة هدفها تصحيح الأوضاع غير الشرعية. فيا أيها الشعب العربي، ثق بجيشك فإننا أقوياء بعون الله وبقوته[16].
وأتى انقلاب الثامن من آذار عام 1963، تحت عنوان إعادة الوحدة! ووقع بعد سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام من تاريخ الانفصال، لكن انقسام البعثيين بين من أيّد إعادتها فورًا، وكما كانت عليه، وآخرين يريدونها وفق شروط محددة، ما دفع جمال عبد الناصر إلى رفض فكرة الإعادة من أساسها..
وهكذا عادت سورية باسم جديد هو “الجمهورية العربية السورية”، لكن حزب البعث راح يفرض هويته على الشعب، بما يمارسه من تمييز بين أعضائه من جهة، وبين بقية أفراد الشعب من جهة ثانية، وبدأ بتقييد كل ما من شأنه أن ينمي الاقتصاد، فسلك نهجًا دكتاتوريًا، فصادر العمل السياسي وكل ما يتطلبه من أحزاب، وصحافة، ونقابات ومنتديات، وتداول سلطة.. إلخ، وحتى عندما جاء حافظ الأسد تحت شعار الانفراج، وإخراج سورية من عزلتها العربية، راح يرسم ملامح دكتاتورية أبدية، وديمقراطية صورية، فكان الدستور أصغر من الهالة التي رسمها الرئيس لنفسه. وهكذا رُكِن الدستور جانبًا إلا من وجود صوري له، ولم تكن الجبهة الوطنية أكثر من واجهة للتعدد الحزبي، إذ أقرّ أطراف ميثاقها لحزب البعث بقيادة الدولة والمجتمع.. وباحتكاره للعمل الحزبي في الجيش وبين الطلاب، وصولًا في النهاية إلى “التنظيم السياسي الموحد”، والحقيقة أنّ ما جرى على أرض الواقع لم يكن وجودًا فعليًا إلا للرئيس الفرد، ولأفراد من عائلته، ومن زملائه الضباط الذين أسلسوا له الانقياد بما أنعم عليهم وما أباحه لهم من ممارسة للفساد الذي تلخَّص في التطاول على الدولة والشعب ونهبهما معًا.
في ذلك الوقت، غابت الهوية السورية الجامعة عن الحس الشعبي، وحلّ محلها ضجيج الشعارات، بينما في واقع الحياة كان هناك غياب كلي لأي نشاط اجتماعي حرّ، وغدت الهوية حلمًا، راح يعبر عن نفسه في همس السوريين وفي تأففهم ونكتهم، وحتى في انتقادات خجولة تظهر، على نحو غير مباشر، وفي ثنايا ألوان من الأدب، وخلف سطوره، ولدى كتّاب معينين أو من خلال بعض المنابر المحمية أحيانًا.. وتجرأ بعض الشعراء والكتاب على النقد الصريح أمثال محمد الماغوط، ونزار قباني، وسعد الله ونوس.. وكثر التغني بالحرية والديمقراطية في مواطنها، وكان ذلك كله تعبيرًا عن انتظار فرصة مناسبة إلى أن جاء الانفجار الشعبي في آذار/ مارس من العام 2011.
رابعًا: الانفجار السوري وإعادة البحث عن الهوية
خرجت الاحتجاجات السورية عام 2011، تحت شعار واحد هو “الحرية والكرامة الإنسانية”، لكن أوَّل ما لفت انتباه الذين تصدوا لقيادة ملايين المحتجين هو تشكيل هيئات قيادية، على أساس تمثيل المكوِّنات السورية، من قومية ودينية وطائفية، وأحيانًا من مناطقية وعشائرية، وتأطيرها بأشخاص، أو أحزاب، أو جمعيات، ما سمح بممارسة بعض الفرقاء نوعًا من الحذلقة السياسية، ليحظى بأعداد أكثر في الهيئات القيادية، وليفرض توجهه أو أيديولوجية حزبه أو معتقده، من دون النظر إلى الهوية السورية الجامعة.. وربما أتت تلك الممارسة تحت تأثير مظلومية ما، لكنها ألحقت الضرر بنقاء الاحتجاجات الشبابية ونبل غاياتها.
لا شك في أن وجود المكونات أمر طبيعي، ولا أحد يعتقد أن ثمة مجتمعًا واحدًا في العالم خالص النقاء جنسًا أو عرقًا أو دينًا. أما أن تُفهم الحرية على أنها تقاسم البلاد حصصًا، والزعم بأن هذه الفئة الاجتماعية قد ظُلمت أكثر من غيرها، فهذا مجاف للحقيقة. فالظلم قد لحق بالمجتمع السوري كله. وقد شمل الظلم الحقوق السياسية، والاقتصادية، والإنسانية. صحيح أن الاستبداد عمل على طمس بعض الهويات الفرعية السورية، بالنيل من لغتها وثقافتها، وتجاوز على الأغلبية الاجتماعية بسبب الصراع الذي نشأ مع الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين أواخر سبعينيات القرن الماضي وأوائل ثمانينياته، لكنّ العودة إلى الهويات الفرعية أساس الحصص لا يحل المشكلة، بل يصب في طاحونة الاستبداد ذاتها.
إنَّ تحويل حلم الهوية الجامعة إلى هويات فرعية هو إعادة لإنتاج الاستبداد، ودون الدخول في تفاصيل ذلك، يكفينا مثالًا دولتا “لبنان والعراق” اللتان قادهما مبدأ التقاسم، على أساس المكونات، لا إلى تفتيت الهوية الوطنية الجامعة فحسب، بل إلى نهب ثروات بلديهما، وإيصال شعبيهما إلى حافة المجاعة، فضلًا عن ارتهانهما للأجنبي، ويحاول اليوم جيل الشباب في البلدين العودة إلى الهوية الوطنية الجامعة على أسس من الحرية الأوسع والأعمق في وطن موحد.. ولا يهمنا كيف كانت المجتمعات تتعايش في الأزمان الغابرة، بل ما يهم هو معرفة الكيفية التي تنظم المجتمعات المتقدمة حياتها اليوم!
ففي الدول الحديثة، ومثالها الأقرب إلينا المجتمعات الأوروبية، وكثير من الدول الموزعة في القارات الأخرى، ثمة عقد اجتماعي، قطباه المجتمع بتنظيماته المختلفة والدولة، وينصّ جوهره على إلزام الدولة بمؤسساتها المختلفة بتأمين الحماية الداخلية للشعب، وتوفير الخدمات العامة لسبل عيشه وحياته، ومشاركته في العملية السياسية وما تتطلبه من حرية تشكيل الأحزاب، وممارسة العمل الصحفي تعبيرًا عن الرأي، وتأسيس منظمات مدنية ثقافية واجتماعية، ويلزم العقد الشعب بالالتزام بالقوانين التي تسنها مؤسسات الدولة التشريعية[17].
خامسًا: حال الهوية السورية اليوم
لا بدّ لنا اليوم من وقفة صادقة مع الذات، والنظر إلى الواقع السوري، وإلى موضوعة الثورة، وتقييم ما آلت إليه بعيدًا عن ضجيج الشعارات، فالمأساة أكبر مما نتصور وأعظم! ولا بد من توجيه الأسئلة إلى الذات، من خلال الهويات الفرعية التي تفعل فعلها على الأرض السورية! فهل تمثل روح الانفجار الشبابي السوري أم تتناقض في جوهرها مع إستراتيجيته المتطلعة نحو الحرية والديمقراطية، والمواطنة المتساوية في الحقوق كافة. إن الواقع يشير إلى أنها لا تمثل الهوية الوطنية الجامعة، بل هي هوية ميليشيات منفلتة من أي عرف أو قانون، وهي حكومات الأمر الواقع التي تعدُّ “أسوأ من أية حكومة مستبدة في العالم”[18]، إذ هي تحكم بالأهواء، وبمصالح قادتها.
وتتجلى حكومات الأمر الواقع في سورية اليوم بأربع هويات مختلفة، يتمايز بعضها عن بعض، ففي شرق الفرات تتكون هوية جديدة تحت اسم “قوات سوريا الديمقراطية”، وهي محمية من الأمريكان تحت شعار محاربة (داعش).. وفي إدلب هوية أخرى، تشكلها “هيئة تحرير الشام”، و(هي فرع للقاعدة)، وعلى تناقض مع الأولى، وتتجلى الاثنتان في أيديولوجيتين مسيطرتين على شعبي المنطقتين، ويبرز ذلك من خلال شكل الحكم، ومناهج التعليم، واستغلال الثروات، والتصرّف بها. وكلا التنظيمين موضوع على قائمة الإرهاب.
وهناك هوية النظام الذي لم يغادر استبداده وقمعه، بل ازداد عسفه وطغيانه، وتجاوزاته! فلا قانون يحترم، ولا أعراف أو أخلاقيات اجتماعية، وإلا لما انتشرت المخدرات: صناعة وتجارة، يمارسها مع أثرياء الحرب ومجرميها، ولا يزال النظام يغطي فعائله بعلمانية مزيفة، وحماية كاذبة للأقليات السورية، بينما هو في الحقيقة يقمع الجميع، وكان قد رفض التعاطي مع مطالب الشعب السوري الذي انتفض ضده عام 2011، واحتمى بالجيش والأجهزة الأمنية، وأسال الدم السوري، مستعينًا بالأجنبيين الإيراني والروسي، وأعاد، بالتالي، تفتيت الهوية عمليًا. وكانت على زمن أبيه مغلفة بالشعارات.
وثمة هوية رابعة في الشمال السوري، في المناطق التي تشرف عليها تركيا (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، لكنها هوية غير متجانسة، وهي تحكم تحت راية الثورة، وتستمد أحكامها، ظاهريًا، من الفقه الإسلامي، لكنَّ أغلب الحكم الفعلي بيد الفصائل العسكرية، وأجهزتها الأمنية، وهناك دور جزئي للمجالس المحلية.
ولدى كل تلك الحكومات (حكومات الأمر الواقع) التي تحكم مناطق سورية، سجون ومعتقلات وتعذيب، وهناك مشكلات اجتماعية واقتصادية عديدة.
سادسًا: هل ثمة إمكانية لاستعادة الهُوُيَّة الوطنية الجامعة؟
لا شك في أن الهوية السورية اليوم مفقودة أو هي، على أقل تقدير، في أسوأ حال، وتفتتها صار مرئيًا للجميع، وهو يترسخ كلما طال به الزمن، ويلعب التعليم، على قلّته وانحداره، دورًا رئيسًا في عملية تفتيت الهوية الجامعة لصالح الهويات الفرعية.. فلا مدارس مؤهلة، ولا معلمين أكفاء، ويغلب على مناهج التعليم لدى مختلف المناطق الطابع الأيديولوجي الذي هو في خدمة تأصيل الهويات الفرعية. وما يساعد على ذلك سوء الأوضاع المعيشية، وتستخدم المساعدات الشحيحة لخدمة تلك الهويَّات، ويُسلب السكان بعض ما يجنونه بكدهم في ظروف اقتصادية، فالمعابر منافذ جمركية عائداتها لأولي الأمر، ومشاركة الناس في إنتاج حقولهم أو مواشيهم، أو أي إنتاج آخر لديهم، صارت عرفًا وكشفت حادثة اغتيال الناشط “أبو غنوم” انتشار ظاهرة المخدرات التي تقتل شباب المجتمع.
ومن جهة ثانية، يبدو أنَّ حكومتي الإنقاذ والمؤقتة لا تفكران في استعادة الهوية الوطنية الجامعة، ولو كان ثمة تفكير بذلك لجرى تلميح إلى هذا الأمر في خطاب سياسي، أو من خلال نشاط ما، يشير إلى مشروع يعبِّر عن رغبة أو ميل لاستعادة وحدة سورية، لكن لا يلمح شيء من هذا القبيل. ربما تنتظر الحكومتان “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة” أن يقوم بذلك، أليس هو القيادة السياسية؟ لكنَّ الائتلاف لا حول له ولا قوة، ويبدو أنه لا يمتلك حق المبادرة. وأما المبادرات التي تأتي من خارج هذه الهيئات، فلم تجدِ أيَّ نفع، ولم تخرج بأية فائدة، إذ لم تكن أكثر من دكاكين صغيرة، تفتح لمرة واحدة وتغلق دون أي تأثير في (السوق أو في الزبائن).
سابعًا: ثمة أفق يجب التطلع إليه
على الرغم من كل ما ظهر من وقائع تشير إلى حال من انسداد الأفق، فإنها ليست أسوأ من ظروف مرَّت بها الهوية الوطنية الجامعة، كما رأينا.. ويبقى الركون إلى ما هو واقع نوعًا من العجز، ولعله، في مثل حالنا، جحود وطني، فثمة أوراق كثيرة لم تُستخدم بعد.. فعلى الرغم من التعلل بأن القضية السورية صارت بيد القوى الدولية، وخاصة تلك المتدخلة في الشأن السوري، فقد أعطى المجتمع الدولي عبر منظمة الأمم المتحدة بيانات وقرارات، كان آخرها القرار 2254 الذي لم يحسن استثماره، وهو لا يزال يشكل أرضية مناسبة، في إطار الواقع القائم، لكنه يحتاج إلى جهود كبيرة سياسية وثقافية وإعلامية. ويحتاج قبل ذلك إلى عمل موحد من السوريين كافة. وإذا كان ثمة تطرّف لدى هذه الهوية الفرعية أو تلك، مما مرَّ ذكره، فإن توحيد الصوت السوري المفقود، غير المرتهن، كفيلٌ باستغلال الطاقات التي لا تزال كامنة في عمق الشعب السوري، بالرغم من تشتته وتمزقه في الداخل والخارج على السواء. ولعل نقطة البدء تكون بصياغة خطاب موحّد يوجز جوهر الهوية الجامعة بمفهومها الحضاري المتقدم، وينطوي على مواطنة يتساوى فيها أفراد المجتمع كلهم تحت سقف القانون.. خطاب يتوافق مع روح قرار مجلس الأمن 2254، ويوجه إلى السوريين أينما وجدوا، أفرادًا وتنظيمات، على اختلاف انتماءاتهم القومية والدينية والطائفية، وعلى تباين معتقداتهم وآرائهم وتوجهاتهم.. ولا بد من إجراء حوار جاد مع الجماهير السورية، حيث توجد، والاستفادة من آرائها واستنهاض روحها الوطنية، وهي فائضة، وتعبّر عن نفسها بين الحين والآخر في احتجاجات لا تنقطع، سواء ما تعلق بأمر معيشي أم بأمور معنوية، وهي موجودة في الداخل والخارج وبأساليب مختلفة ووفق الظروف المتاحة، ولا تكاد تلك الاحتجاجية تنقطع. وعلى ذلك، يمكن القول: إنه على الرغم من انسداد أفق الحل أمام المعضلة السورية التي لا يزال السوريون كافة يتأذون من استمرارها، إلا قلة قليلة، وعلى الرغم من أن ثمة قرارات دولية تحول دون التقسيم؛ فإنَّ تقادم الزمن قد يقود إلى العكس، والقضية الفلسطينية ماثلة أمامنا.
خاتمة
وهكذا، ومن خلال تلك القراءة التاريخية/السياسية، نجد أن الهوية السورية الجامعة قديمة الوجود، ومع ذلك يمكن لها أن تنتقص أو تغيب، حين يفقد الشعب قراره السيادي، وغالبًا ما يحصل ذلك عند تدخل الأجنبي، أو عند وجود الاستبداد. وهي لا تكتمل في عصرنا الحديث إلا بوجود الحرية، وفق مبادئ الديمقراطية المحمية بقوانين تعلو فوق الجميع، وتمثل عقدًا اجتماعيًا بين الدولة والشعب، يقوم على ثلاثة أسس، كما مرَّ، وهي حماية الدولة للشعب، وتأمينها الخدمات الضرورية لعيشه وحياته ولمشاركته التي تعني ضمان حقوقه بتشكيل أحزاب سياسية، وإنشاء صحافة حرة، وبناء منظمات مجتمع مدني، وسوى ذلك.. وفي واقعنا السوري الحالي، تحتاج إلى عودة طوعية آمنة للمهجرين السوريين. ما يعني تأمين أسباب الحياة الكريمة بمتطلباتها كافة. وإذا كانت الهوية السورية الجامعة قد استقامت بتحقق الديمقراطية خلال فترة خمسينيات القرن الماضي، فإن محتوى الثورة السورية، بغض النظر عمَّا آلت إليه، يهدف إلى الأمر ذاته. وهو استعادة الهوية الوطنية السورية الجامعة التي كان الاستبداد قد غيّبها على مدى أكثر من ستين عامًا.