لا يمكن أن نتحدث عن التغيرات الاجتماعية في أيِّ مجتمع إلا في حالتين: الحالة الأولى تكون بعد مرور فترات زمنية طويلة يمكن على أساسها أن نقيس التغيرات التي طرأت على بنية المجتمع، أمَّا الحالة الثانية فتكون بعد المنعطفات التاريخية التي تُحدث هزَّةً في عمق البنية الاجتماعية.
ولعل الحروب والثورات هي من أهمِّ تلك المنعطفات التي تشكِّل حالة من الغليان الاجتماعي، والتي ينتج عنها العديد من القيم الجديدة التي لم يألفها المجتمع من قبل، أو ربمَّا تُحدث تلك المنعطفات تغيراتٍ متفاوتةً في بعض البنى الاجتماعية، ونتساءل: ما الذي أحدثته الثورة وما نتج عنها من حرب في أدوار المرأة في سوريا؟ وهل عزَّزت هذه التغيراتُ الدعواتِ التي تطلقها النساء في جميع أنحاء العالم، والداعية إلى تحرر المرأة وتعديل القوانين التي ظلمتها لسنوات طويلة؟
يذهب عالم الاجتماع أنتوني غدنر إلى أنَّ الأنظمة الشمولية أو التسلطية -ومنها النظام الأسدي في سوريا- تمنع من حدوث التغيرات الاجتماعية من خلال الأنظمة السياسية القائمة، لذلك فهي تدفع الشعب إلى إحداث هذه التغييرات بأساليب غير تقليدية، وفي مقدمة هذه الأساليب تبرز الثورات، أي الحركات الجماهيرية المنظمة التي تُحدث التغيرات الاجتماعية وتفرضها على الأنظمة السياسية، كما فرضت عليهم هذه الأنظمة المستبدة ثقافة اجتماعية محددة وجعلتها راسخة في ذهنيتهم الاجتماعية.
لقد تغيرت أدوار المرأة السورية بشكلٍ جذري بعد الثورة السورية، وإن كانت بعض هذه التغيرات لا تصبُّ في مصلحتها، ذلك لأنَّ هذه التغيرات جاءت مصحوبة بعملية ممنهجة من النظام الحاكم تحاول إبادة الشعب السوري، حيث ملأ النظام الأسدي سجونه بالمعتقلين، والكثير منهم صاروا في عداد المفقودين، وهاجر الكثيرون في بداية الحرب هرباً من التجنيد الإلزامي الذي يُجبَر فيه بعض العسكريين على القتل وسفك الدماء، لذلك فإنَّ المرأة تحمَّلت أعباء الأسرة بدلاً من ربِّ أسرتها الغائب، فصارت تعمل داخل البيت وخارجه، لتستطيع أن تكفي أسرتها مذلة السؤال، لكن على الرغم من أنَّ هذه المسؤولية أثقلت كاهلها إلا أنها في الوقت نفسه صقلت شخصيتها، وقوَّت تجربتها العملية، وأظهرت فاعليتها الإيجابية في كثير من المواقف.
أمَّا المثقفات وحاملات الشهادات اللواتي نزحن خارج سوريا، فمعظمهنَّ لم يستطعن الحصول على وظيفة تتناسب مع الشهادة التي يحملنها، وبعضهنَّ أصبحن يعملن في أعمال أو مهن لا علاقة لها بالشهادة التي كانت في يوم ما درعاً يحمي الفتاة الشرقية من أعباء الحياة، فالطبيبة على سبيل المثال، التي كان ينبغي أن تكون في عيادتها تعالج المرضى أصبحت ممرضة في بلاد النزوح تنظِّم المواعيد، وتعطي الحقن في أعظم الأحوال، وهناك الكثيرات ممن يعملن وفق شروط لا تتناسب مع طبيعتهنَّ بوصفهن نساء، يتعرضن للتحرش بكل أشكاله، وتُمتهن كرامتهنَّ، ويتم معاملتهنَّ معاملة غير إنسانية.
كذلك اضطرت الكثيرات مِمَّن خرجن من سوريا، وهنَّ صغيرات أو مع أسر يضرب الفقر أوتاد خيامهم، للزواج برجل متزوج أو كبير في السن، رجل يختلف عنهنَّ في عاداته وتقاليده، وفي قيمه وأخلاقه، فقط لأنهنَّ أردن أن يهربن من الموت أولاً، ومن الفقر ثانياً، لقد كنَّ ضحية من ضحايا الحرب؛ لأنهنَّ كن صغيرات ولا يعرفن شيئاً عن الحياة الزوجية، ولا يعرفن على أيِّ أساس كان عليهنَّ أن يخترن شريك حياتهنَّ، أو لأنَّ أسرهنَّ اخترن أن يبعوهنَّ لقاء حفنة من المال، لذلك ما إن يبدأن بوعي هذا الواقع حتى يقارِنَّ بين حياتهنَّ وحياة الأخريات من بنات جيلهنَّ، ويشعرن بالفارق الشاسع بين حلمهنَّ والحقيقة التي يعيشْنَها، يشعرن بالظلم الذي وقع عليهنَّ عن قصد أو من دون قصد.
ومن ناحية أخرى استطاعت الكثيرات من النساء السوريات، ومن شرائح المجتمع السوري كافة أن يمارسن الفعل الثوري سواء عن طريق التطوع أو عن طريق العمل الإغاثي والطبي، وذلك بعد أن كانت المنظومة الشعبية تحكمهنَّ باسم العادات والتقاليد مرة، وباسم الدين مرة أخرى.
لقد خرجت النساء السوريات إلى جانب الرجال في المظاهرات وحملن راية الثورة، فتمَّ اعتقالهنَّ وتعذيبهنَّ من قِبَل السلطات الاستبدادية الأسدية، ولكنهنَّ لم يتراجعن عن موقفهنَّ الرافض للظلم، والمتطلِّع للحرية التي بدأن بتنسُّم ريحها مع بدء انطلاق الثورة.
إن هذه التغيرات التي طرأت على حياة المرأة السورية ومزّقت شرنقة الظلم والاستبداد لا يمكن أن تعيدها إلى سابق عهدها في ظل النظام الأسدي الذي كان يرعى النظام الأبوي الصارم ويرسخه في المجتمع السوري، هذا النظام الذي كان يسنُّ القوانين التي تتحكم في حياة المرأة، وتفرض عليها طريقة حياتها، وتختار عنها، وتقرر عنها، من دون أن يكون لها إرادة في حياتها التي تملكها.
لقد استطاعت التغيرات هذه أن تدفع ملف المرأة السورية خطوات نحو التحرر والمساواة التي تنشدها كل امرأة في العالم، ولكنها أيضاً سلبتها الكثير في ظل ظروف الحرب التي تعني الاغتراب الدائم، وعدم الاستقرار، والافتقاد إلى هوية، وكلُّ ذلك يجب أن يشكِّل لها دافعاً حقيقياً لتؤسس لنفسها منطلقاتها الجديدة التي ستحدِّد فيها بنفسها مكانها ومكانتها في هذا العالم بوصفها امرأة وبوصفها إنساناً له من الحقوق ما يجب أن يُصان ويُحفظ.