ذكرت في الجزء الأول من سلسلة “مدينة حلب هل ثارت أم فرضت عليها الثورة؟” أن النظام استغل حالة التردد التي شهدتها مدينة حلب في بداية الثورة، وحاول تصوير كل محاولات الناشطين للتظاهر على أنها حالة غريبة عن المدينة وأهلها، وكانت وسائل الإعلام والصفحات الموالية النظام تعمل دائماً على تعزيز هذه الفكرة وترسيخها من خلال عشرات اللقاءات “العفوية” مع مواطنين من حلب يقولون “جاء أناس ليسوا من أبناء الحي، لا نعرف من أين أتوا، لهجاتهم مختلفة عن لهجة أهالي حلب هم من قام بالتظاهر والتخريب”.
وعندما دخل الجيش الحر إلى مدينة حلب في تموز 2012، حاول الإعلام السوري تصوير المعركة أنها “احتلال” يمارسه “الريف الثائر” على “المدينة الموالية” للنظام. وفي سياق مماثل تحدث أحد ضيوف برنامج “منتدى دمشق” في حلقة حملت عنوان “حلب الثورة.. قصة مدينة شغلت العالم”، وذكر أن “حلب تعيش حالة انفصال اجتماعي وجغرافي بين المدينة والريف”، وأن “أبناء المدينة ينظرون لأبناء الريف بفوقية واستعلاء”، وهذا الأمر-لم أشعر به طوال فترة حياتي في المدينة التي ولدت وترعرعت فيها-، وإن كان ذلك موجوداً عند البعض فهو بالمطلق ليس الحالة السائدة.
وذهب الضيف أبعد من ذلك وتحدث عن مجموعات دخلت من ريف حلب في منتصف 2011 وهدّدت سكان المدينة بالتهجير والانتقام. وهذا الأمر بكل تأكيد لم يحدث لأن الحراك المسلح لم يبدأ أصلاً في ريف حلب حتى بدايات 2012.
لا أحاول في هذا المقال تحليل الفروقات بين أبناء المدينة وأبناء الريف -التي لا يمكن إنكار وجودها-، أو دراسة العلاقات بين حلب وريفها من بعد اجتماعي وتاريخي -رغم اعتقادي أن حلب هي أكثر المحافظات السورية التي تشهد حالة ارتباط وثيق اجتماعي وجغرافي واقتصادي بين المركز والأطراف-، بل ما أحاول طرحه هو أثر العلاقة بين الريف والمدينة على مسار الثورة في حلب.
مرحلة المظاهرات السلمية
يشكل المهاجرون من أرياف حلب وإدلب نسبة كبيرة من سكان مدينة حلب، ورغم أنهم استوطنوا المدينة وعاشوا فيها لعشرات السنين وتأثروا بنمط الحياة الاجتماعي والاقتصادي الجديد، إلا أنّ كثيراً منهم استطاعوا تشكيل مجتمعات صغيرة تتميز بتماسكها النسبي مقارنة مع مجتمعات أبناء المدينة الأصليين.
استغل النظام هذا الأمر وعقدت أجهزته الأمنية اتفاقيات مع عدد من هذه العوائل مثل مجموعة من عائلة بري في باب النيرب ومجموعة من عائلة حمرة في المرجة، وشكلت هذه المجموعات ذراعاً أمنياً ضارباً للنظام ساهم بشكل أساسي في قمع المظاهرات التي تخرج في أحياء المدينة دون تدخل من قوات الأمن. ليكون التداخل بين الريف والمدينة في هذه الحالة عامل له أثر سلبي على الحراك الثوري في حلب. ولكن مع انخراط الريف الحلبي أصبح الكثير من هذه المجمتعات جزء أساسي ومهم من ثورة حلب.
كما أنّ عدد من المجموعات التي وظفها النظام لقمع المتظاهرين تراجعت عن موقفها بعد تحول البلدات التي ينتمون لها إلى مناطق ثائرة،وهذا ما ذكرته في الجزء الثاني من السلسلة.
بداية الحراك المسلح
تشكلت أولى المجموعات المسلحة في مدينة حلب مع نهاية شهر أيلول 2011 -أي قبل أن يشهد ريف المحافظة أي مظاهر تسلح بشهرين على الأقل-، وكانت تطوراً طبيعياً لما عُرف في تلك الفترة بمجموعات الحماية التي كانت ترافق المظاهرات وتحاول التصدي لمجموعات الشبيحة.
وفي شباط 2012 استطاع النظام اختراق هذه المجموعات واعتقل معظمهم، ومن نجا منهم من الاعتقال لجأ إلى ريف حلب الشمالي حيث بدأت تتشكل أولى مجموعات الجيش الحر هناك في تلك الفترة، وأذكر أنّ كتيبة أبو عمارة (مهنا جفالة) وكتيبة التوحيد والجهاد (أبو حيدر وعمر سلخو وأبو الحسنين) وكتيبة رجال الله الأحرار (يحيى أبو خالد) وكتيبة “أهل بدر” استقروا في عندان، بينما لجأ الشهيد أيهم عكيدي مع مجموعته إلى تل رفعت.
هذه المجموعات من أبناء المدينة شاركت في معظم العمليات العسكرية في ريف حلب الشمالي، وجعلت من الريف منطلقاً لعملياتها الأمنية التي قامت بتنفيذها داخل المدينة.
في المقابل شارك مقاتلون من أبناء الريف في العمليات التي نفذتها هذه المجموعات داخل المدينة. ومنها عملية استهداف دورية أمنية في حي السكري بتاريخ 8 نيسان/ أبريل 2012، نفذتها مجموعة سيوف الله الأحرار (مصطفى برو أبو قتيبة) وشارك في العملية مجموعة من عندان بقيادة أحمد عفش وقضى في العملية شقيقه ابراهيم عفش.
ومع تزايد عنف النظام زاد عدد المجموعات المقاتلة داخل مدينة حلب –خاصة حي صلاح الدين- وكانت جميعها على تنسيق وارتباط مع المجموعات في الريف وخاصة فيما يتعلق بتأمين الأسلحة والذخائر والعبوات الناسفة.
معركة التحرير
ساهمت حالة التصاعد في الحراك الثوري الذي شهدته المدينة في الربع الثاني من 2012 في جعل المدينة بيئة حاضنة ومستعدة لاستقبال الجيش الحر في تموز من ذات العام، كما أن الكثير من المظاهرات التي خرجت في أحياء حلب في تلك الفترة ردّدت هتافات وحملت لافتات تطالب الجيش الحر بدخول المدينة وحماية المتظاهرين، خاصة بعد وقوع 7 شهداء برصاص الأمن في صلاح الدين في جمعة “الاستعداد للنفير العام” بتاريخ 15 حزيران و11 شهيداً في الجمعة التي تلتها في 22 حزيران.
وذكر العقيد عبد الجبار العكيدي في حلقة “منتدى دمشق” ذاتها أن الجيش الحر كان يخطط لعملية تحرير مدينة حلب بعد الانتهاء من تحرير القطع العسكرية الرئيسية المحيطة بها، ولكن دخول المدينة كان استجابة لمناشدات أطلقتها مجموعات الجيش الحر الموجودة في حي صلاح الدين، الذي حاصره النظام بعد محاولة اقتحام فاشلة فجر الأربعاء 18 تموز 2012.
وكان إعلان تحرير حي صلاح الدين بتاريخ 20 تموز محاولة من مجموعات الجيش الحر داخل الحي للضغط على فصائل الريف ووضعهم أمام خيار دخول المدينة أو ترك الحي لمصيره في مواجهة النظام.
استجاب لواء التوحيد للنداء ودخلت أولى مجموعاته يوم الأحد 22 تموز من أرض الحمرا شرقي المدينة، وكانت خطة الهجوم هي السيطرة على الأحياء الجنوبية وصولاً إلى صلاح الدين.
ومع دخول لواء التوحيد إلى حلب انضم له مئات المتطوعين من أبناء المدينة، وتشكلت عشرات المجموعات والكتائب المستقلة عنه كان معظمها من أبناء المدينة.
هيمنة فصائل الريف
رغم أن أولى محاولات التسلح بدأت من مدينة حلب، إلا أن عوامل كثيرة ساهمت في نمو فصائل الجيش الحر في الريف وتطورها تنظيميا وعسكريا في الريف أكثر من المدينة التي بقيت فيها المجموعات صغيرة متفرقة ولا تعرف بعضها البعض في كثير من الأحيان (لكي لا يستطيع النظام اختراقها).
وكان الإعلان عن تشكيل “لواء حلب الشهباء” بتاريخ 6 أيلول 2012 هو محاولة من ثوار مدينة حلب تشكيل كيان خاص بهم، ولكن اللواء تفكك وشهد مجموعة انسحابات، ثم كانت المحاولة الثانية عبر تشكيل “تجمع فاستقم كما أمرت” في نهاية 2012 والذي استطاع بعد أن مر بعدة مراحل أن يحتل مركزاً أساسياً ضمن خارطة الفصائل في محافظة حلب.
ومع ذلك بقيت فصائل الريف أكثر قوة من ناحية العدة والعتاد لأسباب كثيرة يمكن الحديث عنها في مقالات لاحقة. وهذا الحديث عن هيمنة فصائل الريف لا يعني أبدا أن حلب شهدت حالة انفصال وتمايز بين فصائل الريف والمدينة، بل على العكس كان عدد كبير من قيادات الصف الأول والثاني في جميع فصائل ريف حلب –خاصة لواء التوحيد ولواء الأنصار- من أبناء مدينة حلب. وأذكر أيضا أن الشهيد أبو عبد الله الحلبي وهو ضابط منشق برتبة ملازم أول من أبناء مدينة حلب كان القائد العسكري لجميع مجموعات عندان والتي كانت تشكل مركز ثقل الجيش الحر في بداية 2012.
وحدة المعركة في حلب بين الريف والمدينة
خاض الجيش الحر معركة حلب ضد النظام وداعش وقوات سوريا الديمقراطية بدون فصل أو تمييز بين المدينة وريفها، بدأت بدخول ثوار الريف لإنقاذ المحاصرين في صلاح الدين، ثم شاركت مجموعات من ثوار المدينة في التصدي لمحاولة اقتحام الريف الشمالي في معركة جبل معارة والراشدين في حزيران 2013، وتصدت لقوات النظام وحزب الله والتي كانت تحاول الوصول إلى نبل (شاركت مجموعات مدينة حلب في محور الراشدين بسبب خبرتها في حرب المدن).
كما شاركت فصائل المدينة في معارك خطوط الإمداد التي بدأت بتحرير خناصر في آب 2013، كما أن المعركة ضد تنظيم داعش في مدينة حلب جاءت رداً على هجوم التنظيم على مقرات الجيش الحر في ريف حلب الغربي في بداية 2014، بينما قدمت فصائل ريف حلب آلاف الشهداء خلال التصدي لهجوم النظام الذي بدأ بالسيطرة على اللواء 80 في تشرين الثاني 2013 وانتهى بحصار المدينة في حزيران 2016 بعد ثلاث سنوات من المعارك.
هذه المعارك وغيرها الكثير تؤكد وحدة المسار العسكري في المحافظة، ولا يستطيع أحد من فصائل المدينة أن يتهم فصائل الريف بالتخاذل والتقصير عن نصرة المدينة مثل ما حدث في مناطق أخرى من سوريا.
ورغم كل ما ذكرته تبقى ثنائية الريف والمدينة في حلب وغيرها من المناطق السورية حقيقة لا يمكن إنكارها أو تجاوزها، ولكنها في حلب لم تكن أبداً خارجة عن سياقها الطبيعي، وما يتم ذكره عن عمليات انتقام نفّذها أبناء الريف من المدينة أبعد ما يكون عن الحقيقة لأن التجاوزات والانتهاكات التي حصلت خاصة في الفترة الأولى من معركة تحرير المدينة، تم ارتكابها من قبل متسلقين وضعاف نفوس –ومنهم من هو من أبناء المدينة- ولم يرتكبوها بسبب انتمائهم المناطقي والمجتمعي، كما أنهم استهدفوا أصحاب الأموال دون النظر لأي مدينة أو قرية ينتمون.
وما دون ذلك فإن “احتلال الريف للمدينة” كان رواية مصدرها الحصري النظام السوري ووسائل إعلامه، ولم يتحدث عنها جمهور الثورة إلا في إطار محاولة مراجعة الأخطاء وتحليل أسباب الهزائم.
هذه المراجعات يجب أن تبقى في إطار البحث عن الأخطاء للاستفادة من التجرية وأن لا تتحول إلى عمليات جلد ذاتي، فالسبب المباشر الذي تسبب بتراجع الثورة عسكريا وسياسيا هو التدخل الروسي المباشر إلى جانب النظام بعد فشل حزب الله وإيران في إنقاذه، وليس أخطاء الثوار -وإن عظمت- أو ذكاء النظام في اتخاذ القرارات. كما يجب أن ننتبه أننا اليوم نراجع أحداث الماضي بعين من رأى نتائجها ومآلاتها، وهذه مقاربة غير عادلة في الحكم على من اتخذ القرارات وساهم في صنع الأحداث ضمن ظروف ومعطيات لم يملك سواها عندما اتخذ قراره.