لا تبدو نبوءة ديكنز في افتتاحية كلاسيكيته الأثيرة عن الثورة الفرنسية أكثر صحة مما تبدو عليه اليوم في الذكرى العاشرة للثورة السورية، تلك الثورة التي بدأت بمظاهرات سلمية في “ربيع الأمل” قبل أن تتحوَّل سريعا إلى “شتاء للقنوط” مع العدد الكبير من الضحايا الذين توقفت الأمم المتحدة يائسة عن عدِّهم منذ عام ٢٠١٤، بينما وثَّقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” سقوط 227 ألف شخص على الأقل، منذ مقتل حسام عيّاش ومحمود الجوابرة في درعا في الثامن عشر من مارس/آذار قبل عشرة أعوام بالتمام. وفي حين يعيش نصف الشعب السوري بين اللجوء والنزوح، ويقبع نصفه الآخر تحت خط الفقر، تُقسَّم السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية في البلاد بين ثلاث قوى رئيسية، وراء كلٍّ منها قوى إقليمية ودولية تركت بصمتها على شكل قواعد ونقاط عسكرية منتشرة على الأرض في جميع أنحاء سوريا.
وعلى الرغم من هذا الصراع المحتدم، فإن الملف السوري الذي كان يوما يحتل واجهة الأخبار والمفاوضات بات مُلحقا بغيره من القضايا الأخرى، فيما أضحت أرض سوريا مسرحا لتصفية الحسابات وساحة لاكتساب النقاط، إلى درجة أنها تبدو اليوم كما وصفها باتريك سيل قبل أكثر من خمسين عاما: “جائزة للفائزين في صراع الأطراف الساعية لفرض هيمنتها على الشرق الأوسط” [1]. فكيف بدأ كل هذا؟ والأهم، كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟
في ٣١ يناير/كانون الثاني عام ٢٠١١، بعد سبعة عشر يوما فقط من فرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وبعد أقل من أسبوع منذ اندلاع الثورة المصرية بمظاهراتها المليونية، أجرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية مقابلة مطولة مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، وبطبيعة الحال كان السؤال الأول في المقابلة: ما الذي يعنيه الربيع العربي بالنسبة إلى سوريا؟ وبكل ثقة، وبأسلوبه المنمق المعتاد، أجاب الرئيس الشاب الذي تولَّى السلطة -آنذاك- قبل عشرة أعوام: “يعني أن عليك تطوير نفسك، وتطوير المجتمع… إن الإصلاح الحقيقي يبدأ بجعل المجتمع منفتحا وببدء الحوار. لقد مررنا بظروف أكثر صعوبة، لكننا ما زلنا مستقرين. لماذا؟ لأننا مرتبطون عن كثب بمعتقدات شعبنا”. وحين سُئل عن أولوياته في حكم البلاد أجاب الأسد أن الاقتصاد كان هو ما يشغله عند وصوله إلى السلطة، لكن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، ثم غزو أفغانستان والعراق وما خلّفاه من فوضى ودمار، جعلا الاستقرار والأمن يأتيان قبل الاقتصاد، وبعدهما يمكن أن يأتي الإصلاح السياسي، الذي لم يعتبره الأسد مهما وعاجلا بقدر سابقيْه.
بشكل فريد، تُكثِّف هذه المقابلة المحورية النهج الذي اتبعه نظام الأسد الابن منذ وصوله إلى السلطة، والقائم على خليط هجين مما سمّاه علماء السياسة بـ “ما بعد الشعبوية” (أو السلطوية الجديدة)، و”التطوير السلطوي” [2] مع “التحرر الاقتصادي” [3]. فمع كونه رئيسا جديدا لا يمتلك شرعية العنف أو البقاء مثل والده، يحكم مجتمعا متغيرا تزداد به نسبة الشباب وترتفع فيه معدلات البطالة والتضخم، في وسط إقليمي مشتعل يجد النظام فيه نفسه تحت عين المجتمع الدولي المتربص؛ روَّج الأسد الصغير نفسه للمجتمع السوري بوصفه رئيسا إصلاحيا كاريزميا شابا، بينما قدَّم نفسه لحرس والده القديم ولقواعده الموالية على أنه حصن منيع لأيديولوجيا البعث و”المقاومة” و”الممانعة”. ومن أجل تحقيق طموحاته في تطوير الاقتصاد، كان على الأسد ركوب أمواج العولمة والسوق المفتوح والقطاع الخاص والسير في ركب النيوليبرالية، من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية -خصوصا الخليجية والتركية- التي أنعشت قطاعات الإسكان والسياحة والاستثمار، وأعطت دفعة مبكرة للخطط الطموحة للنظام.
تسبَّب هذا التحرر الاقتصادي في تهيئة الأجواء لتفشي الممارسات الفاسدة في قلب نظام فاسد بنيويا بالأساس، مما أدّى إلى خلق طبقة جديدة من المنتفعين المرتبطين بالنظام ودوائره، كان أبرزهم رامي مخلوف، قطب الاقتصاد السوري، وأهم الرموز الاقتصادية للعهد الجديد. وفي المقابل، أدَّت هذه السياسات إلى تراجع عملية التنمية، خصوصا في الأرياف التي شهدت جفافا قاسيا خلال عقد الألفية الأول، مع رفع الدعم المخصص لذوي الدخل المحدود، ما جعل الغني يزداد غنًى، والفقير يزداد فقرا، مع انكماش ملحوظ للطبقة الوسطى.
بجانب ذلك، عمل الأسد -ضمن محاولاته اللحاق بركب العولمة- على إدخال الإنترنت وتسهيل الوصول إليه، فتضاعف عدد المستخدمين من ٣٠ ألفا مطلع الألفية إلى أربعة ملايين عام ٢٠١٠. وقد لعب الإنترنت على وجه الخصوص دورا بارزا في تشكيل هوية الأجيال الجديدة من السوريين، ليس فقط عبر تعريضهم لأفكار مغايرة عما اعتادوا عليه تحت حكم الحزب الواحد، ولكن أيضا من خلال خلق مجال افتراضي جديد عمل بديلا للمجال العام المغلق بحكم الواقع، وذلك من خلال المنتديات ثم المدونات وأخيرا مواقع التواصل الاجتماعي.
على الصعيد السياسي، وفي إطار مساعيه لكسب الشرعية لدى دوائر المجتمع المدني الجديد، سمح الأسد بحالة نادرة من الانفتاح خلال سنوات حكمه الأولى، شملت السماح بأنشطة المنتديات وعقد اللقاءات العامة، ورفع الكثير من القيود الأمنية والرقابة على الناشطين والسياسيين، ناهيك بالترخيص بفتح بعض وسائل الإعلام الخاصة، لكن “ربيع دمشق” السياسي -كما عُرف آنذاك- كان قصيرا جدا، فسرعان ما نكص الأسد على عقبيه وقام بإغلاق المنتديات ووسائل الإعلام لتعود الاعتقالات والقبضة الأمنية الباطشة. ولكن في منتصف عقد الألفية، وخلال حقبة تخفيف محدود للقيود، وقَّعت الشخصيات والتيارات المعارضة السياسية التقليدية ما عُرف باسم “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي“، الذي دعا إلى انتقال تدريجي وسلمي للسلطة في سوريا.
باختصار، حمل نهج الأسد الابن بداخله تناقضات كبيرة، وكعادة الديكتاتوريين، فقد أعمته ثقته المفرطة عن رؤية هذه التناقضات. ففي حين جلبت سياسات اللبرلة الاقتصادية انتعاشا نسبيا، فإنها عزَّزت الفساد وفاقمت الفقر وأدَّت إلى تراجع التنمية، خصوصا في المناطق الهامشية (الأطراف) [4]، وفي حين خلق الانفتاح السياسي والإعلامي بيئة جديدة للتواصل والحوار، فإن التراجع عنه ترك النظام في مواجهة شبكة متصلة من المعارضين لسياساته بدلا من أن يكسبه المزيد من المؤيدين والموالين.
وحتى على المستوى الاجتماعي، لم يكن أداء النظام أفضل حالا، حيث شهدت بدايات حكم الأسد اعتمادا للنظام على الفاعلين والمؤثرين الدينيين بهدف تعزيز التدين بالمجتمع، قبل أن يتراجع مجددا بشكل حاد عن هذه الممارسات، مما خلق مجتمعا مُحمَّلا بالمظالم، وبيئة مضطربة ومائجة جاهزة للانفجار، بانتظار اللحظة المناسبة، التي لم تكن سوى “الربيع العربي” الذي وصل قطاره إلى سوريا في مارس/آذار، بعد أقل من ستة أسابيع من مقابلة الأسد.
قبل المقابلة بأيام قليلة، وتحديدا في ١٨ يناير/كانون الثاني، كان أحد طلاب الجامعة السوريين المغتربين يتصفح موقع فيسبوك الذي كانت منشوراته تعج بالأنباء حول التحركات الشعبية في بلاد العرب وما صاحبها من تغيير سياسي آتى أُكُلَه بالفعل في تونس، وكانت بوادره تظهر في مصر، وقد أغرته تلك الحماسة فيما يبدو لإطلاق دعوة مماثلة في سوريا عبر تأسيس أول صفحة فيسبوك ثورية للسوريين تحت اسم: “الثورة السورية ضد بشار الأسد 2011“. لم يكن “أبو عمر” -باسمه الوهمي- يطمع أن تقوم صفحته بأكثر من “جس نبض” الشارع السوري، لكنها حققت انتشارا كبيرا خلال وقت قصير، ما أغراه لأخذ الأمور إلى الأمام خطوة إضافية. [5]
أعلنت صفحة “الثورة السورية”، التي ستُغيِّر اسمها لاحقا لتصبح “الشبكة السورية”، عن دعوتها السوريين للنزول إلى الشوارع في الخامس من فبراير/شباط عام ٢٠١١، مع تحديد أماكن التجمع في كلٍّ من دمشق وحلب. في البداية، لم يستجب أحد للدعوة، لكن ذلك لم يمنع القائمين على الصفحة من تكرارها مرة أخرى، مع مزيد من التخطيط والتواصلات السابقة وأخذ الاحتياطات الأمنية، مثل تأخير الإعلان وعدم تحديد المكان مبكرا جدا، وبالفعل أُطلقت دعوة للتظاهر مجددا في سوق الحميدية في 15 مارس/آذار. خلال الفترة نفسها، كان هناك مجموعة من المعارضين السياسيين التقليديين، الذين كانوا جزءا من “ربيع دمشق” و”إعلان دمشق”، يقومون باعتصامات ومظاهرات في مناطق مختلفة، مثل السفارة الليبية وساحة عرنوس وباب توما، كان من أبرزهم الناشطة السياسية والحقوقية سهير الأتاسي، وقد قرَّرت نخب المعارضين تلك تبني دعوة التظاهر الصادرة عبر فيسبوك والترويج لها، ليخرج ما يقارب ٢٠٠ متظاهر في سوق الحميدية، في أول مظاهرة للثورة السورية وُثِّقت ونُشِرت على يوتيوب وعلى الفضائيات العربية والعالمية بالهتاف الشهير: “الله سوريا حرية وبس”.
في الفترة نفسها تقريبا، كان غضب أكبر يختمر في مكان آخر، تحديدا في محافظة درعا ذات الروابط العشائرية التقليدية جنوب البلاد، التي كانت تشهد معدلات تنمية منخفضة وبطالة مرتفعة، حيث كان الدرعاويون على صدام مباشر مع عاطف نجيب، رئيس الأمن السياسي وابن خالة الرئيس الأسد، ولكن لأسباب مختلفة عن تلك الرائجة في أوساط “المنتديات السياسية” و”المعارضة التقليدية” في دمشق.
فقبل قرابة أسبوعين، تحديدا في السابع والعشرين من فبراير/شباط عام ٢٠١١، اعتقلت قوات الأمن 18 طفلا من “مدرسة الأربعين” في مدينة درعا، إثر كتابتهم عبارات مناهضة للنظام على جدران المدرسة. عُذِّب الأطفال بوحشية، واقتُلعت أظافرهم، وعلى الرغم من توسُّط أهالي المدينة وأعيانها لدى نجيب لإطلاق سراحهم، فإن رده كان مهينا للتقاليد العشائرية، مما أجَّج الغضب بين سكان المدينة، غضب سينفجر عارما في “جمعة الكرامة” في الثامن عشر من مارس/آذار، في حشد هائل شمل مدينة درعا وقُراها، ردّت عليه قوات الأمن بالرصاص الذي أسقط أول شهيدين في الثورة السورية: حسام عيّاش ومحمود الجوابرة، وأدَّى إلى متوالية من الأحداث التي قادت سوريا إلى الوضع الذي يعرفه الجميع اليوم.
وعلى الرغم من مرور عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية، فإن الخلاف ما زال قائما حول تاريخ بداية الثورة، وإذا ما كان ينبغي أن يُؤرَّخ لها بداية من مظاهرات سوق الحميدية في دمشق، أم تظاهرات درعا الحاشدة التي وقعت بعد ثلاثة أيام، وهو خلاف يبدو في ظاهره مجرد تنازع مناطقي بين “الشوام” و”الدرعاوية”، لكنه في الحقيقة يعكس حقيقة وجود ثورتيْن مختلفتيْن، نادرا ما تقاطعتا معا، بداية من الجذور التاريخية والفاعلين الأوائل، ومرورا بالديناميات وآليات الحشد والبنى الاجتماعية، ووصولا إلى النتائج.
ففي دمشق، كان حراك سوق الحميدية امتدادا تاريخيا أفقيا لتأثُّر سوريا بموجة الربيع العربي، إذ كانت المظاهرة ثمرة لدعوات الناشطين وجهود الحشد على وسائل التواصل الاجتماعي جنبا إلى جنب مع المعارضة السياسية التقليدية، بشكل شبيه بما جرى في مصر تحديدا عبر صفحة “كلنا خالد سعيد”. بعبارة أخرى، كانت ديناميات الحشد في هذه الحالة قائمة بشكل أساسي على الشبكات القديمة للمعارضة السياسية من المشاركين في المنتديات والصالونات السياسية و”إعلان دمشق”، وتتمركز بشكل رئيسي في العاصمة دمشق ومدينة حلب، كونهما مركزَيْ العمل السياسي والثقافي في سوريا، ومع كونهما “المدينتيْن” لا بالمعنى الإداري وحسب، ولكن أيضا بالمعنى الديموغرافي، الذي يعني تمتع كليهما بتكوين “مديني” قائم بالأساس على الأفراد والعائلات الصغيرة وليس على العشائر الكبرى. تلك الشبكات التي قامت بـ “ثورة ١٥ آذار”، بعد امتدادها وتوسُّعها، ستُشكِّل لاحقا الأجسام السياسية المعارضة للثورة السورية، وأبرزها “المجلس الوطني” و”الائتلاف الوطني السوري”.
على النقيض، مَثَّلت مظاهرة درعا امتدادا تاريخيا عموديا للصراع الاجتماعي السياسي في سوريا الحديثة، الذي كان منذ الثلاثينيات حكرا على نخب مدينتَيْ دمشق ودرعا السُّنيتيْن بالدرجة الأولى، حتى جاء حزب “البعث” وحوَّله إلى صراع بين المدنيين وبين “الفلاحين” و”العمال”، وأكسبه أبعادا طائفية واسعة تُرجمت خلال انتفاضة الثمانينيات التي كان “الإخوان المسلمون” خلالها مُمثلي المدينة والسنة التقليديين في مواجهة الفلاحين والعلويين، وفق رؤية عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل سورا [6] الذي يرى أن هذا الصراع حُسم في النهاية لصالح نظام علوي سلطوي ذي قواعد ريفية راسخة.
كان هذا الصراع القديم هو الذي انفجر مجددا خلال مظاهرات درعا، لذا كانت ديناميات الحشد في هذه الحالة قائمة على العصبيات، أي على الشبكات العشائرية والعائلية، خصوصا في الأرياف والأطراف، وحتى في المدن ذات التكوين الديمغرافي الريفي القائم على العوائل الكبرى والحارات، كما في درعا ودير الزور صاحبتَيْ التكوين العشائري، وحمص المكونة من عوائل كبرى متمركزة في حارات مرسومة وواضحة الحدود. هذه الثورة، ثورة “١٨ آذار”، هي ما سيُنتج لاحقا الأجسام العسكرية للثوار التي تُجاوز عددها ألفا وخمسمئة، ليكون كل جسم أو فصيل عسكري انعكاسا للبنية الاجتماعية لمجتمعه المحلي (القرية أو الحي أو الحارة) سواء على مستوى القيادات أو الحشد والتجنيد، تماما مثلما كانت الأجسام السياسية الكبرى انعكاسا للمجتمع المديني في دمشق وحلب.
أثناء جولاته البحثية الطويلة في شبه جزيرة بيلوبونيز جنوب اليونان، وجد ستاثيس كاليفاس، عالم السياسة اليوناني الأصل المختص في الحروب الأهلية، لغزا محيرا: لماذا كانت إحدى القرى تشهد الكثير من أعمال القتل، بينما قد لا تشهد جارتها التي لا تختلف عنها أي قدر من العنف؟ دفع هذا اللغز، ضمن أسئلة أخرى، كاليفاس ليبحث حول منطق العنف في الحروب الأهلية، التي توصف عادة أنها بلا منطق ولا عقل، ليكتشف أخيرا أن الحروب الأهلية لا يمكن فهمها على المستوى الكلي (macro) فقط، بل لا بد من دراستها كذلك على مستوى جزئي (micro) حتى يمكن فهمها وتحليلها.
وانطلاقا من بحثه، صكّ كاليفاس في كتابه الكلاسيكي “منطق العنف في الحروب الأهلية” مصطلح “الانقسام الرئيس” (master cleavage)، وهو الانقسام الذي تُنسب له حرب أهلية ما، وتُعرف بموجبه بوصفها حربا أيديولوجية أو عِرقية أو دينية أو غير ذلك، وعادة ما يُصاغ هذا الانقسام في المدن على يد النخب، سواء أكانت نخب السلطة أم نخب المتمردين، ليُمثِّل الغطاء الفكري والسردية والرواية التي يُقدِّمها هذا الجانب أو ذاك عن الحرب الأهلية [7].
مقابل هذا الانقسام الرئيس توجد انقسامات جزئية أخرى على المستوى المحلي، وعادة ما تظهر في الأرياف والأطراف التي عادة ما تكون هي مراكز العمل المسلح والتمردات، بحسب ما يرى تشي جيفارا نفسه في تنظيره لحرب العصابات. تظهر هذه الانقسامات لأسباب مختلفة عن الانقسام الرئيس، وفي أحيان كثيرة لا تكون أسبابها سياسية، لكنها تحدث لأسباب أقل شأنا مثل الخلافات العائلية والثارات الشخصية والعداوات الفردية، لكنها “تختبئ” تحت الانقسام الرئيس لتحصل على الدعم المالي والشرعية السياسية، في حين أنها توفر له الاستخبارات المطلوبة (المعلومات) والرعاية والاستضافة، والأهم العضلات والقتال الفعلي. قد تكون الانقسامات المحلية سابقة للنزاع أو متولدة منه، وقد تكون متوافقة معه أو محرّفة له، وقد تكون متسقة وثابتة طوال الوقت أو مائعة وعشوائية ومتغيرة.
في الحالة السورية، كان الانقسام الرئيس منذ قرون هو الانقسام المديني – الريفي، حيث كانت الأرياف والأطراف معتمدة بشكل كبير على المدن اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا [8]، فكانت الحياة السياسية والثقافية متمركزة في حاضرتَيْ سوريا الكبيرتين، دمشق وحلب، اللتين كانتا على مر التاريخ أكبر من أن تكونا مدنا وأصغر من أن تكونا دولا، مما جعلهما نقطتين حيويتين لجميع الإمبراطوريات والحضارات التي قامت بالمنطقة، ووضعهما في تنافس تاريخي دائم، وفرض هيمنتهما على الأرياف والمدن الأصغر المحيطة بهما.
وبغية اكتساب ولاء الحاضرتيْن الكبيرتين، كان النمط التاريخي المعتاد، الذي بلغ ذروته تحت حكم العثمانيين، هو حكم الأعيان اللا مركزي، حيث يدين حاكم محليّ من أعيان دمشق و/أو حلب بالولاء للأستانة، ويكون هو الحاكم الفعلي للمدينة ومحيطها، دون الحاجة إلى إعادة هيكلة اجتماعية بهدف خلق “أمة”، وأيضا دون الحاجة إلى امتلاك القدرة لفرض “دولة” مركزية على مستوى سوريا بأكملها -كما حدث في مصر على سبيل المثال- وهو ما أدَّى في النهاية إلى عدم وجود مجتمع سوري مُوحَّد (society) ناتج عن قومية وجماعة متخيلة، وعزَّز استمرار الجماعات المحلية (communities) بشبكاتها وثقافاتها ولهجاتها بلا انصهار في بوتقة أمة أو دولة سورية مُوحَّدة.
استمر هذا النمط طيلة حكم العثمانيين، وعزَّزه الفرنسيون تحت الانتداب، مُدخلين بُعدا آخر أكثر إثارة للانقسام هو الطائفية، القائمة في جوهرها على الدينامية نفسها، ولذا نجد أن الحزبين السياسيين الرئيسيين عشية استقلال سوريا، اللذين انبثقا عن الكتلة الوطنية التي واجهت الانتداب، كانا “الحزب الوطني” الذي جمع أعيان دمشق وساستها، مقابل “حزب الشعب” الذي كان متمركزا في حلب [9]. بعد ذلك، بدأ “فلاحو سوريا” [10] بالتنظيم والبروز تحت عباءة “حزب البعث”، وانتظم العمال ضمن إطار “الحزب الشيوعي”، وقد استطاع الحزبان الأخيران الأخذ بزمام المبادرة في مواجهة “الإخوان المسلمين” الذين كانوا -كما ذكرنا- ممثلين للمجتمعات المدينية السُّنية، قبل أن تتفجر الأوضاع بسبب سياسات “البعث” وأيديولوجيته الإقصائية، التي حوَّلت سوريا إلى “دولة متوحشة” فاقدة للمضمون السياسي، وقائمة على العصبية الخلدونية المحضة، ومستمدة لشرعيتها الوحيدة من احتكارها للعنف [11].
على كل حال، لم تخرج الثورة السورية في أي لحظة من عمر مسيرتها عن هذه الدينامية التاريخية: مجتمعات محلية، سواء أكانت مدينية أم ريفية، مثَّلت نفسها في صورة هياكل وفاعلين عكسوا هوية هذه المجتمعات؛ هياكل اتخذت شكلا سياسيا في حالة المدن، وأنماطا مسلحة في حالة الأرياف، وهو ما يُفسِّر توسُّعها وقدرتها على الاستمرار في البداية، بالقدر الذي يُفسِّر فشلها وعجزها عن تحقيق أهدافها في نهاية المطاف.
قبل ثلاث أعوام من الآن، في الذكرى السابعة للثورة السورية عام 2018، كان النظام السوري، مدعوما بالطيران الروسي والمليشيات الإيرانية، يشن واحدة من أقسى الحملات العسكرية وأشدها في تاريخ الثورة السورية ضد أحد أهم معاقلها وآخرها قُرب العاصمة: غوطة دمشق الشرقية، الشهيرة بخصوبة أراضيها وجمال أشجارها، قبل إحالتها أرضا يبابا باستخدام تكتيكات الأرض المحروقة والسلاح الكيميائي، بعد حصار طويل أنهك بشرها وشجرها.
تتكوَّن الغوطة الشرقية من عشرات المدن والقرى والبلدات متفاوتة الحجم، وتقع في ريف دمشق محيطة بالعاصمة من جهتها الشرقية، أكبر مدنها هي دوما، التي كانت معقل “جيش الإسلام”، إضافة إلى كلٍّ من حرستا التي تمركز بها “أحرار الشام”، وعربين مركز وجود “فيلق الرحمن”، الذي خاض مع “جيش الإسلام” قتالات عديدة راح ضحيتها العشرات من الجانبين، ضمن معارك أخذت طابعا أيديولوجيا وصبغتها تفسيرات عقائدية، رغم أنها -في جوهرها- لم تكن أكثر من مجرد نزاعات للمجتمعات المحلية فيما بينها على السيطرة والتوسع، انتهت بعدم قدرة أيٍّ من الجانبين على انتزاع المنطقة بشكل كامل من خصمه.
بدأ هجوم النظام السوري في فبراير/شباط من عام ٢٠١٨، وعمل في أول الأمر على استهداف الخطوط الواصلة بين الجيوب الرئيسية الثلاثة للغوطة (دوما وحرستا وعربين)، ليعزلها عن بعضها بعضا، ويتفرَّغ لكلٍّ منها على حِدَة. وفي الوقت نفسه، بدأ النظام بالاستفادة من “الأعيان” الموالين له لحشد شبكات الولاء والمنتفعين، الذين كان أوضح مثال لهم هو الشيخ بسام دفضع، الذي حرَّك خليته النائمة من “الضفادع” لاختراق كفر بطنا من داخلها، لتسقط في يد النظام بسهولة، وهو أمر تكرَّر كذلك مع “مسرابا”، حيث تحرَّك محي الدين المنفوش، أمير الحرب الشهير الذي كان يتاجر بالمساعدات والأغذية بين المناطق المحاصرة ومناطق النظام، لعقد اتفاقية مصالحة مع النظام من أجل تجنُّب القتال.
بعد ذلك، جاء دور الجبهة التالية وهي حرستا التي يسيطر عليها تنظيم “أحرار الشام”، الذي يفترض المراقب الخارجي، بناء على أيديولوجيته السلفية الجهادية، أن تكون المعركة ضده قاسية وملحمية. ولكن نظرا لأن الشبكات الرئيسية للتنظيم كانت قائمة على قواعده المحلية، التي كان معظمها مرتبطا بالمُهرِّبين الذين بدَّلوا انتماءاتهم الأيديولوجية مرارا لصالح بقائهم الاجتماعي، قرَّر هؤلاء الاستسلام سريعا حماية لأنفسهم وبلدتهم.
في الواقع، يمكن تعميم هذه الحالة المجهرية لفرع “أحرار الشام” في حرستا على الحركة كلها، مع كون معاقلها الرئيسية خارجة من القرى التي ينحدر منها مؤسسوها في ريف حماة الشمالي، إلى درجة أن أبو عبد الله الحموي، مؤسس الحركة الذي اغتيل عام ٢٠١٤، كان يُعرف باسم “أبو عبد الله الغاب”، نسبة إلى مسقط رأسه في سهل الغاب، وهو أمر يمكن تعميمه كذلك على الحركات الأكثر أيديولوجية وتطرُّفا، مثل جبهة النصرة (التي تحوَّلت إلى “جبهة فتح الشام” ثم “هيئة تحرير الشام”) وحتى على “تنظيم الدولة” (داعش)، إذ تعتمد هذه الحركات التي تبدو في ظاهرها أيديولوجية على المجتمعات والشبكات المحلية على المستوى العملياتي، وهو ما يظهر في أسماء قادتها الميدانيين.
بعد حرستا، تفرَّغ النظام لعربين والقرى المجاورة لها، واستطاع السيطرة عليها خلال أسبوع بفضل تحرُّكات الشيخ دفضع ومؤيديه، ليتفرَّغ أخيرا لدوما، التي أخضعها بعد هجومه الكيميائي الذي راح ضحيته ٣٩ مدنيا وأُصيب أكثر من خمسمئة آخرين في ١٤ إبريل/نيسان ٢٠١٨، ليسقط بذلك واحد من أهم معاقل الثورة السورية بواحدة من أقدم الإستراتيجيات التاريخية في الحرب: “فَرِّق تَسُد“، التي لا يمكن إدراكها وفهمها على المستوى الكلي وعن بُعد، وإنما تتطلَّب، كما رأينا، فهما للمجتمعات المحلية واقتصادها السياسي ودينامياتها.
في الواقع، يمكن إسقاط دروس حملة النظام العسكرية في الغوطة على كل حملاته الحربية السابقة منها واللاحقة، في حمص والقلمون وحلب والغوطة الغربية ودرعا، حيث يعمل النظام بداية على قطع أوصال هذه المناطق بتقسيمها إلى جيوب وكانتونات متفرقة، ثم يتفرَّغ لالتهامها متفرقة واحدة تلو الأخرى، إما عبر الاختراق والخلايا النائمة وإما بالقصف الشديد والحصار والتجويع، وربما بالهجمات الكيماوية إذا تطلَّب الأمر. بعبارة أخرى، يمكن عزو أفضلية النظام العسكرية ميدانيا إلى عاملين رئيسيين، أولهما فهمه تكوين هذه المجتمعات المحلية وتركيبها واختراقه لها على مستوى الفاعلين والأعيان، مما يُمكِّنه من تحريكها لصالحه في الأوقات الصعبة، وثانيا، امتلاكه (أو امتلاك حلفائه) تخطيطا عسكريا مركزيا يُمكِّنه من تحديد النقاط الأنسب للهجوم والأوقات الأكثر ملاءمة لتحقيق الأهداف السياسية.
على جانب الثورة، وبعكس النظرية الكلاسيكية للحروب كما وضعها مُنظِّر الحرب الشهير كلاوزفيتز [12]، لا تُمثِّل الحرب امتدادا للسياسة، حيث تبدو السياسة غائبة تماما، فيما تنخرط المجتمعات المختلفة في الحراك بأهداف اجتماعية محلية، دون وجود خطط للتوحد أو حتى مجرد التنسيق مع المجتمعات الأخرى المجاورة، وهي حقيقة كانت كفيلة بتحويل نقطة قوة “ثورة ١٨ آذار” الأولية في الحشد والتشبيك إلى عامل فرقة وتمزُّق، في وقت لم تكن فيه القيادة السياسية، “ثورة ١٥ آذار”، تمتلك الرغبة أو القدرة على تأسيس خطاب ملائم للأسئلة المُلِحَّة يسمح لها بتوجيه العمل العسكري والتحكم في خطوطه العامة.
ونتيجة لذلك، وبعد مرور عقد كامل على قيام الثورة السورية، لا تزال سوريا وحدها تعكس لنا “قصة مدينتين” لا مدينة واحدة، وفيما لا يزال السوريون عالقين في نقاشات حول تاريخ بدء الثورة، ففي خلفية نقاشهم يقبع مساران مختلفان يشق كلٌّ منهما طريقه إلى مصير محتوم بمعزل عن الآخر. نعم، يختلف المجتمع المدني بساسته مع المجتمعات المحلية بعسكرها، لأنهما، ببساطة، يُمثِّلان ثورتيْن مختلفتيْن، ولم يكونا يوما شريكيْن في ثورة واحدة.
المصادر
- Patrick Seale, The Struggle for Syria.
- Raymond Hinnebusch and Omar Imady, Origins of the Syrian Uprising: from Structure to Agency.
- محمد جمال باروت، العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح.
- عزمي بشارة، سورية: درب الآلام نحو الحرية.
- مقابلة شخصية للكاتب مع “أبو عمر”.
- Michel Seurat, Syrie, l’État de barbarie.
- Stathis Kalyvas, the Logic of Violence in Civil War.
- James Reily, Fragile Nation, Shattered Land: The Modern History of Syria.
- Hiroyuki Aoyama, Syria: Strong State Versus Social Cleavages.
- حنا بطاطو، فلاحو سوريا: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأنا وسياساتهم
- Michel Seurat, Syrie, l’État de barbarie.
- Carl von Clausewitz, On War.