البراكين التي تسكن ويحاولون إقناعها بأنها جبالٌ عادية، بلا لهيب، بلا حمم، لا تلبث فتنفجر في وجوههم، معلنة ثورة لم يتوقعوها، واشتعالاً لاهباً ممتداً لا ينطفئ.
ربما قامت في نفوس الشعب السوري ثورات سببتها الثمانينات وما قبلها وما بعدها، وربما كل شيء كان يهيئ لثورة كهذه التي نعايشها ونشارك بها اليوم، ربما قصص الأجداد والجدات التي قِيلت بحسرة وصمت قد أوقدت لهيب ثورة، ربما دمعة أمٍ أو أب يحكي موقفاً عانى فيه من الاضطهاد والعنصرية قد أشعل نار ثورة صغيرة في النفوس، وربما صورة بالأبيض والأسود معلّقة على المرآة لشابٍ وسيم، موجودة في الواقع مُعتنى بوجودها، غير أن الأصل مختفٍ في مجهولٍ لم يتبين مصيره، بعد أن أخذوه تحت الليل ولم يعد من حينها، وربما هي الأحلام الجميلة والكثيرة التي كان بالإمكان أن تتحقق على هذه الأرض لكنهم وأدوها حيّة، ربما فنون الاضطهاد والاستعباد أشعلت الغضب في النفوس ودفعت الشعب لينتفض، ليتمسك ببقايا حلم قبل أن يدفن، وربما هي أشياء قد اجتمعت لتصب في ذات الحالة الاجتماعية المطالبة بالتغيير وبالحرية وبالكرامة، ولكن بعد مرور سبع سنوات وأكثر من الثورة بات سجل الأسباب مختلفاً.
ساحات المدن والبلدات في الشمال السوري المحرر انتفضت في الآونة الأخيرة انتفاضة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ليس لأن الخارجين كُثر بالضرورة، ولا لأنهم يحملون أعلام الثورة بقوة وشجاعة، ولا لأن نقاط التظاهر أحصيت ففاقت 130 نقطة، ولا لأن جميع مكونات الشعب قد خرجت دون استثناء، الرجال والنساء والأطفال والكهول والعجائز، لا شيء من هذا بات يثير الاهتمام، فالثورة السورية عودت العالم على هذه المشاهد منذ أعوام، اللافت في الأمر في هذه الجُمَع والجموع أنها قامت من بعد موتٍ أريد لها، قامت من منفى كان عليها أن تتلاشى فيه وتذوي وتتراجع عن قضيتها وتنشغل بلقمة عيشها، أو أن تفكّر بالاستسلام لمن حاصرها من قبل، وارتكب فيها المجازر ثم هجّرها، وهددها بالإبادة والكيماوي، هددها بالفناء، أو أن تستسلم وتعود ذليلة تحت جناحه.
كان العالم في حالة ترقب وانتظار لمصير إدلب، وكانت أوراق النعي تُكتب، ولكن الموت لم يُكتب وفيها الأحياء حقاً من أهل الأرض، ” عبثاً تحاول، لا فناء لثائر” تجسدت في مشاهد عظيمة لحملة الفكرة والقضية، ” نحن أحياء، وباقون، وللحلم بقية”، فلم تكن سورية يوماً مدفناً للأحلام، لكنهم أرادوا لها ذلك يوم احتلوها وقيدوها وحاولوا استعبادها، سورية الكريمة العزيزة بأهلها الذين تجمعوا ليكتبوا الحياة فيها، لا ليكونوا رفقة للموت والوهن قد انتفضوا، فللتاريخ تحديثات في عقولهم راسخة، صنعوها بأيديهم ومازالوا.
لم تعد قصص الأجداد ودموع الجدات تلهب غضبنا، بقدر ما تؤثر في نفوسنا قصصنا نحن، الظلم الذي شهدناه، الأحذية العسكرية التي مقتناها كما مقتنا وجوه أصحابها، أقفال الزنزانات وأصوات التعذيب التي بات لها مخزون مهم في ذاكرة كل ثائر، الشهداء الذين انطلقوا إلى الجنة بوداعٍ أو دون وداع، لحظات القصف المرير، والحصارات الصعبة، ولحظات العجز المرير، واقتلاع الإنسان من أرضه رغماً تحت مسمى التهجير، ذاكرة جديدة تستحق أن نجلس لأجلها مع الجدات ونستحلفهن ألا يستحق ذلك كله أن نستمر ونثور؟!
إن كانت كرامتنا هي التي أهلتنا ودفعتنا للثورة منذ 2011، فأي شيء سوى كرامتنا أيضاً يمكن أن يدفعنا لنرفض الأسد وحلفائه، ونثور مجدداً في 2018، وأي شيء سيدفعنا لأن نستمر، ونقاتل كي نستمر، ونواصل على ذات الهدف غير كرامتنا، هذه الكرامة التي لم يستطيعوا سجنها، ولا قتلها، ولا تسميمها بالغاز، ولا تجزئتها، ولا بيعها، ولا شرائها، ولا التفاوض عليها.
الكرامة دافع للاستمرارية، ولكن، الاستمرارية اليوم مختلفة، لا تشبه بداية الثورة المتقدة، ولا تشبهها أيضاً في مراحل التألق ولا الانطفاء، الاستمرارية اليوم نتاج عقل ووعي، لا مجرد ردات فعل، أو انعكاس لتجارب الآخرين، ولا حالة تهور غير مدروسة، الاستمرارية دلالة المخزون العميق للشعب السوري من الكرامة والمقاومة والنضال في سبيل ما يؤمن به، الاستمرارية نتيجة إنسانية مدهشة لإرادة الإنسان في الحياة، وحرصه على إحقاق الحق، ورغبته في حياة ثمينة بمضمونها، بعمقها، بجوهرها.