كيف عقدت الثورة اتفاقيّتها الخاصّة مع الرّبيع، ليكونا معاً بهذا الجمال؟
الثورة كمفهوم مرتبطة بالغليان، بالنار، بالانفجار من أجل التغيير، وهي مرتبطة في مفهومنا الشّعبي بأشياء كثيرة لا تمت لرقة الربيع وجماله بأية صلة، فكيف رأينا الجمال في العجلات المحترقة، ورأينا الدخان الأسود المتصاعد أكثر سحراً من غيمٍ خريفي ماطر! كيف استعذبنا الرّكض في الساحات هرباً من مطاردة سيّارات الأمن ومدرّعاته، أكثر بكثير مما كنا نستعذب التنزّه في الشوارع الهادئة على مهلٍ، وأمامنا الزهر وحسنه، والخضرة ونضرتها، والماء وعذوبته، كيف كان لصوت الرّصاص معنى للحياة وهو دلالة موت، بل كيف ارتبط موتٌ لأجل قضية محقّة، بالحياة إلى هذا الحد! ونحن الذين كانت تستهوينا الأنغام العذبة وزقزقة العصافير لنشعر أننا بخير؟!
لقد شعرنا أننا بخيرٍ أكثر، ونحن في حمى ثورة، بل في حمى الفكرة!
أعطت الثورة الرّبيع قيمة فوق قيمته، ووهبته معنى مختلفاً، جعل لقدومه ارتباطات كثيرة، بفيض ذكريات، بعبقٍ مختلف، والربيع أضفى على الثورة جمالاً، وجلالاً، خرجا من كآبة الخريف والشتاء، كما خرجت شعوب كثيرة في العالم من كآبة حكم مظلم، وحاكم ظالم، فكان الأخضر في الربيع دلالة تفتح وتغيير وسعادة وولادة جديدة، وكان الأخضر في علم الحرية له ذات الدلالة.
وارتبطت الثورة السورية أكثر ما ارتبطت بدرعا، من مهدها انطلقت، وأشعلها الأطفال هناك، ” اجاك الدور يا دكتور”، لم يكونوا يعرفون بعد معنى ” الديكتاتور”، وتحالفت معهم دماء الشهداء، فكانت تنتشر أكثر، غضباً، قهراً، رفضاً للظلم، وإلى مهدها عادت بعد سنوات ثمان، إلى درعا، لتملأ الأرض هتافاً للحرّيّة، من يصدّق أنها إليها تعود؟ وفي ساحاتها تتحرك الأقدام لتقوم بخفة، في دبكة لا تهزّ الأرض وحسب، بل تهز العروش والأصنام والتماثيل، وتقول كلمتها بعد أعوام من محاولة قتلها ” أنا هنا مازلت حيّة لم أمت، سيموتون وأبقى، وسأقف شامخة والتمثال سيقع، التمثال واقع لا محالة!”.
ثمانية أعوام، ومازلت أرى الثورة السورية الأهم بين ثورات الشّعوب، لها أحقّية الصمود أعواماً طويلة، ضاربة بفكرة الاستسلام عرض الحائط، بقيت واستمرت، رغم يُتمها، تابعت رغم محاولات تفكيكها، بقيت رغم الجهود المكثفة سياسياً وعسكرياً، اقتصادياَ واجتماعياً، نفسياً وفكرياً، من أجل نسفها واقتلاعها من جذورها.
كان هدفهم ألا تبقى منها باقية، ومع ذلك بقيت، وكان هدفهم أن يربّوا بها شعوب الأرض، وإذا بالسودان تنتفض، تتبعها الجزائر، كان همهم تكميم أصوات النّاس، وجعلهم يستسلمون للصمت والانكسار، لكن صرخاتهم كانت أعلى وأشد، آمالهم من الثورات أقوى، تحدّيهم لحكامهم المتشبثين ظلماً بكرسي الرئاسة صارخ وراسخ، يحمل الإيمان ذاته، والتكاتف الإنساني الشعبي ذاته مع ثورتنا السورية.
تأتي الذكرى الثامنة لاندلاع الثورة بثوبٍ جديد، لم يأتِ عامٌ على سوريا بعد الثورة يشبه نفسه، لا الأماكن ولا الأحداث ولا الأشخاص، حتى ذلك الأحمق المتشبث بكرسيه حتى اللحظة، لم يعد كما كان، ولا كرسيه عاد بذاك الثبات فقد تضعضعت أركانه، وبات حوله ممن يرغبون بسقوطه أكثر من الذين يساندونه بسلاحهم ورجالهم وعتادهم، وأما نحن، فمازلنا أسرى الجنون للفكرة، نحيا بها ونتابع على درب الكفاح، نحارب ضعفنا، وانقسامنا، وتغييبنا المتعمد، نصرخ بقوة لأجل لملمة شتاتنا المبعثر، لعل صراخنا يتأطر في صوتٍ واحد، وهدفٍ واحد، سوريا بدايته ومنتهاه.
ندرك أن عشقنا المجنون للثورة لا يكفي، ما لم يظهر، وينتشر، ويكون موضع تأثير وتغيير وفاعلية وقرار، وندرك أيضاً أن من الجنون الاستمرار بعثرات الماضي، ومن الجنون الرضا بجمود الحاضر، وبأنه يتوجب علينا جميعاً المبادرة، لحماية الفكرة والكفّ عن الاحتماء خلفها، لابد من إعادتها للواجهة، وتنقيتها من شوائبها، وصياغة الموقف تلو الموقف، والفعل تلو الفعل، لنعيدها سيرتها الأولى.
ولأننا لم نَثُر عبثاَ، ولم نحمّل ثورتنا وقود أرواحنا ودمائنا لأجل أن تموت الفكرة، بل من أجل حياتها، فلا خيار من المتابعة، ولا بديل عن الاستمرار، وإن تتابع علينا المشهد الأول، آذار تلو آذار، تلو آذار، فلكي نتجدد كوجه الأرض، بابتسامة يتيم وجد من يجبر كسره، وتفاؤل أمّ معتقل وجدت من يساعدها لتطالب بإخراجه، وهمّة ثائر عرف أن التراجع جريمة، فنهض رغم جراحه وتابع، ذاك جمالٌ يُشهد له، في ذاكرة التاريخ، وأرواح الأحرار، وفي زهر آذار وقطرات غيمه الماطر، تستمر الثورة، لتنتج ثورة أخرى، حتى تفتح الزّهر، وحتى مطلع الفجر.