أعاد “أرشيف الشر” الذي نشرته صحيفة “صاندي تايمز” البريطانية مؤخرًا، الحديث عن حجم الوثائق التي تثبت تورط النظام في ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في سوريا.
ويحتوي الأرشيف على مليون وثيقة لجلسات تعذيب وقتل لمعارضي بشار الأسد، بعضها يحمل شعار الدولة السورية (النسر) والآخر يحمل توقيع الأسد نفسه، ما يعتبر دليلًا على تورط النظام السوري ورئيسه، وهو محفوظ في 265 صندوقًا كرتونيًا داخل قبو مراقب بالكاميرات الأمنية في مكان سري بمدينة أوروبية.
الوثائق التي نشرتها الصحيفة البريطانية ليست الأولى من هذا النوع، إذ سبقتها وثائق أخرى تحولت إلى أداة مهمة في عمل الحقوقيين في سوريا، ورغم ذلك لا يزال ملف المعتقلين والجرائم المتعلقة به معلقًا، إذ لم تفلح المعارضة السورية ولا المجتمع الدولي في تحريك هذا الملف باتجاه محاسبة المرتكبين.
ميزان القوى يقوّض أثر الوثائق
مع قرب الانتهاء من العمليات العسكرية على الأرض، والحديث عن الانتقال إلى عملية الحل السياسي من خلال اللجنة الدستورية والانتخابات المتوقعة برعاية الأمم المتحدة، تدور التساؤلات عن أهمية ملفات الانتهاكات المتعلقة بالنظام، والأثر الذي قد تفرضه على أي مرحلة سياسية مقبلة، خاصة أنها تثبت بشكل كبير ضلوع النظام السوري ومنظومته الأمنية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
يرى مدير “مركز العدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، أن أثر الملفات وتقارير المنظمات الدولية حول انتهاكات النظام السوري ضعيف، لأن الملف السياسي عاجز حاليًا بالنظر إلى ميزان القوى العسكرية على الأرض واستعادة النظام السوري للسيطرة على مناطق واسعة، كما أن المعارضة السورية عاجزة عن فرض واقع مختلف بالمفاوضات، بناء على وجود أدلة وانتهاكات.
ويقول العبد الله في حديث لعنب بلدي، إنه من الممكن أن يُمارس ضغط فيما بعد، عن طريق بعض الدول كأمريكا أو بلدان الاتحاد الأوروبي، للعمل على موضوع إخراج بعض الشخصيات في المرحلة الانتقالية، لوجود أدلة على تورطها في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مثل جميل الحسن، الذي صدرت مذكرة توقيف بحقه من النيابة العامة في ألمانيا بارتكاب جرائم حرب.
ويوضح العبد الله أن ملفات الانتهاكات من الممكن أن تصبح أكثر فائدة في حال حدوث تغيير ومرحلة انتقالية، وحين نلمس تقدمًا في المفاوضات في اتجاهات مختلفة، وبالتالي يصبح الحديث حينها عن غربلة الشخصيات التي ارتكبت جرائم حرب وانتهاكات وإخراجها من القيادات وإصلاح أجهزة الأمن، إلى جانب إخراج الضباط والمسؤولين الذين كان لهم دور في الانتهاكات والتعذيب.
وهذا يعني أن استثمار ملف الانتهاكات على الصعيد السياسي يمكن تغييره حسب تطورات الملف السياسي، وحسب توازن القوى.
ويدور الحديث حاليًا عن اللجنة الدستورية، التي أقرت في مؤتمر “سوتشي” الروسية، في كانون الثاني العام الحالي، وكانت الدول الضامنة الثلاث (تركيا، روسيا، إيران) أعلنت مؤخرًا عن انتهاء اختيار قوائم اللجنة من المعارضة والنظام السوري، وسط خلاف حول اختيار قائمة المجتمع المدني.
ولم تتطرق جميع المؤتمرات الدولية الخاصة بالملف السوري طوال السنوات الماضية بشكل جدي إلى الملفات المتعلقة بانتهاكات النظام السوري بحق المدنيين والمعتقلين في أفرعه الأمنية، وكانت مجموعة الدول المصغرة (أمريكا، فرنسا، ألمانيا، الأردن، السعودية، بريطانيا) سربت المبادئ الخاصة بها للحل في سوريا، وتضمنت عدة بنود تخص الانتخابات وصلاحيات الأسد وشكل الحكومة المستقبلية.
وبحسب العبد الله، فإن الوضع اليوم بات مختلفًا عن الفترة السابقة التي شهدت غياب الولايات المتحدة الأمريكية عن جنيف، مع تعيين مبعوث للملف السوري هو جيمس جيفري، وأضاف، “في السابق دار الحديث عن انسحاب أمريكي من سوريا، لكن الأمر تغير حاليًا إلى وجود أمريكي حتى هزيمة إيران داخل سوريا، الأمر الذي قد يؤثر بشكل أو بآخر بآلية استثمار ملفات الانتهاكات”.
ويقول العبد الله، “في حال وجود ضغط دولي فمن الممكن أن يساعد ذلك في تحريك هذه الملفات، واستخدامها سياسيًا للضغط على النظام السوري وروسيا”.
النظام يخبّئ انتهاكاته خلف “البيروقراطية”
يرى مدير “مركز العدالة والمساءلة” محمد العبد الله، أن تقارير “قيصر” حتى اليوم هي الأدلة الأهم في تاريخ سوريا بعد 2011 عن الانتهاكات بنطاق واسع بطريقة ممنهجة، فهي تشير بوضوح إلى أن عمليات التعذيب لم تكن انتهاكات فردية، بل سياسة حكومية تقوم على جهود منظمة لاعتقال الناس وتعذيبهم وقتلهم.
إذ أظهرت الصور التي سربها الضابط المنشق المدعو قيصر أو “سيزر” خنق المعتقلين، وطريقة تسجيلهم وأرشفتهم، وبدت الأمور واضحة بشكل كبير ودقيق.
لكن العبد الله يرى أن تقرير “ملفات الشر” الذي تحدثت عنه “صاندي تايمز” يوجد فيه شيء من المبالغة، مستبعدًا توقيع بشار الأسد بنفسه على أوامر الاعتقال والتعذيب.
ويقول إن بعض الأوراق عليها توقيع بشار الأسد، لكنه لا يتصور أن تكون صحيحة، ومع ذلك لا يمكن تعميم الأمر على كل الأوراق.
ومن ضمن مليون صفحة تحدثت عنها صحيفة “صاندي تايمز”، شارك “مركز العدالة والمساءلة” بـ 600 ألف صفحة منها، مع “الهيئة الدولية للعدالة”.
وبحسب العبد الله، لم يكن على الأوراق التي شارك فيها المركز توقيع بشار الأسد، كما لم تحتوِ أوامر تعذيب أو إصدار قوائم قتل، بل كانت توضح أن حكومة النظام تأخذ كل الإجراءات لتمنع هذا الموضوع، لافتًا إلى أن النظام كان يحاول أن يغطي نفسه وممارساته في حال وقعت الأوراق بأيدي دولية أو تم تسريبها.
وتقول تقارير قوائم المعتقلين لدى النظام السوري إنهم “إرهابيون”، لكن في الحقيقة هم ناشطون في المجال الميداني أو الإغاثي أو الإعلامي أو متظاهرون سلميون، وبعد الإمساك بهم يتم اعتقالهم وتعذيبهم بأفرع الأمن.
ويشير العبد الله إلى محاولات من جانب النظام لتوثيق الحدث بصيغة قد تدافع عن أجهزة الأمن لاحقًا.
ويقول إن الممارسات على الأرض مختلفة عن محتوى الأوراق، لكن الأمر لا يمنع المحاكمات ودحض مصداقية هذه الأوراق، وعلى سبيل المثال هناك بعض الملفات التي يطلب فيها “حزب البعث” من الأمن التعامل مع الناس بصورة جيدة بعيدًا عن السرقات، أو المساس بكرامة الناس، لكن على الأرض توجد آلاف الفيديوهات التي تثبت عكس ذلك.
وتعتبر حكومة النظام السوري وممارساتها البيروقراطية نسخة أساسية عن ممارسات أجهزة الأمن الروسية، باعتبار أجهزة الأمن السورية تم تدريبها وتطويرها في روسيا، وهي نسخة عن نظام الاتحاد السوفييتي.
ووفق العبد الله، حاول النظام في بعض الوثائق أن يوثق قتل المعتقلين والمدنيين بعملية بيروقراطية عكس ما يقوم به من انتهاكات، محاولًا إيجاد منفذ لحماية نفسه لاحقًا.
ويمكن مقاربة ملفات الانتهاكات في سوريا بمحاكمات كمبوديا، فقد أتت الحكومة الكمبودية بأدلة لدحض تهمة الإبادة الجماعية التي قامت بها، لكن الأدلة الخاصة بالشهود والضحايا كانت عكس الكلام في الأوراق، وأخذ بكلام الضحايا والشهود فيما بعد.
تقارير أثبتت جرائم الأسد دون تحرك دولي
صدرت خلال السنوات الماضية عدة تقارير صادرة عن منظمات حقوقية وأممية، وثقت انتهاكات النظام السوري بحق المعتقلين من تعذيب وقتل وحرق، لكن بقيت هذه التقارير حبيسة الصناديق دون تحرك دولي يوقف الجرائم بحق الشعب السوري.
عملية جمع الوثائق بدأت بعد بداية الثورة السورية عبر فريق كبير من المحققين الدوليين الذين يقومون بجمع وإعداد ملفات قضائية وفق المعاير الدولية، بحسب ما قاله منسق عام “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، دياب سرية، الذي أكد أن المحققين أسسوا إلى جانب محامين سوريين “الهيئة السورية للعدالة والمساءلة” بدعم مباشر من عدة دول منها بريطانيا وأمريكا، بهدف جمع أكبر قدر ممكن من الأدلة والوثائق التي تثبت إصدار النظام السوري أوامر بقتل المتظاهرين وتصفية المعتقلين.
وأشار سرية في حديث إلى عنب بلدي إلى أن الوثائق جمعت عبر عدة طرق، أولاها التعاون مع شخصيات وضباط في مناطق حساسة من داخل النظام السوري، والذين بقوا على رأس عملهم ولم يعلنوا انشقاقهم في موجة الانشقاقات التي شهدتها الثورة في 2012، وسربوا هذه الوثائق.
أما الطريقة الثانية فعبر الوثائق التي كانت فصائل “الجيش الحر” تحصل عليها عقب سيطرتها على القطع والمطارات العسكرية التابعة للنظام، بحسب سرية، الذي أكد أن المحامين والحقوقيين كانوا يرافقون الفصائل ويعملون على توعيتهم بضرورة الحفاظ على الأرشيف العسكري الذي يكون في القطع.
وأشار سرية إلى أن الفريق الدولي درب الحقوقيين السوريين ومجموعة من الناشطين في تركيا على نوعية الوثائق وجمع الأدلة، لافتًا إلى أن هذه الوثائق كانت تنقل من سوريا إلى تركيا ثم إلى أوروبا وهناك تتم عملية تحليلها والتأكد منها وترتيبها وتصنيفها
وتتضمن الوثائق أرشيفًا كبيرًا لأجهزة أمنية ومحاضر لاجتماعات أفرع المخابرات ومحاضر اجتماع مكتب الأمن القومي الذي يضم رؤساء الأجهزة الأمنية الأربعة (الأمن السياسي والعسكري وأمن الدولة والمخابرات الجوية) إضافة إلى وزير الدفاع والرئيس، الذي كان يصدر أوامره كبدء المعارك والقصف.
محاولات أمريكية “صعبة” لتمرير قانون “سيزر”
تقرير “صاندي تايمز” لم يكن الأول على مستوى توثيق الجرائم في سوريا، وإنما نشر فريق من المحققين الدوليين في 2014، تقريرًا اعتبروه “أدلة مباشرة” لعمليات “التعذيب والقتل الممهنج”، مستندًا إلى أكثر من 50 ألف صورة لجثث معتقلين سوريين قضوا تحت التعذيب، سربت عبر منشق عن الشرطة العسكرية السورية أطلق عليه حقوقيون اسم قيصر أو “سيزر”.
واعتبر ديزموند دي سيلفا، وهو أحد المحامين الثلاثة الذين شاركوا في إعداد التقرير، بحسب شبكة “CNN”الأمريكية، أن الصور أقرب إلى صور الناجين من “الهولوكوست”، وأنها تذكر بهؤلاء الذين تم العثور عليهم أحياء في معسكرات الموت النازية، بعد الحرب العالمية الثانية.
ولاقت الصور حينها غضبًا حقوقيًا ودوليًا، وسط مطالبات بمحاسبة النظام السوري وإحالته إلى المحكمة الدولية لمحاسبته على جرائمه، وتحولت تلك المطالبات إلى تحركات جدية في الولايات المتحدة.
وكان مجلس النواب الأمريكي (الكونغرس) مرر قبل عامين مشروع قانون “حماية المدنيين” في سوريا، أو ما يعرف بقانون “سيزر”، وتجري مناقشته خلال الفترة الحالية في أروقة مجلس الشيوخ.
وفي حال مرّ القانون في مجلس الشيوخ، يحتاج إلى توقيع رئيس الولايات المتحدة ليصبح ساريًا.
وينص القانون على “إيقاف المذابح التي تطال الشعب السوري، ومعاقبة كل من يقدم الدعم لنظام الأسد، ويلزم مشروع القرار رئيس الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الدول الحليفة للأسد”.
ويتيح هذا القانون معاقبة داعمي الأسد، بما فيهم روسيا وإيران، كما يهدف إلى إيقاف المذابح التي تطال الشعب السوري.
ووفق نص المشروع، يتعين على الرئيس الأمريكي، بعد 30 يومًا من سريان مفعول القرار، إدراج مواطني الدول الأخرى في قائمة العقوبات، إذا رأى أن هؤلاء الأشخاص يقدمون لنظام الأسد دعمًا ماليًا أو تقنيًا يمكن أن يسمح له بامتلاك أسلحة كيماوية أو بيولوجية أو نووية، وصنع صواريخ بالستية أو مجنحة، أو الحصول على أسلحة أخرى بكميات كبيرة.
والرئيس الأمريكي ملزم أيضًا، بفرض عقوبات ضد الأجانب الذين يقدمون لنظام الأسد خدمات في مجال الدفاع، أو معلومات ذات طابع عسكري، وللذين يتعاملون مع البنك المركزي السوري، إضافة إلى فرض عقوبات ضد الذين تسهم أعمالهم في تفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا.
ويتضمن مشروع القرار قائمة بأسماء مسؤولين بنظام الأسد، بمن في ذلك بشار الأسد وزوجته أسماء ومسؤولون في الأمن السياسي وقادة عسكريون في سلاح الجو والاستخبارات العسكرية.
ويرى مدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، المحامي أنور البني، أن الإقرار بالقانون من قبل “الكونغرس” يعزز مبدأ المطالبة بالمحاسبة وإن كان استخدامه يقتصر على الجانب السياسي.
ويضيف البني لعنب بلدي أن “الإدارة الأمريكية وأوروبا يمسكون بهذا القانون كورقة سياسية لتحديد طريقة تعاملهم مع النظام، ولكن ليس بالمعنى القانوني، وذلك لا يحتم أي إجراءات قانونية ضد النظام، وإنما هو مسألة معاقبة النظام سياسيًا واقتصاديًا، وعدم السماح له باستثمار جرائمه ليعيد الشرعية لنفسه، وهذا بكل الأحوال إيجابي لنا كسوريين، لكن بالنسبة لموضوع السيرورة القانونية، فهو لا يحدث آلية قانونية لفتح ملفات دعاوى أمام محاكم، أو إحداث محاكم، أو حتى لن يتيح للقانون الأمريكي أن يحاسب النظام على جرائمه أمام القضاء الأمريكي”.
العفو الدولية توثق روايات “مرعبة” عن التعذيب
منظمة العفو الدولية وثقت، في آب 2016، ظروف وفاة أكثر من 17 ألف معتقل داخل سجون النظام خلال خمس سنوات، وأحصت في تقرير حول التعذيب والموت وفاة 17723 شخصًا في أثناء احتجازهم بين آذار 2011 وكانون الأول 2015، وتحدثت عن “روايات مرعبة” حول التعذيب الذي يتنوع بين السلق بالمياه الساخنة وصولًا إلى الضرب حتى الموت.
وفي شباط 2017، وثقت “العفو الدولية”، في تقرير نشرته، إعدامات جماعية بطرق مختلفة نفذها النظام السوري بحق المعتقلين في سجن صيدنايا.
وحمل التقرير عنوان “المسلخ البشري”، وذكرت المنظمة أن إعدامات جماعية شنقًا، نفذها النظام بحق 13 ألف معتقل، أغلبيتهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015.
الإعدامات جرت أسبوعيًا أو ربما لمرتين في الأسبوع، وفق “العفو الدولية”، التي وصفت الإعدامات بأنها “سرية”، واقتيدت خلالها مجموعات تضم أحيانًا 50 شخصًا، إلى خارج زنزاناتهم، وشنقوا حتى الموت.
واستند تقرير المنظمة، الذي جاء في 52 صفحة، إلى تحقيق معمق أجرته على مدار عام كامل، كما ذكرت، وتضمن مقابلات وشهادات لـ 84 شخصًا، بينهم حراس سابقون في السجن، ومسؤولون ومعتقلون وقضاة ومحامون، إضافة إلى خبراء محليين ودوليين.
ووفق شهادات الحراس، فإن السجناء “اقتيدوا إلى خارج زنزاناتهم، وخضعوا لمحاكمات عشوائية، إلى أن شنقوا في منتصف الليل بسرية تامة، وكانوا طوال العملية معصوبي العينين”.
ونقلت “العفو الدولية” عن قاضٍ سابق شهد الإعدامات قوله، “كانوا يبقونهم معلقين هناك لمدة عشرة إلى 15 دقيقة، بينما كان مساعدو الضباط يشدون صغار السن منهم، ووزنهم أخف، ويحطمون أعناقهم”.
واستنكر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، التقرير وقال في مقابلة مع إذاعة “أوروبا 1″ و”تي إف 1” الفرنسيتين، في 16 من شباط، إن “تقرير المنظمة هو تقرير أطفال، ومخجل للغاية، ومن العار أن تبث منظمة عالمية مثلها تقارير ادعائية وكاذبة عن سوريا”، مضيفًا أن “في سوريا لا يستعمل التعذيب، نحن لا نستعمل أساليب التعذيب في السجون، لأن هذا ليس من شيمنا”.
“الآلية الدولية”: 700 ألف صفحة عن الانتهاكات
في نيسان الماضي، قالت “الآلية الدولية المستقلة للتحقيق” التي أعلنت الأمم المتحدة عن تأسيسها في شباط 2017، لمحاسبة مرتكبي الجرائم في سوريا، إنها جمعت أكثر من 700 ألف صفحة توثق الانتهاكات المرتكبة منذ 2011.
وخلال جلسة مغلقة للجمعية العامة للأمم المتحدة، في 18 من نيسان الماضي، قالت رئيسة الآلية الدولية، القاضية كاترين مارشي أوهيل، إن تلك الانتهاكات، المتمثلة مؤخرًا بهجمات كيماوية في مدينة دوما، تستدعي تسريع الجهود الرامية لمحاسبة مرتكبي “جرائم حرب” في سوريا.
وتحدثت القاضية الفرنسية عن “فظائع” ارتكبت في سوريا على أيدي جميع أطراف النزاع، ومنها الاختفاء القسري والعنف الجنسي ضد الإناث والذكور واستخدام أشد أنواع التعذيب والإعدام الفوري واستهداف المركز الحيوية، بما فيها المدارس والمستشفيات.
العدالة طريقٌ شاق.. ما خطوات تحقيقها في سوريا؟
لعل السؤال الأبرز المتعلق بالتقارير التي توثق انتهاكات النظام هو سبب تجميدها من قبل الدول التي أمسكت بها، وعدم عرضها والبدء بفتحها بالتزامن مع التحركات السياسية، وخاصةً التي ترعاها الأمم المتحدة، والتي من المفترض أن تكون ركيزة أساسية وعاملًا من شأنه إعطاء صورة واضحة ورئيسية للواقع السوري منذ عام 2011.
من ناحية قانونية، يعتقد مدير “مركز العدالة والمساءلة” محمد العبد الله، أن السبب الأهم الذي أدى إلى تجميدها هو غياب الإمكانية للعمل عليها أو استثمارها في المحاكمات، إذ لا توجد محكمة مختصة في سوريا، كونها ليست مشاركة في اتفاقية محكمة الجنايات الدولية، وبالتالي المحكمة ليس بمقدورها أن تفتح تحقيقًا بخصوص سوريا، وأيضًا مجلس الأمن عاجز عن إحالة الملف إلى محكمة الجنايات الدولية أو إنشاء محكمة دولية خاصة بسوريا، باعتبار وجود الفيتو الروسي الدائم على الموضوع.
عضو “هيئة القانونيين السوريين” المحامي فهد القاضي، اعتبر أن العدالة لن تتحقق في سوريا ما لم يكن هناك توافق سياسي حول مصير النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، كونها قضية مرتبطة بالسياسية، مؤكدًا أن “العدالة طريق طويل وشاق، وأن الجرائم لا تسقط بالتقادم”، ويمكن أن تقام محاكم جنائية في وقت مهما مضى عليها الزمان.
وأشار القاضي في لقاء مع عنب بلدي إلى وجود ملفات قانونية مستمدة من الواقع يتم إعدادها حاليًا من قبل المعارضة وحقوقيين، لإرسالها إلى جهات دولية، لافتًا إلى وجود ملفات موثقة عن جرائم النظام، لم تصل للأمم المتحدة بعد بانتظار تشكيل محاكم دولية.
وبالرغم من ردود الفعل الضئيلة التي ستكون على هذه التقارير والملفات، بحسب القاضي، لا بد للمعارضة سورية من توثيق كل الانتهاكات المرتكبة من أجل جاهزيتها عندما تبدأ المحاكم وتطبق العدالة في سوريا.
مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، قال لعنب بلدي، إن هناك ثلاث خطوات يجب اتخاذها من أجل الوصول إلى العدالة، الخطوة الأولى تتعلق بتوثيق الجرائم والانتهاكات في سوريا بغض النظر عن الطرف المرتكب لها، إضافة إلى التوجه إلى الدول التي تطبق “الولاية القضائية الدولية” وإنشاء محاكم خاصة على غرار ما حصل في ألمانيا عندما أصدر الادعاء الألماني أمر اعتقال دولي بحق مدير المخابرات الجوية السورية، جميل الحسن، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في حين تكون الخطوة الثالثة تشكيل محكمة دولية للتحقيق بجرائم الحرب في سوريا.
ويرى مدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، المحامي أنور البني، في حديث إلى عنب بلدي أن باب “الولاية القضائية الدولية” هو باب يمكن للسوريين طرقه حاليًا، لرفع دعاوى ضد شخصيات تابعة للنظام، كونها ارتكبت انتهاكات تصنف على أنها جرائم حرب، كان آخرها مذكرة التوقيف بحق الحسن.
ويكون ذلك من خلال ادعاء يقدم إلى المدعي العام في إحدى الدول التي تطبق “الولاية القضائية الدولية” ومنها ألمانيا، ولدى الحصول على موافقة المدعي العام، يستطيع صاحب الادعاء رفع الدعوى أمام القضاء المحلي.
أما محمد العبد الله، فيرى أن الحل الوحيد الموجود أمام السوريين حاليًا هو “آلية التحقيق الدولية المستقلة”، التي أنشئت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة وليس مجلس الأمن، وبالتالي لا يوجد فيها فيتو روسي.
الآلية المستقلة لها عمل على عدة ملفات غير معروفة حتى الآن، وفي الأيام الماضية دار الحديث عن ملفين في الأمم المتحدة لضمان العدالة في سوريا، بحسب العبد الله.
وكانت وزارة الخارجية الأمريكية أعلنت، في 28 من أيلول 2018، أن مسؤولين رفيعي المستوى من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بحثوا ملف انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظام السوري مع ممثلي منظمات حقوقية سورية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
استطلاع: هل لملفات توثيق الجرائم في سوريا دور في الوصول إلى العدالة والحل السياسي؟
في استطلاع رأي أجرته عنب بلدي عبر موقعها الإلكتروني، صوت فيه نحو 500 مشارك، وجد 57% منهم أن لملفات توثيق الجرائم دورًا في تحقيق العدالة والحل السياسي، بينما لم يرَ 43% أي دور لهذه الملفات بالوصول إلى العدالة.
ورغم النسبة “المتفائلة” للمشاركين، إلا أن التعليقات على الاستطلاع ربطت الوصول إلى الغاية بالعدالة بوجود حيادية للقضاء، لكن “الحقيقة أن المجتمع الدولي هو الخصم والحكم”، بحسب تعبير “أبو حذيفة عليان”.
بينما رأى يوسف خطيب أنه لا توجد عدالة تذكر، مطالبًا بالتساؤل فيما “إذا كنت المصالح ستلتقي مع العدالة يومًا ما؟”.
تجارب سابقة في إحقاق العدالة
تشبه الحالة السورية في واقعها الحالي كثيرًا من حالات الدول التي عانت صراعات وحروبًا خلال القرن الماضي، وارتكبت فيها جرائم حرب على يد أشخاص ومسؤولين فيها، لتبدأ بعد سنوات من توقف الحرب فيها والتوصل إلى حلول سياسية، إجراءات العدالة.
البوسنة والهرسك
البوسنة والهرسك هي إحدى دول البلقان، وتعرضت إلى هجوم صربي وكرواتي بعد إعلان استقلالها، واستمرت الحرب فيها أربع سنوات شهدت خلالها مجازر مروعة بحق المدنيين وتطهيرًا شمل الطوائف العرقية وتحديدًا البوسنيين المسلمين، إضافة إلى تدمير مدن واسعة، قبل التوصل إلى اتفاقية بين زعماء البوسنة وصربيا وكرواتيا عرفت بدايتون في 1995.
وعقب ذلك بدأت ملاحقة رادوفان كاراديتش، المسؤول عن ارتكاب المجازر، وخاصة مجزرة سربرينيتشا، التي راح ضحيتها حوالي ثمانية آلاف شخص، وظل طليقًا لأكثر من 12 عامًا قبل القبض عليه في 2008، على أيدي قوات صربية تلقت معلومات من جهاز استخبارات أجنبي، إضافة إلى أن أمريكا رصدت مبلغ خمسة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه.
وحكمت محكمة الجنايات الدولية على كاراديتش، في 2016، بالسجن لمدة 40 سنة، في حين حكمت محكمة في البوسنة على جوفان تينتور، المقرب من كاراديتش بالسجن 11 عامًا نتيجة ارتكابه جرائم.
رواندا
مجزرة رواندا وقعت في 1994 عندما قتل حوالي 800 ألف شخص من عرق التوتسي على يد متطرفين من قبائل الهوتو، ولم تنته المجزرة إلا بسيطرة قوات مسلحة من التوتسي على العاصمة، بدعم من دولة أوغندة، ثم تأسيسها لحكومة توافقية.
وعقب ذلك تأسست محكمة رواندا الدولية بطلب من حكومة رواندا، وضمّت في صلاحياتها محاسبة الأشخاص المسؤولين عن الجرائم، وحكمت محكمة جرائم الحرب التابعة للأم المتحدة على قائد الجيش السابق، أوغستين بيزيمونغو بالسجن 30 عامًا، كما حكمت على مسؤولين كثيرين مشاركين في الإبادة، من بينهم الوزيرة بولين نيراماسوهوكو لاتهامها بالمشاركة في القرار الحكومي الذي قضى بتشكيل الميليشيات في أنحاء البلاد.