جودي عرش.. من مقاعد الثانوية إلى صحافة الثورة

يناير 4, 2023

مقالات

ترفض جودي عرش، الشابة الحمصية نحيلة القوام، التي لم يساعدها فتح المعابر مجددًا على استعادة بضعة كيلوغرامات سرقها الحصار، أن تقصّر في واجباتها الإعلامية، فالأصل لديها نقل مأساة الوعر إلى العالم، والحفاظ على قوت يومها، أمام مستقبل غامض.

ولا تنسى ذات الـ 22 عامًا، المعيلة لأسرتها بعد رحيل الأخ وغياب الأب، أن توفّر وقتًا لشريكها رضوان، في حديث تغلب عليه نقاشات العمل وجدالاته، وقليلٌ من الغزل العذري المتاح، لكن أهم واجباتها اليوم، هو تأمين مسلتزمات الخروج من الحي، فقد تدخله الحافلات وتقلهم إلى الشمال في غضون أيام.

عاشت جودي، وهي الصحفية الميدانية الوحيدة في مدينة حمص، ظلمات الحرب الأربع، الاعتقال والفقد والقصف والحصار، لتتهيأ أخيرًا للخروج من مسقط رأسها، في رحلة تهجير ستضعها في جرابلس، على الحدود مع تركيا.

سطوة الأمن وساعات الاعتقال

لم يكن دخول جودي عالم الصحافة اختيارًا من تلقاء نفسها، فبدأت عملها إغاثية مع فريق الهلال الأحمر في حمص، وكان ذلك ذريعة لإدخال الأدوية والمساعدات إلى باب السباع، أحد أبرز الأحياء المنتفضة ضد نظام الأسد مطلع الثورة، وأجرت فيه دورات إسعاف ميداني.

اعتقلها الأمن العسكري في المدينة، منتصف شباط 2012، أثناء محاولتها إدخال المساعدات إلى الحي، ليستمر الاعتقال 14 ساعة فقط، تعرضت خلالها للضرب والتعنيف الجسدي والنفسي.

تقول الشابة “وافقت على الخروج المشروط مجبرة، وعدت إلى الوعر الخاضع للنظام آنذاك، ثم لأغادر حمص إلى ريف دمشق خوفًا من ملاحقة الأمن، ورجعت إلى الحي بعد ثلاثة شهور لأودع أخي الذي قرر أن يستقر في حمص القديمة الخاضعة للثوار”.

قضت جودي في الوعر أصعب مراحل حياتها، كما تصف، تتنقل من منزل إلى آخر خوفًا من الاعتقال مجددًا، إلى أن تحرر الحي من قبضة النظام السوري.

رحيل الشقيق وغياب الأب

كان عمر جودي 16 عامًا عندما اندلعت الثورة ضد النظام السوري، وكانت حينها في الثانوية العامة، تحلم بدراسة الهندسة المعمارية أو المدنية، كطموح مشروع لسائر الطلاب المجدين.

لكن انطلاق الاحتجاجات وفقدان شقيقها الصغير في الحرب، واختفاء والدها المغترب لدى محاولته دخول سوريا من بوابة حلب قبل ثلاثة أعوام، ألقى على عاتقها مسؤولية تأمين حياة عائلتها المكونة من خمسة بنات هي أكبرهن، إلى جانب والدتها المكلومة.

تحرير الوعر كان حدثًا سعيدًا في حياة جودي، فأصبح بالإمكان التحرك بسهولة، وحينها حققت نقلة نوعية باتجاه الصحافة والإعلام، وتردف “اختيار الإعلام كان نقلة نابعة عن حقد لما حصل لعائلتي، عدا عن كونه مصدر رزق، ففقدان أبي وأخي وضعني موضع المسؤولية، إما أن نموت من الجوع أو أعمل لأعيش مع أهلي”.

لاقت الناشطة صعوبة كبيرة مع بداية عملها، فالفتيات اشتهرن بالعمل في المجالين الإغاثي والطبي، ولم يكن في حمص كلها سوا ناشطة في حمص القديمة وجودي في الوعر، “كانت هناك صعوبة في تقبل الناس لوجودي كإعلامية وصحفية في الوعر وحمص بشكل عام، وتعرضت لمضايقات كلامية من الكثير، ولم يكن أحد يعلم لماذا عملت بالأصل”، تقول جودي.

حب وحرب وحصار

ترفض جودي وصف القصف والحرب والحصار بـ “الصعوبات”، فهو أمر مفروض على الجميع في الوعر، وجزءٌ من ملح الحياة، وفق تعبيرها، رافضة المقارنة بينه وبين “أخطر مراحل حياتها”، حينما كانت عرضة للملاحقة الأمنية.

أسهم دعم أصدقاء جودي في إيصال صوتها وعملها الإعلامي إلى وكالات دولية ومحلية، وأعطاها هذا التأييد دعمًا في تغطيتها جبهات القتال والقصف والحالات الإنسانية، وتوثيق ما حصل في الوعر منذ العام الثاني للثورة وحتى اليوم، وتقول “استطعت أن أثبت نفسي وأشكل فارقًا بإعلام مهني في حمص والوعر، وأسهمت في تغيير الصورة النمطية للمرأة السورية في الثورة”.

“عنب بلدي كانت أكثر محطات حياتي أهمية، ومرحلة صقل مهارات وتوجيه”، تقول جودي، مراسلة عنب بلدي في حمص منذ سنة ونصف، وتضيف “بدأت بالعمل مع الصحيفة بعدما أجريت تغطية للملف الرياضي في الوعر، وتطور أدائي بمساعدة محرريها وملاحظاتهم، هي عائلتي قبل أن تكون مؤسسة بالنسبة لي”.

تعرفت جودي على الناشط والمصور رضوان الهندي قبل عامين، خلال مشروع توثيق صور شهداء حمص، في وقت كانت فيه بحاجة ماسة إلى شخص تتقاسم معه أعباء العمل المتراكم، ثم عملا سوية على إنجاز فيلم وثائقي عن حمص، لتتكلل العلاقة بالحب والخطوبة.

تعتبر الشابة أن علاقتها برضوان كان لها الأثر الكبير في حياتها المهنية قبل الخاصة، لأنها وجدت شيئًا يكمل ما هو ناقص عندها، “حياتي التي أصفها بشيء من السوداوية استطاع رضوان أن يضيئها، ساعدني وساعدته، انتقلنا سوية من مستوى إلى مستويات أخرى، ونجحنا رغم المعاناة ومأساة الحصار”.

تهجير على أمل العودة

لم تتكلل قصة الحب بين جودي ورضوان بالزواج، رغم مضي سنة ونصف على الخطوبة، بسبب ظروف الحصار والحرب المستمرة، وآمال فك الحصار عن الحي من قبل “الجيش الحر”، والتي تلاشت بعد اتفاقية تسليمه للنظام وخروج مقاتليه والعائلات الرافضة لـ “التسوية”، وتردف “سنتزوج بعد خروجنا إلى جرابلس، وسنعود مع أطفالنا إلى الوعر”.

ما زالت جودي، التي تدرس حاليًا “العلوم السياسية” في جامعة افتراضية، تطمح بمتابعة عملها الصحفي حتى إسقاط نظام الاستبداد في سوريا، “سننتقل إلى جرابلس ونبدأ عملنا مجددًا من الصفر، رغم الخبرة الجيدة التي اكتسبتها، فهي مرحلة جديدة سأحاول من خلالها تعلم أكبر مهارات ممكنة”.

لا تعلم الصحفية الشابة، في أي الحافلات ستودع الوعر، في يوم قهر يضاف إلى الظلمات التي عاشتها خلال سنين الثورة، كما أنها غير متأكدة إن كان المأوى الجديد خيمة بيضاء برعاية “الأمم المتحدة”، أو منزل ريفي قد يحالفها الحظ بالإقامة فيه، لكن يقينها الأكيد أن “الحب والعمل هما عماد البشرية”، كما يقول فرويد.

 

المصـــدر

المزيد
من المقالات