حلب تتحرر: عودة إلى ميادين المعارك الأولى

نوفمبر 29, 2022

العقيد عبد الجبار العكيدي

مقالات

ليست هيّنة خطواتنا على بيادر التاريخ الراهن في إطار محاولة الكتابة عن حدث ما، فكيف إن كان الحدث يرتبط بالتحرر والخلاص، والمكان حلب، أيام وكأن أعمارنا فيها مُلخصة، وها قد وصلت بعد سلسلة مقالات إلى واحدة من أكثر المحطات قداسة وجلالة، ونبدأ أول حلقاتها في سرد ما عايشت ورأيت، من أحداث معركة حلب الأولى.

20 تموز 2012.. الزحف إلى حلب

في شهر رمضان، وفي أول يوم جمعة منه، والموافق للعشرين من تموز عام ٢٠١٢، كانت البداية، فقادة مجموعات مدينة حلب الموجودون في مقراتهم بريف حلب، في تل رفعت وعندان والأتارب، بدؤوا بمهمة الالتحاق بمجموعاتهم في مدينة حلب.

كان الطريق حينذاك عبر خان العسل، ثم الحمدانية باتجاه الراموسة، وبمحاذاة الكليات العسكرية، وصولا إلى حي صلاح الدين، وكان حينذاك المعقل الرئيس للثوار وقادة المجموعات، لاسيما المطلوبين للأجهزة الأمنية، كان حي صلاح الدين قلعة الأحرار.

أعلنت تلك المجموعات حي صلاح الدين حياً محرراً من عصابات الأسد، ونصبوا الحواجز وأغلقوا الطرقات لمنع دخول الأمن والشبيحة، وحماية الحراك السلمي، لتخرج حينذاك مظاهرات هي الأكبر حجماً والأكثر زخماً في حلب، وحينذاك حمل المتظاهرون أفراداً من الجيش الحر، وهتفوا ذاك الهتاف الذي ذَبل لاحقا: الله محيي الجيش الحر، إلى جانب هتافات أهل الثورة الأخرى، لكن وقتها كان لهتاف محدد وقع خاص، فيه رنين الأمل، وهو: “ها ها هي حلب”، ولم تخذل حلب لوقت طويل بعد ذلك تلك الحناجر وأصحابها، فقد أذاقت النظام ويلات الذل، وأوقعت بين صفوفه خسارات كبيرة، ووضعت حلب على خريطة الثورة السورية لتظل الرقم الصعب إلى أن بدأ الانحسار الكبير لاحقاً.

لم تكن الفرحة بقوَمة حلب والتحرير، فرحة حلبية خالصة، بل عمت الشارع الثوري في معظم المحافظات، لأن دخول الجيش الحر إلى حلب كان من شأنه تخفيف الضغط عن حمص ودمشق وغيرها، خصوصاً أن تحرير حلب تزامن مع عملية عسكرية شرسة للنظام ضد حي القابون ومساكن برزة وداريا والغوطة.

الصدمة

لم يستوعب النظام وأجهزته الأمنية وجحافل شبيحته فكرة بدء تحرير مدينة حلب، وبدأت أعداد كبيرة منهم بالهرب، وتبين أن من كان يستأسد على المتظاهرين لم يكونوا سوى حفنة من المجرمين الجبناء، بينما سلمت فئة أخرى الأسلحة للجيش الحر، مقابل الأمان.

قادة الحراك الثوري والتنسيقيات وقادة المجموعات في مظاهرات ذاك اليوم طالبوا مجموعات الريف بالدخول ومؤازرتهم لاستكمال التحرير، وخشية الحصار وتكرار تجربة بابا عمرو، فالعدد قليل، والإمكانيات ضعيفة، والعدو مجرم سفاح يملك جيشاً عرمرماً بدأ بالزحف مباشرة باتجاه حلب.

فزعة الريف للمدينة

وكعادتهم لم يتأخر ثوار الريف، والذين كانوا قد توحدوا في فصيل أطلقوا عليه اسم لواء التوحيد بقيادة الشهيد عبد القادر الصالح، فلبوا النداء في اليوم التالي ودخلت إحدى مجموعاتهم من الريف الغربي سالكين طريق خان العسل- الحمدانية مارين من أمام بيت قائد الشرطة وسط ذهول واندهاش ورعب عناصر الأمن وصولاً إلى حي صلاح الدين.

22تموز 2012.. النفير العام والفرقان

وفي صبيحة يوم الأحد 22 تموز 2012 وتزامناً مع بيان أعلنتُ فيه النفير، وكنت حينذاك قائداً للمجلس العسكري، انطلقت معركة تحرير حلب، وأعلن لواء التوحيد عن بدء معركة الفرقان، ملبيين نداء إخوانهم، وبدأت طلائع الأسود تقتحم الظلام، مسرعة الخطا، مخترقين جدار الصمت، منطلقين من مدينة الشهداء والأبطال مدينة تل رفعت، يقودهم الصالح عبد القادر وثلة من الأبطال من كل أرياف حلب، متسلحين بالعزيمة والإيمان وسلاح خفيف وذخيرة قليلة، سالكين طريق تل رفعت- مارع- أخترين- حزوان وصولاً إلى أرض الحمرا ومساكن هنانو في الشمال الشرقي للمدينة، متخذين من مدرسة (سليم حج أحمد) في أرض الحمرا مقراً لهم، ومع بزوغ شمس ذلك اليوم الثالث من رمضان بدؤوا الانتشار في الأحياء الشرقية للمدينة، وعناصر النظام تتقهقر أمامهم، وصدق رسول الله بقوله” نُصرت بالرعب مسيرة شهر”.

بدأ الزحف والانتشار غرباً وجنوباً مترافقاً مع اشتباكات ضد قوات النظام الذي لم يكن له وجود كبير كجيش في تلك الأحياء وإنما اعتماده الأكبر على الأجهزة الأمنية والشبيحة وكانت أعدادهم كبيرة جداً، بمنزلة جيش مواز يحتل المدينة.

كان حي صلاح الدين حينذاك هدفاً للقائد العسكري للواء التوحيد، الشهيد أبو محمود، وكانت عدة أحياء لم تُحرر بعد تفصله عن حي صلاح الدين، وما إن تم الاتفاق بعدم تعرض أي طرف للآخر مع أحد أبرز زعماء شبيحة حلب، زينو بري، وكان في حي باب النيرب، وصل الشهيد أبو محمود إلى حي صلاح الدين.

استعدادات امتصاص رد الفعل

ما إن انتشر الجيش الحر في أحياء حلب الغربية والشرقية، حتى جرى على الفور تشكيل غرفة عمليات ضمت قادة المجموعات المقاتلة وهم: الشيخ توفيق شهاب الدين، مهنا جفالة، أبو الصادق، أيهم عكيدي، والنقيب مصباح عجان الحديد، والنقيب حسام صباغ من المجلس العسكري. وكانت مهمة تلك الغرفة وضع الخطط العسكرية وتنظيم التعاون، والاستعداد للتصدي لهجوم معاكس لقوات النظام وقد بدأت حشدها في ملعب الحمدانية على أطراف حي صلاح الدين.

واصلت مجموعات الجيش الحر انتشارها في أحياء المشهد وسيف الدولة والإذاعة والزبدية وبستان القصر والكلاسة والسكري والأنصاري الشرقي والصالحين والفردوس وصولاً إلى حي العامرية جنوباً، كان ذلك تحت وابل قصف وحشي كثيف من مدفعية النظام وقذائف الهاون، كل ذلك كان خلال الأسبوع الأول، قبل أن يبدأ الهجوم المعاكس للنظام.

استكمال السيطرة

 في الأثناء ذاتها كانت مجموعات لواء التوحيد تنتشر وتتوسع وتحرر الأحياء الشرقية وحلب القديمة زاحفة باتجاه الغرب والجنوب لتلتقي مع المجموعات الزاحفة باتجاه الشرق في معركة تحرير قسم شرطة الصالحين التي رفض رئيسه العميد علي نصرة الاستسلام وقاوم مع عناصره حتى قُتلوا جميعاً، ليتم وصل كل الأحياء المحررة ببعضها البعض من صلاح الدين غرباً إلى مساكن هنانو وأرض الحمرا شرقاً.

سبقت تلك المعركة معركتان كانتا الأشرس وبمنزلة الاختبار الجدي لعناصر الجيش الحر على قتال الشوارع والمدن التي تعتبر الأصعب لكل جيوش العالم المحترفة.

فبعد يومين من دخول لواء التوحيد المدينة، في الرابع والعشرين من شهر تموز وبعد السيطرة على مخفر شرطة مساكن هنانو، دارت رحى معركة ساحتها قسم شرطة الشعار الذي كان معززاً بعناصر من أقسام أخرى وعدد كبير من الشبيحة، استمرت لأكثر من ست ساعات سقط فيها العشرات من عناصر النظام وشبيحته صرعى، وأسر الآخرون وبينهم نائب رئيس القسم العقيد نضال الحوش المنحدر من محافظة درعا، والعقيد علي قاسم من مدينة السلمية.

وهنا لابد من ذكر واقعة مؤلمة توضح حقيقة هذا النظام المجرم، فأثناء معركة قسم شرطة الشعار حاول الشهيد عبد القادر الصالح، وكان قائداً للمعركة، إقناع الضباط والعناصر بتسليم القسم مقابل الأمان ودون أن يمسهم أي سوء إلا أن العقيد نضال أخذته العزة بالإثم والعبودية، وأصر على القتال وبعد عدة محاولات اقترح أحد مقاتلي لواء التوحيد أن ينزل إلى القبو ويشعل النار حتى يضطر الموجودون لتسليم أنفسهم دون إراقة الدماء، ولكن ما حصل أن عناصر القسم ألقوا القبض على الشاب وسكبوا عليه البنزين وأضرموا به النار.

المعركة الثانية التي سبقت تحرير قسم الصالحين كانت تحرير حاجز جسر الحج الذي تمترست وتحصنت فيه مجموعات من الأمن العسكري والشبيحة ودارت معارك عنيفة بدأت يوم الجمعة في 27 من تموز وانتهت في اليوم التالي، هرب بعدها ما تبقى من عناصر الحاجز في جنح الليل عبر البساتين.

31 تموز 2012.. زينو بري والغدر

يوم الثلاثاء 31. 7. 2012 كان يوماً ثقيلاً قاسياً على قوات النظام، ثلاث من أقوى المعارك في يوم واحد خاضها أبطال الجيش الحر، أشرسها تلك التي كانت مع شبيحة آل بري الذين نقضوا العهد والاتفاق، وحاولوا الغدر بجيشنا الحر.

 مع بروز ملامح النصر وتحرير قسم الصالحين طلب القائد العسكري للواء التوحيد من أحد قادة مجموعاته (أبو جهاد كبصو) التوجه مع مجموعته إلى قطاع المطار الذي يتعرض لضغط من قوات النظام، وأثناء مرور رتل المؤازرة من أمام مضافة زعيم الشبيحة في حلب زينو بري تعرضوا لكمين غادر ارتقى على إثره ثلاثة عشر شهيداً، أحد عشر منهم من مدينة تل رفعت، وهنا فار الدم في رؤوس القادة والمقاتلين وتنادى الجميع للثأر واستئصال هؤلاء الشبيحة، فكانت المعركة الأقسى والأطول والتي قتلت فيها أعداد كبيرة من الشبيحة على رأسهم زعيمهم زينو بري وتم أسر العشرات.

همة المقاتلين ومعنوياتهم تعانق السماء، الثقة بالنفس تزداد والحماس للتحرير كان الدافع لاقتحام مخفر باب النيرب وتحريره من قوات النظام مباشرة بعد الانتهاء من القضاء على وكر شبيحة آل بري، ومرة أخرى حاول الثوار جاهدين عدم إراقة الدماء والطلب الحثيث من رئيس القسم المقدم مخلص صواف ابن مدينة جسر الشغور الاستسلام وتسليم الأسلحة والذخيرة مقابل الأمان، لكنه رفض ذلك طالباً من قيادته الدعم والإسناد، ولكن هيهات هيهات، فلم يلتفتوا إليه وتركوه يُقتل رخيصاً، في حين سلم كثير من  العناصر أنفسهم وأسلحتهم وانضموا لاحقاً للجيش الحر.

وهكذا انتشر الأحرار في أحياء حلب الشرقية، خلال عشرة أيام من شهر رمضان 2012 وكانت انتكاسة كبيرة للنظام، وقد بدأ بتجهيز العدة والعتاد، والجنود والشبيحة، مستقدماً نخبة قواته من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والقوات الخاصة، مدججة بسلاح نوعي، تجهيزاً لاستعادة ما خسره من حلب، وهذه وغيرها ستكون محطات جديدة، في مقالات لاحقة.

المصـــدر

المزيد
من المقالات