من الصعب جداً الحكم على مدينةٍ بعينها وتقييم مدى مشاركتها أو معارضتها للحدث الكبير “الثورة السورية” الذي عصف بسوريا مدناً وأفراداً، حيث لا توجد قرية سورية واحدة، لم تضم بين أبنائها مناصرين لهذه الثورة، ومؤيدين لها ومنخرطين في حراكها، مدنياً أو عسكرياً، أو بالموقف الثقافي أو بالمناصرة الفكرية.
يأتي الحديث هنا عن موقف المدينة بكتلتها الجماعية، وبحجم هذا الحراك الذي جرى نسبةً إلى ما هو مأمولٌ موضوعياً من هذه المدينة، ونميز في هذا السياق بين المدينة وريفها، وهذا أشد ما يكون وضوحاً في حالتي مدينة حلب وريفها، ومدينة دمشق وريفها، ففي دمشق كانت الغوطة وبلداتها الكثيرة، في قلب الحدث وفي طليعة القوى الثورية، في حين لم تكن مدينة دمشق كذلك، والأمر ذاته كان في مدينة حلب، حيث نلمس البون الشاسع بين المدينة وريفها.
وظهر هذا النقاش بشكل واضح في حلقة برنامج منتدى دمشق على شاشة تلفزيون سوريا بعنوان “حلب الثورة.. قصة مدينة شغلت العالم ..”
وللاقتراب بشكلٍ أكبر، يمكننا الجزم بأن آلاف الشباب من مدينة حلب ودمشق، كانوا من أهم الفاعلين والمضحين الأوائل بل ومن مشعلي شرارة الثورة السورية، لكن السؤال الذي يتكرر، إلى أي مدى كان هؤلاء الشباب الأبطال معبّرين عن اتجاه القوى الفاعلة “الاجتماعية والصناعية والثقافية” في هذه المدينة؟ وهل كان تحرّك هذه الفئة من الشباب كافياً لينقل المدينة بشطرها الأوسع، من خانة موالاة النظام أو الخضوع له، إلى خانة المعارضة التي تثقِّل المشهد وتشارك في حسمه، أو رجحان إحدى كفتيه؟ ويحسن بنا هنا أن نؤكد أن الشطر الواقع تحت سيطرة المعارضة لا يحوي أغلبية معارضة بالضرورة كما أن من يقع تحت سيطرة النظام لا يحوي أغلبية مؤيدة بالضرورة، كلا الشطرين ملزم من يعيش فيه، طوعاً أو كرهاً بممالأة القوة المسيطرة.
ليس الحديث هنا عن منح قيمةٍ أو تقييمٍ، أو إصدار حكمٍ على مدينة بعينها، إنما لفهم الظاهرة ومحاولة معرفة العوامل التي ساهمت بتشكيل هذه الظاهرة على هذا النحو، لا سيما أن هذه الظاهرة “تأخر مدينة حلب عن الانضمام لركب الثورة” كانت ظاهرةً مهمةً، وموضع اهتمامٍ كبيرٍ للناظر إلى المشهد السوري، لدرجة أن الحلبي الذي كان يقف في طابور مركزٍ تجاريٍ في مدينةٍ سوريةٍ أخرى، ويشعر به الآخرون بسبب لهجته الواضحة الدلالة، كانوا يطردونه أو ينهرونه وربما يصفونه بالمتخاذل الجبان، بسبب تأخر مدينة حلب عن انضمامها لباقي المدن المنتفضة، حصل هذا في العديد من المرات وفي مدن سورية متعددة.
أسوق هنا حادثةً وقعت مع صديق لي من مدينة حلب في منتصف “2011”، وهو رجل أعمال، كان يومئذ في زيارةٍ لمدينةٍ صناعيةٍ صينية تعنى بالقرطاسية، وحين أزف موعد الطعام اعتذروا منه لأن معظم طعامهم يحوي لحم خنزير، واقترحوا عليه أن يمضوا به الى مطعمٍ يبعد 60 كم عن المدينة، وهو مطعمٌ لمسلمٍ صيني يقع على قمة جبلٍ قريب، وحين تقدم الرجل ليكرم ضيوفه ويهتم بهم، عرفوه إلى هذا الصديق الحلبي الذي أتى من “بلاد شام شريف”، وحين سأله من أي مدينةٍ أنت؟ أجاب صاحبي: من مدينة حلب، فانتفض الرجل الصيني غاضباً وصرخ بوجهه: لماذا لم تتحركوا حتى الآن؟ لماذا لم تنضموا إلى المدن الثائرة بعد؟
ولفهم هذه الظاهرة وليس لتبريرها، ربما عرف معظمنا الضربة القاسية والطويلة التي تلقتها المدينة، إثر أحداث “عام 1980” حيث أحكم الأمن قبضته على أوردتها وشرايينها، وأعمل خنجره في تمزيقها، وبقيت مدينة حلب على وجه الخصوص والتمييز، تعاقب حتى موت حافظ الأسد، طبعاً جميع المدن السورية كانت تعاني من هذه القبضة الأمنية، لكن مدينة حلب كانت معاناتها مضاعفة، ويكفي أن نعلم أن معاملةً تجاريةً كانت تستغرق في دوائر حمص أو دمشق عشرة أيام، في حين كانت تحتاج في مدينة حلب لعشرة أشهر أو تزيد، هذا إن قبلت أصلاً، كل هذا رسخ في الذاكرة الحلبية عموماً التخوف والحذر الكبيرين، من أن تستجرّ المدينة مرةً أخرى إلى كارثةٍ تشبه نكبة “1980” حين نكل نظام الأسد بثلاث مدن رئيسية “حلب. حماة. إدلب” تمييزاً عن سائر المدن، وكان هذا مبعثاً للحذر الزائد الذي ساهم في تأخر مدينة حلب عن باقي المدن.
خلال تلك الحقبة “1980-2000” تم تدمير وتفتيت البنية الاجتماعية الحلبية، كما تم استبدال الشطر الأكبر من رجال الأعمال، والكتل الصناعية والمالية في مدينة حلب، عاصمة سوريا الصناعية، وتم بناء شبكةٍ من صغار رجال الأعمال، ومن رجال الأعمال الناشئين الذين لم يكن لهم وجودٌ سابقٌ على هذه الخريطة، وتنعمت هذه الشريحة الجديدة بدعمٍ وشراكةٍ أمنيةٍ فريدة، جعلت من الشطر الأكبر منها مرتبطة بخيارات تلك الأجهزة وبإملاءاتها، وشهدت هذه الشريحة شهر عسلٍ دام عشر سنين خلال حكم بشار الأسد، الذي زار المدينة مراراً وعزز تحالفاته وشراكاته فيها، مع هذه الطبقة الناشئة، فانفتحت على أسواق الخليج العربي ودول المغرب العربي، والأسواق التركية والعراقية والإيرانية، الأمر الذي أنتج فقاعةً ماليةً، وأحدث نقلةً نوعيةً شكلت فيما بعد عقبةً معيقةً، بوجه أي تفكيرٍ في تغيير الولاء لهذا النظام “ولي النعمة”، ناهيك عن آلهة الرعب المدمرة “الأجهزة الأمنية” التي كانت تحصي على السوريين عامة أنفاسهم ونبضات قلوبهم.
هذا الازدهار النسبي الذي تذوقته مدينة حلب، في فترة بشار الأسد، لم يفد منه ريفها بنفس القدر، ولم يراكم الريف ثروات أو مرافق يخشى من زوالها، بل ربما ساهم صعود الرأسمال في مدينة حلب، في تكريس الريف بمرتبة درجة ثانية، فشطرٌ واسعٌ من أبنائه ترك أرضه التي لم تعد تكفي لسد رمقه، وانتقل إلى المدينة عاملاً بدخلٍ محدود، هو أقرب إلى الكفاف، الأمر الذي خلق استعداداً أكبر للثورة، بما تعد به من أحلام بالحرية والعدالة والمساواة، لدى أبناء الريف الحلبي، الذين لم تكن لديهم مكاسب يخافون من زوالها، فكانوا متقدمين على المدينة في خطواتهم الثورية، وكانوا في جامعة حلب وفي الأحياء الشرقية منها، من أهم القوى التي أدخلت مدينة حلب فيما آلت إليه كرهاً وليس طوعاً، ولكن للأسف إلى هذا الجانب المهم في تثوير المدينة وجعلها معقلاً من معاقل المعارضة مرةً أخرى، وبمرور الأيام كانت لقطاعات وفصائل مسلحة قوامها الأساسي من ريف حلب، ممارسات غاية في السوء من انتهاك للحقوق المدنية واعتداء على مقدرات الناس وأملاكهم، وفرض سلطة الأمر الواقع والأقوى على مدنيين عزل، كما كان هناك جهلٌ مطبقٌ بالآليات الذهنية والمعرفية والخرائط اللازمة لتحرك هذه الفصائل في ساحة حرب وعرة، فكانت في كثيرٍ من خياراتها التعسفية وبالاً على المدينة وعلى الثورة بآن معاً، أمام عدوٍ يمتلك أدواته وخبراته، وتحالفاته المصيرية مع قوى إقليمية ودولية، لم تمتلك الثورة السورية منهما سوى الخطابات والمراثي، وبعضٍ من القلق الأممي.