حيطان إدلب الملونة.. دفاتر عشاق الحرية وذاكرة ثورتهم

نوفمبر 9, 2022

أحمد عبد المجيد

مقالات

مقال عن جداريات ادلب لأحمد عبد المجيد

يكفي أن تلمس ريشات الرسامين وألوانهم وأصباغهم جدرانَ مدينةٍ حتى تحولها لحاضرة يتحيّز إليها أهل الفن وروّاده ومصوِّرو الفوتوغراف، هذا حال محافظة إدلب شمال غرب سوريا، إذ أضفت اللوحات الجدارية التي تزيّن الجدران المهدَّمة رونقًا يعكس صورة الحياة في مدن المحاظفة، ويحكي هموم الناس القاطنين، ويصوّر جزءًا من حياتهم.

“جدارية الجنين الذي قُتل بشظيةٍ في رحم أمه بخان شيخون هي من أعزّ الجداريات على قلبي، كذلك الجدارية التي كانت بطول 30 مترًا، والتي كتبنا بداخلها أسماء حوالي 600 شهيد من الأطفال والنساء والرجال.. كان الأهالي يقفون أمامها ويقرؤون أسماء أبنائهم وأصدقائهم”.

بهذه الكلمات بدأ عزيز الأسمر حديثه مع “نون بوست”، مستحضرًا الجرائم التي ارتكبتها طائرات الروس في مناطق بنش وخان شيخون وغيرها.

صورة

يروي الفنان التشكيلي عزيز (50 عامًا)، ابن مدينة بنش، لـ”نون بوست”، أن الفن انتقل إليه بالوراثة، فوالده خطّاط وأخواله رسامون، وقد ساعدوه في صقل موهبته، إضافة إلى الخبرة المكتسَبة من المعارض التي شارك فيها إلكترونيًّا في ايطاليا وفرنسا ولبنان، والمعارض الداخلية في إدلب وأعزاز، ودورات تعليم الأطفال قواعد الخط العربي.

طوّر عزيز موهبته في رسم الغرافيتي بعد عودته من بيروت عام 2015، حينها كان رسّامو كفرنبل وسراقب ومناطق أخرى يرسمون على الجدران لافتات كبيرة تحمل شعارات مناهضة للحكم وتدعو للحرية والعدالة، حيث أكمل مشواره بسرعة أكبر، بسبب مواكبته للأحداث وغزارة الأفكار واتّساع مساحة الجدران المدمَّرة، وقد غزت جدارياته أهمَّ القنوات والصحف العربية والعالمية، لأنها تتناول بصدق آمال الشعب وأوجاعه وما يمسُّ وجدان الإنسان في الخارج.

ما أن تشرق شمس جديدة حتى ينتقي عزيز جدارًا متهالكًا يروي عبره حكاية جديدة وبملامح وألوان متنوعة، مُطلِقًا العنان لريشته وألوانه برسم لوحات تتناول قضايا متنوعة، حيث استطاعت لوحاته إيصال رسائل لكل العالم، “بأننا لسنا إرهابيين وأننا شعب حر مُطالِب بالحرية يُقصَف بأعتى الأسلحة”، حسب قوله.

صورة

يضيف عزيز: “نعاني كغيرنا من الرسامين من ارتفاع أسعار الأصبغة والألوان والدهان وأدوات الرسم، كما أرفض الرسم تحت عباءة جهةٍ راعية، خوفًا من فرض أي توجُّهات أو وجهات نظر لا تتوافق مع ما أؤمن به”.

ترجع أصول فن الغرافيتي (الرسم على الجدران) للحضارات الفرعونية والإغريقية والرومانية، لكن نشأته الحديثة كانت في ستينيات القرن الماضي في نيويورك الأميركية، ويُستخدَم في هذا الفن بخاخات ومواد الدهان وفراشي الرسم الخاصة، للحصول على لوحة جدارية تتناول موضوعًا معيّنًا أو قضية يُراد منها إيصال فكرة ما.

ويبدو واقع الغرافيتي جيدًا في إدلب، فالشوارع المهجورة والجدران المتآكلة المدمَّرة تتحول مع غزو هذا الفن لها واقعًا محتملًا للعيش والحياة.

ورغم ما يعانونه روّاد هذا الفن من صعوبة التنقل وارتفاع أسعار الأدوات والألوان، إلا أن عزيز استطاع مع مجموعة من الفنانين تحدي عدة معوقات، عبر تأسيس فريق “ريشة أمل” الذي ضمّ نخبة من النحّاتين والإعلاميين والرسامين التشكيليين في مرسم، يناقشون فيه الرسومات والقضايا الاجتماعية والسياسية.

ومنهم النحّات والرسام التشكيلي وفنان الديكور أنيس حمدون (50 عامًا)، الذي يتعاون مع عزيز في تقديم جداريات متميزة، ويُعرَف “العم أنيس” (كما ينادونه) بتوثيقه الانتهاكات الحقوقية ضد السوريين ومعاناتهم مع القصف والقتل والتهجير، ويختار الأبنية المدمَّرة كلوحات لرسوماته لتكون شاهدة على المأساة والتدمير، ولتُخبر من يراها أنها كانت عامرة بأهلها في يوم ما، وأن أهلها قضوا تحت أنقاضها أو أُجبروا على تركها والرحيل.

صورة

تمكّن أنيس حمدون برفقة فريقه أن يصل بتأثير أعماله إلى مشارق الأرض ومغاربها حتى إلى اليابان، بعد أن نقلت شبكة التلفزيون اليابانية “أساهي” قبل سنتَين رسومات فريقه التي رسموها للفتاة اليابانية المختطَفة ميغومي يوكانا، حيث يؤكّد لـ”نون بوست” أنه “من حقّ أي فرد معرفة مصير أقربائه وأصدقائه المختطفين أو المعتقلين قسريًّا”.

في عُرف التشكيليين لا يمكن أن تكون صنوف الفن المختلفة ترفًا خاصًّا بالرجال فقط، بل يدخل الفن في صميم حياة الشابات، ويكسبهن تميُّزًا ورونقًا، فبجهد ذاتي استطاعت سلام الحامض التي تدرس علم الاجتماع، أن تضع اسمها بين الكبار في فن الغرافيتي بإدلب، إذ لفتت النظر وجذبت العيون إلى أعمالها ذات الطابع الثوري والإنساني، ولاقت استحسانًا واسعًا.

صورة

تقول سلام لـ”نون بوست”: “أقبلت على رسم الجداريات دون أي دورات تدريبية، تعلّمت الفن باجتهاد شخصي، بقصد الاتصال المباشر مع العالم، ولجذب الانتباه لقضيتنا السورية دون حواجز أو قيود، خاصة أن الرسم قريب من الناس يوثّق مآسيهم وآلامهم كقضية المعتقلين والمهجَّرين قسريًّا”، مضيفة: “لقد تجاوزنا الحدود، وسلّطنا الضوء على قضايا المظلومين في كل العالم”.

افتتحت سلام معرضها الخاصّ عام 2020، وشاركت بالعديد من المعارض المحلية والعالمية، كمعرض إيطاليا في جامعة تورينو بعمل فني يرصد حالة النزوح والتهجير، حاملًا عنوان “الهروب من الموت إلى المجهول”.

صورة

أشبه بمتاهات معرض تشكيلي مفتوح في الهواء الطلق، هكذا أضحت البيوت والجدران والشوارع في إدلب، ما جعل المدينة نفسها تتحول إلى لوحة رسم كبيرة لا تحتاج سلام معها إلى عزلة مرسمها عن عيون المتطفلين إلى أن تكمل لوحتها وتفاجئ به جمهورها، كما تجري عادة الرسامين.

حيث إن عشاق هذا الفن، ومنهم سلام، باتوا يتقاسمون تفاصيل لوحاتهم ويتأمّلونها تُخلَق على مهل في جدار الحي أو البيت أو الزقاق على مرأى الجميع، فتصبح اللوحة مُشترَك إبداع تتفتّق به قريحة الرسام في الجدران التي صارت تدخل في صميم حياته وتعكس انتماءاته.

تختم سلام: “إنها ثورتنا.. ثورة فكر وثورة كرامة”.

يوقّع كل فنان لوحته، ليُضاف اسمه إلى سجلّ المبدعين الذين يؤرّخون قضايا هذه الثورة، تاركين بصمتهم، لتتجدّد مع إبداعاتهم روح المدن وآثارها المدمرة بألوان جديدة وأشكال ملائمة تبعث الحياة من جديد، وتحكي قصة من رحلوا أو غابوا، هكذا بدؤوا وكذلك سيتابعون.

المصـــدر

المزيد
من المقالات